الموقع الرسمي للشيخ الدكتور خالد الحايك

هل انتهى الإمام مسلم من تصنيف «صحيحه» قبل لقائه بالإمام البخاري؟! وهل الإمام مسلم أوّل من ألّف الصحيح وليس البخاري؟!

هل انتهى الإمام مسلم من تصنيف «صحيحه» قبل لقائه بالإمام البخاري؟!

وهل الإمام مسلم أوّل من ألّف الصحيح وليس البخاري؟!

هذان سؤالان يمثلان اتجاه بعض طلبة العلم في زماننا!

والسؤال الثاني مصوغ على مقالة جديدة لباحث ينتحل اسماً (لا أَميناً) يقول في عنوانها: "أول من صنّف الصحيح هو مسلم وليس البخاري"!

وقد أرسل لي بعض الإخوة مقالته هذه وسألوني عنها، فلما قرأتها قلت فيها: "هذه مقالة واهية جداً"! فطلبوا مني تفصيل ذلك! فجنّ جنونه، وصار يسبّني ويشتمني في بعض قنوات التواصل الاجتماعي - عامله الله بعدله!

والمشكلة شدة الانشغال في أمور أخرى وتأتيك مثل هذه التّرهات التي تنتشر بين طلبة العلم ويظنونها صحيحة لعدم خبرتهم في هذا العلم! فوجب الكلام على مثل ذلك.

·       حوار حول علاقة مسلم بالبخاري!

وقبل أن أُفنّد كلام صاحب المقالة تذكرت حواراً في مجموعة «واتسابية» كنت فيها وهي متخصصة في الحديث - زعموا -، وذكرت لهم سؤالاً هو:

"ما هو سبب نُدرة المعلومات عن علاقة الإمام مسلم بالإمام البخاري؟ وكيف تتلمذ عليه؟ ولمَ لمْ يرو عنه كتبه؟!".

ولم يُجب أحد عن هذا السؤال رغم أن المجموعة فيها عشرات الدكاترة في الحديث، حتى علّقت "دكتورة في الحديث" على كلامي!

وسأسوق كلّ ما جرى؛ لأن ما كتبته حينها - قبل سنة تقريباً - فيه رد كبير على صاحب المقالة الجديدة التي انتشرت.

قالت الدكتورة:

"أعتقد أن الجواب عن هذا السؤال يحتاج إلى ما يلي:

*خلفية حديثية شمولية الجوانب.

*فهم لطبيعة الرواية وواقعها ولسير الحركة العلمية وتطورها.

*تتبع لجغرافيا الرحلات العلمية وتاريخ اللقاءات والسماعات بين المحدثين.

وغيرها من العوامل المؤثرة في السماع والتحديث..

وسأضع بين أيديكم مفاتيح لعله من خلالها تتم الإجابة عن هذا السؤال.

1- لم يلتق الإمام مسلم بالبخاري إلا في وقت متأخر سنة 250تقريباً، أي بعد أن أتم مسلم صحيحه تصنيفاً بعد رحلاته الطويلة.

2- كان عند لقائه بالبخاري شيخاً كبيراً ومحدثا جاب الأمصار في رحلاته العلمية، فلقي شيوخ البخاري وأخذ عنهم فلا داعي للرواية المباشرة عن البخاري طلباً للعلو!

3- صنف مسلم صحيحه على مدار سنين طويلة وسماعاته بعضها مبكرة جدا وقد كان البخاري وقتها صغيرا.

4- عدم لقائه بالبخاري في ذلك الوقت فضلا عن عدم حاجته للرواية عنه اكتفاءً بشيوخ البخاري والرواية عنهم بعلو.

ومع هذا نقول إن مسلماً اطلع على كتب البخاري وتواريخه ونقل عنه شبه نقل تام وبخاصة في كتابه الكنى والأسماء، والله أعلم" انتهى.

فعلقت على كلامها، فقلت:

"المقدمة طيبة وهي مقدمة تنطبق على حال جميع العلماء، لكن النتائج بحاجة لدعائم! فهذا كلام لا أدلة عليه! فحبذا لو أتحفتمونا بما يُسند ذلك".

وطلبت من الدكتورة عدة مرات أن تجيب على كلامي فلم تفعل! وضجّ بعض أعضاء المجموعة من إصراري على أن ترد على كلامي!

فقلت:

"طالبنا الدكتورة بالأدلة على هذا الكلام ولم تأت بها بعد! فأرجو تزويدنا بها طالما أن هذا رأيها، ولا بد أنه مستند لحقائق علمية! لأن هذا الكلام في محفوظاتي، وسأعلق عليه بعد أن تزودنا الدكتورة بأدلتها مشكورة".

فانتظرت ولم ترد حتى تواصل معها بعض زميلاتها!

فعلّقت قائلة:

"المعذرة منكم فلا أدري ما هذا التعجل؟! فلست دائماً مستعدة للنقاش.. وعندي من الانشغالات ما يمنعني من قراءة رسائل المجموعة فضلا عن متابعة ما يُكتب فيها، ونحن في شهر رمضان المبارك..

وقد كتبت هذا الرد وأنا على عتبات المسجد خارجة من صلاة التراويح بعد تواصل الأخت الفاضلة د...

كما أشكر الإخوة الذين التمسوا لي العذر وأحسنوا الظن.

كل ما في الأمر أيها الإخوة أني قد لمحت سؤال الأخ د. خالد بالصدفة وتحفزت للإجابة (لا المناقشة) من خلال كتابة مفاتيح وتصورات عامة من محفوظاتي ومن خلال خبرتي المتواضعة ودراستي في الصحيحين وتعاملي مع مناهج أصحابهما وما أفدته من مشايخي في الجامعة...

وكما ذكرت (في تعليقي السابق) أن هذه مفاتيح للإجابة لعل البعض يلتقطها فتفتح له أبوابا علمية. وكلامي يؤخذ منه ويرد!!

لكن يؤخذ منه بالبحث والتحري والتدقيق، ويرد بالأدلة والبينة ولست بصدد كتابة بحث علمي هنا في المجموعة.

هي ومضات وأشبه ما تكون بنتائج يفهمها المتخصصون المتعمقون، وهم فقط من يقدرون الإنطلاقة من هذه الومضات والتصورات العامة وترجمتها إلى بحث علمي مستقل موثق..

والبركة فيكم أهل الحديث في البحث والتحري والنشر وأخص بالكلام من كتب في الصحيحين.

وقد جمعت مادة علمية مناسبة، أسأل الله أن ييسر بصدورها ويعجل به في بحث سأعرضه لكم بأدلة تفصيلية بعد نشره في إحدى المجلات العلمية.

ولا أخفيكم حرصي فأنا للتو قد تخلصت من قضية سرقة بحث لي بالكامل (قبل نشره) من ألفه إلى يائه من أصحاب علم الحديث!!

والله المستعان والموفق للخير" انتهى كلامها.

فرددت عليها، فقلت:

"الدكتورة الفاضلة:

الاستعجال كان لأمر في نفسي حقيقة، وكنت أتمنى أن تعطينا الأدلة لجوابك على سؤالي! لكن للأسف لم تعطنا أي دليل على أمور أنت ذكرتيها! فرحت تشرقي وتغربي وتقولي بأن هذه مفاتيح من خلال خبرتك ودراستك وما أفدتيه من مشايخك في الجامعة!

ثم قلت إن كل باب من هذه الأبواب يحتاج إلى بحث علمي مستقل وأشرت إلى أهل الحديث ليلتقطوا هذه الأبواب، ثم قلت إنك جمعت مادة علمية مناسبة ستكتبين فيها بحثا علميا، ثم أشرت إلى بحث لك قد سُرق – وإنا حقيقة نتأسف على السرقات العلمية وخاصة من أهل الحديث!! = ويكأنك تخافين أن يسرق بعضهم أفكارك هذه! ولك الحق في هذا! لكن كيف تخافين من ذلك وأنت تشجعين طلبة الحديث على أخذ هذه الأبواب والكتابة فيها؟!

·       عندما يكون الكلام ليس لك!

عموماً:

لا زلت أقول: لم تأت لنا بدليل واحد على كلامك الذي ذكرتيه من قبل!

فأنت قلت:

1- لم يلتق الإمام مسلم بالبخاري إلا في وقت متأخر سنة ٢٥٠ تقريباً، أي بعد أن أتم مسلم صحيحه تصنيفا بعد رحلاته الطويلة.

أقول: أين دليل هذا الكلام؟ هل أشار إليه أحد؟ وإن كان هذا من خلال سبرك وبحثك فكيف وصلت لهذه النتيجة؟

وهل يعقل لباحث أن يأتي بنتيجة كهذه وهو لم يعمل بحثاً حوله بعد؟

وقلت:

2- كان عند لقائه بالبخاري شيخاً كبيراً ومحدثاً جاب الأمصار في رحلاته العلمية، فلقي شيوخ البخاري وأخذ عنهم فلا داعي للرواية المباشرة عن البخاري طلبا للعلو!

أقول: وهذه أيضاً كيف أتيت بها؟ وما دليلك عليها؟

وقلت:

3- صنّف مسلم صحيحه على مدار سنين طويلة وسماعاته بعضها مبكرة جداً وقد كان البخاري وقتها صغيراً.

أقول: وهذه أيضاً كيف توصلت إليها؟ وهل نص أحد على ذلك؟

وقلت:

4- عدم لقائه بالبخاري في ذلك الوقت فضلاً عن عدم حاجته للرواية عنه اكتفاءً بشيوخ البخاري والرواية عنهم بعلو.

أقول: وهذه أيضاً ما دليلك عليها؟

وقلت:

ومع هذا نقول إن مسلماً اطلع على كتب البخاري وتواريخه ونقل عنه شبه نقل تام وبخاصة في كتابه الكنى والأسماء، والله أعلم.

أقول: وهذه كذلك، ما أدلتك عليها؟

وإن كان بعض أهل العلم نصوا على أن كتابه في الكنى هو من كتاب البخاري، ونريد توثيقك لهذه المعلومة.

فالحاصل أنك لم تأت بأي دليل على هذه الخلاصات والنتائج التي ذكرتيها حول علاقة مسلم بالبخاري!

·       إرجاع الكلام لصاحبه!

وحقيقة لما قرأت كلامك استذكرت مباشرة هذا الكلام بحذافيره، وقد سمعته أنا والدكتور عبدالكريم وريكات من أستاذنا أسعد تيم قبل أكثر من (15) سنة!

فهذا الكلام كلامه، وصياغة ما ذكرتيه يُشبه أسلوب الدكتور الوريكات!

وكلام أستاذنا أسعد لا يوجد موثقاً في كتاب، فعليك أن تثبتي لنا كيف توصلت إليه! وإن كنت أخالف أستاذنا في هذه النتائج، وبحمد الله أعرف كيف استنتجها.

فلا زلنا نطالبك بأمور علمية، وأرجو البعد عن الأمور العامة التي لا علاقة لها بأصل الموضوع.

وأما ما يتعلق بسرقات بعض أهل الحديث فهذا مما طمّ وعمّ، والله المستعان!

وقد شهدت دكتوراً في الحديث سرق من أستاذنا أسعد تيم فوائد ونفائس حول ما يتعلق بأسباب الإرسال عند المحدثين، فكتب بحثاً مُحكماً في ذلك... وللقصة بقية" انتهى ما قلته.

وبعد ذلك لم ترد الدكتورة بشيء!

فلما قرأت كلامها عرفت أنه ليس لها! فهذا أسلوب "زوجها"! فأجزم أن الكلام له، وهو لا يستطيع المناقشة، ولا يريد أن يدخل في نقاش معي! فنشره باسم زوجته!!

وهذه المفاتيح والخلاصات التي لم تستطع الإتيان بأدلة عليها إنما هي لأستاذنا أسعد تيم صاحب كتاب «علم طبقات المحدثين».

ولما رأيت عدم ردها!

كتبت:

كثيراً ما نسمع أنه لو وُجد كتاب أبي عبدالله الحاكم: «تاريخ نيسابور» لربما أسعفنا بمعلومات عن علاقة البخاري بمسلم!

لكن حقيقة لو كان عنده أشياء مهمة عن ذلك لنقلها لنا ابن عساكر في «تاريخه» في ترجمة البخاري ومسلم، وهو قد وقف على كتاب الحاكم ونقل منه في مواضع من «تاريخه».

·       فهم كلام الحاكم!

عموماً:

هذا القول: "لم يلتق الإمام مسلم بالبخاري إلا في وقت متأخر سنة ٢٥٠ تقريباً، أي بعد أن أتم مسلم صحيحه تصنيفاً بعد رحلاته الطويلة" - وهو في الأصل لأستاذنا أسعد تيّم - قول خطأ، والدليل خلافه!

وهذا القول مأخوذ من قول الحاكم: "أوّل ما ورد البُخَارِيّ نَيْسابور سنة تسعٍ ومائتين، ووردها فِي الأخير سنة خمسين ومائتين، فأقام بها خمس سِنين يُحدَّثَ عَلَى الدّوام". [سير أعلام النبلاء: 12/404].

فظنّ أستاذنا أسعد أن البخاري إنما قدم إلى نيسابور هاتين القدمتين فقط، والأولى كانت سنة (209هـ)، ولا شك أنها كانت للطلب حيث كان عمره (15) سنة، والثانية كانت سنة (250هـ)!

وهذا فهم لا يستقيم لكلام الحاكم - رحمه الله -، فهو إنما ذكر أول قِدمة للبخاري لنيسابور، وآخر قدمة إليها، ولم يقل بأنه لم يدخلها إلا هاتين المرتين، ولا يفهم من كلامه هذا!

·       دخول البخاري نيسابور أكثر من مرتين:

وقد روى ابن عساكر في «تاريخه» (52/86) من طريق أبي عبدالله الحافظ الحاكم النيسابوري، قال: حدثني أبو سعيد أحمد بن محمد النسوي، قال: حدثني أبو حسان مهيب بن سليم، قال: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: "اعتللت بنيسابور علة خفيفة، وذلك في شهر رمضان فعادني إسحاق بن راهوية في نفر من أصحابه، فقال لي: أفطرت يا أبا عبدالله! فقلت: نعم، فقال: خشيت أن تضعف عن قبول الرخصة، فقلت: أخبرنا عبدان، عن ابن المبارك، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء، من أي المرض أفطر؟ قال: من أيّ مرض كان كما قال الله عز وجل: {فمن كان منكم مريضاً}. قال البخاري: ولم يكن هذا عند إسحاق".

قلت: وابن راهويه توفي سنة (238هـ)، فهل يُعقل أن هذه المرضة للبخاري كانت لما دخلها أول مرة وهو ابن (15) عاماً يطلب الحديث؟!

وقال محمد بن أبي حاتم الوراق: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: "أخذ إسحاق بن راهوية كتاب التاريخ الذي صنفت، فأدخله على عبدالله بن طاهر، فقال: أيها الأمير، ألا أُريك سحراً! قال: فنظر فيه عبدالله بن طاهر فتعجب منه، وقال: لست أفهم تصنيفه".

فهل يُعقل أن البخاري كان قد صنّف «التاريخ» لما قدم نيسابور وهو ابن (15) عاماً؟! والمعروف أنه بدأ تصنيفه لما كان عمره (18) عاماً.

قال - رحمه الله - وهو يروي قصته مع شيخه (الداخلي) - ولم يعرفه أهل العلم، وأظنه محرّفاً من: (المُسندي) - فالرسم قريبٌ جداً -، وهو: مَوْلاَه مِنْ فَوْقِ عَبْدِاللهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِاللهِ بنِ جَعْفَرِ بنِ اليَمَانِ الجُعْفِيِّ، والله أعلم - حينما ردّ عليه في خطأ له وهو يُحدِّث وهو ابن إحدى عشرة سنة -: "فلما طعنت في ست عشرة سنة، حفظت كتب ابن المبارك ووكيع وعرفت كلام هؤلاء، ثم خرجت مع أمي وأخي أحمد إلى مكة، فلما حججت رجع أخي بها، وتخلفت بها في طلب الحديث، فلما طعنت في ثمان عشرة جعلت أصنف قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم، وذلك أيام عبيدالله بن موسى، وصنّفت كتاب التاريخ إذ ذاك عند قبر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الليالي المقمرة، وَقلَّ اسم في التاريخ إلا وله عندي قصة، إلا أني كرهت تطويل الكتاب".

فالبخاري ورد نيسابور أكثر من مرتين، والحاكم إنما تكلم على أول وآخر قدمة له إليها كما هو الظاهر من كلامه، وسيأتي مزيد بيان حول هذا النقل عن الحاكم إن شاء الله.

فهل يُعقل أن البخاري كان في نيسابور بلد الإمام مسلم، ولم يره مسلم في ذلك الوقت حتى نقول إنه لم يلتق به إلا سنة (250هـ)!! وكان حينها قد ألّف تاريخه العظيم.

ومسلمٌ - رحمه الله - كان معروفاً أيضاً في نيسابور، وقد أثنى عليه إسحاق بن راهويه.

·       ثناء ابن راهويه على مسلم:

روى الخطيب في «تاريخه» (15/121) عن أبي بكر أحمد بن محمد بن عبدالواحد المنكدري، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو عبدالله محمد بن عبدالله بن محمد الحافظ بنيسابور، قَالَ: حَدَّثَنَا محمد بن إبراهيم الهاشمي، قَالَ: حَدَّثَنَا أحمد بن سلمة، قَالَ: سمعت الحسين بن منصور، يقول: سمعت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، وذكر مسلم بن الحجاج، فقال: "مردا كاين بود"، قَالَ المنكدري تفسيره: "أي رجل كان هذا؟".

·       سماع مسلم من الكوسج في نيسابور سنة (251هـ):

روى ابن عساكر في «تاريخه» (58/89) من طريق أبي عمرو المستملي، قال: "أملى علينا إسحاق بن منصور سنة إحدى وخمسين ومئتين، مسلم بن الحجاج ينتخب عليه وأنا أستملي، فنظر إسحاق بن منصور إلى مسلم فقال: لن نعدم الخير ما أبقاك الله للمسلمين".

فهذا مسلم ينتخب على إسحاق الكوسج نزيل نيسابور في السنة التي توفي فيها، ويروي عنه مسلم في «صحيحه» أكثر من (80) حديثاً.

فإذا كان مسلم قد صنّف كتابه قبل سنة (250هـ) وأتمّه، فكيف يروي أحاديث إسحاق بن منصور في كتابه وهو لم يسمع منه إلا سنة (251هـ)؟!

وهل يُعقل أن مسلماً كان قد أنهى كتابه ولا يُطْلِع البخاري عليه؟

روى ابن عساكر في «تاريخه» (58/94) من طريق محمد بن عبدالله النيسابوري قال: سمعت أبا عبدالله محمد بن يعقوب الحافظ يقول: "لما استوطن محمد بن إسماعيل البخاري نيسابور أكثر مسلم بن الحجاج الاختلاف إليه، فلما وقع بين محمد بن يحيى والبخاري ما وقع في مسألة اللفظ، ونادى عليه، ومنع الناس عن الاختلاف إليه حتى هجر وخرج من نيسابور في تلك المحنة، قطعه أكثر الناس غير مسلم، فإنه لم يتخلف عن زيارته، فأنهي إلى محمد بن يحيى أن مسلم بن الحجاج على مذهبه قديماً وحديثاً، وأنه عوتب على ذلك بالعراق والحجاز ولم يرجع عنه، فلما كان في يوم مجلس محمد بن يحيى قال في آخر مجلسه: ألا من قال باللفظ فلا يحلّ له أن يحضر مجلسنا، فأخذ مسلم الرداء فوق عمامته، وقام على رؤوس الناس، وخرج من مجلسه، وجمع كل ما كان كتب عنه، وبعث به على ظهر حَمَّال - أو جِمال - إلى باب محمد بن يحيى، فاستحكمت تلك الوحشة وتخلف عن زيارته".

فإذا عرفت هذا انهارت تلك المفاتيح التي ذُكرت بعدها:

"كان عند لقائه بالبخاري شيخا كبيرا ومحدثا جاب الأمصار في رحلاته العلمية، فلقي شيوخ البخاري وأخذ عنهم فلا داعي للرواية المباشرة عن البخاري طلبا للعلو!".

و"صنف مسلم صحيحه على مدار سنين طويلة وسماعاته بعضها مبكرة جدا وقد كان البخاري وقتها صغيرا".

و"عدم لقائه بالبخاري في ذلك الوقت فضلا عن عدم حاجته للرواية عنه اكتفاءً بشيوخ البخاري والرواية عنهم بعلو"!!

فهل يعقل أن مسلما صنف «صحيحه» وسماعاته مبكرة جداً وقد كان البخاري وقتها صغيراً؟!!

كان البخاري وقتها صغيرا!!

هذه من عجائب الدنيا!!!

وأما القول الأخير: "إن مسلماً اطلع على كتب البخاري وتواريخه ونقل عنه شبه نقل تام وبخاصة في كتابه الكنى والأسماء".

فهذا كلام أبي أحمد الحاكم، فإنه قال في كتابه «الأسامي والكنى» في ترجمة «أبي بِشر عبدالله بن الدَّيلَمِي» (954) حيث بيّن خطأ البخاري في تكنيته بأبي بِشر، بالشين، وإنما هو: «أبو بُسر» - بالسين المهملة، وتابعه مسلم على ذلك، فقال أبو أحمد الحاكم: "وخَلِيقًا أن يكون محمد بن إِسماعِيل - رحمة الله عليه -، مع جلالته ومعرفته بالحديث اشتبه عليه، فلما نقله مُسلِم بن الحَجاج من كتابه؛ تابعه على زلته، ومن تأمل كتاب مُسلِم بن الحَجاج في «الأسامي والكنى» علم أنه منقول من كتاب محمد بن إِسماعِيل حذو القُذَّةِ بالقُذَّةِ، حَتَّى لا يَزِيد عليه فيه إلا ما يسهل على العادِّ عدده، وتَجَلَّد في نقله حق الجلادة، إذ لم ينسبه إلى قائليه ورواته، وحكاه حكاية مجردة، وكتاب محمد بن إِسماعِيل - رحمة الله عليه - في «التاريخ» كتاب لم يسبق إليه، ومن ألَّف بعده شَيئًا من التاريخ أو الأسامي والكنى لم يستغن عنه، فمنهم من نَسَبَهُ إلى نفسه، مثل: أبي زُرعَة، وأبِي حاتِم، ومُسلِم بن الحَجاج. ومنهم من حكاه عن محمد بن إِسماعِيل، والله يرحم محمد بن إِسماعِيل، فإنه الَّذِي أصَّلَ الأصل، وما سواه عليه وبال، منه يُستفاد، وبه يُقتدى، وإن كابر العيان مكابر وعاند الحق معاند، فليس تخفى صورة الحق عند ذوي الألباب" انتهى.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وكتب: د. خالد الحايك.

22 رمضان 1443هـ.

 

وأما المقالة الأخرى التي ظهرت مؤخراً بعنوان:

"أول من صنف الصحيح هو مسلم وليس البخاري"!

فالرد عليها في الآتي:

1- قال صاحب المقالة:

"من أول من ألف كتابا في صحيح السنة؟ أول كتاب كان صحيح مسلم، وهذا كان واضحا في انتقاد أبي زرعة الرازي له الذي استغرب الفكرة. واعتذر مسلم بأنه قصد بكتابه محاولة جمع كل ما أجمعوا على صحته (وليس كل ما هو صحيح). وتقريبا 99% من صحيح مسلم مجمع على صحته".

·       المقالة مسروقة!

قلت:

أولاً: صاحب المقالة الناصبي القابع في أمريكا المُنتحل اسم «محمد الأمين» - وهو ليس بـ «أمين»، واسمه الحقيقي: «وِسام العظمة» - سرق هذه المقالة من مقالة كتبها الأخ أحمد الأقطش المصري أحد أعضاء «ملتقى أهل الحديث» حيث كان ينشر ما يكتبه هناك.

والمقالة كتبها الأقطش في «نكته على جواب أبي مسعود الدمشقي لأبي الحسن الدارقطني عمّا بيّن غلط أبي الحسين بن الحجاج القشيري».

ومقالته بعنوان: «مَن أَوَّلُ مَن صنَّف الصحيح؟».

وبعد أن تكلّم على هذه المسألة وأتى بأدلته وضع عنواناً: «أوَّل مَن صنَّف الصحيح هو مسلم»، ثم قال: "مِن سياق التواريخ يتبيَّن أنَّ صحيح مسلم قد صُنِّف قبل صحيح البخاري، وما استعرضناه مِن شواهد وقرائن يؤكد هذا".

وسأتعرض لكلامه بإذن الله أثناء الرد على (اللا أمين)!

وما خطّه (اللا أمين) هنا هو من الحكاية التي نقلها البرذعي عن أبي زرعة، وسينقلها فيما بعد، وهي في مقالة الأقطش وعنون عليها: "موقف أبي زرعة مِن صحيح مسلم".

ثانياً: البخاري وقتها لم يكن قد أظهر كتابه، ولو أنه أظهره لملأ ذكره تلك الآفاق، بل لبلغ كل مكان، وإنما حدّث بكتابه متأخراً بعد فتنته مع الذهلي وخروجه من نيسابور إلى فِربر.

واطلاع أبي زرعة على كتاب مسلم - ولا أظنه اطلع عليه كله، بل الظاهر إنه اطلع على أجزاء منه كان مسلم قد أنهاها - لا يعني أن مسلماً أول من صنّف في الصحيح.

بل إن منهج البخاري الذي يختلف تماماً عن منهج مسلم يدلّ على سبق البخاري في تأليف الصحيح، فجاءت طريقة مسلم تختلف عن طريقة البخاري.

·       كيف بدأت قصة البخاري في جمع الصحيح؟

وأين من يدعي بأن مسلماً سبق البخاري في تأليف الصحيح من القصة المشهورة التي تدلّ على أن البخاري هو أول من بدأ في جمع الصحيح.

قَالَ أَبُو صَالِحٍ خَلَفُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ البُخَارِيُّ الخيَّامُ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيْمَ بنَ مَعْقِلٍ، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِاللهِ محمد بن إسماعيل البخاريّ يَقُوْلُ: "كُنْتُ عندَ إِسْحَاقَ بنِ رَاهْوَيْه، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَوْ جمعتُم كِتَاباً مختصِراً لسُنَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَقَعَ ذَلِكَ فِي قَلبِي، فَأَخذتُ فِي جمعِ هَذَا الكِتَابِ" - يعني: كتاب الجامع.

وقَالَ الحَاكِم أَبُو عبدالله: حدّثونا عَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل أَنه قَالَ: "كنت على بَاب إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن مخلد بن رَاهَوَيْه بنيسابور فَسمِعت أَصْحَابنَا يَقُولُونَ: لَو جمع جَامع مُخْتَصر صَحِيح الحَدِيث تعرف بِهِ الْآثَار فَأخذت فِي جمع هَذَا الكتاب". [التعديل والتجريح لمن خرج له البخاري في الجامع الصحيح: (1/309)].

وابن راهويه توفي سنة (238هـ) = يعني أن البخاري بدأ بتصنيف الصحيح قبل هذه السنة. فكيف يكون مسلماً هو أول من بدأ التصنيف في الصحيح؟!

·       كم استمر البخاري في تصنيف كتابه؟

قال الأخ الأقطش: "وكان البخاري قد مكث في تصنيفه بضع عشرة سنة كما رَوَى عنه إبراهيم بن معقل، أو ست عشرة سنة كما في روايةِ غيرِه. وهذا يعني أنَّ ابتداء تصنيفه للصحيح كان في حدود سنة 237هـ قبل وفاة إسحاق بن راهويه".

قلت: نعم، البخاري بدأ تصنيف كتابه قبل موت شيخه إسحاق بن راهويه؛ لأن فكرة جمع الصحيح عُرضت في مجلسه فأخذها البخاري، وتحديد هذا التاريخ (237) كون البخاري حدّث بصحيحه سنة (253) وأخذ منه (16) سنة بحسب ما اعتمد من الرواية، فيكون ابتدأ به سنة (237) وهذا متّجه، لكن معرفة ذلك بدقة في صعوبة!

روى الخطيب في «تاريخه» (2/333) قال: حَدَّثَنِي أبو الوليد الدَّرْبَنْديّ - هو: البَلخيّ -، قَالَ: سمعت محمد بن الفضل المفسر - هو: البلخي -، يقول: سمعت أبا إسحاق الريحاني، يقول: سمعت عبدالرحمن بن رساين البخاري، يقول: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري، يقول: "صنفت كتابي الصحاح لست عشرة سنة، خرجته من ست مائة ألف حديث، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى".

ورواه ابن عساكر في «تاريخه» (52/72) من طريق الخطيب، وفيه: "في ستة عشر سنة".

ورواه غُنجار في «تاريخ بُخارى» قال: حدثنا أبو الحسين محمد بن عمران بن موسى الجرجاني، قال: حدثنا الحسن بن جعفر بن محمد الشاشي، قال: سمعت إِبْرَاهِيْمَ بن مَعْقِلٍ النَّسفيّ - بسمرقند - يقول: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: "خرّجت كتابي الجامع في بضع عشرة سنة، وجعلته فيما بيني وبين الله حجة". [تاريخ ابن عساكر: (52/73)].

·       تصحيف شنيع في كتاب الخطيب!

قلت: الصواب ما ذكره إبراهيم بن معقل النسفي، والنص في كتاب الخطيب فيه تصحيف كثير! ولا أدري هل هو في الأصل هكذا أم لا!

فقد تصحف «الجامع» إلى «الصحاح»، وتصحفت «بضع» إلى «ست»!

و«عبدالرحمن بن رساين البخاري» هذا لا يوجد في كتاب! وأظنه: «عبدالرحمن بن سابق البخاري»، تصحف «سابق» إلى «رساين»، وقد ذكره السمعاني في «الأنساب» (1/413): "عبدالرحمن بن محمد بن سابق البخاري صاحب محمد بن إسماعيل".

و«أبو إسحاق الريحاني» وفي بعض الطبعات «الزنجاني» لا يُعرف! وأظنه: «أبو إسحاق البخاري» تصحف «البخاري» إلى «الريحاني»!

وكونه جاء في الإسناد «أبا إسحاق البخاري» فالأصل أن يكون معروفاً عندهم، ولهذا لم يُسمّوه، ومن في هذه الطبقة بهذا الاسم: "إبراهيم بن هارون بن المهلب بن عبدالكريم، أبو إسحاق البخاري المُعبر"، ذكره ابن ماكولا في «الإكمال» (7/206)، والله أعلم.

وهذا حدّث به البخاري في نَسَف لما دخلها سنة (256هـ) وسمع منه إِبْرَاهِيْمُ بنُ مَعْقِلٍ «الصحيح» هناك، وكان معه لما أخرجوه مِنْ بُخَارَى.

فالبخاري أخبر أنه جمع كتابه في "بضع عشرة سنة"، والبِضْعُ مِنَ الثَّلَاثِ إِلى التِّسْعِ.

ولا شك أن البخاريّ بدأ بتصنيف كتابه في حياة شيخه ابن راهويه، وليس بالضرورة أن يكون انتهى منه سنة (253هـ) لما بدأ بالتحديث به، فقد يكون أنهاه قبل هذه السنة بسنة أو أكثر، وكان قد بدأ تصنيفه في «فربر»، وكان يُصنّف في رحلاته، ولما رجع لفربر بعد فتنته مع محمد بن يحيى الذهلي أحضر معه ما كان يصنفه، وكأنه كان عنده في مكان إقامته في فربر ما صنفه من «الصحيح»، فضمها إلى بعض، وبدأ بالتحديث به، وبكتبه الأخرى.

قال أبو عبدالله الحاكم: حدثني أبو عمرو بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو عبدالله محمد بن علي، قال: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: "أقمت بالبصرة خمس سنين ومعي كتبي أُصنِّف وأحج في كل سنة، وأرجع من مكة إلى البصرة، فأنا أرجو أن الله تبارك وتعالى يبارك للمسلمين في هذه المصنفات". قال أبو عمرو: قال أبو عبدالله: "فلقد بارك الله فيها". [تاريخ دمشق: (52/72)].

قلت: إقامته في البصرة كانت من سنة (244) إلى (248هـ)، وقد حدّث بكتابه «التاريخ الكبير» في البصرة سنة (246هـ).

قال أَبُو الحَسَن مُحَمَّدُ بن سهل الفسوي المقرىء - راوي التاريخ - حَدَّثَنَا أَبُو عَبْداللَّه مُحَمَّد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري الجعفي - بالبصرة سنة ست وأربعين ومائتين.

وقال الخليلي في «الإرشاد» (3/959): "كَتَبُوا عَنْهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ آخِرُ خَرْجَةٍ خَرَجَ هُوَ إِلَى العِرَاقِ، وَآخِرُ مَنْ رَوَى عَنْهُ بِبَغْدَادَ: أَبُو عَبْدِاللَّهِ المَحَامِلِيُّ".

والحاصل أن البخاري فيما يبدو لي كان قد أنهى تصنيف «الصحيح» قبل أن يخرج من نيسابور إلى فربر، والميل إلى أنه بدأ به في سنة (235هـ)، وانتهى منه سنة (251هـ) = يعني مكث ست عشرة سنة في تصنيفه أو نحو ذلك، والله أعلم.

ثالثاً: قوله: "وتقريبا 99% من صحيح مسلم مجمع على صحته"!

لا أدري كيف وصل لهذه النسبة؟! فهل استقرأ كل الصحيح وخرّج أحاديثه ووصل إلى هذه النسبة؟ ومن قال بأن هذه النسبة مجمع عليها!!

 

2- قال صاحب المقالة: "البعض يسأل لماذا الإمام مسلم لم يرو عن البخاري في صحيحه رغم أنه كان شديد التعظيم له؟ الجواب ببساطة لأنه أنهى صحيحه سنة 242هـ بينما لقاءه بالأول بالبخاري كان في سنة 250هـ في نيسابور. أما في كتبه الأخرى فقد نقل عنه. وهل البخاري نقل عن مسلم؟ الجواب: لا، لأن البخاري أكبر سنا من مسلم، وأسانيده أعلى، لذلك لا يعقل أن ينزل بالإسناد وينقل عن مسلم".

قلت:

أولاً: هذا مما سرقه (اللا أمين) من مقالة الأقطش، وسيعيد الكلام على هذا التاريخ، وسأناقشه هناك بإذن الله.

ثانياً: قد نسفنا هذه (البساطة) التي ذكرها هنا - بحمد الله - بما علقناه سابقاً على القول الذي ذكرته الدكتورة ونسبته لها!!

وقد ذكرنا قول إسحاق بن راهويه في مسلم بن الحجاج: "مردا كاين بود" بالفارسية = يعني: "أي رجل كان هذا؟".

فإذا كان مسلما أنهى كتابه سنة (242هـ) يعني بعد وفاة ابن راهويه بأربع سنوات، فكيف لا يعرف عنه ابن راهويه!

فابن راهويه كان يعرف مسلماً حقّ المعرفة، فلو كان يؤلف صحيحه في حياة ابن راهويه لعرف ذلك أو لعرض عليه بعض ما فيه.

وابن راهويه كان يعرف البخاري وفي مجلسه جاءت فكرة جمع البخاري للصحيح.

ونزيد هنا على ما كتبناه قبل ما رواه أبو عَمرو عامر بن المنتجع، ومُحَمَّد بن أبي حاتم البخاري: سمعا أَبا بَكْرٍ المَدِيْنِيّ - بِالشَّاشِ زَمَنَ عَبْدِاللهِ بنِ أَبِي عَرَابَةَ - يَقولُ: "كُنَّا يوماً بِنَيْسَابُوْرَ عِنْدَ إِسْحَاقَ بنِ رَاهْوَيْه، ومحمد بن إسماعيل حاضرٌ فِي المَجْلِسِ، فَمَرَّ إِسْحَاقُ بِحَدِيْثٍ كَانَ دُوْنَ الصَّحَابِيِّ عَطَاءَ الكَيْخَارَانِيِّ.

فَقَالَ إِسْحَاقُ: يَا أَبَا عَبْدِاللهِ، أَيش كَيْخَارَان؟ فَقَالَ: قَرْيَةٌ بِاليَمَنِ، كَانَ مُعَاوِيَةُ بنُ أَبِي سُفْيَانَ بعثَ هَذَا الرَّجُلَ من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى اليَمَنِ، فَمَرَّ بكَيْخَارَان، فسَمِعَ مِنْهُ عَطَاءُ حَدِيْثَيْنِ.

فَقَالَ لَهُ إِسْحَاقُ: يَا أَبَا عَبْدِاللهِ، كَأَنَّكَ شَهِدْتَ القَوْمَ".

قلت: فهذا يدلّ على أن البخاري دخل نيسابور قبل سنة (250)، ولم تكن قدمته الأولى، ففي هذه القدمة كان معروفاً عند ابن راهويه، وكان حينها قد أنهى كتابه في «التاريخ» الذي أدخله ابن راهويه على الأَمِيْر العَادِل عَبْداللهِ بن طَاهِر (ت230هـ)، حَاكِمُ خُرَاسَانَ، وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ.

·       عبدلله بن طاهر وإمارته على خراسان من (214 - 230هـ):

وابن طاهر لم يكن أميراً هناك لما دخل البخاري نيسابور لأول مرة سنة (209هـ).

وكان المأمون (ت 218هـ) ولّاه الرّقة سنة (206هـ) لحرب نصر بن شَبَث العقيلي، وكان مقام عبدالله بْن طاهر على نصر بْن شبث محارباً له خمس سنين حتى طلب الأمان، فكتب عبدالله إلى المأمون يعلمه أنه حصره وضيق عليه، وقتل رؤساء من معه، وإنه قد عاذ بالأمان وطلبه، فأمره أن يكتب له كتاب أمان، فكتب إليه، وكان ذلك سنة (210هـ)، وفي تلك السنة وصل نصر بْن شبث إلى بغداد، وجه به عبدالله بن طاهر إلى المأمون.

ولما فرغ عبدالله بن طاهر من نصر بن شبث أمره المأمون بالتوجه إلى مِصر لحرب عبيدالله بن السري، ففتح الإسكندرية في تلك السنة، وقيل كان فتحه إياها في سنة (211هـ)، وأجلى من كان تغلب عليها من أهل الأندلس عنها.

وفي سنة (211هـ) خرج عبيدالله بن السري إلى عبدالله بن طاهر بالأمان، ودخل عبدالله بن طاهر مصر، وأقام عبدالله بن طاهر بمصر والياً عليها وعلى سائر الشام والجزيرة. وولّاه المأمون خراسان سنة (214هـ)، وبقي أميراً على خراسان كذلك زمن المُعْتَصِم (ت 227هـ)، وزمن الواثق، ولما مات ولى الواثق أعماله كلها ابنه طاهراً. [استفدت غالب ذلك من كتاب تاريخ الطبري].

فابن طاهر صار أميراً على خراسان سنة (214هـ)، والبخاري لما دخل نيسابور أول مرة سنة (209هـ) لم يكن ابن طاهر في تلك البلاد.

وكان ابن راهويه يدخل على الأمير ابن طاهر كثيراً، فاطلعه على كتاب البخاري قبل سنة (230هـ).

وكان البخاري دخل نيسابور عدة مرات.

قَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ وَرَّاقُ البخاريّ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِاللهِ يَقُوْلُ: كُنْتُ بِنَيْسَابُوْرَ أَجلسُ فِي الجَامِعِ، فَذَهَبَ عَمْرُو بنُ زُرَارَةَ، وَإِسْحَاقُ بنُ رَاهْوَيْه إِلَى يَعْقُوْبَ بنِ عَبْدِاللهِ - وَالِي نَيْسَابُوْرَ -، فَأَخبروهُ بِمكَانِي، فَاعتذرَ إِلَيْهِم، وَقَالَ: مذهَبُنَا إِذَا رُفِعَ إِلَيْنَا غَرِيْبٌ لَمْ نَعْرِفْهُ حبسنَاهُ حَتَّى يَظْهَرَ لَنَا أَمرُهُ.

فَقَالَ لَهُ بَعْضهُم: بَلَغَنِي أَنَّهُ قَالَ لَكَ: لاَ تُحْسِنُ تصلِي، فَكَيْفَ تَجْلِسُ؟ فَقَالَ: لَو قِيْلَ لِي شَيْءٌ مِنْ هذَا مَاكُنْت أَقومُ مِنْ ذَلِكَ المَجْلِسِ حَتَّى أَروِي عَشْرَةَ آلاَفِ حَدِيْثٍ فِي الصَّلاَةِ خَاصَّةً".

وقال حَاشِدُ بنُ عَبْدِاللهِ: "كُنَّا عِنْدَ إِسْحَاقَ وَعَمْرُو بنُ زُرَارَةَ ثَمَّ، وَهُوَ يَسْتَملِي عَلَى البُخَارِيِّ، وَأَصْحَابُ الحَدِيْثِ يَكْتُبُوْنَ عَنْهُ، وَإِسْحَاقُ يَقُوْلُ: هُوَ أَبصرُ مِنِّي - وَكَانَ مُحَمَّدٌ يَوْمَئِذٍ شَابّاً".

قلت: عمرو بن زرارة النيسابوري صاحب ابن راهويه، وتوفيا في السنة نفسها (238هـ)، وكأن البخاري دخل نيسابور في هذه المرة سنة (215هـ) أو بعدها بقليل.

وقَالَ مُحَمَّدُ بنُ يُوْسُفَ الفِربريّ: سَمِعْتُ حَاشِدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ يَقُوْلُ: "رَأَيْتُ إِسْحَاقَ بنَ رَاهْوَيْه جَالِساً عَلَى السَّرِيْرِ، وَمُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ مَعَهُ، وَإِسْحَاقُ يَقُوْلُ: حَدَّثَنَا عَبْدُالرَّزَّاقِ حَتَّى مرَّ عَلَى حَدِيْثٍ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ".

وَقَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَاللهِ بنَ سَعِيْدِ بنِ جَعْفَرٍ يَقُوْلُ: "لَمَّا مَاتَ أَحْمَدُ بنُ حَرْبٍ النَّيْسَابُوْرِيُّ ركبَ مُحَمَّدٌ - البخاريّ -، وَإِسْحَاقُ - ابن راهويه - يُشَيِّعَانِ جِنَازَتَهُ. فكُنْتُ أَسْمَعُ أَهْلَ المَعْرِفَةِ بِنَيْسَابُوْرَ يَنْظُرُونَ، وَيَقُوْلُوْنَ: مُحَمَّدٌ أَفْقَهُ مِنْ إِسْحَاقَ".

قلت: توفي أحمد بن حرب النَّيْسَابوريُّ الزاهد سنة (234هـ).

 

3- قال صاحب المقالة: "متى ألف البخاري صحيحه؟ انتهى من تأليفه بآخر حياته، وحدّث به ثلاث مرات فقط في قرية فربر قرب مدينة بخارى (أوزبكستان اليوم). قال الفربري: سُمع الجامع من البخاري بفربر في ثلاث سنين، في سنة 253، وسنة 254، وسنة 255. ثم خرج البخاري إلى مدينة نسف فحدث هناك حماد بن شاكر (وعنه منصور بن محمد النسفي) وإبراهيم بن معقل النسَفي (وجميع هؤلاء روايتهم ناقصة عن رواية الفربري) ثم توفي في رمضان 256هـ".

قلت:

أولاً: لا أدري هل كاتب هذا الكلام يدري ما الذي يخرج من رأسه؟

يطرح سؤالاً: متى ألف البخاري صحيحه؟

ثم يجيب بقوله: "انتهى من تأليفه بآخر حياته"!

فالجواب ليس جواباً عن السؤال! ولم يذكر متى ألف البخاري صحيحه؟ وقد ذكر ذلك الأقطش الذي يسرق منه (اللا أمين) فكأنه طرح السؤال ثم نسي أن يسرق ما كتبه الأقطش! وقد سبق ذكر قول الأقطش حول هذا.

وأما إنه انتهى من تأليفه بآخر حياته! فهذا لا دليل عليه!!! ومعنى آخر حياته = يعني آخر سنة من حياته! فكيف ذلك وصاحب المقالة يقول بأنه حدث به سنة (253هـ)!

·       هل سمع الفربري صحيح البخاري ثلاث مرات؟

ثانياً: صاحب المقالة ينقل دون وعي ودون فهم!

قال: "حدث به - أي البخاري - ثلاث مرات فقط في قرية قرب مدينة بخارى"! وهذه المرات كما نقل عن الفربري: "سُمع الجامع من البخاري بفربر في ثلاث سنين، في سنة 253، وسنة 254، وسنة 255"!

فالثلاث مرات التي حدث بها البخاري في سنة 253، و254، و255!!

وهذا فهم عقيم من صاحب المقالة!

فالبخاري حدث به في سنة (253) وسمعه الفربري منه في ثلاث سنوات = أي مدة سماعه للصحيح من البخاري من سنة (253 – 255)، لا أن البخاري حدث في ثلاث مرات في هذه السنوات.

والصواب فيما نقله صاحب المقالة: "قال الفربري: سمعت الجامع من البخاري بفربر في ثلاث سنين، في سنة 253، وسنة 254، وسنة 255".

وليس كما قال: "سُمع الجامع..."!!!

قال السمعاني في "الأنساب" (10/171): "وسمع الفربري الكتاب من البخاري في ثلاث سنين: في سنة ثلاث، وأربع، وخمس وخمسين ومائتين".

 

4- قال صاحبة المقالة: "كيف عرفنا تاريخ بداية وانتهاء مسلم من تأليف صحيحه؟ العبارة التي نقلها الذهبي بدقة هي: "قال أحمد بن سلمة: كنتُ مع مسلم بن الحجاج في تأليف صحيحه خمس عشرة سنة" (أقول هذا لأن العراقي وابن الصلاح قد تصحفت عليهما العبارة). وقال أحمد بن بالويه العفصي: «سمعت أحمد بن سلمة يقول: صحبت مسلم بن الحجاج من سنة سبع وعشرين إلى أن دفنته».

أحمد بن سلمة ابتدأ بصحبة مسلم سنة 227 وبعد 15 سنة انتهى تصنيف الصحيح أي أتمه سنة 242. وأما لقاءه بالبخاري فكان سنة 250.

أما آخر مرة حدث بها بصحيحه فهي رواية ابن سفيان سنة 257".

·       الحرامي السرّاق!

قلت:

أولاً: هذا سرقه (اللا أمين) من مقالة أحمد الأقطش!

قال الأقطش تحت عنوان: "متى ألَّف مسلم صحيحه؟": "وقد جاء عن أحمد بن سلمة تحديدٌ لمدة صحبته لمسلم، فقال أحمد بن بالويه العفصي: «سمعتُ أحمد بن سلمة يقول: صحبتُ مسلم بن الحجاج مِن سنة سبع وعشرين إلى أن دفنته سنة تسع وخمسين ومائتين». اهـ وقد خالَفه في سنة وفاة مسلم قِرْنُه مكيُّ بن عبدان فقال: «إحدى وستين ومائتين»، وبه قال ابن الأخرم، وزاد: «وهو ابن خمس وخمسين سنة». اهـ فهذا هو المشهور، إلاَّ أن يكون ذِكْرُ سنة الوفاة في كلام أحمد بن سلمة مِن إدراج العفصي، وهذا متجه. ولعلَّ مِن ثمرة هذا الاختلافِ الاختلافُ في تاريخ ولادته أيضًا، فقال بعضهم: 204 هـ، وقال آخرون: 206 هـ. فالفارق بين كلا التاريخين سنتان أيضًا، وهو بالاعتبار بعمر مسلم عند وفاته كذلك.

هذا ومِمَّا يعضد ما رواه العفصي عن أحمد بن سلمة في ابتداء ملازمته لمسلم سنة 227 هـ أنَّ الذهبي قال إنَّ مسلمًا بعد رجوعه إلى وطنه مِن رحلة الحج سنة 220 هـ ارتحل مرةً أخرى قبل سنة 230 هـ، فهذه الرحلة الثانية هي المقصودة. فإذا حسبنا الخمس عشرة سنة التي قضاها مسلم في جَمْعِ صحيحه ابتداءً مِن تاريخ ملازمة أحمد بن سلمة له، لأمكننا القول إنَّ مسلمًا قد فرغ مِن تأليفه سنة 242 هـ".

وسيأتي الكلام على هذا في الرد على (اللا أمين)!

·       الفهم السقيم العقيم!

ثانياً: على فرض صحة ما ذكروه ففي فهم هذه النصوص مشكلة كبيرة!

فغاية ما في القول الأول أن أحمد بن سلمة كان مع مسلم خمس عشرة سنة في تأليف صحيحه = يعني أن مدة تأليف مسلم لصحيحه كانت خمس عشرة سنة، وكان معه في هذه السنوات.

وهو قد صاحبه سنة (227هـ) إلى أن مات، فليس معنى العبارة الأولى أنه ابتدأ تأليف صحيحه منذ أن صاحبه في سنة (227)!

فالكلام واضح في أن صحبته له كانت في سنة (227)، وكان معه في تأليف صحيحه مدة (15) سنة، فلا أدري كيف فهموا من كلام أحمد بن سلمة أن مسلماً بدأ تصنيف الصحيح منذ أن صاحبه!! فهذا فهم سقيم عَقيم!

ونلزمهم على اعتبار أن مسلماً حدث بصحيحه سنة (257هـ) بناءا على كلام إبراهيم بن سفيان، وأحمد بن سلمة كان معه (15) سنة في تصنيف الكتاب، فيكون قد بدأ بجمع كتابه سنة (242هـ) لا أنه انتهى منه سنة (242هـ) = وهذا يتّجه إن صح نقل الذهبي لهذه العبارة بالدقة، وإن كان نقل غيره هو الصحيح، فيكون بدأ بكتابه سنة (250هـ) كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

·       عبارة لا توجد في كتب المتقدمين!

ثالثاً: عبارة أَحْمَد بن سَلَمَةَ: "كُنْت مَعَ مُسْلِم فِي تَأَلِيف صَحِيْحه خَمْسَ عَشْرَةَ سنَة"! لا توجد موثقة في أي كتاب من كتب المتقدمين الذين نقلوا لنا سيرة الإمام مسلم، وصاحبه أحمد بن سلمة بالأسانيد، كالخطيب البغدادي، والحاكم! وإنما نقلها هكذا المتأخرون دون إسناد! فالله أعلم بصحتها!

ومع ذلك سنُسلّم لها، لكن قد اختلفوا في نقل العبارة، وهو ما سنناقشه في الآتي.

·       اختلاف المتأخرين في نقل العبارة!

رابعاً: وصف صاحب المقالة أن الذي نقله الذهبي هو الدقيق! وأن العبارة تصحفت على ابن الصلاح والعراقي!

فنطالبه أين تصحفت هذه العبارة على ابن الصلاح والعراقي؟!

فعبارة ابن الصلاح في "علوم الحديث": "أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ الصَّحِيحَ: البُخَارِيُّ أَبُو عَبْدِاللَّهِ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيلَ الجُعْفِيُّ مَوْلَاهُمْ. وَتَلَاهُ: أَبُو الحُسَيْنِ مُسْلِمُ بنُ الحَجَّاجِ النَّيْسَابُورِيُّ القُشَيْرِيُّ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وَمُسْلِمٌ - مَعَ أَنَّهُ أَخَذَ عَنِ البُخَارِيِّ وَاسْتَفَادَ مِنْهُ - يُشَارِكُهُ فِي أَكْثَرِ شُيُوخِهِ".

فأين نقل ابن الصلاح لتلك العبارة؟!

وقال العراقي في «ألفيته»:

أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ في الصَّحِيْحِ *** مُحَمَّدٌ وَخُصَّ بِالتّرْجِيْحِ

وَمُسْلِمٌ بَعْدُ، وَبَعْضُ الغَرْبِ مَعْ *** أَبِي عَلِيٍّ فَضَّلُوا ذَا لَوْ نَفَعْ

فقولُ العراقي موافقٌ لقولِ ابنِ الصلاحِ في أَنَّ البخاريَّ صنفَ «صحيحه» قبلَ «صحيح مسلم».

وإنما ذكر العراقي أن هناك من اعترض على ابن الصلاح بقول أحمد بن سلمة المتقدم!

قال العراقي في «نكته على ابن الصلاح» = «التقييد والإيضاح»: "اعترضَ عليهِ بقولِ أبي الفضلِ أحمدَ بنِ سلمةَ: كنتُ معَ مسلمِ بنِ الحجاجِ في تأليفِ هذا الكتابِ سنة خمسٍ ومئتينِ، هكذا رأيتهُ بخطِّ الذي اعترضَ على ابنِ الصلاحِ سنةَ خمس بسينٍ فقطْ، وأرادَ بذلكَ أَنَّ تصنيف مسلمٍ لكتابهِ قديمٌ، فلا يكونُ تالياً لكتابِ البخاريِّ، وقدْ تصحفَ التاريخُ عليهِ، وإنما هوَ سنةُ خمسينٍ ومئتينِ بزيادةِ الياءِ والنونِ".

قلت: فتبيّن من هذا أنه لم يتصحف لا على ابن الصلاح ولا العراقي كما ذكر صاحب المقالة! بل لم يذكر ابن الصلاح قول أحمد بن سلمة! وإنما نقل العراقي اعتراض بعضهم - ولم يُسمّه - على ابن الصلاح بقول أحمد بن سلمة.

ثمّ بيّن العراقي أن المعترض نقل قول أحمد بن سلمة: "كنتُ معَ مسلمِ بنِ الحجاجِ في تأليفِ هذا الكتابِ سنة خمسٍ ومئتينِ"! وبيّن أنه تصحف عليه، والصواب: "خمسين ومئتين"، ويؤيد ما ذكره العراقي أن مسلماً كان عمره سنة (205) سنة واحدة عند من يقول بأنه ولد سنة (204)، ولم يكن مولوداً عند من يقول بأنه ولد سنة (206) وهو الراجح.

فلا علاقة للعراقي بالتصحيف! ويبدو أن (اللا أمين) لم يفهم كلام العراقي فنسب إليه التصحيف!

وعليه فإن هذه العبارة تناقض ما نقله الذهبي في «السير»، و«التذكرة» عن أَحْمَد بن سَلَمَةَ: "كُنْت مَعَ مُسْلِم فِي تَأَلِيف صَحِيْحه خَمْسَ عَشْرَةَ سنَة".

وإنما وصف صاحب المقالة نقل الذهبي بالدقة؛ لأنه يوافق رأيه العليل!

والذي أراه أن ما نقله الذهبي خطأ! وكأنه انقلب عليه من الكتاب الذي نقل منه! والصواب ما أشار إليه العراقي: "كنتُ معَ مسلمِ بنِ الحجاجِ في تأليفِ هذا الكتابِ سنة خمسين ومئتينِ".

فكلام أحمد بن سلمة يدلّ على أن مسلماً بدأ تصنيف كتابه سنة (250هـ)، لا أن مسلماً بقي في تصنيفه (15) سنة كما نقل الذهبي!

والذي ينسجم مع حال مسلم وتصنيف كتابه هو أنه بدأ تصنيفه قبل سنة (251هـ) ويؤيده ما ذكرته سابقاً أن مسلماً سمع من إسحاق بن منصور الكوسج سنة (251هـ) لما نزل نيسابور، ومات فيها في تلك السنة، وقد روى عنه في «صحيحه».

فمسلمٌ بدأ بتصنيف «صحيحه» إما سنة (242هـ) على اعتبار صحة ما نقله الذهبي، أو سنة (250هـ) على اعتبار صحة ما نقله العراقي، وعلى كلا الرأيين فهو لم ينته منه سنة (242هـ) كما ذهب (اللا أمين) سارقاً ذلك من الأخ الأقطش!

ولكن يبقى من أين نقل الذهبي هذه العبارة؟

الظاهر أنه نقلها من المصدر نفسه الذي نقل منه العراقي، وهو تعليق ذاك المعترض الذي لا يعرف على كلام ابن الصلاح، وحينها يكون نقل العراقي هو الصواب؛ لأنه أشار إلى أنه كذلك بخط ذلك المعترض، والله أعلم.

·       مناقشة الأقطش في كلامه حول انتهاء مسلم من صحيحه سنة (242هـ)!

وكلام الأخ الأقطش حول هذه النقطة:

قال: "أراد الشيخ أبو غدة تحديدَ مَن شنَّع عليه مسلم في مقدمة صحيحه بسبب الحديث المعنعن، فاعتمد في ذلك على التاريخ الذي ذكره العراقي لتأليف صحيح مسلم. فقال في التتمَّة الثالثة مِن تعليقه على الموقظة: «قال الحافظ الذهبي في «سير أعلام النبلاء» 12: 566، في ترجمة (مسلم بن الحجاج): «قال أحمد بن سلمة: كنتُ مع مسلم بن الحجاج في تأليف صحيحه خمس عشرة سنة». انتهى. وجاءت العبارة في «تذكرة الحفاظ» للذهبي أيضًا 2: 589 بلفظ: «كتبتُ مع مسلم في تأليف صحيحه خمس عشرة سنة، وهو اثنا عشر ألف حديثٍ مسموعة». انتهى. وقال الحافظ العراقي في حاشيته على «مقدمة ابن الصلاح» ص14: «قال أبو الفضل أحمد بن سلمة: كنتُ مع مسلم بن الحجاج في تأليف هذا الكتاب سنة خمسين ومئتين». انتهى. فأفاد النصُّ الأولُ الذي نقله الذهبي أنَّ مسلمًا بقي في تأليف صحيحه خمس عشرة سنة. وأفاد النص الثاني الذي نقله الحافظ العراقي - بربطه مع النص الأول - أنه فرغ مِن تأليفه سنة 250. فيكون مسلم قد بدأ في تأليفه سنة 235، حين كانت سِنُّه 29 سنة. وانتهى مِنه حين كانت سِنُّه 44 سنة. وقد عاش بعد الفراغ مِن تأليفه 11 سنة». اهـ

قلتُ: مَن يتأمَّل كلتا العبارتين يجد أنَّ هذا نَصٌّ واحدٌ لا نَصَّان كما رأى أبو غدة، إذ عبارة الذهبي هي المعتمدة؛ لأنه ناقلٌ عن التواريخ. وأمَّا عبارة العراقي فلا يُسَلَّم بها بل الأشبه أنها مِن كيسه، فإنه قال في نكته على مقدمة ابن الصلاح: «قوله: (وتلاه أبو الحسين مسلم بن الحجاج). انتهى كلامه. اعتُرض عليه بقول أبي الفضل أحمد بن سلمة: «كنتُ مع مسلم بن الحجاج في تأليف هذا الكتاب سنة خمس ومائتين». هكذا رأيته بخطِّ الذي اعتَرض على ابن الصلاح: «سنة خمس ومائتين» فقط. وأراد بذلك أنَّ تصنيف مسلم لكتابه قديم، فلا يكون تاليًا لكتاب البخاري. وقد تصحَّف التاريخ عليه، وإنما هو: «سنة خمسين ومائتين» بزيادة الياء والنون. وذلك باطلٌ قطعًا؛ لأنَّ مولد مسلم رحمه الله سنة أربع ومائتين. بل البخاري لَمْ يكن في التاريخ المذكور صنَّف فضلاً عن مسلم، فإنَّ بينهما في العمر عشر سنين». اهـ.

والخطأ هنا كما هو بيِّنٌ مِن ذلك المعترض على ابن الصلاح لأنه نَقَلَ العبارة على التوهم: فإنه أثبت فيها كلمة (سنة) والعدد (خمس) كما في الأصل، وأما العدد (عشرة) فانقلب عليه وصار (مائتين). فهكذا تحوَّل عنده قول أحمد بن سلمة: «خمس عشرة سنة» إلى: «سنة خمس ومائتين». فزَادَ عليه العراقي فأصلح هذا الخطأ بخطإٍ آخر، فجعل الخمس خمسين لتستقيم له تواريخ الأئمة. ومسلم لَمْ يؤلِّف كتابه في سنة واحدة حتى يقال إنَّ أحمد بن سلمة قَصَدَ أنه حَضَرَ التأليفَ في هذه السنة، بل المقصود هو ملازمته لمسلم وطول صحبته له في أثناء عمله في هذا الكتاب. فنَقْلُ الذهبي إذًا هو المقدَّم على نَقْل العراقي" انتهى.

قلت: رده على (أبو غُدة) صحيح، فهما نص واحد لا اثنين!

وأما ردّه لكلام العراقي، واعتماده نقل الذهبي فليس بصحيح! وكلام العراقي هو الصحيح، وغاية ما يفهم من ذلك أن أحمد بن سلمة كان مع مسلم لما ابتدأ تصنيف كتابه، لا أنه صنّفه في سنة واحدة!

وكلام أحمد بن سلمة - إن صحّ عنه - في طول صحبته لمسلم لا علاقة له ببدء مسلم لصحيحه!

·       الإجحاف في الرد لنصرة الرأي!

ونسبة التوهم في نقل العبارة للمعترض الذي ذكره العراقي، والانقلاب الذي ذكره فيه مبالغة شديدة! ولا يوجد رائحة دليل أو قرينة تؤيده! بل هو عين الإجحاف في نصرة الرأي!

فكيف أثبت فيها كلمة (سنة) والعدد (خمس)، وانقلب العدد (عشرة) عليه، وصار (مائتين)!! ثم تحول عنده قول أحمد بن سلمة: "خمس عشرة سنة" إلى "سنة خمس ومائتين"!!

فهذا عجيب غريب من الأخ الأقطش ليستقيم له رأيه!

والعجب كيف يقول بأن العراقي أصلح الخطأ بخطأ آخر لتستقيم له تواريخ الأئمة! بل كلامه هو الصواب فهو نقل من خط المعترض، والتصحيف واضح في "خمس" والصواب: "خمسين"؛ لأن مسلماً إنما ولد سنة (206هـ)، فكيف أصلح الخطأ بخطأ؟!

·       رأي د. الطوالبة!

وأشير هنا أيضاً إلى قول الدكتور محمد عبدالرحمن طوالبة في كتابه «الإمام مسلم ومنهجه في صحيحه» (ص: 105): "نريد أن نعرف متى بدأه؟ ومتى فرغ منه؟ فذكر العراقي وحاجي خليفة أن مسلماً ألف كتابه سنة مائتين وخمسين هجرية، ولا يفهم منه أنه ابتدأه في تلك السنة، وانتهى منه فيها، لما قدمت عن أبي سلمة، وأنما يُفهم منه أن مسلماً فرغ من تأليفه في تلك السنة، ويكون قد ابتدأه سنة خمس وثلاثين ومائتين هجرية، وعمره آنذاك تسعة وعشرون عاماً، وهو قول يسوغه العقل والمنطق، وليس هناك ما يناقضه؛ لأن مسلماً في هذه السن قد هيأ نفسه، وثقفها بهذه الصناعة ثقافة كاملة، وأصبح جديراً بالقيام بمثل هذا العمل، وبمثل هذا التأليف".

قلت: وهذا قول ليس بصحيح لما تقدّم بيانه.

·       استهزاء!

وقد قام (اللا أمين) بنشر كلام لدكتور اسمه "هيثم منير": "الإمام مسلم ابتدأ تأليف الصحيح سنة 235هـ، وانتهى منه سنة 250هـ، واستغرق في تأليفه 15 سنة، وعمره آنذاك 29 عاماً".

فعلّق (اللا أمين) على قوله مستهزئاً: "عجيب حال الدكتور هيثم منير.

للتصحيح: مسلم أتم صحيحه سنة 242. لكن ليست المشكلة هنا. المشكلة بالحساب. مولد الإمام مسلم سنة 204. يعني في سنة 250 كان عمره 46 سنة.

حبذا أحد يهديه آلة حاسبة" انتهى.

فنقلت كلامه على صفحتي في الفيس وعلقت عليه بقولي:

"غباء وجهل المدعو (اللا أمين)

(حرامي وقليل أدب)!

يا غبي.. الدكتور هيثم يقصد أن عمر مسلم لما ابتدأ تصنيف صحيحه كان (29) عاماً لا كما فهمت يا عَيي!!

وأظنه نقله من كتاب أستاذنا د. محمد الطوالبة في رسالته عن صحيح مسلم.

وقد أوجعناك لما وصفنا مقالتك (المسروقة) بأنها واهية جدًا!

تظن أنه لا وقت عندنا إلا للرد على ترهاتك!

لكن اصبر وسترى أيها الجاهل!

(أَبا جَهل) فَلا تَعَجَل عَلَينا // وَأَنظِرنا نُخَبِّركَ اليَقينا".

فلم يسكت هذا العيي الجاهل، فسبّني وعلّق على كلامي بقوله:

"ابتداء تأليف الصحيح سنة 235، وولادته سنة 204، أي كان عمره 31 سنة.

235 - 204 = 31

لا يكفي أنه غبي، وأيضاً ساقط بدرس الرياضيات" انتهى.

فهذه أخلاق هذا الساقط!

فعلقت عليه بقولي:

هذا (اللا أمين) ما شاء الله يتابع ما أكتبه عنه بشغف!!

على العكس يا سراق كنت دائماً متقدماً في الرياضيات بحمد الله، وإن أردت أرسل لك علاماتي فيها!

أنت اخترت رأي الإمام الذهبي أن مسلما ولد سنة (204)! ودلست الرأي الآخر وهو الصواب والذي اعتمده الدكتور هيثم وغيره وهو أن ولادة مسلم كانت سنة (206)!

فقد قال الحاكم في كتاب «المزكين لرواة الأخبار»: سمعت أبا عبدالله ابن الأخرم الحافظ يقول: "توفي مسلم بن الحجاج رحمه الله عشية يوم الأحد، ودفن يوم الاثنين لخمس بقين من رجب سنة إحدى وستين ومائتين، وهو ابن خمس وخمسين سنة".

فالرياضيات تقول يا سراق أن مسلما ولد سنة (206).

261 - 55 = 206

وعليه:

235 – 206 = 29

فمن الساقط في الرياضيات يا حرامي؟!"

خامساً: قول أحمد بن بالويه ذكره السمعاني في «الأنساب» (9/332) دون إسناد، قال: "وكان العَفْصي يقول: سمعت أحمد بن سلمة يقول: صحبت مسلم بن الحجاج من سنة سبع وعشرين إلى أن دفنته سنة تسع وخمسين ومائتين".

·       المخالفة في سنة وفاة الإمام مسلم!

وقد أخفى صاحب المقالة الكلام الأخير: "سنة تسع وخمسين ومائتين"!! لأن هذا الكلام فيه نظر!

ففي قول العفصي هذا تصريح من أحمد بن سلمة أن مسلماً مات سنة (259هـ)! وهذا خلاف المتفق عليه أنه توفي سنة (261هـ).

قال أَبُو عبدالله الحَاكِم الحَافِظ فِي كتاب «المزكين لرواة الْأَخْبَار» أَنه سمع أَبَا عبدالله ابن الأخرم الحَافِظ يَقُول: "توفي مُسلم بن الحجَّاج رَحمَه الله عَشِيَّة يَوْم الْأَحَد، وَدفن يَوْم الِاثْنَيْنِ لخمس بَقينَ من رَجَب سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ ابن خمس وَخمسين سنة".

نقله ابن الصلاح في «صيانه صحيح مسلم» (ص: 62)، وقال: "وَهَذَا يتَضَمَّن أَن مولده كَانَ فِي سنة سِتّ وَمِائَتَيْنِ، وَالله أعلم".

فقول العفصي شاذ، فمن قبل الشطر الأول منه يجب أن يقبل الشطر الثاني في وفاة مسلم!

وحتى لو قبلنا بقول العفصي أن أحمد بن سلمة صاحب مسلماً سنة (227هـ) فهذا ليس فيه أنه ابتدأ الصحيح حينها!

بل إن مسلماً في تلك الفترة كان لا يزال يطلب الحديث، وقد رافقه أَحْمَد بن سلمة فِي رحلته إلى بَلْخ إِلَى قُتيبة بن سَعِيد (ت 240هـ)، وَفِي رحلته الثانية إِلَى البصرة.

·       متى رحل مسلم لقتيبة بن سعيد في بَلخ، ومتى كانت رحلته الثانية للبصرة؟

والذي أميل إليه أن مسلماً رحل إلى بلخ للسماع من قتيبة بعد موت إسحاق بن راهويه = يعني بعد سنة (238هـ)، وقد خرّج مسلم في «صحيحه» عن قتيبة مئات الأحاديث.

وقد رحل مسلم للبصرة مرتين، أما الأولى فقد سمع من شيوخها القدماء الذين توفوا قبل سنة (240هـ)، وممن سمع منهم هناك، وروى عنهم في «صحيحه»:

عَبْدالله بن مسلمة القعنبي (ت221هـ)، وخالد بن خِداش (ت223هـ)، ومُحَمَّد بن معاذ بن عباد العَنْبري (ت223هـ)، وأَحْمَد بن المنذر القزاز (ت230هـ)، وعبدالرحمن بن بَكْر بن الربيع بن مسلم القرشي (ت230هـ)، وأبي غسَّان المِسْمَعيّ مالك بن عبدالواحد (ت230هـ)، وأمية بن بسطام (ت231هـ)، وعبدالله بن محمد بن أسماء (ت231هـ)، ومحمد بن منهال الضرير (ت231هـ)، ومحمد بْن أَبي بكر المقدمي (ت234هـ)، ومحمد بن عَمْرو بن عباد بن جبلة بن أَبي رواد (ت234هـ)، وأبي الربيع الزهراني سليمان بن داود العتكي (ت234هـ)، وعُبَيدالله بن عُمَر القواريري (ت235هـ)، وهدبة بن خالد الأزدي (ت235هـ)، وهريم بن عبدالأعلى الأسدي (ت235هـ)، وصالح بن حاتم بن وردان (ت236هـ)، وعُبَيداللَّه بن معاذ العنبري (ت237هـ)، وأَبي كَامِلٍ الجَحْدَرِيّ فضيل بن الحسين بن طلحة (ت237هـ)، وعباس بن الوليد النرسي (ت238هـ)، ومحمد بن عُبَيد بن حساب (ت238هـ)، والصلت بن مسعود الجحدري (ت239هـ).

وأما رحلته الثانية للبصرة مع أحمد بن سلمة فكانت بعد سنة (238هـ) قبل أن يرجع إليها البخاري ويسكنها خمس سنوات - من (244 - 248) -، وممن سمع منهم في هذه الرحلة، وروى عنهم في «صحيحه»:

حماد بن إسماعيل بن عُلية (ت244هـ)، وحميد بن مسعدة (ت244هـ)، ومحمد بن عَبدالمَلِك بن أَبي الشوارب (ت244هـ)، أَحْمَد بن عبدة الضبي (ت245هـ)، وعمرو بن سوّاد العامري (ت245هـ)، ويوسف بن حماد المَعْني (ت245هـ)، وأبي الجوزاء أَحْمَد بن عثمان النوفلي البصري (ت246هـ)، وعباس بن عبدالعظيم العنبري (ت246هـ)، وأبي أيوب الغَيْلانيّ سليمان بن عُبَيْدالله بن عَمْرو (ت246هـ)، وأحمد بن عَبدالله بن الكردي (ت247هـ)، وبشر بن هلال الصواف (ت247هـ)، وعَبْدالجبار بن العلاء العطار (ت248هـ)، ويحيى بن حبيب بن عربي (ت248هـ)، وعَمْرو بن علي الصيرفي (ت249هـ)، وعَبْداللَّه بن الصباح العطار (ت250هـ)، وعقبة بن مُكْرَم العَمّي (ت250هـ)، وعلي بن نصر بن عَلِي الجهضمي (ت250هـ)، ومحمد بن الوليد البُسري (ت250هـ)، ونصر بن علي الجهضمي (ت251هـ)، وعَبْدالوارث بنِ عَبْدِالصَّمَدِ بنِ عَبْدِالوارث (ت252هـ)، ومحمد بن بشار بُنْدَار (ت252هـ)، وأبي مُوسَى مُحَمَّد بن المثنى (ت252هـ)، ويعقوب بن إِبْرَاهِيم الدورقي (ت252هـ)، ومحمد بن يَحْيَى بن أَبي حزم القُطَعي (ت253هـ)، وأبي الخطاب زياد بن يحيى الحساني (ت254هـ)، وبشر بن خالد العسكري (ت255هـ)، وعَبْداللَّهِ بن مُحَمَّد الزُّهْرِيّ (ت256هـ).

وغالب من سمع منهم مسلم في رحلته الأولى للبصرة سمع منهم البخاري أيضاً، وغالب من سمع منهم مسلم في رحلته الثانية لم يسمع منهم البخاري؛ لأنه كان قد تشبع بالحديث، وكان يُحدّث ببعض كتبه في البصرة وغيرها.

وهناك من اشتركا في السماع منهم وتوفوا متأخرين؛ لأنهم عُمّروا، كبُندار وأبي موسى محمد بن المثنى - ولدا في سنة واحدة (167هـ)، وتوفيا في سنة واحدة -، وكذلك يعقوب بن إِبْرَاهِيم الدورقي، ومحمد بن الوليد البسري، ونصر بن علي الجهضمي.

وقد سمع أحمد بن سلمة في البصرة أثناء رحلته مع مسلم في رحلته الثانية من أَحْمَد بن عبدة الضبي (ت245هـ)، والله أعلم.

وكما ترافقا في الرحلة فقد هجرا مَجْلِسَ مُحَمَّدِ بنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ لمّا تكلّم في البخاريّ، وقَالَ: "أَلاَ مَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالقُرْآنِ مَخْلُوْقٌ فَلاَ يَحْضُرْ مَجْلِسَنَا"، فَقَامَ مُسْلِمُ بنُ الحَجَّاجِ مِنَ المَجْلِسِ، وَتَبِعَهُ أَحْمَدُ بنُ سَلَمَةَ، فلما قاما مِنْ مَجْلِسِ الذُّهْلِيِّ، قَالَ الذُّهْلِيُّ: "لاَ يُسَاكِننِي هَذَا الرَّجُلُ فِي البلدِ"، فَخَشِيَ البُخَارِيُّ وَسَافَرَ.

قال أَحْمَدُ بنُ سَلَمَةَ: دَخَلْتُ عَلَى البُخَارِيِّ فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِاللهِ هَذَا رَجُلٌ مَقْبُوْلٌ بِخُرَاسَانَ خصوصاً فِي هَذِهِ المَدِيْنَةِ، وَقَدْ لَجَّ فِي هَذَا الحَدِيْثِ حَتَّى لاَ يَقْدِرَ أَحَدٌ منَّا أَنْ يُكَلِّمَهُ فِيْهِ فَمَا تَرَى؟ فَقبضَ عَلَى لِحْيَتِهِ ثُمَّ قَالَ: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالعِبَاد} [غَافر: 44]، اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أُرِدِ المقَامَ بِنَيْسَابُوْرَ أَشَراً وَلاَ بَطراً، وَلاَ طَلباً للرِّئاسَةِ، وَإِنَّمَا أَبَتْ عليَّ نَفْسِي فِي الرُّجُوعِ إِلَى وَطَنِي لِغَلَبَةِ المُخَالِفينَ، وَقَدْ قَصَدَنِي هَذَا الرَّجُلُ حَسَداً لَمَّا آتَانِي اللهُ لاَ غَيْر ثُمَّ قَالَ لِي: يَا أَحْمَدُ إِنِّي خَارجٌ غَداً لتتخلَّصُوا مِنْ حَدِيْثِهِ لأَجلِي.

قَالَ: فَأَخبرْتُ جَمَاعَةَ أَصْحَابِنَا، فَوَاللهِ مَا شَيَّعَهُ غَيْرِي كُنْتُ مَعَهُ حِيْنَ خَرَجَ مِنَ البلدِ، وَأَقَامَ عَلَى بَابِ البلدِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لإِصْلاَحِ أَمرِهِ.

سادساً: مسلم لم يتم «صحيحه» سنة (242هـ)! ولا دليل على ذلك! ولو كان أتمه لاطلع البخاري عليه وهو في نيسابور لما عُرف عنه من كثرة الاختلاف عنده وسؤاله، وإنما بدأ به سنة (242) أو (250هـ)، ولقاؤه بالبخاري كان قبل هذا بسنوات؛ لأن البخاري كان يختلف كثيراً إلى نيسابور.

ومن له اطلاع واسع ودقيق على «صحيح مسلم» يعرف أن ما ذكره من أحاديث فيه يحتاج جمعه سنوات كثيرة، وقد أخرج عن قتيبة بن سعيد مئات الأحاديث، ورحلته له كانت متأخرة، فكيف يكون قد بدأ العمل على هذا الكتاب، ثم يدخل أحاديث قتيبة فيه هكذا!!

فمن أراد التصنيف في مثل هذا تكون عنده كل الأحاديث، وهو على اطلاع عليها، وسماعه من الكوسج كان سنة (251هـ)، وروى له في «صحيحه»، فكيف يكون قد انتهى منه سنة (242هـ) وفيه أحاديث الكوسج!!

وكذلك لو كان مسلم انتهى من صحيحه سنة (242هـ) لروى عن شيخه محمد بن يحيى الذهلي عشرات الأحاديث؛ لأن مسلماً لم يتركه إلا بعد فتنته مع البخاري سنة (252هـ)، ووقوف مسلم مع البخاري، فخرج مسلمٌ من مجلسه، وجمع كل ما كان كتب عنه، وبعث به على ظهر جِمال إلى بابه، وقد روى عنه البخاري في صحيحه وأهمله بالرغم من الفتنة التي حصلت بينهما، ولم يستغن عن حديثه، فلو كان مسلم انتهى من كتابه في التاريخ المذكور لما استغنى عن حديثه!

ومما أورده الأخ الأقطش في تأييد رأيه أن مسلماً انتهى من تصنيف كتابه سنة (242هـ) قال: "حينئذٍ احْتَجْنا إلى النظر في ترتيب الحوادث في ذلك العصر، واستنباط شيءٍ مِن المسكوت عنه فيها، حتى نقف على السياق الذي وَرَدَ فيه كلامُ أبي زرعة. فأَوَّلُ ذلك أنَّ الرغبة في تصنيفِ كتابٍ يجمع ما صَحَّ مِن أخبار النبي صلى الله عليه وسلم كانت باديةً في تلاميذ إسحاق بن راهويه بنيسابور، صرَّح بذلك أبو عبدالله البخاري لمَّا ذَكَرَ سببَ تأليفه لصحيحه فقال: «كنتُ عند إسحاق بن راهويه، فقال لنا بعض أصحابنا: "لو جمعتم كتابًا مختصرًا لسنن النبي صلى الله عليه وسلم". فوقع ذلك في قلبي، فأخذتُ في جمع هذا الكتاب». اهـ فكأنَّ هذه الفكرة قد اختمرت في رأس عددٍ مِن تلاميذ ابن راهويه، فما وقع في قلب البخاري قد وقع في قلبِ غيرِه أيضًا. وقد سئل مسلم أن يضع كتابًا في ذلك كما أفصح عنه في مقدمة صحيحه، والأشبه أنَّ هذا السائل هو صاحِبُه ورفيقُه أحمد بن سلمة الذي لَزِمَه في تأليفه سنين عددًا. قال الخطيب البغدادي في ترجمة أحمد بن سلمة: «وافَقَ مسلمَ بن الحجاج في رحلته إلى قتيبة بن سعيد، وفي رحلته الثانية إلى البصرة. وكَتَبَ بانتخابه على الشيوخ، ثم جَمَعَ له مسلمٌ الصحيحَ في كتابه». اهـ ويظهر مِن ذلك أنَّ مَسْعَى مسلمٍ في جَمْع الصحيح قديمٌ، لأنه مكث فيه هذه السنوات الخمس عشرة إلى أن فرغ مِنه وأخرجه للناس.

وقد كَتَبَ مسلم هذه النسخة الأولى مِن صحيحه بخط يده، وكانت عند ابن الأخرم بنيسابور، واطلع عليها الدارقطني كما صرَّح بذلك في الحديث التاسع عشر مِن استدراكاته على مسلم آنفًا. وهذه النسخة قد تركها مسلم فيما بعد، وقد سَلَفَ الاستدلال على ذلك وسيأتي أيضًا.

وقد أُعجب بكتاب مسلم غيرُ واحدٍ مِن حفاظ عصره في حياته وبعد مماته، فأخرج فضلك الرازي كتابًا على مثاله، كما سيأتي في كلام البرذعي. بل إنَّ أحمد بن سلمة نفسه قد عمل عليه صحيحًا له فيما بعد. وقال الذهبي عن صحيح مسلم: «فلمَّا رآه الحفاظ أعجبوا به، ولَمْ يسمعوه لنزوله. فعمدوا إلى أحاديث الكتاب فساقوها مِن مروياتهم عاليةً بدرجةٍ وبدرجتين ونحو ذلك، حتى أتوا على الجميع هكذا. وسمَّوه: المستخرج على صحيح مسلم». اهـ ومِمَّا زاد في الإعجاب به أنَّ صاحِبَه قد صنفه ولَمْ يبلغ الأربعين مِن عمره وفقًا لِمَا حسبناه" انتهى.

·       رد خَيالات!

قلت: أما فكرة جمع ما صَحَّ مِن أخبار النبي صلى الله عليه وسلم كانت باديةً في تلاميذ إسحاق بن راهويه بنيسابور، وأنها قد اختمرت في رأس عددٍ مِن تلاميذ ابن راهويه، وما وقع في قلب البخاري قد وقع في قلبِ غيرِه أيضًا، فهذا فيه نظر! فكأن الإشارة جاءت من واحد من أصحاب الإمام البخاري على باب شيخهم أو في مجلسه، وهي فكرة قد قالها ذلك الشخص فوقعت في قلب البخاري، فبدأ بها، ولو كانت مختمرة في رأس عدد منهم لرأينا بعضهم أيضاً يعمل بهذه الفكرة أو حتى لسمعنا تشجيع شيخهم ابن راهويه لهذه الفكرة.

·       هل الذي طلب من مسلم تصنيف الصحيح رفيقه أحمد بن سلمة؟

وأما ما ذكره مسلم في مقدمة «صحيحه» وأن سائلاً سأله لوضع هذا الكتاب وأجابه لذلك، وهو رفيقه أحمد بن سلمة كما قال الخطيب: "ثم جَمَعَ له مسلمٌ الصحيحَ في كتابه"! ففيه نظر أيضاً! فلا يوجد ما يؤكد أنه أحمد بن سلمة، وإنما هذا اجتهاد من الإمام الخطيب؛ لأنه رافقه وصحبه سنوات، ولو كان هو من طلب ذلك، فلما لم يذكره عندما قال: "كنتُ مع مسلم بن الحجاج في تأليف هذا الكتاب...".

وإذا كان هو من طلب ذلك فلم يُصنّف هو مُسنداً صحيحاً مثل صحيح مسلم؟! وهل مثل أحمد بن سلمة الإمام الحافظ يكون من وصفه مسلم في مقدمة كتابه: "أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكَ يَرْحَمُكَ اللهُ بِتَوْفِيقِ خَالِقِكَ، ذَكَرْتَ أَنَّكَ هَمَمْتَ بِالفَحْصِ عَنْ تَعَرُّفِ جُمْلَةِ الْأَخْبَارِ المَأْثُورَةِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُنَنِ الدِّينِ وَأَحْكَامِهِ، وَمَا كَانَ مِنْهَا فِي الثَّوَابِ وَالعِقَابِ، وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صُنُوفِ الْأَشْيَاءِ بِالْأَسَانِيدِ الَّتِي بِهَا نُقِلَتْ، وَتَدَاوَلَهَا أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَأَرَدْتَ، أَرْشَدَكَ اللهُ أَنْ تُوَقَّفَ عَلَى جُمْلَتِهَا مُؤَلَّفَةً مُحْصَاةً، وَسَأَلْتَنِي أَنْ أُلَخِّصَهَا لَكَ فِي التَّأْلِيفِ بِلَا تَكْرَارٍ يَكْثُرُ، فَإِنَّ ذَلِكَ زَعَمْتَ مِمَّا يَشْغَلُكَ عَمَّا لَهُ قَصَدْتَ مِنَ التَّفَهُّمِ فِيهَا، وَالِاسْتِنْبَاطِ مِنْهَا...".

·       انتخاب مسلم من حديث بعض الشيوخ لأحمد بن سلمة مما هو على شرطه في صحيحه!

فإن كان هو، فقد حصل المقصود، فلم يُصنِّف أحمد بن سلمة صحيحاً؟! بل إن مُسلماً انتقى له بعض أحاديث الشيوخ مما هو على شرطه في صحيحه.

قَالَ مُسَدَّدُ بنُ قَطنَ: لَمَّا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى عَقَدَ مُسْلِمٌ مَجْلِساً لخَالِي عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ بِشْرٍ، فَكَانَ يَحْضُرُ أَحْمَدُ بنُ سَلَمَةَ، وَينتقِي لَهُ مُسْلِمٌ شرطَهُ فِي (الصَّحِيْحِ) ، فيُمْلِيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَجْلِسُ إِمْلاَءٍ قبلَهَا. [سير أعلام النبلاء: (12/342)].

قلت: عَبْدُالرَّحْمَنِ بنُ بِشْرٍ العَبْدِيّ النَّيْسَابُوْرِيّ (ت 260هـ)، وكانت وفاة محمد بن يحيى الذهلي سنة (258هـ)، فمسلمٌ كان ينتقي حديث عبدالرحمن بن بشر لأحمد بن سلمة مما هو على شرط ابن سلمة في «صحيحه»؛ لأن مسلماً كان قد حدّث بصحيحه قبل موت شيخه محمد بن يحيى الذهلي، وكأن الذهلي لم يأبه بصحيح مسلم لما حصل من الفتنة مع البخاري، ووقوف مسلم مع البخاري.

وَكان مُسْلِمٌ قد أَكْثَرَ عَن الذهلي، فلما فسَدَ مَا بَيْنَهُمَا امْتَنَعَ مِنَ الرِّوَايَةِ عَنْهُ، بخلاف البخاري الذي رَوَى عَنْهُ، وكان يقول أحياناً: "حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ"، وَأحياناً: "حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِاللهِ" - نَسَبَهُ إِلَى جَدِّهِ، وأحياناً: "حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ خَالِدٍ"، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِهِ.

والذي أراه أن ما ذكره مسلم في مقدمة كتابه ربما يكون سؤالاً افتراضياً كما يفعل بعض المصنفين في كتبهم = كأن بعضهم سأل عن كذا فأجاب، والله أعلم.

وقول الأخ الأقطش: "ويظهر مِن ذلك أنَّ مَسْعَى مسلمٍ في جَمْع الصحيح قديمٌ، لأنه مكث فيه هذه السنوات الخمس عشرة إلى أن فرغ مِنه وأخرجه للناس" لا دليل عليه، بل هو نابع من تسليمه بأن مسلماً بدأ تصنيف صحيحه سنة (227هـ)، وليس كذلك!

·       دعوى أن مسلماً هَجر الأصل الذي كان يُحدّث منه! وأنها كانت مُسوّدة!

وأما ما ذكره من أن نسخة مسلم التي بخط يده كانت عند ابن الأخرم، فنعم، وقد مرّ ذكرها فيما جرى بين ابن الأخرم وأبي علي النيسابوري، لكن ادّعاؤه بأن مسلماً تركها فيما بعد فلا دليل عليه، وإنما لم يُحدّث ببعض الأحاديث التي كان قد كتبها فيها.

وكذلك دعواه بأن النسخة التي كانت بخط مسلم "كانت بمثابة المسوَّدة للكتاب"!! وكذلك دعواه بـ "أن مسلماً هجر هذا الأصل القديم بعد انتشار الراويات الأخرى وعلى رأسها رواية ابن سفيان، حيث أَوْدَع فيها مسلمٌ ما استقرَّ عليه الأمرُ عنده في شأن أحاديث كتابه"!

·       اضطراب الأخ الأقطش في النسخة التي اعتمدها ابن عمّار الشهيد والدارقطني!

وكذلك نلاحظ اضطراب الأخ في النسخة التي اعتمدها الدارقطني، وابن عمار الشهيد!

فنجده يقول مرة: "ويلاحَظ أنَّ نسخة ابن عمار الشهيد ليست هي نفس النسخة القديمة التي كتبها مسلم بخط يده ونَقَلَ الدارقطنيُّ مِنها"!

ويقول مرة: "والذي يظهر أنَّ الدارقطني ينقل عن نفس النسخة مِن الصحيح التي ينقل مِنها ابن عمار"!

ويقول مرة ثالثة: "يظهر مِن كلام الدارقطني أنه اعتمد على كلام ابن عمار الشهيد"!

قلت: فإذا كان الدارقطني ينقل عن نفس النسخة التي ينقل منها ابن عمار الشهيد، فلم يعتمد على كلامه طالما أن النسخة نفسها عنده؟

وعلّق على قول الدارقطني في "الحَدِيث الثَّامِنُ عَشَرَ" مما انتقده على مسلم: "وَكَانَ فِي الكِتَابِ مِمَّا تَرَكَهُ": "قلتُ: يَذكُر الدارقطني هنا حديثين - هذا والذي يليه - مِن الأصل القديم للكتاب الذي كتبه مسلمٌ بخطِّ يده، وقال إنه قد ترك أشياء فيه لَمْ يُثبتها بعدُ. وهذا معناه أنَّ سبب هذه الاختلافات القديمة في صحيح مسلم هو أنَّ مسلمًا كان يصلح كتابَه بعد أن صنَّفه أول مرة، إلى أن استقرَّ على شكله النهائي في رواية ابن سفيان. وكلام الدارقطني هنا يؤكِّد مجددًا على أنه لَمْ يَطَّلع على رواية ابن سفيان هذه كما سبق وذكرنا، ذلك أنَّ هذا الحديث الذي قال إنَّ مسلمًا قد تَرَكَه هو موجودٌ في هذه الرواية. فكأنَّ مسلمًا تركه في الرواية التي وقعت للدارقطني، ثم عاد فأثبته مرةً أخرى".

·       أي نسخة كانت عند الدارقطني من صحيح مسلم؟

قلت: إذا كان الدارقطني يعتمد على النسخة الأصل التي بخط مسلم، وقد ترك هذا الحديث، فكيف عرف الدارقطني أنه تركه وكذا الحديث الذي بعده؟ وإذا كان لم يطلع على نسخة ابن سفيان، فأي نسخة كانت عنده، وأنّ مسلماً تركه في الرواية التي وقعت له؟ ثم عاد فأثبته في نسخة ابن سفيان مرة أخرى؟!

وحاصل كلامه أن مسلماً ترك هذا الحديث وهو موجود في الأصل الذي بخطه، ثم ترك التحديث بهذا الحديث، ثم عاد وحدّث به لوجوده في رواية ابن سفيان التي يراها الأقطش آخر رواية لصحيح مسلم!

وهذا يعني أن الدارقطني وقعت له نسخة أخرى عرف منها أنه ترك هذا الحديث؛ لأنه لم يطلع على نسخة ابن سفيان = ولا يوجد إلا رواية القلانسي!

وقد قال الأخ الأقطش: "وأمَّا الدارقطني، فربما يكون وقع له صحيح مسلم مِن رواية القلانسي، فقد ظهر مِن رسالته إلى أهل مصر أنه مُطَّلِعٌ على هذه الرواية، فضلاً عن مطابقةِ سَنَد حديثنا الذي انتقده هنا مع السند المذكور فيها. والدارقطني فسنده عالٍ إلى مسلم، فقد رَوَى أحاديثَ له ليس بينه وبينه فيها غير رجلٍ واحد وهو محمد بن مخلد بن حفص. ومسلمٌ قد قَدِمَ بغداد غيرَ مرةٍ ورَوَى عنه غيرُ واحدٍ مِن أهلها، وكان آخر قدومه بغداد قبل موته بسنتين. فلعلَّ الدارقطني أخذ الصحيحَ عن أحد تلاميذ مسلم، وهو قد اطَّلع على نسخته القديمة بخطِّ يده كما سيأتي في الحديث التاسع عشر. وعلى كل حال فيُشبه أن يكون الدارقطني لَمْ تقع له رواية ابن سفيان لصحيح مسلم، وقد يكون الصحيح عنده برواية القلانسي أو برواية غيره. والله أعلم".

فعلى فرض أن الدارقطني كانت عنده نسخة القلانسي فلم نجده ينتقد حديثاً ويقول: "وَأَخْرَجَ حَدِيثَ جُدَامَةَ مُرْسَلًا وَمُتَّصِلًا"، ورد عليه أَبُو مَسْعُودٍ الدمشقي فقال: "أَمَّا حَدِيثُ جُدَامَةَ بِنْتِ وَهْبٍ، فَمَا أَخْرَجَهُ أَصْلًا إِلَّا مُتَّصِلًا وَلَمْ يُخْرِجْهُ مُرْسَلًا. أَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ وَسَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ وَيَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ جُدَامَةَ"؟

وقد رد عليه الأخ الأقطش، فقال: "هذا الحديث قد أخرجه مسلم متصلاً لا مرسلاً، وكذلك هو أيضًا في نسخة ابن خير التي هي مِن رواية القلانسي، وهو المحفوظ في هذا الحديث".

قلت: فإذا كان في رواية القلانسي متصلاً لا مرسلاً كما في رواية ابن سفيان، فلم ينتقده الدارقطني إذن = وغاية ما كان ينبغي له أن يقول: وقد أخرج حديث جذامة مرسلاً ومتصلاً في أصل النسخة، ثم ساقه متصلاً فقط لما حدّث به! وكونه لم يفعل فهذا يعني أنه كان ينقل فقط من النسخة الأصل التي بخطّ مسلم، والله أعلم.

ورجّح الأخ الأقطش أنَّ رواية القلانسي أقدم مِن رواية ابن سفيان؛ لأنَّ بعضًا مِن المواضع التي انتُقِدَت على مسلم قد سَلِمَتْ مِن النقد في رواية ابن سفيان!

·       التبويبات في صحيح مسلم!

أقول: إن كان كذلك = فهذا يعني أن التبويبات التي وُجدت في رواية القلانسي قد أعرض عنها مسلم؛ لأن ابن سفيان لم يذكرها في روايته! وهي ليست موجودة في الأصل الذي بخط مسلم.

لكن في "الحَدِيث الحاَدِي وَالعِشْرُونَ" الذي انتقده الدارقطني قال: "وَفِي بَابِ أَيُّ الإِسْلَامِ خَيْرٌ: عَنْ أَبِي طَاهِرٍ، عَنِ ابنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عَبْدِاللهِ بنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الإِسْلَامِ خَيْرٌ؟». صَوَابُهُ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ»".

قال الأخ الأقطش: "قوله (قط): «وَفِي بَابِ أَيُّ الإِسْلَامِ خَيْرٌ». اهـ. قلتُ: هذه الإشارة مِن الدارقطني هي أقدم ما وقفتُ عليه فيما يخصُّ أبوابَ صحيح مسلم، ومِنها يتبيَّن أنَّ مسلمًا كان قد بوَّبَ كتابَه بالفعل. ومِن الدلائل على ذلك أيضًا ما أورده ابنُ حزم في كتاب حجة الوداع حيث ذَكَرَ ترجمةَ أحدِ الأبواب مِن صحيح مسلم، فقال عن أحد الأحاديث: «مذكورٌ في بابٍ مِن هذا الكتاب مترجمٌ بباب: الاختلاف في لفظه عليه السلام لعائشة إذ حاضت وهي معتمرةٌ فأَمَرَها عليه السلام». اهـ وكذلك أَوْرَدَ أبو علي الغساني جملةً وافرةً مِن تراجم الأبواب في صحيح مسلم، مِنها قوله على سبيل المثال: «وأخرج مسلم في (باب: تسمية المولود) حديث أنس بن مالك». اهـ وقال القاضي عياض في حديث عائشة في الجنابة: «تَرجم البخاري على الحديث: (مَن بدأ بالحِلاب والطِّيب). وقد وقع لمسلم في بعض تراجمه مِن بعض الروايات مِثلُ ترجمة البخاري على هذا الحديث، ونَصُّه: (باب التطييب بعد الغسل مِن الجنابة)». اهـ.

فحينئذٍ أقول: الباب الذي ذَكَرَه الدارقطني هو مثبتٌ بِنَصِّه في نسخة ابن خير مِن صحيح مسلم، وهي برواية القلانسي المشهورة لدى المغاربة. وهذه النسخة للأسف رديئة التصوير وفيها مواضع كثيرةٌ يتعذَّر قراءتها. وغالب التبويبات التي ذكرها أبو علي الغسّاني عثرتُ عليها فيها، والمثال الذي ذكرتُه أيضًا وهو باب تسمية المولود. وكذلك الباب الذي ذكره عياض مثبتٌ في هذه النسخة.

وهذه فائدة عظيمة وهي أنَّ هذه التبويبات الموجودة في نسخة ابن خير كانت موجودةً أيضًا في نسخة الدارقطني مِن صحيح مسلم، وقد علمتَ فيما سبق مِن مَواطن عِدَّة أنَّ نسخة الدارقطني قديمةٌ عاليةٌ وليست مِن رواية ابن سفيان. وهذه النسخة أقرب ما تكون إلى رواية القلانسي، نظرًا لتشابههما في غير ما موضع. وعلى هذا فقول العلماء إنَّ صحيح مسلم ليس فيه تراجم للأبواب لا ينسحب على رواية القلانسي، بل على رواية ابن سفيان لأنها هي الرواية التي كانوا يشتغلون عليها" انتهى كلامه.

·       التبويبات ليست من صنع مسلم!

قلت: مسألة التبويبات هذه التي قد توجد في بعض النسخ من رواية ابن ماهان لا تدلّ على أنها من تبويبات الإمام مسلم! فلو كانت كذلك لاشتهر ذلك قديماً، وخاصة عند النيسابوريين كأبي علي الحافظ وابن الأخرم، وهذه التبويبات إنما ذكرها بعض أهل العلم في كلامهم من باب الوصف، لا أن مسلماً بوّب بها! والجزم بأنه فعل ذلك لا دليل ناهض على ذلك ألبتة!

وما ذكره الأخ الأقطش في استدلاله بما تقدّم فيه نظر!

·       الغلط على ابن حزم!

أما استدلاله بما ذكره ابن حزم "حيث ذَكَرَ ترجمةَ أحدِ الأبواب مِن صحيح مسلم، فقال عن أحد الأحاديث: «مذكورٌ في بابٍ مِن هذا الكتاب مترجمٌ بباب: الاختلاف في لفظه عليه السلام لعائشة إذ حاضت وهي معتمرةٌ فأَمَرَها عليه السلام"، فهذا سوء فهم لكلام ابن حزم!

فابن حزم قصد ترجمته هو في كتابه هذا «حجة الوداع»، وهو يقول: "من هذا الكتاب"، فإنه ذكر (ص: 229): "الفَصْلُ الثَّالِثُ: وَنَحْنُ الْآنَ نَأْخُذُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِتَأْيِيدِهِ وَعَوْنِهِ فِي إِيرَادِ مَا يَظُنُّهُ الظَّانُّ أَنَّهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ مُعْتَرِضٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَأَثْبَتْنَا، وَمُبَيِّنُونَ وَجْهَ نَفْيِ التَّعَارُضِ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ حَتَّى يَلُوحَ الِاتِّفَاقُ فِيهَا بَيْنَنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِهِ عَزَّ وَجَلَّ نَعْتَصِمُ وَنَتَأَيَّدُ"، ثم قال (ص: 314): "البَاب العِشْرُونَ: الِاخْتِلَافُ فِي لَفْظِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ إِذْ حَاضَتْ، وَهِيَ مُعْتَمِرَةٌ، فَأَمَرَهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَمَلِ الْحَجِّ، وَالِاخْتِلَافُ فِي مَوْضِعِ طُهْرِهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا".

وكان ذكر أيضاً في (ص: 127): "الفَصْلُ الثَّانِي: الْأَدِلَّةُ عَلَى أَعْمَالِ الْحَجِّ هَذَا حِينَ نَأْخُذُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذِكْرِ الْأَحَادِيثِ الشَّوَاهِدِ لِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا"، ثم ساق حديث مسلم، ثم قال: "وَبَعْدَ هَذَا خِلَافٌ فِي مَوْضِعِ طُهُورِهَا فِي بَابِ تَرْجَمَتِهِ بَابَ الِاخْتِلَافِ فِي لَفْظِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَائِشَةَ إِذْ حَاضَتْ".

·       قصد الغسّاني من ذكر التبويب في كتابه!

وأما ما استدل به بما أَوْرَدَ أبو علي الغسَّاني مِن تراجم الأبواب في صحيح مسلم، فهذا ليس بصحيح!

فإنّ الغساني غالباً ما يذكر الكتاب من صحيح مسلم، وما ذكره من أبواب إنما هو من باب الوصف للتقريب للقارئ؛ لأن الكتاب فيه أحاديث كثيرة، فيشير إلى الباب = أي الأحاديث المتعلقة بهذا.

والغساني إنما يُقارن بين الاختلافات لروايات صحيح مسلم، ولم يتعرض للأبواب.

فهو قد اعتمد على روايتي أبي أحمد محمد بن عيسى ابن عمرويه الجلودي، وأبي بكر محمد بن إبراهيم بن يحيى الكسائي عن أبي إسحاق إبراهيم بن سفيان.

وروايات أبي عبدالله محمد بن يحيى الحذاء التميمي، وأبي زكريا يحيى بن محمد بن يوسف الأشعري، وأبي القاسم أحمد بن فتح المعافري المعروف بابن الرسَّان، كلهم عن أبي العلاء بن ماهان البغدادي، عن أبي بكر أحمد بن محمد بن يحيى الأشقر الفقيه على مذهب الشافعي، عن أبي محمد القلانسي.

وقد قال في موضع: "وأبو جعفر أحمد بن سنان بن أسد بن حبان القطان، أحد الثقات، سمع يزيد بن هارون ويحيى القطان وابن مهدي، روى عنه البخاري حديثاً واحداً في كتاب الحج، وروى عنه مسلم أيضاً في كتاب الفضائل في صفة النبي صلى الله عليه وسلم".

فقوله في "صفة النبي صلى الله عليه وسلم" من باب البيان والتوضيح والوصف، لا أنه بوب بذلك؛ كما قال في موضع آخر عن أحد الرواة: "روى له مسلم حديثاً واحداً في صفة الأذان".

وقد ساق الغساني الكثير من اختلافات الرواة، وكان أكثرها موجهاً لرواية ابن ماهان في مقابل رواية الجلودي عن ابن سفيان، وكذلك كثيرة الاختلاف بين الرواة عن ابن ماهان!

وأشار إلى أوهام ابن ماهان في نسخته، من أوهام في التصحيف، والشك، والسقط من الأسانيد، وعدم وجود بعض الأسانيد في أصله! وبعض هذه الأوهام من الرواة عنه، وبعضها منه.

ورجّح في مواضع قليلة ما ذُكر في رواية ابن ماهان على رواية الجلودي، وأشار إلى بعض السقط والتصحيف والوهم في نسخته!

وهذا يعني أن رواية ابن سفيان أتقن من رواية القلانسي.

وأنهى كتابه بقوله: "انتهى ما ذكرنا من العلل، ومن إصلاح الأوهام الواقعة في الكتابين التي جاءت من قبل الرواة عن البخاري ومسلم - رحمهما الله -".

وقد قرأت رسالة ماجستير بعنوان: «رواية صحيح مسلم من طريق ابن ماهان مقارنة برواية ابن سفيان» في كلية التربية - قسم علوم القرآن/جامعة تكريت، للباحث مصدق أمين عطية الدوري، بإشراف أ. د محمد إبراهيم خليل السامرائي، (1432 هـ - 2010م).

وقد اعتمد على كتاب الغساني، وذكر (56) اختلافاً في الأسانيد، و(61) اختلافاً في المتون.

·       التعلق بما ذكره القاضي عياض!

وأما ما استدل به الأقطش من ذكر القاضي عياض أنه وقع لمسلم في بعض تراجمه مِن بعض الروايات مِثلُ ترجمة البخاري على حديث، ونَصُّه: "باب التطييب بعد الغسل مِن الجنابة"، فكذا هذه الترجمة في «إكمال المعلم بفوائد مسلم» (طبعة دار الوفاء - مصر، ط1، 1419هـ - 1998م) وقد ذكر محقق الكتاب الدكتور يحْيَى إِسْمَاعِيل في مقدمته أن من فوائد هذا الكتاب: "أولاً: أمور كشف عنها وأزال الإبهام فيها"، ثم قال: "إن «الإكمال» كشف عما جاء فى بعض النسخ لصحيح مسلم من تبويب وتراجم، غابت عن كثير من الشراح الذين تناولوا النسخ غير المبوبة، حتى ذاع - خطأ - بين طلبة العلم بعامة، والمتخصصين فى الحديث وعلومه بخاصة، أن مسلماً لم يبوب كتابه، وأن البخارى فضل عليه فى ذلك. وذلك في مثل ما جاء فى كتاب الطهارة، باب التطييب بعد الغسل من الجنابة. قال عقبه القاضي: «وبذلك بطل من ادعى أن مسلماً لم يبوب كتابه»".

قلت: وهذا الذي ذكره في الأخير وأحال به إلى مخطوط «الإكمال»: "قال عقبه القاضي: وبذلك بطل من ادعى أن مسلماً لم يبوب كتابه" لم أجده في «الإكمال»!

وما استدل به الأقطش ومن قبله الدكتور يحيى من ذكر هذه الترجمة وأنها في بعض روايات مسلم كما ذكر القاضي عياض فيه نظر! والغريب أن القاضي عياض لم يتعرض لاختلاف التراجم في النسخ في كتابه إلا في هذا الموضع! والسؤال: هل كل الروايات التي اعتمدها القاضي عياض من رواية ابن ماهان فيها تراجم للكتاب؟

·       اختلاف التبويبات بين نسخة ابن خير لصحيح مسلم، وما ذكره القاضي عياض في شرحه!

وهذه الترجمة التي ذكرها القاضي عياض هي كذلك في مخطوط مسلم - نسخة ابن خير = فهذا يعني أنها هي النسخة التي أشار إليها، لكن التراجم التي في كتاب عياض تختلف عن التراجم التي في المخطوط من نسخة ابن خير الإشبيلي!

فهناك بعض الأبواب في شرحه لمسلم، ويوجد على جانب مخطوط صحيح مسلم لا توجد في كتاب عياض!

وجاء في كتاب عياض: "كتاب الإيمان: باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدَر الله سبحانه وتعالى وبيان الدليل على التبرّى ممن لا يؤمن بالقدر، وإغلاظ القول فى حقه".

وفي المخطوط المغربي الذي اعتمده الأقطش:

"باب أول كتاب الإيمان: باب في الإيمان والإسلام وذكر القدر وغيره".

وكثير من الأبواب التي في المخطوط ليس فيها تسمية، وإنما فيها: "باب"! وكثير منها: "باب منه"! وهذا الأخير يستخدمه الترمذي في جامعه مما يدل على تأثر من بوّب هذه التراجم به، والله أعلم.

ففيه: باب منه: حدّثنا قُتَيْبَةُ بن سَعِيدٍ بنِ جَمِيلِ بْنِ طَرِيفِ بنِ عَبْداللهِ الثَّقَفِىُّ، عَنْ مَالِكِ بنِ أَنْسٍ - فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ - عَنْ أَبِى سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ؛ أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَىَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منْ أَهْلِ نَجْدٍ، ثَائِرُ الرَّأْسِ، نَسْمَعُ دَوِىَّ صَوْتِهِ وَلا نَفْقَهُ مَا يَقُولُ... الحديث.

وهذا الحديث عند القاضي عياض تحت: "باب بيان الصلوات التى هى أحد أركان الإسلام"!

وفي المخطوط: "باب بُني الإسلام على خمس"، وأول حديث فيه: حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِاللهِ بنِ نُمَيْرٍ الْهَمْدَانِىُّ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ – يَعْنِي: سُلَيْمَانَ بْنَ حَيَّانَ الأَحْمَرَ - عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْجَعِىِّ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِىِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بُنِىَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسَةٍ؛ عَلَى أَنْ يُوحَّدَ اللهُ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَالحَجِّ». فَقَالَ رَجُلٌ: الْحَجِّ وَصِيَامِ رَمَضَانَ؟ قَالَ: لا، صِيَامِ رَمَضَانَ وَالْحَجِّ، هَكَذَا سَمعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وعند عياض: "باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام"!

وجاء هذا الحديث في المخطوط في الباب السابق:

حدّثنا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبى جَمْرَةَ؛ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنُ عَبَّاسٍ. ح وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَاللَّفْظُ لَهُ، أَخْبَرَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ، عَنْ أَبِى جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ قَالَ: قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا هَذَا الحَىَّ مِنْ رَبِيعَة، وَقَدْ حَالَتْ بَيْننَا وَبَيْنَكَ كُفَّارُ مُضَر... الحديث.

وهذا الحديث عند القاضي عياض تحت: "باب الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشرائع الدين والدعاء إليه، والسؤال عنه، وحفظه، وتبليغه من لم يبلغه".

فالأصل أن لا تختلف التراجم التي في كتاب عياض عن التراجم التي في نسخة ابن خير للصحيح! لكنها قد اختلفت كثيراً عنها! وكيف لا يُنبّه لها القاضي عياض؟!

فالذي يظهر لي أن هذه التبويبات في مخطوطات صحيح مسلم في المغرب من وضع بعض العلماء لا من مسلم! فلو كان مسلم هو من بوّب كتابه لما خفي ذلك على تلاميذه، وتلاميذهم!

ولو أن مسلماً بوّب كتابه، فلم يحذفها بعد كما في رواية ابن سفيان بحسب رأي الأقطش أن رواية القلانسي قبل رواية ابن سفيان!

وقول الأقطش: "فحينئذٍ أقول: الباب الذي ذَكَرَه الدارقطني هو مثبتٌ بِنَصِّه في نسخة ابن خير مِن صحيح مسلم، وهي برواية القلانسي المشهورة لدى المغاربة... وغالب التبويبات التي ذكرها أبو علي الغساني عثرتُ عليها فيها، والمثال الذي ذكرتُه أيضًا وهو باب تسمية المولود. وكذلك الباب الذي ذكره عياض مثبتٌ في هذه النسخة"، ففيه نظر!

فهذه التبويبات مذكورة في نسخة ابن خير، وكأنها مذكورة في نسخ أخرى، وهي من تبويب العلماء مشياً على طريقة البخاري لفصل موضوعات الأحاديث عن بعضها؛ لأن مسلماً يسوق أحاديث كل باب دون الفصل بينها بتبويب، وكون ما ذكره الغساني مذكور في نسخة ابن خير لا يعني أنه يصحح هذا التبويب، وإنما هو يذكرها كما في النسخة.

وأما قوله: "وهذه فائدة عظيمة وهي أنَّ هذه التبويبات الموجودة في نسخة ابن خير كانت موجودةً أيضًا في نسخة الدارقطني مِن صحيح مسلم، وقد علمتَ فيما سبق مِن مَواطن عِدَّة أنَّ نسخة الدارقطني قديمةٌ عاليةٌ وليست مِن رواية ابن سفيان. وهذه النسخة أقرب ما تكون إلى رواية القلانسي، نظرًا لتشابههما في غير ما موضع"، ففيه نظر شديد! فأي نسخة هذه التي اعتمدها الدارقطني من الصحيح؟!

·       تناقض!

وكأن الأقطش يقول بأن نسخة الدارقطني من رواية القلانسي، وهي تشبه نسخة ابن خير = يعني نسخة الدارقطني كانت مبوبة! فإن كان كذلك فنسخة ابن خير تنقضه! وهي أمامه!

فالدارقطني يقول بأنه وقع في بَابِ أَيُّ الإِسْلَامِ خَيْرٌ: عَنْ أَبِي طَاهِرٍ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الإِسْلَامِ خَيْرٌ؟». وصَوَابُهُ: «المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ».

ولا يوجد خطأ في نسخة ابن خير!

ففيها: "باب: أي الإسلام خير": حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ. ح وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ رُمْحِ بنِ المُهَاجِرِ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ؟ قَالَ: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ، وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ».

ثم بعده:

"باب: المسلم من يسلم المسلمون منه": وَحَدَّثَنَا أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بنُ عَمْرِو بنِ عَبْدِاللهِ بنِ عَمْرِو بنِ سَرْحٍ المِصْرِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بنِ الحَارِثِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، ِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَاللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، يَقُولُ: إِنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ المُسْلِمِينَ خَيْرٌ؟ قَالَ: «مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ».

فإن كان الدارقطني يعتمد النسخة التي مثل نسخة ابن خير، فالأصل أنه لا يوجد فيها خطأ!

والدارقطني إنما ينقل من النسخة التي بخط مسلم كما قال الأخ الأقطش نفسه، فالقول بأنه يعتمد نسخة أخرى فيه نظر!

وأما قوله: "وقد أُعجب بكتاب مسلم غيرُ واحدٍ مِن حفاظ عصره في حياته وبعد مماته، فأخرج فضلك الرازي كتابًا على مثاله، كما سيأتي في كلام البرذعي. بل إنَّ أحمد بن سلمة نفسه قد عمل عليه صحيحًا له فيما بعد... ومِمَّا زاد في الإعجاب به أنَّ صاحِبَه قد صنفه ولَمْ يبلغ الأربعين مِن عمره وفقًا لِمَا حسبناه"، لا دليل عليه!

فمن هؤلاء الذين من حفاظ عصره الذين أعجبوا به؟! وإنما أُتي الأخ الأقطش من فهمه لكلام البرذعي! فالبرذعي قال: "شَهِدْتُ أبا زرعة ذَكَرَ كتاب الصحيح الذي ألَّفه مسلم بن الحجاج ثم الفضل الصائغ على مثاله"، فقوله: "على مثاله" = أي على مثال الصحيح، لا أنه عمله على مثل كتاب مسلم! ففضلك من أقران مسلم، وهو إمام كبير، ولا شك أن له شرطه في الصحيح الذي يختلف عن مسلم، وإنما جمع كتبهم اسم الصحيح.

وأما قوله: "إنَّ أحمد بن سلمة نفسه قد عمل عليه صحيحًا له فيما بعد" = فهذا يعني أنه عمل على صحيح مسلم مستخرجاً! وهذا فيه نظر!

وقد مر كلام الخطيب الذي استشهد به الأقطش على أن مسلماً صنف صحيحه استجابة لرفيقه أحمد بن سلمة، فإنه قال في ترجمته: "أحد الحفاظ المتقنين، رافق مُسْلِم بن الحجاج فِي رحلته إِلَى قتيبة بن سَعِيد، وَفِي رحلته الثانية إِلَى البصرة، وكتب بانتخابه على الشيوخ، ثم جمع لَهُ مُسْلِم الصحيح على كتابه".

قلت: ففهم الأقطش من هذا أن مسلما جمع الصحيح في كتابه استجابة لطلب أحمد بن سلمة، وكلام الخطيب يحتمل هذا، لكن هو اجتهاد لا دليل عليه كما سبق بيانه، وظاهر كلامه أن مسلماً جمع لأحمد بن سلمة صحيحاً على كتاب مسلم = وهذا يؤيد ما ذكره الأقطش هنا! لكن كيف يستدل بالكلام نفسه في أن مسلماً جمع الصحيح استجابة لطلبه، وعمل مستخرجاً على صحيح مسلم! على أنه لم يذكر أن مسلماً هو من عمل له هذا المستخرج! وإن كان كلام الخطيب أقرب إلى أنه استجاب لطلبه في جمع الصحيح، لكن يُشكل عليه كلمة "على كتابه"! وكأن الصواب فيها: "في كتابه" = أي كتاب مسلم، وحينها يستقيم كلام الخطيب.

وعموماً فما عمله أحمد بن سلمة صحيحاً مستقلاً، وقد قَالَ أَبُو القَاسِمِ النَّصْرُ آباذِي: "رَأَيْتُ أَبَا عَلِيٍّ الثَّقَفِيّ فِي النَّوْمِ، وَهُوَ يَقُوْلُ: عَلَيْكَ بصَحِيْح أَحْمَد بن سَلَمَةَ".

وقد تقدّم أن مسلماً كان ينتخب من حديث عبدالرحمن بن بشر العبدي الأحاديث التي على شرط أحمد بن سلمة في صحيحه، فمسلم قد ساعده في صحيحه، والله أعلم.

والقول بأنه مما زاد ابن سلمة إعجابه به بأن مسلماً صنفه ولم يبلغ الأربعين فهذا ليس بصحيح كما تقدم بيانه، وأما مسألة الإعجاب فلا شك أن مسلماً قدوة يُعجب به أصحابه، لكن لا يوجد دليل على ما قاله الأقطش!

·       لا يوجد دليل على أن مسلماً حدّث بصحيحه أكثر من مرة!

سابعاً: قوله: "أما آخر مرة حدث بها بصحيحه فهي رواية ابن سفيان سنة 257"! فيه نظر! وكان عليه أن يثبت تحديث مسلم لكتابه قبل ذلك!

وهذا سرقه (اللا أمين) من الأخ الأقطش حيث قال تحت عنوان: "الرواية الأخيرة لصحيح مسلم ووفاته": "أمَّا مسلم فَلَمْ يَزَلْ ينقح صحيحه بنيسابور، حتى حدَّث به آخر مرة سنة 257 هـ ورواه عنه ابن سفيان وهي الرواية المشهورة للصحيح. قال ابن سفيان: «نا أبو الحسين مسلم بن الحجاج بنيسابور سنة سبع وخمسين ومائتين .. فرغ لنا مسلم مِن قراءة الكتاب لعشرٍ خلون مِن شهر رمضان مِن العام المذكور». اهـ وهذا يدلُّ على أنَّ مسلمًا مكث خمس عشرة سنة بعد تصنيفه للصحيح حتى وَضَعَه في صورته النهائية، وهذا يفسر لك سبب الاختلافات بين بعض ما نَقَلَه ابنُ عمار الشهيد والدارقطني وغيرُهما وبين ما في رواية ابن سفيان الحالية. وبقي مسلم بعد ذلك بضع سنين، حتى وافته المنية سنة 261 هـ" انتهى.

قلت: نعم، هناك من روى عن مسلم كتابه غير إبراهيم بن سفيان كما تقدم ذكره، لكن هل من رواه عنه سمعه منه قبل إبراهيم؟! فهذا ما نحتاج إثباته! فهل حدّث مسلم بكتابه قبل ظهور صحيح البخاري؟!

والمشهور ما قاله إِبْرَاهِيم: "فرغ لنا مُسلم من قِرَاءَة الكتاب لعشر خلون من رَمَضَان من العَام المَذْكُور - يعني سنة (257هـ)".

وفي ظنّي أن رواية القَلانسي عن مسلم لكتابه الصحيح ربما سمعها مع ابن سفيان، والله أعلم.

وهذه الرواية يرويها أَبُو العَلَاء عبدالوَهَّاب بن عِيسَى بن ماهان البغدادي، قَالَ: حَدثنَا أَبُو بكر أَحْمد بن مُحَمَّد بن يحيى الفَقِيه على مَذْهَب الشَّافِعِي المَعْرُوف بالأشقر بنيسابور، قَالَ: حَدثنَا أَبُو مُحَمَّد أَحْمد بن عَليّ بن الحُسَيْن بن المُغيرَة بن عبدالرَّحْمَن القَلَانِسي، قَالَ: حَدثنَا أَبُو الحُسَيْن مُسلم بن الحجَّاج القشيرِي النَّيْسَابُورِي رَحمَه الله.

قال السمعاني عن هذه الرواية في «الأنساب» (12/76): "وهي أحسن رواية لذاك الكتاب، وإنهم ثقات".

وَابنُ مَاهان حَدَّثَ بِمِصْرَ بِـ «صَحِيْحِ مُسْلِمٍ» عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَحْمَدَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ يَحْيَى الأَشقرِ الشَّافِعِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ بنِ عَلِيٍّ القَلاَنِسِيِّ، عَنْ مُسْلِمٍ سِوَى ثَلاَثَةِ أَجْزَاء مِنْ آخِرِهِ، فرَوَاهَا عَنِ الجُلُودِيُّ.

وقد روى أَبو عمر بن الحذاء، قال: سَمِعت أبي - رَحمَه الله - يَقُول: أَخْبرنِي ثِقَات أهل مصر: أَنّ أَبَا الحسن عَليّ بن عمر الدَّارَقُطْنِيّ كتب إِلَى أهل مصر من بغداد: "أَن اكتبوا عَن أبي العَلَاء بن ماهان كتاب مُسلم بن الحجَّاج"، وَوصف أَبَا العَلَاء بالثقة والتمييز.

ولا ندري من هؤلاء الذين نقلوا ذلك عن الدارقطني!

وكأن السمعاني أثنى على روايته بما نقل هنا عن الدارقطني! لكن عند التحقيق وفيما ذكره الغساني في كتابه «تقييد المهمل» يتبين أن رواية إبراهيم بن سفيان أحسن وأتقن.

وهناك بعض الفوت لإبراهيم بن سفيان عن مسلم.

قال ابن الصلاح في «صيانة صحيح مسلم» (ص: 114): "اعْلَم أَن لإِبْرَاهِيم بن سُفْيَان فِي الْكتاب فائتاً لم يسمعهُ من مُسلم يُقَال فِيهِ: أخبرنَا إِبْرَاهِيم عَن مُسلم، وَلَا يُقَال فِيهِ: قَالَ أخبرنَا أَو حَدثنَا مُسلم، وَرِوَايَته لذَلِك عَن مُسلم إِمَّا بطرِيق الْإِجَازَة وَإِمَّا بطرِيق الوجادة".

ثم بيّن هذا الفوت، فذكر أنّ الأول فِي كتاب الحَج، ومقداره ثَمَانِيَة أوراق أَو نَحْوهَا، والفَائِت الثَّانِي في أول كتاب الوَصَايَا، ومِقْدَاره عشرَة أوراق، والفَائِت الثَّالِث فِي أَحَادِيث الْإِمَارَة والخلافة، وَهَذَا الفَوْت أكبرهما وَهُوَ نَحْو ثَمَانِي عشرَة ورقة، وَفِي أَوله بِخَط الحَافِظ الكَبِير أبي حَازِم العبدوي النَّيْسَابُورِي وَكَانَ يروي عَن مُحَمَّد بن يزِيد العدْل، عَن إِبْرَاهِيم مَا صورته: من هُنَا يَقُول إِبْرَاهِيم: قَالَ مُسلم، وَهُوَ فِي الأَصْل المَأْخُوذ عَن الجلودي، وأصل أبي عَامر الْعَبدَرِي وأصل أبي القَاسِم الدِّمَشْقِي بِكَلِمَة عَن، وَهَكَذَا فِي الفَائِت الَّذِي سبق فِي الأَصْل الْمَأْخُوذ عَن الجلودي وأصل أبي عَامر وأصل أبي القَاسِم، وَذَلِكَ يحْتَمل كَونه روى ذَلِك عَن مُسلم بالوجادة، وَيحْتَمل الْإِجَازَة، وَلَكِن فِي بعض النّسخ التَّصْرِيح فِي بعض ذَلِك أَو كُله يكون ذَلِك عَن مُسلم بِالْإِجَازَةِ وَالعلم عِنْد الله تبَارك وَتَعَالَى.

قلت: يعني أن الجلودي أخذ من أصل مسلم، فأجازه به، أو وجده في كتابه، فرواه عنه.

وقد تقدّمت الإشارة إلى الاختلافات بين نسخة ابن ماهان وبين رواية الجلودي كما أشار أبي علي الغساني، وأن نسخة ابن سفيان أتقن من نسخة القلانسي.

·       المبالغة في مسألة تنقيح مسلم لكتابه!

فلا أحد يُنكر أن مسلماً كان يُنقّح في «صحيحه»، لكن ما حجم هذا التنقيح؟

فتركه لبعض الأحاديث وعدم تحديثه بها ليس دليلاً على ما نحن فيه من أنه هو أول من صنّف الصحيح!

فمسلمٌ بدأ تصنيف كتابه سنة (242هـ) أو (250هـ)، وحدّث به، وسمعه إبراهيم بن سفيان سنة (257هـ).

وغاية ما في الأمر أنّ مسلماً كتب «صحيحه» بخطّه، وهذه النسخة التي بخطه كانت عند الحافظ ابن الأخرم وقد أظهرها لما ناقش الحافظ أبا علي النيسابوري في كلمة في حديث من كتاب مسلم كما سيأتي سرد القصة، والمسألة أن أبا علي لم يكن يحفظ هذه الكلمة لا أنه كانت عنده نسخة أخرى من «صحيح مسلم»، إذ لو كانت عنده نسخة أخرى لاحتج بها على ابن الأخرم، ولقال: هذه ليست في نسختي التي سمعتها من فلان!

فتضخيم هذه المسألة وأن مسلماً مكث خمس عشرة سنة بعد تصنيفه للصحيح حتى وَضَعَه في صورته النهائية لا يعني أنه أظهر كتابه قبل البخاري! وهل هذه الصورة النهائية التي أخذت خمس عشرة سنة في تركه لخمسة أو ستة أحاديث؟!

نعم، قد أشار الدارقطني وابن عمّار الشهيد إلى أحاديث قليلة جداً لا توجد في نسخة ابن سفيان عن مسلم، وبعضها يوجد في رواية القلانسي، فالأمر أن مسلماً كتب «صحيحه» فلما حدّث به لم يرو بعض الأحاديث التي فيه، وكأنه أعرض عنها لوجود علل فيها تنبّه إليها، ويدعم ذلك أن بعض الحفاظ انتقدوه على تخريجها، ولهذا يقول الدارقطني في اثنين منها: "تركه مسلم" - أي ترك التحديث بها.

وعليه فهذه الأحاديث لا توجد في رواية إبراهيم بن سفيان؛ لأن مسلماً لم يُحدثهم بها، والانتقاد كان موجهاً لأصل هذه الأحاديث التي في أصل الكتاب بخطّ مسلم.

فالاختلاف بين نسخة الأصل التي بخط مسلم، وبين روايتي ابن سفيان، والقلانسي ليست جوهرية، وإنما في تعليل بعض الأحاديث التي لا تزيد عن أصابع اليدين! وتعقّب الدارقطني لأحاديث في مسلم في جزء خاص جلّى ذلك واضحاً، وكان يقول: "وَكَانَ فِي الكِتَابِ مِمَّا تَرَكَهُ".

وعملُ الأخ الأقطش على العناية بهذا الجزء في رد أبي مسعود الدمشقي على مسلم عملٌ جيد، لكن ما يتعلق باختلاف النسخ يفتقر إلى الدليل والحجة، وهو إنما تشكّلت عنده هذه الفكرة؛ لأنه يقتنع بأن مسلماً قد انتهى من تصنيف كتابه سنة (242هـ)! وهذا ليس بصحيح.

فالأمر لا يحتاج لأن يُضخّم بهذا التضخيم، وما أحسن ما نقله عن الحافظ أبي طاهر السِّلَفي بعد أن ذكر جواب أبي مسعود في حديث في الرد على كلام الدارقطني: "يُحتمل أنَّ هذا الحديث - يعني حديث غندر، عن شعبة، عن قتادة، عن زرارة، عن سعد بن هشام، عن النبي صلى الله عليه وسلم - كان في كتاب مسلم فأسقطه مثل ما فعل في غيره، وإلى هذا أشار الدارقطني. والعذر عنه أن يقال: «سعيد» قد يتصحَّف لـ «شعبة» مِن حيث الكتابة، خصوصًا وقد اشتركا في قتادة ورَوى غندرُ عنهما جميعًا. ولعلَّه كان في كتاب مسلم القديم الذي كتبه عن شيخه مشكلاً غير مشكول، فذهب عليه حالة نقله إلى تخريجه، إذ الغالب على غندر الرواية عن شعبة. فحين نَظَرَ - رحمه الله - إلى الاختلاف الذي فيه على قتادة، أسقطه مِن «صحيحه». ثم لَمْ يُنعم النظر فيه مرةً أخرى كما فعل في غيره مِن الأحاديث المنقَّحة، فبقي مشكولاً على حاله. والحق مع الدارقطني - رحمه الله - إذ حكى ما رأى" اهـ.

نقله علي بن المفضل في كتابه «الأربعون على الطبقات» ثم تعقّب كلام شيخه السلفي بقوله: "ولا نظن بالدارقطني بعد أن قال: «هكذا كتبه بخطِّه» يعني: مسلمًا، إلاَّ وقد وَقَفَ عليه كذلك وتحقَّق أنه خطُّه. اللهم إلاَّ أن يكون رآه في النسخة القديمة التي أسقط منها ما أسقط، ولَمْ يتأمل الجديدة التي ليس هو الآن فيها كما ذكر أبو مسعود. فلا يصح النقد عليه فيما تنبَّه لعلَّته فأسقطه".

 

5- قال صاحب المقالة: "والآن نناقش الاعتراضات:

في سؤالات البرذعي لأبي زرعة ص 37: شهدت أبا زُرْعَة ذكر "كتاب الصحيح"، الذي ألفه مسلم بن الحجاج، ثم الفضل الصائغ (المعروف بفضلك) على مثاله، فقال لي أبو زُرْعَة: هؤلاء قوم أرادوا التقدم قبل أوانه فعملوا شَيْئًا يتشوفون به، ألفوا كتابًا لم يسبقوا إليه ليقيموا لأنفسهم رياسة قبل وقتها، وأتاه ذات يوم - وأنا شاهد - رجل بـ "كتاب الصحيح"، من رواية مسلم، فجعل ينظر فيه، فإذا حديث عن أسباط بن نصر، فقال لي أبو زُرْعَة: ما أبعد هذا من الصحيح، يُدخل في كتابه أسباط بن نصر!

ثم رأى في الكتاب قَطَن بن نُسَير، فقال لي: وهذا أطم من الأول، قَطَن بن نُسَير وصل أحاديث عن ثابت، جعلها عن أَنس.

ثم نظر فقال: يروي عن أحمد بن عيسى المصري في كتابه "الصحيح"!

قال لي أبو زُرْعَة: ما رأيت أهل مصر يشكون في أن أحمد بن عيسى، وأشار أبو زُرْعَة بيده إلى لسانه، كأنه يقول: الكذب.

ثم قال لي: يحدث عن أمثال هؤلاء، ويترك عن مُحَمَّد بن عَجْلاَن ونظرائه، ويُطَرِّق لأهل البدع علينا، فيجدون السبيل بأن يقولوا لحديث إذا احتج عليهم به: ليس هذا في "كتاب الصحيح"، ورأيته يذم وضع هذا الكتاب، ويؤنبه.

فلما رجعت إلى نيسابور في المرة الثانية، ذكرت لمسلم بن الحجاج إنكار أبي زُرْعَة عليه روايته في هذا الكتاب عن أسباط بن نصر، وقَطَن بن نُسَير، وأحمد بن عيسى، فقال لي مسلم: إنما قلتُ صحيح، وإنما أدخلت من حديث أسباط، وقَطَن، وأحمد ما قد رواه الثقات عن شيوخهم، إلا أنه ربما وقع إليَّ عنهم بارتفاع، ويكون عندي من رواية من هو أوثق منهم بنزول، فأقتصر على أولئك، وأصل الحديث معروف من رواية الثقات.

وقَدِم مسلم بعد ذلك إلى الري، فبلغني أنه خرج إلى أبي عَبدالله مُحَمَّد بن مسلم بن وارة، فجفاه وعاتبه على هذا الكتاب، وقال له نحوًا مما قاله أبو زُرْعَة: إن هذا يطرق لأهل البدع علينا، فاعتذر إليه مسلم، وقال: إنما أخرجت هذا الكتاب، وقلت: هو صحاح، ولم أقل: إن ما لم أخرجه من الحديث في هذا الكتاب ضعيف، ولكني إنما أخرجت هذا من الحديث الصحيح ليكون مجموعًا عندي، وعند من يكتبه عني، فلا يرتاب في صحتها، ولم أقل: إن ما سواه ضعيف، ونحو ذلك مما اعتذر به مسلم إلى مُحَمَّد بن مسلم، فقبل عذره، وحدثه.

انتهت القصة. وفيها عدة عبرات منها:

1- مسلم كان شابا مغمورا لما ألّف الصحيح، ولهذا قال أبو زرعة عبارته التي كتبتها بين أقواس. وفعلا كان أقل من 40 سنة.

2- مسلم لم يأت به بصحيحه ليأخذ منه إجازة وإنما الكتاب شاع وانتشر وصار الناس يسألون أبو زرعة عنه، ولما أحضر البرذعي له نسخة منه نظر فيه نظرة سريعة وأعطى رأيا سيئا وحذر منه، ثم البرذعي لما سافر لنيسابور التقى بمسلم وبرر مسلم سبب صنيعه.

3- الصحيح اشتهر خارج نيسابور دون أن يعرضه مسلم على أبي زرعة، بل حتى لما سمع بانتقاد أبي زرعة عليه لم يسافر إلى الري ليعذر إليه مباشرة.

4- والأهم أن أبو زرعة في سعة اطلاعه لم يسمع بأن أحدا جمع الحديث الصحيح في كتاب قبل مسلم، ولهذا انتقده على هذا وقال أنه ألف كتابا لم يسبق إليه لتكون له الزعامة.

5- من الواضح للعيان أن البخاري لم يكن قد حدث بصحيحه وإلا كان انتقاده لمسلم بلا معنى، بل لم يكن عمل مسلم يعني له الشهرة لأن تلك الفكرة يفترض أنها كانت مطروقة".

قلت:

أولاً: هذا أيضاً سرقه (اللا أمين) من كلام الأقطش، فاختصره وساقه بهذا الأسلوب الذي يقرأه يعلم أنه لا يستطيع التعبير بلغة فصيحة متينة!

قال الأقطش تحت عنوان: "موقف أبي زرعة مِن صحيح مسلم": "فلمَّا ذاع صيتُ هذا الكتاب في تلك الناحية ونَسَجَ فضلك الرازي على منواله أيضًا، ذَمَّ أبو زرعة صنيعَهما وتكلَّم فيهما".

ثم ساق القصة، وعلّق عليها، وسنذكر كلامه ونعلّق عليه بإذن الله.

وقوله: إن كتاب مسلم ذاع صيته في تلك الناحية = يقصد قبل وفاة البخاري! وهذا لا دليل عليه! وإنما بنى ذلك على أن مسلماً انتهى من تأليف كتابه سنة (242هـ)! وقد دحضنا هذا الكلام بالأدلة - بحمد الله.

·       دعاوى فارغة!

ثانياً: مسلم لم يكن مغموراً لما ألف الصحيح، بل كان معروفاً كما سبق نقل ذلك في مجلس إسحاق بن راهويه.

والدعوى أنه ألف كتابه قبل سن الأربعين دعوى فارغة لا دليل عليها!

ثالثاً: لا أدري لم هذا الكلام بأن مسلماً لم يأت به بصحيحه ليأخذ منه إجازة!! وما دخل هذا بالقصة!

وأما أن الكتاب شاع وانتشر وصار الناس يسألون أبأ زرعة (وفي أصل كلام اللا أمين: أبو زرعة، وهو خطأ نحوي)! عنه فهذا لا كما يظن (اللا أمين) - مما سرقه من الأقطش - قبل ظهور صحيح البخاري؛ لأن أبا زرعة من أقران مسلم وتوفي بعده سنة (264هـ)، وهذه القصة تكون حدثت بعد سنة (257هـ) بعد أن حدّث مسلم بصحيحه في نيسابور، فوصل إليه كله أو أجزاء منه، فقال رأيه الذي في هذه القصة.

ولا أدري كيف فهم الكاتب أن البرذعي هو من أحضر نسخة الصحيح لأبي زرعة! فالبرذعي قال: "شهدت أبا زرعة ذكر كتاب الصحيح الذي ألفه مسلم بن الحجاج...".

رابعاً: مسألة انتشار الصحيح خارج نيسابور لا دليل عليه! لكن قد وصل الصحيح للري لأبي زرعة وتكلّم عليه من باب حصر أن هذه هي الأحاديث الصحيحة فقط! وهذا مما يستغله أهل البدع إذا أُريد الاحتجاج عليهم بحديث صحيح، فإنهم سيقولون: هذا لا يوجد في صحيح مسلم!

ويُحتمل أن بعض أجزاء الصحيح نُقلت لأبي زرعة فوجد فيه تخريج مسلم لأسباط بن نصر، وقَطَن بن نُسَير، وأحمد بن عيسى المصري، والله أعلم.

وليس بالضرورة أن يسافر مسلم إلى الري ليعذر إلى أبي زرعة انتقاده له! كيف ومسلم له رأيه وتضلعه في هذا العلم كما هو الحال عند أبي زرعة.

والظاهر أن مسلماً لما قدم الري بعد ذلك لم يكن أبا زرعة هناك، ولهذا خرج لى صاحبه ابن وارة وعاتبه أيضاً على كتابه فبيّن عذره، فقبله وحَمِدَه.

ولا أدري ما دخل هذا كله بمسألة تصنيف مسلم لكتابه قبل سنة (242هـ) كما زعم الكاتب!

فلو كان رأيه صحيحاً لوصل الكتاب إلى البخاري، وإلى غيره من جهابذة النقد، لكن هذا لم يكن!

خامسًا: لا يلزم من سعة اطلاع أبي زرعة أنه لم يسمع بأن أحداً لم يجمع الصحيح قبل مسلم! فها هو أبو زرعة لم يطلع على «تاريخ البخاري» حتى أتى إليه الفضل الصائغ (فضلك) بنسخة، فاطلع عليها أبو زرعة وأبو حاتم وذكرا أوهام البخاري فيه - بحسب النسخة التي أتى بها فضلك لهم-! فلو لم يُدوّن ابن أبي حاتم انتقاداتهم لما عرفنا أنه وصلهما! ويُحتمل أن صحيح البخاري لم يصله! والذي أميل إليه أنه وصله.

وأبو زرعة إنما تكلم في كتاب مسلم ومثله فضلك الصائغ وهما من أقرأنه؛ لأنه يُطرّق لأهل البدع، وذكر أنهم أرادوا التقدم قبل أوانه، وأنهم أرادوا لأنفسهم رياسة قبل وقتها! وهذا لا يوافق عليه! وكأنه خرج منه مخرج الضجر، والله أعلم.

·       منزلة البخاري عند أبي زرعة:

سادسًا: قول الكاتب أن البخاري لم يكن قد حدث بصحيحه من نسج أوهامه وخيالاته! فأبو زرعة يحتمل أنه لم يكن وقف على صحيح البخاري، مع الميل أنه وقف عليه، والبخاري عنده ليس كمسلم وفضلك الصائغ!

وأبو زرعة كان يعرف فضل الإمام البخاري، ولو عرف أنه صنف الصحيح لما قال فيه كما قال في مسلم.

روى الخطيب في «تاريخ بغداد» (2/343) بإسناده إلى أبي بكر محمد بن حريث، قال: سمعت أبا زرعة الرازي يقول - وسألته عن ابن لهيعة - فقال: "تركه أبو عبدالله محمد بن إسماعيل".

وسألته عن ابن حميد الرازي، فقال: "تركه أبو عبدالله".

قَالَ محمد بن حريث: فذكرت ذلك لمحمد بن إسماعيل، فَقَالَ: "بِرُّهُ لَنَا قَدِيْمٌ".

وكان أبو حاتم الرازي يُجلّه أيضاً.

روى الخطيب في «تاريخ بغداد» (2/344) بإسناده إلى إسحاق بن أحمد بن زِيْرَك، قَالَ: «سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ إِدْرِيْسَ الرَّازِيَّ يَقُوْلُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَأَرْبَعِيْنَ وَمائَتَيْنِ: يقدَمُ عَلَيْكُم رَجُلٌ مِنْ أَهلِ خُرَاسَانَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا أَحْفَظُ مِنْهُ، وَلاَ قَدِمَ العِرَاقَ أَعْلَمُ مِنْهُ". فَقَدمَ عَلَيْنَا بعد ذلك محمد بن إسماعيل بأشهر.

وَقَالَ أبو حاتم الرازي في هذا المجلس: محمد بن إسماعيل أعلم من دخل العراق، ومحمد بن يحيى أعلم من بخراسان اليوم من أهل الحديث».

قلت: الظاهر أن هذه إحدى قدماته للعراق في سنة (247هـ)، وقدومه للريّ كان في سنة (250هـ) وفيها كتب عنه أبو زرعة وأبو حاتم.

قال عَبْدالرَّحْمَن بن أَبِي حاتِم فِي «الجرح والتعديل» (7/191): "قَدِمَ عليهم - مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ - الرَّيَّ سَنَةَ خَمْسِيْنَ وَمائَتَيْنِ، وَسَمِعَ مِنْهُ: أَبِي وَأَبُو زُرْعَةَ، وَتركَا حَدِيْثَهُ عِنْدَمَا كَتَبَ إِليهِمَا مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى النيسابوري أَنَّهُ أَظهرَ عِنْدَهُم أَنَّ لَفْظَهُ بِالقُرْآنِ مَخْلُوْقٌ".

وقوله: "وتركا حديثه..." لا يعني أن تركهم لحديثه كان في سنة (250هـ)، بل هم كتبوا عنه في تلك السنة، ولما حصلت الفتنة مع الذهلي كتب لهما فتركا حديثه الذي سمعوه منه في تلك السنة، ولعل هذا هو السبب الذي زهّدهم في «صحيحه» فلم نجد له ذكراً عندهما بخلاف كتاب «التاريخ» الذي علّقا عليه؛ لأنه انتشر قبل حدوث الفتنة بسنوات.

·       رد الأقطش لكلام ابن أبي حاتم في سنة دخول البخاري الريّ!

وقد كتب الأخ الأقطش تحت عنوان: "قدوم البخاري الري مِن العراق": "وبَلَغَ أبا حاتم الرازي سنة 247 هـ أنَّ البخاري قادمٌ مِن العراق إلى الري، فبشَّر أصحابَه بهذا... فقَدِمَ بغداد مجتازًا بها، وآخر مَن كَتَبَ عنه مِن أهلها المحاملي سنة 248 هـ. وكان هذا هو آخِرَ عَهْدِه بالعراق.

ثم قَدِمَ البخاريُّ الريَّ في نفس السنة بعد شهورٍ مِن تبشير أبي حاتم بقدومه. وهذا أَوْلَى مِن قولِ ابن أبي حاتم إنَّ البخاري دخلها سنة 250 هـ، لأنَّ هذه السنة الذي ذَكَرَها هي سنة دخوله نيسابور كما سيأتي. وأقبل أبو حاتم وأبو زرعة والرازيون على البخاري يأخذون مِن علمه وينهلون مِن فوائده، وهُم المقرُّون بفضله المعترفون بنبوغه. فهذا أبو زرعة قال فيه أحدهم: «رأيتُ أبا زرعة كالصبي جالسًا بين يدي محمد بن إسماعيل يسأله عن علل الحديث». اهـ وكان فضلك الرازي قد التقى بالبخاري قديمًا في العراق، فوَقَعَ على تاريخه الكبير الأعجوبة. فانتسخه وحَمَلَه إلى أبي زرعة، فانتفع به وإن وَقَفَ فيه على أوهامٍ كثيرة. وقد صنَّف أبو زرعة كتابًا في بيان هذه الأوهام، وزاد عليه ابنُ أبي حاتم أقوالَ أبيه، ثم جمع ذلك كله في كتابه. والبخاري كان قد أصلح كثيرًا مِن أوهامه الموجودة في تلك النسخة القديمة، ولهذا تجد كثيرًا مِن المواضع التي انتقدها أبو زرعة قد جاءت على الصواب في الرواية الحالية للتاريخ. والبخاري قد صنَّف تاريخه أول مرةٍ سنة 212 هـ، وهو ابن ثمان عشرة سنة، ثم جعل يُصلح فيه ويعدِّله ثلاث مرات كما أخبر عن نفسه" انتهى.

قلت: رد كلام ابن أبي حاتم هكذا مُجازفة! فهو أدرى من غيره في دخول البخاري الريّ، فإن أردنا الترجيح فلا شك أننا نرجح قوله على قول إسحاق بن زِيرك! لكن قد أعملنا القولين - بحمد الله.

ورد الأقطش لكلام ابن أبي حاتم استناداً لما نقل عن الحاكم قوله أن البخاري دخل نيسابور آخر مرة سنة (250هـ)! وقد بيّنت وهاء ذلك.

·       رد دعوى أن البخاري وقع في أوهام كثيرة في نسخته القديمة من التاريخ!

وأما ما ذكره الأقطش من أن البخاري كان قد أصلح كثيراً من أوهامه الموجودة في النسخة التي جاء بها فضلك الصائغ لأبي زرعة فليس بصحيح! ووجود كثير من المواضع في الرواية الحالية للتاريخ كما انتقدها أبو زرعة لا يعني أن البخاري وهم فيها!

وقد بيّن الإمام المعلمي اليماني في مقدمة تحقيقه لكتاب ابن أبي حاتم في بيان أوهام البخاري في التاريخ أن الخلل من النسخة التي أتى بها فضلك الصائغ لأبي زرعة، وهو كذلك، وقد صنّفت كتاباً كبيراً بحمد الله في هذا في الرد على د. بشار معروف في دعواه أن النسخة المتداولة من تاريخ البخاري قام النساخ أو غيرهم بإصلاحها وِفقاً لما بيّنه الرازيان في كتاب بيان أوهام البخاري في تاريخه!

وهذا قول باطل عاطل لا دليل عليه، وبينت أن النسخة التي أتى بها فضلك الصائغ إنما اُنتسخت له لا أنه هو من نسخها! ويستحيل أن يهم البخاري فيما انتقدوه عليه! وهل يَهم البخاري في أسماء شيوخه؟! وغالب هذه الأوهام هي تصحيفات لا يقع البخاري في مثلها! والله المستعان.

فكأن البخاري لما كان بنيسابور كان أحيانًا ينزل المدن التي حولها في خراسان كالريّ، لكن مقامه الدائم في تلك الفترة كان في نيسابور كما سيأتي بيانه إن شاء الله.

وروى الخطيب في «تاريخ بغداد» (2/351) بإسناده إلى عبدالمؤمن بن خلف التميمي النَّسَفيّ، قَالَ: سمعت الحسين بن محمد المعروف بِعُبيدِ العِجْلِ، يقول: "مَا رَأَيْتُ مِثْلَ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ، وَمُسلمٌ الحافظُ لَمْ يَكُنْ يبلغُ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ. وَرَأَيْتُ أَبَا زُرْعَةَ وَأَبَا حَاتِمٍ يَسْتَمَعَانِ إِلَى مُحَمَّدٍ، أَيَّ شَيْءٍ يَقُوْلُ، يجلسُونَ إِلَى جَنْبِهِ، فَذكرت له - أي: لعُبَيْدِ العِجْلِ - قِصَّةُ مُحَمَّدِ بنِ يَحْيَى، فَقَالَ: مَا لَهُ وَلِمُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ؟ كَانَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ، وَكَانَ أَعْلَمَ مِنْ مُحَمَّدِ بنِ يَحْيَى بكذَا وَكَذَا، وَكَانَ دَيِّناً فَاضِلاً يُحْسِنُ كُلَّ شَيْءٍ".

وعُبَيْدٌ العِجْلُ أَبُو عَلِيٍّ الحُسَيْنُ بنُ مُحَمَّدٍ البَغْدَادِيُّ الحَافِظُ، الإِمَامُ، المُجَوِّدُ، المُتقنُ، تِلْمِيْذُ يَحْيَى بنِ مَعِيْنٍ.

وقال إِبْرَاهِيْمُ الخَوَّاصَ مُستملِي صَدَقَةَ: "رَأَيْتُ أَبَا زُرْعَةَ كَالصَّبيِّ جَالِساً بَيْنَ يَدِي مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ، يَسْأَلُهُ عَنْ عِلَلِ الحَدِيْثِ".

وقال الإِمَامُ، الحَافِظُ المُتْقِنُ، الحُجَّةُ، أَبُو عَبْدِاللهِ مُحَمَّدُ بنُ يَعْقُوْبِ بنِ يُوْسُفَ الشَّيْبَانِيُّ، النَّيْسَابُوْرِيُّ، ابنُ الأَخْرَمِ: سمعت أبي يقول: "رأيت مسلم بن الحجاج بين يدي محمد بن إسماعيل البخاري، وهو يسأله سؤال الصبي المُتعَلِّم".

وَوَالدُ ابنِ الأَخْرَمِ كان إماماً فقيهاً شَّافِعِياً، تُوُفِّيَ سَنَةَ (287هـ).

وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ يَعْقُوْبَ بنِ الأَخْرَمِ: سَمِعْتُ أَصْحَابَنَا يَقُوْلُوْنَ: "لَمَّا قَدِمَ البُخَارِيُّ نَيْسَابُوْرَ اسْتَقبَلَهُ أَرْبَعَةُ آلاَفِ رَجُلٍ رُكْبَاناً عَلَى الخيلِ، سِوَى مِنْ ركبَ بغلاً أَوْ حِمَاراً وَسوَى الرَّجَّالَةِ".

وَقَالَ الحَاكِمُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ حَامِدٍ البَزَّازُ، قال: سَمِعْتُ الحَسَنَ بنَ مُحَمَّدِ بنِ جَابِرٍ يقول: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ يَحْيَى الذُّهْلِيَّ لَمَّا وَردَ البُخَارِيُّ نَيْسَابُوْرَ يَقُوْلُ: "اذْهَبُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ، فَاسْمَعُوا مِنْهُ".

·       متى دخل البخاري نيسابور آخر مرة؟

لكن السؤال متى دخل البخاري نيسابور آخر مرة؟ ومتى حصلت فتنته مع محمد بن يحيى الذهلي في مسألة اللفظ؟

سبق نقل الذهبي في «السير» (12/404) عن الحَاكِمِ قال: "أَوَّل مَا وَردَ البُخَارِيُّ نَيْسَابُوْرَ سَنَةَ تِسْعٍ وَمائَتَيْنِ، وَوَرَدَهَا فِي الأَخِيْرِ سنَةَ خَمْسِيْنَ وَمائَتَيْنِ، فَأَقَامَ بِهَا خَمْسَ سِنِيْنَ يُحَدِّثُ عَلَى الدّوامِ".

وقال ابن حجر في "تغليق التعليق" (5/430): "قَالَ الحَاكِم: قَدِمَ البُخَارِيّ سنة خمسين وَمِائَتَيْنِ، فَأَقَامَ بهَا خمس سِنِين يُحدِّث على الدَّوَام، فَسمِعت مُحَمَّد بن حَامِد البَزَّار يَقُول: سَمِعت الحسن بن مُحَمَّد بن جَابر يَقُول: سَمِعت مُحَمَّد بن يحيى الذهلي يَقُول: اذْهَبُوا إِلَى هَذَا الرجل الصَّالح العَالم فَاسْمَعُوا مِنْهُ. قَالَ: فَذهب النَّاس إِلَيْهِ وَأَقْبلُوا على السماع مِنْهُ حَتَّى ظهر الخلَل فِي مجْلِس مُحَمَّد بن يحيى فَتكلَّم فِيهِ بعد".

قلت: فهذا تصريح أن البخاري دخل آخر مرة نيسابور سنة (250هـ)، وأقام فيها (5) سنوات يُحدِّث حتى حصلت الفتنة بينه وبين الذهلي = يعني بقي في نيسابور حتى سنة (255هـ)!

لكن كيف ذلك، وقد سمع الفربري «الصحيح» من البخاري بفربر سنة (253)؟! بل قيل سمعه منه بفربر مرتين!

·       كم مرة سمع الفربري «الصحيح» من البخاري؟

قالَ أَبو نَصر الكُلاباذي البُخَارِيّ في كتابه: «رجال صحيح البخاري»: "كَانَ سَماع مُحَمَّد بن يُوسُف الفربرِي بِهَذَا الكتاب من مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ مرَّتَيْنِ: مرّة بفربر فِي سنة 248هـ، وَمرَّة ببخارى سنة 252".

وتبعه الذهبي على ذلك! فقال في «السير» (15/10): "الفِرَبْرِيُّ رَاوِي الجَامِعِ الصَّحِيْحِ عَنْ أَبِي عَبْدِاللهِ البُخَارِيِّ، سَمِعَهُ مِنْهُ بِفَرَبْرَ مَرَّتينِ".

وقال: "قَالَ - أي: الفربري -: سَمِعْتُ الجَامِع فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِيْنَ وَمائَتَيْنِ، وَمَرَّةً أُخْرَى سنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِيْنَ وَمائَتَيْنِ"!

قلت: هذا الذي ذكره الكلاباذي والذهبي اعتمدوا فيه على ما جاء في رواية ابنِ حَمَّوَيْهِ السَّرْخَسِيّ الحَمَوِيّ عن الفربري!

·       خطأ في الرواية عن ابن حمويه!

فقد روى أَبُو الوَقْتِ عَبْدُالأَوَّلِ بنُ عِيسَى السِّجْزِيُّ، قَالَ: أنبأنا أَبُو الحَسَنِ عَبْدُالرَّحْمَنِ بنُ مُحَمَّدٍ الدَّاوُدِيُّ، قَالَ: أنبأنا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُاللَّهِ بنُ أَحْمَدَ بنِ حَمُّوَيْهِ السَّرَخْسِيُّ، سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَثَلاثِ مِائَةٍ، قَالَ: أنبأنا أَبُو عَبْدِاللَّهِ مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ بنِ مَطَرٍ الفَرَبْرِيُّ، فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ وَثَلاثِ مِائَةٍ، قال: حدّثنا أَبُو عَبْدِاللَّهِ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيلَ بنِ إِبْرَاهِيمَ بنِ المُغِيرَةِ الجُعْفِيُّ البُخَارِيُّ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَمرةً فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ.

هكذا في الكتب التي نقلت من رواية ابن حمويه على اختلاف في بعضها!

فجاء في إسناد أبي الفرج محمد بن عبدالرحمن بن أبي العز الواسطي السَفَّار المقرىء (ت618هـ) في كتابه «الأربعين في الجهاد والمجاهدين» لكتاب البخاري عن أبي الوقت: "... أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِاللَّهِ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيلَ بنِ إِبْرَاهِيمَ بنِ المُغِيرَةِ الجُعْفِيُّ مَوْلَاهُمُ البُخَارِيُّ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ، وَسَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وَسَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَمِئَتَيْنِ"!

فذكر هنا أنه سمعه ثلاث مرات!

وجاء في كتاب «الأوائل السنبلية» للشيخ محمد سعيد سنبل المكي (ت1175هـ) في أسانيده إلى الشيخ زكريا الأنصاري، ومنها رواية ابن حمويه، وفيها: "... أخبرنا الإمام أبو عبدالله محمد بن يوسف بن مطر بن صالح بن بشر بن إبراهيم البخاري الفربري بفربر سنة ست عشرة وثلاث مئة، قال: حدثنا الإمام أبو عبدالله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن الأحنف الجعفي مولاهم البخاري مرتين: بفربر سنة ثمان وأربعين ومئتين مرةً، ومرةً ببخارى سنة اثنتين وخمسين ومئتين".

فذكر هنا أن المرة الأولى كانت بفربر، والثانية ببخارى!

ولا يُعرف أن البخاري حدّث بكتابه في بخارى!

·       تصحيف!

وقد تصحّفت "فربر" في مطبوع بعض الكتب!

فجاء في كتاب شهاب الدين النويري (ت 733هـ) «نهاية الأرب في فنون الأدب»: "... أخبرنا أبو عبدالله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخارىّ قراءة عليه بتبريز سنة ثمان وأربعين ومائتين، ومرة في سنة اثنتين وخمسين"!

كذا في المطبوع: "بتبريز"! وإنما هي: "بفربر".

كذا في رواية ابن حمويه أن الفربري سمعه مرتين: مرة في سنة (248هـ)، ومرة سنة (252هـ)!

وخالفه من رووه عن الفربري.

ففي رواية أبي الحسن علي بن محمد بن أبي بكرٍ القابسي، والفَقِيه أبي مُحَمَّد عبدالله بن إِبْرَاهِيم الْأصيلِيّ، قالا: أخبرنا أبو زيدٍ محمد بن أحمد المروزي، قال: أخبرنا أبو عبدالله محمد بن يوسف بن مطر بن صالح بن بشرٍ الفربري، قال: حدثنا أبو عبدالله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الجعفي البخاري سنة ثلاثٍ وخمسين ومئتين.

وفي رواية أبي أَحْمَد مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مكي الجرجاني القاضي، قال: حَدَّثَنَا أبو عبدالله مُحَمَّد بن يوسف الفربري، قال: أَخْبَرَنَا أبو عبدالله مُحَمَّد بن إسماعيل البخاري، سنة ثلاث وخمسين ومئتين.

وفي رواية أَبي عَليّ سعيد بن عُثْمَان بن السكن الحَافِظ، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن يُوسُف بن مطر بن صَالح بن بشر الفربرِي - بفربر من نَاحيَة بُخَارى - قَالَ: حَدثنَا أَبُو عبدالله مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم الجعْفِيّ البُخَارِيّ سنة (253).

وجاء في «الجواهر المضية في طبقات الحنفية» (2/76) من رواية أَبي الهَيْثَم مُحَمَّد بن بكر بن مُحَمَّد الكشميهني، قَالَ: أخبرنَا أَبُو عبدالله مُحَمَّد بن يُوسُف بن مطر الفربرِي - قَرَاءة عَلَيْهِ سنة سِتّ عشرَة وَثَلَاث مائَة - قال: أخبرنَا أَبُو عبدالله مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ - وَكَانَ إِمَامًا زاهداً رَحمَه الله تَعَالَى -.

كذا في المطبوع: "اثنتين وخمسين ومائتين"! وهو خطأ! والصواب: "ثلاث وخمسين ومائتين".

فلم يثبت أن الفربري سمعه من البخاري مرتين! وإنما مرة واحدة في ثلاث سنين كما قال هو نفسه.

روى أبو عبدالله محمد بن أحمد الغنجار في «تاريخ بخارى» قال: سمعت أبا علي إسماعيل ابن محمد بن أحمد بن حاجب الكشاني يقول: سمعت محمد بن يوسف بن مطر يقول: "سمعت الجامع الصحيح من أبي عبدالله محمد بن إسماعيل بفربر في ثلاث سنين: في سنة ثلاث وخمسين، وأربع وخمسين، وخمس وخمسين ومائتين".

وقال السمعاني: "وسمع الفربري الكتاب من البخاري في ثلاث سنين: في سنة ثلاث، وأربع، وخمس وخمسين ومائتين".

وقال الذهبي نفسه في «تاريخه» (7/375): "سَمِعَ الصَّحيح من أَبِي عَبْد اللَّه البُخَارِيّ بفِربْر في ثلاث سنين".

وكانت ولادة الفربري سنة (231هـ)، وكانت بداية سماعه للصحيح سنة (253هـ) وكان عمره (22) سنة.

فكأن ما جاء في رواية ابن حمويه إنما أراد ذكر هذه السنوات الثلاثة فأخطأ هو أو بعض رواة روايته في ذكر هذه السنوات!

ويؤيد ذلك ما سبق في كتاب «الأربعين في الجهاد»: "سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ، وَسَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وَسَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَمِئَتَيْنِ".

فأراد ذكر السنوات الثلاث هو أو غيره فأخطأ فيها! فذكر "ثمان وأربعين، واثنتين وخمسين"! والله أعلم.

فإذا كان البخاري حدث بصحيحه في فربر سنة (253هـ) فكيف يكون حينها في نيسابور؟!

وعليه فما نقله الذهبي، وتبعه ابن حجر عن الحاكم فيه نظر!

والظاهر أنه حصل خلط في النسخة التي نقل منها الذهبي من كتاب الحاكم! وأحياناً يحصل هذا الخلط للذهبي فيما ينقله من بعض الكتب ما بين تقديم وتأخير واختصار، ونحو ذلك.

والصواب أنّ البخاري قَدِم آخر مرة نيسابور، وبقي فيها خمس سنوات حتى حصلت الفتنة فخرج منها.

جاء في كتاب «تلخيص تاريخ نيسابور» - المترجم من الفارسية - لأحمد بن محمد بن الحسن المعروف بالخليفة النيسابوري (ص: 29): "محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري أبو عبدالله الجعفي: ورد نيسابور على كِبر سنّه، وأقام بها خمس سنين إلى أن وقعت الفتنة بينه وبين شيخ عصره محمد بن يحيى الذهلي".

قلت: فالحاكم ذكر أنه قدم نيسابور وهو كبير السن وبقي فيها خمس سنوات إلى أن حصلت الفتنة بينه وبين الذهلي في مسألة اللفظ.

ولا أدري من أين نقلوا عن الحاكم أنه قال: "وَوَرَدَهَا فِي الأَخِيْرِ سنَةَ خَمْسِيْنَ وَمائَتَيْنِ"!!

·       متى حصلت الفتنة بين البخاري والذهلي؟

والصواب أن البخاري قدم نيسابور آخر مرة سنة (248هـ) بعد أن خرج من العراق، وبقي فيها حتى سنة (252هـ) لما حصلت الفتنة بينه وبين الذهلي.

قَالَ أَبُو حَامِدٍ أحمد بن محمد الأَعمَشِيُّ النيسابوريُّ: "رَأَيْتُ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ البخاريّ فِي جنَازَةِ أَبِي عُثْمَانَ سَعِيْدِ بنِ مَرْوَانَ، وَمُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى يَسْأَلُهُ عَنِ الأَسَامِي وَالكُنَى وَعِلَلِ الحَدِيْثِ، وَيمرُّ فِيْهِ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ مِثْلَ السَّهْمِ، كأنه يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. فَمَا أَتَى عَلَى هَذَا شَهْرٌ حَتَّى قَالَ مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى: أَلاَ مَنْ يَخْتلِفُ إِلَى مَجْلِسِهِ فَلاَ يَخْتَلِفْ إِلَيْنَا، فَإِنَّهُم كَتَبُوا إِلَيْنَا مِنْ بَغْدَادَ أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي اللَّفْظِ، وَنهينَاهُ، فَلَمْ يَنْتَهِ، فَلاَ تقربوهُ، وَمَنْ يقربْهُ فَلاَ يقربْنَا، فَأَقَامَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ هَا هُنَا مُدَّةً، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى بُخَارَى".

قلت: سعيد بن مَرْوَان بن عَلّي أَبُو عُثْمَان الرهاوي ثمَّ البَغْدَادِيّ من أقران البخاري، روى له حديثاً واحداً مقروناً بغيره فِي سُورَة {اقْرَأ باسم رَبك}.

قَالَ البُخَارِيّ في «التاريخ الأوسط» (2/396): "وَمَات فِيهَا - أي: سنة (252هـ) فِي شعْبَان سعيد بن مَرْوَان أَبُو عُثْمَان البَغْدَادِيّ".

وقال في «التاريخ الكبير» (3/515) (1718): "سَعِيد بن مروان أَبُو عثمان الرهاوي، سمع عصام بن بشير".

ولم يذكر وفاته هنا، وكان البخاري قد حدّث بـ «التاريخ الكبير» مرات، وكان يُدخل فيه أشياء بعد، فهنا كأنه نسي ذكر وفاته في ترجمته، مع أنه ذكر في ترجمة «عباد بن يعقوب الرواجني الكوفي» (6/44) قال: "مات سنة خمسين ومائتين".

وقد نقل الحاكم قول البخاري من «الأوسط»، وفيه زيادة على ما في المطبوع!

قال الحاكم أبو عبدالله في «تاريخ نيسابور»: "سعيد بن مروان الرهاوي... وقد روى عنه محمد بن إسماعيل في «الجامع الصحيح»، وقال في «التاريخ»: حدثنا أبو عثمان سعيد بن مروان البغدادي، ومات بنيسابور يوم الاثنين النصف من شعبان، سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وصلّى عليه محمد بن يحيى. قال الحاكم: ولا أشك أن البخاري شهد جنازته فإنه كان في هذه السنة بنيسابور" انتهى كلامه. [إكمال تهذيب الكمال: (5/348)].

قلت: فجنازة سعيد بن مروان كانت في النصف من شعبان سنة (252هـ)، وقال الحاكم بأن البخاري في تلك السنة كان بنيسابور، وهو فعلاً قد شهد جنازته كما في رواية أبي حامد الأعمشي السابقة، وكان البخاري بصحبة الذهلي في تلك الجنازة التي صلى عليها الذهلي، وبعدها بشهر حصلت الفتنة بين البخاري والذهلي = يعني في النصف من رمضان سنة (252هـ)، وبقي البخاري بعدها مدة في نيسابور، وقد أخبر أحمد بن سلمة أنه أتاه بعد الفتنة، ثم خرج وبقي في البلد ثلاثة أيام.

وقد قَالَ الذُّهْلِيُّ حينها: "لاَ يُسَاكِننِي هَذَا الرَّجُلُ فِي البلدِ".

فدخل أَحْمَدُ بنُ سَلَمَةَ الحافظ عَلَى البُخَارِيِّ، وقال له: يَا أَبَا عَبْدِاللهِ هَذَا رَجُلٌ – يعني: الذهلي - مَقْبُوْلٌ بِخُرَاسَانَ خصوصاً فِي هَذِهِ المَدِيْنَةِ، وَقَدْ لَجَّ فِي هَذَا الحَدِيْثِ حَتَّى لاَ يَقْدِرَ أَحَدٌ منَّا أَنْ يُكَلِّمَهُ فِيْهِ فَمَا تَرَى؟ فَقبضَ عَلَى لِحْيَتِهِ ثُمَّ قَالَ: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالعِبَاد} [غَافر: 44]، اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أُرِدِ المقَامَ بِنَيْسَابُوْرَ أَشَراً وَلاَ بَطراً، وَلاَ طَلباً للرِّئاسَةِ، وَإِنَّمَا أَبَتْ عليَّ نَفْسِي فِي الرُّجُوعِ إِلَى وَطَنِي لِغَلَبَةِ المُخَالِفينَ، وَقَدْ قَصَدَنِي هَذَا الرَّجُلُ حَسَداً لَمَّا آتَانِي اللهُ لاَ غَيْر ثُمَّ قَالَ لِي: يَا أَحْمَدُ إِنِّي خَارجٌ غَداً لتتخلَّصُوا مِنْ حَدِيْثِهِ لأَجلِي.

قَالَ أحمد بن سلمة: فَأَخبرْتُ جَمَاعَةَ أَصْحَابِنَا، فَوَاللهِ مَا شَيَّعَهُ غَيْرِي كُنْتُ مَعَهُ حِيْنَ خَرَجَ مِنَ البلدِ، وَأَقَامَ عَلَى بَابِ البلدِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لإِصْلاَحِ أَمرِهِ.

فَخَشِيَ البُخَارِيُّ وَسَافَرَ.

·       متى خرج البخاري من نيسابور؟ وإلى اين ذهب؟

فخروج البخاري من نيسابور كان بعد منتصف رمضان بقليل من سنة (252هـ) = يعني خرج قبل نهاية رمضان من تلك السنة، والله أعلم.

وهل خرج البخاري من نيسابور إلى بُخارى، أم إلى فِربر؟ ومتى كانت فتنته مع أمير بُخارى؟!

جاء في رواية أبي حامد الأعمشي السابقة أن البخاري بقي مدة في نيسابور "ثُمَّ خَرَجَ إِلَى بُخَارَى"!

فإذا كان خرج إلى بُخارى مباشرة، ودخلها، فيكون حينها حدثت معه الفتنة مع والي بخارى خالد بن أحمد الذهلي خليفة "الطاهرية" ببخارى - نسبة إلى الأَمِيْر طَاهِرِ بنِ الحُسَيْنِ بنِ مُصْعَبِ بنِ رُزَيْقٍ الخُزَاعِيِّ، ولّاه المأمون على العراق وخُراسان، وبقيت خراسان تحت حكم أولاده من بعده -.

والخارج من (نيسابور) يمر بـ (مرو)، ثم يتجه لـ (آمل) - وَهِيَ بليدَة مِنْ أَعْمَال مَرْو - على ضفة نهر جيحون، فإذا قطع ضفة النهر دخل (فربر) على الضفة الأخرى للنهر، ثم يتجه لـ (بيكند)، ثم لـ (بخارى).

·       دخول البخاري مرو!

فلما خرج البخاري من نيسابور دخل (مَرْوَ) واسْتَقبلَهُ أَحْمَدُ بنُ سَيَّارٍ المَرْوَزِيُّ الحَافِظ، الحُجَّة، الفَقِيْه، عَالِم مَرْو، فِيْمَنْ اسْتَقبَلَهُ، فَقَالَ لَهُ أَحْمَدُ: يَا أَبَا عَبْدِاللهِ، نَحْنُ لاَ نُخَالِفُكَ فِيْمَا تَقُوْلُ، وَلَكِنَّ العَامَّةَ لاَ تحملُ ذَا مِنْكَ. فَقَالَ البُخَارِيُّ: "إِنِّي أَخشَى النَّارَ، أُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ أَعْلَمُهُ حقاً أَنْ أَقُوْلَ غَيْرَهُ". فَانْصَرَفَ عَنْهُ أَحْمَدُ بنُ سَيَّارٍ.

قلت: يقصد أحمد بن سيّار ما حصل له في نيسابور من فتنة اللفظ، وأشار إلى أنه لا يخالفه في قوله، إلا أن العامّة لا تقبل ذلك!

فإذا كان البخاري توجه لبخارى، فإنه سيمر أولاً بفربر، ثم ببيكند، ثم يدخل بخارى.

·       المسافة بين فِربر وبيكند وبُخارى!

وفِربر وبَيكند بلدتان على طرف نَهر جَيْحُون مما يلي بُخارى، فإذا عُبر النهر من جهة آمل جيحون فبيكند على مرحلتين من بخارى، وفربر على ثلاث مراحل من بخارى، ومن فربر إلى بيكند مرحلة.

والمرحلة هي المسافة التي تقطع في اليوم الواحد، وتقدر بنحو (35 كيلو متر)، وقيل: عشرة فراسخ مسيرة يوم = أي نحو (60 كيلو متر).

فعلى الأول تكون المسافة بين بيكند وبخارى: (70 كيلو متر)، وبين فربر وبخارى: (105 كيلو متر)، وبين بيكند وفربر: (35 كيلو متر).

وعلى الثاني: بين بيكند وبخارى: (120 كيلو متر)، وبين فربر وبخارى: (180 كيلو متر)، وبين بيكند وفربر: (60 كيلو متر).

وتقع مدينة بيكند عن يَسار مدينة فربر، وعن يسار بيكند بخارى.

قال الشريف الإدريسي في «نزهة المشتاق فى اختراق الآفاق»: "والطريق أيضاً من آمل إلى بخارى تخرج من آمل إلى النهر ثلاثة أميال فتعبر في المراكب إلى مدينة فربر في الضفة الشرقية من النهر، وهي مدينة عامرة حسنة المباني ظريفة الشوارع والمسالك ولها زراعات وبساتين وهي في نفسها حصينة، ومن فربر إلى مدينة بيكند مرحلة وهو متوسط الطريق إلى بخارى، وهي مدينة متوسطة لها عمارات وسوق قائمة ومزارع وغلات ولها سور حصين ومسجد جامع مزخرف بنيانه وقبلته في تزخرفها وحسنها لا يعلم بناء مثلها وهي مدينة منفردة بذاتها ومن بيكند إلى بخارى مرحلة".

وقال: "وأما ما خلف النهر من بلاد خراسان فمن آمل إلى النهر إلى مدينة فربر وهي مدينة حسنة على مقربة من النهر، ومضمومة بجملتها إلى بخارى، وذلك أن من فربر إلى بيكند مرحلتان خفيفتان، وذلك أن تخرج من فربر إلى حصن أم جعفر ثمانية عشر ميلاً، ومن حصن أم جعفر إلى بيكند ثمانية عشر ميلاً، وبيكند مدينة جميلة الأسواق حسنة الشوارع والطرق، ومن بيكند إلى بخارى أحد وعشرون ميلاً".

وقد اختلفوا في الميل، فبعضهم قال بأن الميل = (1855 متر)، وبعضهم قال بأنه = (3710 متر).

فعلى الأول فبين فربر وبيكند (36 ميلًا) = ما يقارب (67 كيلو متر)، وعلى الثاني = ما يُقارب (134 كيلو متر).

وبين بيكند وبخارى (21 ميلاً) = ما يُقارب (39 كيلو متر) على الأول، وعلى الثاني = ما يُقارب (78 كيلو متر).

وهذه المسافات مقاربة لما سبق بيانه.

ومعروف أن البخاري حدّث بالصحيح في (فربر)، فإذا كان توجه إلى بخارى مباشرة، فإنه يكون قد خرج منها بعد فتنته مع أميرها، ويكون استوطن فربر وحدث بكتبه هناك!

·       خروج البخاري قديماً من بخارى بسبب أهل الرأي!

لكن الظاهر أنه لم يتوجه إلى بخارى مباشرة بعد خروجه من نيسابور؛ لأن أهل الرأي كانوا يكيدون له، بل هو خرج من بخارى بسببهم!

وقد قال لأحمد بن سلمة لما دخل عليه بعد فتنته مع محمد بن يحيى الذهلي وكلّمه في أمره: "اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أُرِدِ المقَامَ بِنَيْسَابُوْرَ أَشَراً وَلاَ بَطراً، وَلاَ طَلباً للرِّئاسَةِ، وَإِنَّمَا أَبَتْ عليَّ نَفْسِي فِي الرُّجُوعِ إِلَى وَطَنِي لِغَلَبَةِ المُخَالِفينَ، وَقَدْ قَصَدَنِي هَذَا الرَّجُلُ حَسَداً لَمَّا آتَانِي اللهُ لاَ غَيْر".

فها هو يُصرِّح أنه لم يكن يريد الرجوع إلى بُخارى لتمكّن مخالفيه من البلد وهم أهل الرأي! وهذا كان سبب خروج البخاري من بلده إلى نيسابور وإقامته هناك.

وكان - رحمه الله - له مكانته في بُخارى قبل أن يخرج منها بسبب أهل الرأي هناك.

قال أبو محمد عبدالله بن محمد بن عمر الأديب: سمعت أَحْيَدَ بن أَبِي جَعْفَرٍ وَالِي بُخَارَى يقول: قَالَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ يَوْماً: "رُبَّ حَدِيْثٍ سَمِعْتُهُ بِالبَصْرَةِ كَتَبْتُهُ بِالشَّامِ، وَرُبَّ حَدِيْثٍ سَمِعْتُهُ بِالشَّامِ كَتَبْتُهُ بِمِصْرَ". فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِاللهِ بكَمَالِهِ؟ قَالَ: فَسَكَتَ. [والي بخارى هو: أبو جعفر والد أحيد، وهو: أحمد بن محمد بن الليث بن نصر بن بكار بن مسعر بن ثوبان اليشكري، ومات أحيد سنة (290هـ)].

وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بنُ مُحَمَّدٍ الفِرَبْرِيُّ، قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِاللهِ بنِ مُنِيْر - رَحِمَهُ اللهُ- إِلَى بُخَارَى فِي حَاجَةٍ لَهُ.

فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ لَهُ ابنُ مُنِيْرٍ: لقيتَ أَبَا عَبْدِاللهِ؟

قَالَ: لاَ.

فطردَهُ، وَقَالَ: مَا فيكَ بَعْدَ هَذَا خَيْرٌ، إِذْ قدِمْتَ بُخَارَى وَلَمْ تَصِرْ إِلَى أَبِي عَبْدِاللهِ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ.

قلت: عَبْدُاللهِ بنُ مُنِيْرٍ أَبُو عَبْدِالرَّحْمَنِ المَرْوَزِيُّ الحَافِظُ الحُجَّةُ أحد شيوخ الإمام البخاري، توفي سنة (241هـ).

وَذكر عَمَرُ بنُ حَفْصٍ الأَشْقَرُ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَجَاءُ بنُ مُرَجَّى الحافظ المروزيّ بُخَارَى يُرِيْد الخُرُوجَ إِلَى الشَّاشِ، نَزَلَ الرّباطَ، وَسَارَ إِلَيْهِ مَشَايِخنَا، وَسِرْتُ فِيْمَنْ سَارَ إِلَيْهِ، فَسَأَلَنِي عَنْ أَبِي عَبْدِاللهِ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ، فَأَخبرتُهُ بسَلاَمَتِهِ، وَقُلْتُ: لَعَلَّهُ يَجِيْئُكَ السَّاعَةَ، فَأَملَى عَلَيْنَا، وَانقضَى المَجْلِسُ، وَلَمْ يَجِئْ.

فَلَمَّا كَانَ اليَوْمُ الثَّانِي لَمْ يَجِئْهُ.

فَلَمَّا كَانَ اليَوْم الثَّالِث قَالَ رَجَاءُ: إِنَّ أَبَا عَبْدِاللهِ لَمْ يَرَنَا أَهْلاً لِلزِّيَارَةِ، فمُرُّوا بِنَا إِلَيْهِ نقضِ حقَّهُ، فَإِنِّي عَلَى الخُرُوجِ - وَكَانَ كَالمُتَرَغّمِ عَلَيْهِ - فَجِئْنَا بجمَاعتِنَا إِلَيْهِ، فَقَالَ رَجَاءُ: يَا أَبَا عَبْدِاللهِ، كُنْتُ بِالأَشواقِ إِلَيْكَ، وَأَشْتَهِي أَنْ تذكرَ شَيْئاً مِنَ الحَدِيْث، فَإِنِّي عَلَى الخُرُوج.

قَالَ: مَا شِئْتَ.

فَأَلقَى عَلَيْهِ رَجَاءُ شَيْئاً مِنْ حَدِيْثِ أَيُّوْبَ، وَأَبو عَبْدِاللهِ يُجِيْبُ إِلَى أَنْ سكتَ رَجَاءُ عَنِ الإِلقَاءِ.

فَقَالَ لأَبِي عَبْدِاللهِ: ترَى بَقِيَ شَيْءٌ لَمْ نذكرْهُ، فَأَخَذَ مُحَمَّدٌ يُلْقِي، وَيَقُوْلُ رَجَاءُ: مَنْ رَوَى هَذَا؟ وَأَبُو عَبْدِاللهِ يَجِيْءُ بِإِسْنَادِهِ إِلَى أَنْ أَلقَى قَرِيْباً مِنْ بِضْعَة عشر حَدِيْثاً.

وَتَغَيَّرَ رَجَاءُ تغيُّراً شَدِيْداً، وَحَانَتْ مِنْ أَبِي عَبْدِاللهِ نظرَةٌ إِلَى وَجْهِهِ، فَعَرفَ التَّغَيُّرَ فِيْهِ، فَقطَعَ الحَدِيْثَ.

فَلَمَّا خَرَجَ رَجَاءُ، قَالَ مُحَمَّدٌ: أَرَدْتُ أَنْ أَبلغَ بِهِ ضِعْفَ مَا أَلقَيْتُهُ، إِلاَّ أَنِّي خشيتُ أَنْ يدخُلَهُ شَيْءٌ، فَأَمسكتُ.

فالبخاري - رحمه الله - كان في بُخارى، وكان يأتيه أهل العلم والطلبة يسمعون منه، ثم خرج منها بسبب أعداءه من أهل الرأي، فرحل إلى العراق، ثم استوطن نيسابور، ثم حصلت الفتنة بينه وبين محمد بن يحيى الذهلي، وكأن أعدائه من أهل الرأي هم من نشروا عنه تلك المقولة التي حصلت بسببها تلك الفتنة.

قَالَ أَبُو سَعِيْدٍ حَاتِمُ بنُ أَحْمَدَ الكِنْدِيُّ: سَمِعْتُ مُسْلِمَ بنَ الحَجَّاجِ يَقُوْلُ: لَمَّا قَدِمَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ نَيْسَابُوْرَ مَا رَأَيْتُ وَالِياً وَلاَ عَالِماً فَعَلَ بِهِ أَهْلُ نَيْسَابُوْرَ مَا فعلُوا بِهِ، اسْتَقبلُوهُ مرحلَتَيْنِ وَثَلاَثَة. فَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى فِي مَجْلِسِهِ: "مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَقبلَ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ غَداً فليستقبِلْهُ". فَاسْتقبلَهُ مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى وَعَامَّةُ العُلَمَاءِ، فَنَزَلَ دَارَ البُخَاريّينَ، فَقَالَ لَنَا مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى: "لاَ تسأَلُوهُ عَنْ شِيءٍ مِنَ الكَلاَمِ، فَإِنَّهُ إِنْ أَجَابَ بِخِلاَفِ مَا نَحْنُ فِيْهِ، وَقَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، ثُمَّ شَمِتَ بِنَا كُلُّ حَرُورِيٍّ، وَكُلُّ رَافضيٍّ، وَكُلُّ جَهْمِيٍّ، وَكُلُّ مُرْجِئٍ بِخُرَاسَانَ".

قَالَ: فَازدحمَ النَّاسُ عَلَى مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ، حَتَّى امتلأَ السّطحُ وَالدَّارُ، فَلَمَّا كَانَ اليَوْمُ الثَّانِي أَوِ الثَّالِثِ، قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَسَأَلَهُ عَنِ اللَّفْظِ بِالقُرْآنِ؟

فَقَالَ: "أَفْعَالُنَا مَخْلُوْقَةٌ، وَأَلفَاظُنَا مِنْ أَفْعَالِنَا".

فَوَقَعَ بَيْنَهُمُ اخْتِلاَفٌ، فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: "قَالَ: لَفْظِي بِالقُرْآنِ مَخْلُوْقٌ"، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: "لَمْ يَقُلْ"، حَتَّى توَاثَبُوا، فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الدَّارِ وَأَخرجُوهُم.

·       إشكال!

قلت: قد تقدم أن الحاكم قال بأن البخاري نزل نيسابور وحدّث بها خمس سنين، وهذا الذي حدث للبخاري مع الذهلي كان في اليوم الثاني أو الثالث من نزوله نيسابور! وهذا مُشكل! وكذا يُشكل عليه ما تقدم من أن محمد بن يحيى الذهلي كان مع البخاري فِي جنَازَةِ أَبِي عُثْمَانَ سَعِيْدِ بنِ مَرْوَانَ المتوفى سنة المتوفى سنة (252هـ) وَمُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى يَسْأَلُهُ عَنِ الأَسَامِي وَالكُنَى وَعِلَلِ الحَدِيْثِ، وَيمرُّ فِيْهِ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ مِثْلَ السَّهْمِ، كأنه يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، فَمَا أَتَى عَلَى هَذَا شَهْرٌ حتى حصلت الفتنة بينهما! وخرج البخاري من نيسابور!

ولحلّ هذا الإشكال فقد ذكرت فيما مضى أن البخاري كان يتنقّل بين مرو ونيسابور، وكلام الحاكم يعني أن جُلّ إقامته في السنين الخمس كانت بنيسابور؛ لأنها كانت حاضرة العلم في خُراسان، فيبدو أن هذا الذي حدث مع البخاري كان في رجوعه من مرو إلى نيسابور في المرة الأخيرة؛ لأن مسلماً الذي حدث بهذا كان قد أكثر الذهاب إليه لما استوطن نيسابور، فكيف يحدث هذا مع البخاري بعد نزوله نيسابور بيومين أو ثلاثة!

·       دخول البخاري نيسابور:

قال محمد بن عبدالله النيسابوري: سمعت أبا عبدالله محمد بن يعقوب الحافظ، يقول: "لما استوطن محمد بن إسماعيل البخاري نيسابور، أكثر مسلم بن الحجاج الاختلاف إليه، فلما وقع بين محمد بن يحيى والبخاري ما وقع في مسألة اللفظ ونادى عليه، ومنع الناس من الاختلاف إليه حتى هجر، وخرج من نيسابور في تلك المحنة، قطعه أكثر الناس غير مسلم، فإنه لم يتخلف عن زيارته، فأنهي إلى محمد بن يحيى أن مسلم بن الحجاج على مذهبه قديماً وحديثاً، وأنه عوتب على ذلك بالعراق والحجاز ولم يرجع عنه، فلما كان يوم مجلس محمد بن يحيى، قَالَ في آخر مجلسه: ألا من قَالَ باللفظ فلا يحل له أن يحضر مجلسنا، فأخذ مسلم الرداء فوق عمامته وقام على رؤوس الناس وخرج من مجلسه، وجمع كل ما كان كتب منه وبعث به على ظهر حمال إلى باب محمد بن يحيى، فاستحكمت بذلك الوحشة، وتخلف عنه وعن زيارته".

ويظهر لي أنّ البخاري لما نزل نيسابور في أول أمره كان بيته بعيداً عن محمد بن يحيى الذهلي، فكان لكلّ واحد منهما مجلساً خاصّاً، وكانا يجتمعان أحياناً، وكان أبو علي الحسن بن محمد بن جابر السعيري، المعروف بحسن الوكيل، من أهل نيسابور - الوَكِيل: هَذَا يُقَال لمن يتوكل فِي الحكومات بِمَجْلِس الحكم، وَلمن يتَوَلَّى كتخدانية بعض المَشْهُورين - وكان صاحب رئيس نيسابور المحدِّث أبي عمرو الخفاف والمتصرف في كتخدانيته - حوائجه -، وكان حسن الوكيل يسفر بين محمد بن يحيى الذهلي ومحمد بن إسماعيل البخاري من جهة أبي عمرو الخفاف، وكان يقول: "كنت أتردد بين محمد بن يحيى ومحمد بن إسماعيل أياماً فما رأيت أورع من محمد بن إسماعيل". [الأنساب للسمعاني: (13/358)].

وقال الحسن بن محمد بن جابر: سمعت محمد بن يحيى، يقول: "لما ورد محمد بن إسماعيل البخاري نيسابور، قَالَ: اذهبوا إلى هذا الرجل الصالح العالم فاسمعوا منه، قَالَ: فذهب الناس إليه واقبلوا على السماع منه، حتى ظهر الخلل في مجالس محمد بن يحيى فحسده بعد ذلك وتكلّم فيه".

وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ بنُ الشَّرْقِيِّ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ يَحْيَى الذُّهْلِيَّ يَقُوْلُ: "القُرْآنُ كَلاَمُ اللهِ غَيْرُ مَخْلُوْقٍ مِنْ جَمِيْعِ جهَاتِهِ، وَحَيْثُ تُصُرِّفَ، فَمَنْ لزمَ هَذَا اسْتغنَى عَنِ اللَّفْظِ وَعمَّا سِوَاهُ مِنَ الكَلاَمِ فِي القُرْآنِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ القُرْآنَ مَخْلُوْقٌ فَقَدْ كَفَرَ، وَخَرَجَ عَنِ الإِيْمَانِ، وَبَانتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ، يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ، وَإِلاَّ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ، وَجُعِلَ مَالُهُ فَيْئاً بَيْنَ المُسْلِمِيْنَ وَلَمْ يُدْفَنْ فِي مَقَابِرِهِم، وَمَنْ وَقَفَ، فَقَالَ: لاَ أَقُوْلُ مَخْلُوْق وَلاَ غَيْر مَخْلُوْق، فَقَدْ ضَاهَى الكُفْرَ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ لَفْظِي بِالقُرْآنِ مَخْلُوْقٌ، فَهَذَا مُبْتَدِعٌ، لاَ يُجَالَسْ وَلاَ يُكَلَّمْ. وَمِنْ ذهبَ بَعْدَ هَذَا إِلَى مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ البُخَارِيِّ فَاتَّهِمُوهُ، فَإِنَّهُ لاَ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ إِلاَّ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مذهَبِهِ".

وَقَالَ الحَاكِمُ: حَدَّثَنَا طَاهِرُ بنُ مُحَمَّدٍ الوَرَّاقُ، قال: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ شَاذِلٍ يَقُوْلُ: لَمَّا وَقَعَ بَيْنَ مُحَمَّدِ بنِ يَحْيَى وَالبُخَارِيِّ، دَخَلْتُ عَلَى البُخَارِيِّ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِاللهِ، أَيْشٍ الحِيلَةُ لَنَا فِيْمَا بينكَ وَبَيْنَ مُحَمَّدِ بنِ يَحْيَى، كُلُّ مَنْ يَخْتلِفُ إِلَيْكَ يُطْرَدُ؟

فَقَالَ: كم يَعْتَرِي مُحَمَّدَ بنَ يَحْيَى الحسدُ فِي العِلْمِ، وَالعِلْمُ رِزْقُ اللهِ يُعْطِيهِ مَنْ يَشَاءُ.

فَقُلْتُ: هَذِهِ المَسْأَلَةُ الَّتِي تُحْكَى عَنْكَ؟

قَالَ: يَا بنِي، هَذِهِ مَسْأَلَةٌ مَشْؤُوْمَةٌ، رَأَيْتُ أَحْمَدَ بنَ حَنْبَلٍ، وَمَا نَالَهُ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ، وَجَعَلْتُ عَلَى نَفْسِي أَنْ لاَ أَتَكَلَّمَ فِيْهَا.

قال الذهبي معلقاً: "قُلْتُ: المَسْأَلَةُ هِيَ أَنَّ اللَّفْظَ مَخْلُوْقٌ، سُئِلَ عَنْهَا البُخَارِيُّ، فَوَقَفَ فِيْهَا، فَلَمَّا وَقَفَ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ أَفْعَالَنَا مَخْلُوْقَةٌ، وَاسْتدلَّ لِذَلِكَ، فَهِمَ مِنْهُ الذُّهْلِيُّ أَنَّهُ يُوَجِّهُ مَسْأَلَةَ اللَّفْظِ، فَتَكَلَّمَ فِيْهِ، وَأَخَذَهُ بلاَزِمِ قَوْلِهِ هُوَ وَغَيْرهُ".

وَقَدْ قَالَ البُخَارِيُّ فِي الحِكَايَةِ الَّتِي رَوَاهَا غُنْجَارٌ فِي «تَارِيْخِهِ»: حَدَّثَنَا خَلَفُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَمْرٍو أَحْمَدَ بنَ نَصْرٍ النَّيْسَابُوْرِيَّ الخَفَّافَ بِبُخَارَى يَقُوْلُ: كُنَّا يَوْماً عِنْدَ أَبِي إِسْحَاقَ القَيْسِيِّ، وَمَعَنَا مُحَمَّدُ بنُ نَصْرٍ المَرْوَزِيُّ، فجَرَى ذِكْرُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ البُخَارِيِّ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ نصرٍ: سَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: "مَنْ زَعَمَ أَنِّي قُلْتُ: لَفْظِي بِالقُرْآن مَخْلُوْقٌ فَهُوَ كَذَّابٌ، فَإِنِّي لَمْ أَقُلْهُ".

فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِاللهِ قَدْ خَاضَ النَّاسُ فِي هَذَا وَأَكْثَرُوا فِيْهِ! فَقَالَ: "لَيْسَ إِلاَّ مَا أَقُوْلُ".

قَالَ أَبُو عَمْرٍو الخَفَّافُ: فَأَتَيْتُ البُخَارِيَّ، فَنَاظرتُهُ فِي شِيءٍ مِنَ الأَحَادِيْثِ حَتَّى طَابَتْ نَفْسُهُ فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِاللهِ، هَا هُنَا أَحَدٌ يحكِي عَنْكَ أَنَّكَ قُلْتَ هَذِهِ المَقَالَة!

فَقَالَ: يَا أَبَا عَمْرٍو، احْفَظ مَا أَقُوْلُ لَكَ: "مَنْ زَعَمَ مِنْ أَهْلِ نَيْسَابُوْرَ، وَقُومس، وَالرَّيِّ، وَهَمَذَان، وَحلوَانَ، وَبَغْدَادَ، وَالكُوْفَةِ، وَالبَصْرَةِ، وَمَكَّةَ، وَالمَدِيْنَةِ أَنِّي قُلْتُ: لَفْظِي بِالقُرْآنِ مَخْلُوْقٌ فَهُوَ كَذَّابٌ، فَإِنِّي لَمْ أَقُلْهُ إِلاَّ أَنِّي قُلْتُ: أَفْعَالُ العِبَادِ مَخْلُوْقَةٌ".

قلت: قول أبي عمرو الخفاف النيسابوري الرئيس: "هَا هُنَا أَحَدٌ يحكِي عَنْكَ أَنَّكَ قُلْتَ هَذِهِ المَقَالَة" - يقصد محمد بن يحيى الذهلي، ولم يكن أحد يجرؤ أن يتكلم معه؛ لأنه شيخ البلد والعامّة تتبعه في كل شيء.

·       دخول البخاري فربر بعد خروجه من نيسابور وإقامته هناك!

فالذي يظهر لي أن البخاري توجه إلى (فربر) وكانت أرض رباط؛ لأنها على النهر، وكان الإمام البخاري يرابط فيها من قبل، وكانت ثغراً من الثغور، وَكَانَ يبنِي رِباطاً مِمَّا يلِي بُخَارَى، وَكَانَ ينقُلُ اللَّبِنَ بنفسه، وكان يُصنّف كتابه "الصحيح" هناك، واشترى مرة جارية هناك، وأخذها معه إلى نيسابور.

فرجع إليها بعد خروجه من نيسابور واستوطنها للتحديث بالصحيح فيها، ومن أهل العلم من ضمّ فربر لبخارى، ومنهم من ضمها لسمرقند كأبي بكر الحازمي الهمداني.

وكان البخاري قد حدّث بكتابه «خلق أفعال العباد» أيضاً في (فربر) سنة (256هـ).

وفربر معدودة من بُخارى، وعليه فقول أبي حامد الأعمشي: "ثُمَّ خَرَجَ إِلَى بُخَارَى" بعد فتنته مع محمد بن يحيى الذهلي لا يعني أنه دخل بخارى المدينة وإنما دخل فربر، أو أنه قال ذلك؛ لأن البخاري سيقصد بلده بخارى بعد خروجه من نيسابور ولا بُدّ، لكنه لم يدخل بخارى مباشرة، وإنما مكث في فربر يُحدِّث بكتابه «الجامع الصحيح»، وغيره من مصنفاته.

قَالَ الحَاكِمُ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بنَ مُحَمَّدِ بنِ وَاصلٍ البِيْكَنْدِيَّ يقول: سَمِعْتُ أَبِي يَقُوْلُ: "مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا بخُرُوْجِ أَبِي عَبْدِاللهِ وَمقَامُهُ عِنْدنَا حَتَّى سَمِعْنَا مِنْهُ هَذِهِ الكُتُبَ، وَإِلاَّ مَنْ كَانَ يصلُ إليه، وبمقامه في هذه النواحي: فِربر وَبِيْكَنْد بقيَتْ هَذِهِ الآثَارُ فِيْهَا، وَتخرَّجَ النَّاسُ بِهِ".

قلت: يعني خروجه من نيسابور إلى فربر وبيكند؛ فلولا خروجه إليهما لما حدّث بكتبه هناك، وكان - رحمه الله - يتنقَّل بينهما.

قال أبو بكر محمد بن يعقوب بن يوسف البِيكَنْدِيّ: سمعت علي بن الحسين بن عاصم البِيكَنْدِيّ الملقّب بـ (كُنْدَة) (ت 286هـ) يقول: قَدم علينا محمد بن إسماعيل فاجتمعنا عنده، ولم يكن يتخلف عنه من المشايخ أحد فتذاكرنا عنده، فقال رجل من أصحابنا - أراه: حامد بن حفص -: سمعت إسحاق بن راهوية يقول: "كأني أنظر إلى سبعين ألف حديث من كتابي"، فقال محمد بن إسماعيل: "أو تعجب من هذا! لعل في هذا الزمان من ينظر إلى مائتي ألف حديث من كتابه" - وإنما عنى به نفسه. [تاريخ دمشق: (52/63)].

·       خروج البخاري من فربر إلى نَسَف!

وكان البخاري لما انتهى من التحديث بصحيحه في فربر، توجّه لنسف في سنة (255هـ) وبقي هناك يحدِّث بصحيحه حتى رجع لبخارى ربما في منتصف سنة (256هـ).

قال السمعاني في «الأنساب» (1/80) فيمن ينتسب إلى «الآفراني» - قرية بنسف يقال لها آفران على فرسخ منها -: "ومن القدماء: أبو محمد جبرائيل بن عون الآفراني، يروى عن قتيبة بن سعيد والأجلة، وكان رفيق محمد بن إسماعيل البخاري وورّاقه أيام مقامه بنسف".

وقال أبو العباس المُستغفري في «تاريخ نسف»: "أُحَيد الأجير، غير منسوب، أراه أنه كان أجير طفيل بن زيد التميمي في بيته أدرك محمد بن إسماعيل البخاري حين قدم نسف، روى عنه: أبو يعلى عبدالمؤمن بن خلف حكايات عن طفيل بن زيد - قاضي نسف -، منها: ما وجدت بخط أبي يعلى على ظهر كتاب الجامع الّذي كان عنده بخطّ حماد بن شاكر: سمعت أحيد الأجير يقول: سمعت جدّك طفيل بن زيد يقول: قلت لمحمد بن إسماعيل: كان البيكندي محمد بن سلام يقول: ينبغي ثلاث تسبيحات في الصلاة - يعني في الركوع والسجود، فقال محمد: عندي حديث: إذا وضع رأسه للسجود واستمكن جاز". [الأنساب للسمعاني: (1/118)].

وقال أبو حفص النسفي في «القند في ذكر علماء سمرقند» (ص: 289): "أبو زيد طفيل بن زيد بن طفيل بن شريك بن شمّاس بن زيد بن الحارث التميمي العمّي النّسفيّ... هو أول المشهورين من علماء نسف ومحدثيها، كان على قضاء نسف أكثر من خمسين سنة، عاش ثلاثاً وتسعين سنة وولد له بعد ثلاث وسبعين سنة ابن وبنت، ومات ليلة الأربعاء، ودفن يوم الخميس الرابع من المُحرَّم سنة تسع وسبعين ومائتين... كان يُعظّمه محمد بن إسماعيل البخاري ويقول: اسمعوا من طفيل بن زيد أحاديث يحيى بن بكير، وقال يوم خروجه من نسف: لقد رأيت ألف شيخ من أهل العلم ممن اسمه عبدالله سوى من اسمه غير ذلك فما رأيت آدب من شيخكم طفيل بن زيد".

قلت: مولده سنة (186هـ)، وهو أسنّ من البخاري، وعاش بعده.

وقال السمعاني في «الأنساب» (2/73) في نسبة: «البَاياني»: "هذه النسبة إلى سكة بنسف يقال لها: سكة بايان، وهي محلة معروفة نزلها الإمام محمد بن إسماعيل البخاري، مضيت إليها قاصداً، وصليت في المسجد الّذي كان يُصلي فيه البخاري".

وقال في نسبة «جُوَيبَار» (3/425): "وأبو بكر حُمُّ بن السري بن عباد الجُوَيْباري، قال أبو العباس المستغفري: اسمه محمد بن السري، وحُم لقب، من سكة جويبار. قلت: وهي محلة بنسف اجتزت بها ـ ثم قال المستغفري: شيخٌ صالحٌ كان يغسل الموتى، لقي محمد بن إسماعيل البخاري".

·       من سمع الصحيح من البخاري في نَسَف!

وقد سمع جماعة من أهل نسف «الصَحِيْحَ» من البُخَارِيِّ، مِنْهُم: حَمَّادُ بنُ شَاكِرٍ، وَإِبْرَاهِيْمُ بنَ مَعْقِلٍ، وَأبو الفضل طَاهرُ بنُ الحسين بنِ مَخْلَدٍ، وأَبُو طَلْحَةَ مَنْصُوْرُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عَلِيٍّ البَزْدِيُّ، وأبو الفَضل جَعفرُ بن محمد بن العباس التُوْبَني دِهْقَان تُوْبَن، وخلف بن شاهد بن الحسن بن هاشم.

قال السمعاني في «الأنساب» (13/366) في نسبة "الوَنُوسَاني": "بفتح الواو، وضم النون، وفتح السين المهملة، وفي آخرها النون، هذه النسبة إلى اسم جدّ المنتسب إليه، وهو: أبو محمد حماد بن شاكر بن سورة بن وَنُوسان، الوراق، النسفي، الوَنُوساني، من أهل نسف، من المدينة الداخلة، كان شيخاً جليلاً ثقة، سمع أبا عبدالله محمد ابن إسماعيل البخاري، وأبا عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، وحدّث بالجامعين عنهما، وانتشرت رواياته ببلده عنهما".

وقال ابن نُقطة في «التقييد لمعرفة رواة السنن والمسانيد» (ص: 257): "حماد بن شاكر بن سوية أبو محمد الوراق النسفي: قال جعفر بن محمد بن المعتز المستغفري في «تاريخ نسف»: روى عن محمد بن إسماعيل الجامع. ثقة مأمون، رحل إلى الشام، وروى عن جماعة من الشاميين والغرباء، وروى عن أبي عيسى الترمذي، وعيسى بن أحمد العسقلاني. مات سنة إحدى عشرة وثلاثمائة. حدثني عنه بكر بن محمد بن جعفر بالجامع من أوله إلى آخره، وأبو أحمد قاضي بخارى".

وقال السمعاني في «الأنساب» (7/33) في نسبة «السَّانْجَني»: "بفتح السين المهملة، وسكون النون، وفتح الجيم، وفي آخرها النون، هذه النسبة إلى سانجن، وهي قرية من قرى نسف، منها الإمام المشهور أبو إسحاق إبراهيم بن معقل بن الحجاج بن خداش بن يزيد بن السانجني النسفي، إمام أهل نسف وقاضيها بعد طفيل بن زيد، أصله من قرية سانجن، كان إماماً جليلاً عارفاً بالفقه والحديث، عفيفاً صائناً، عني بجمع الأحاديث وتصنيفها، صنف كتاب التفسير، وكتاب المسند وغيرهما، وانتشرت رواياته، له رحلة إلى خراسان والعراق والحجاز والشام ومصر، لقي فيها الأئمة مثل أبي رجاء قتيبة بن سعيد البغلاني، وأبي الحسن علي بن حجر السعدي، وأبي الوليد هشام بن عمار الدمشقيّ، ومحمد بن مصفى الحمصي، وهنّاد بن السري، وأبي كريب محمد بن العلاء الكوفي، وأبي موسى محمد بن المثنى البصري، ولقي أحمد بن حنبل بعد المحنة ولم يسمع منه؛ لأنه كان قد امتنع من الرواية، وحدّث بكتاب الجامع الصحيح لمحمد بن إسماعيل البخاري عنه، وهو آخر من روى ذلك الكتاب عنه، ومات عن خمس وثمانين سنة في ذي القعدة سنة خمس وتسعين ومائتين".

وقال أبو عليٍّ الغسّاني في «تقييد المهمل وتمييز المشكل» (1/62): "وروينا عن أبي الفضل صالح بن محمد بن شاذان الأصبهاني، عن إبراهيم بن معقل: أن البخاري أجاز له آخر الديوان من أول كتاب الأحكام إلى آخر ما رواه النسفي من الجامع؛ لأن في رواية إبراهيم النسفي نقصان أوراقٍ من آخر الديوان عن رواية الفربري".

وقال أبو حفص النسفي في «القند في ذكر علماء سمرقند» (ص: 280): "أبو الفضل طاهر بن الحسين بن مخلد النّسفيّ الميتمنانيّ: ثقة من أصحاب محمد بن إسماعيل البخاري. روى عنه الجامع. روى عنه: أبو يعلى عبدالمؤمن بن خلف، وسعيد بن إبراهيم المعقلي، ومحمد بن زكريا النسفيون".

وقال السمعاني في «الأنساب» (10/403) في نسبة «القَرِيني»: "بفتح القاف، وكسر الراء، وبعدها الياء المنقوطة باثنتين من تحتها، وفي آخرها النون، هذه النسبة إلى قَرِينة، وهو اسم لبعض أجداد المنتسب إليه، والمشهور بالانتساب إليه: أَبُو طَلْحَةَ مَنْصُوْرُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عَلِيّ بن قَرِيْنَة بن سويد الدِّهْقَانُ النسفي البَزْدِيُّ القَرِيني، مِنْ أَهْلِ بَزْدَةَ، يروي عن محمد بن إسماعيل البخاري كتاب الجامع الصحيح، وهو آخر من حدث به عنه، وكان ثقة، توفي سنة تسع وعشرين وثلاثمائة".

وقال ابن نقطة في «التقييد لمعرفة رواة السنن والمسانيد» (ص: 452): "وقال المُسْتَغْفِريُّ جعفر بن محمد في «تاريخ نسف»: منصور بن محمد بن علي بن قرينة بن سويد أبو طلحة البزدي دهقان بزدة، آخر من روى عن محمد بن إسماعيل الجامع، وروى عن عبيدالله بن عمر، ويضعِّفون رِوَايَته مِنْ جِهَة صِغَره حِيْنَ سَمِعَ، وَيَقُوْلُونَ: وجدوا سَمَاعه بِخَط جَعْفَرِ بنِ مُحَمَّد مَوْلَى أَمِيْر المُؤْمِنِيْنَ دِهْقَان تُوبَن، فَقَرَؤُوا كُلَّ الكِتَابِ مِنْ أَصلِ حَمَّادِ بنِ شَاكِر. مات في سنة تسع وعشرين وثلاثمائة".

وقال أبو حفص النسفي في «القند في ذكر علماء سمرقند» (ص: 89): "أبو زيد أحمد بن محمد بن عثمان بن سيف بن صالح بن يوسف بن إبراهيم بن مسمع بن غوث بن غياث بن عمرو بن عامر الأنصاريّ السّجستانيّ... دخل نسف لسماع جامع البخاري من الدهقان أبي طلحة منصور بن محمد بن علي بن قرينة البزدوي، وهو آخر من بقي ممن سمع صحيح البخاري منه بنسف. مات بمرو سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة".

وقال السمعاني في «الأنساب» (3/101) في نسبة «التُوبَنيّ»: "بضم التاء، وفتح الباء الموحدة، وفي آخرها النون، هذه النسبة إلى تُوْبَن وهي قرية من قرى نسف، منها... وأبو الفضل جعفر بن محمد بن العباس التوبني دِهْقَان تُوبَن مولى أمير المؤمنين، يقال له: جعفر الكبير، هو الّذي نزل قرية توبن فأعقب بها، سمع أبا عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري الجامع الصحيح، ووجدوا سماع أبي طلحة منصور بن على بن قرينة دِهْقَانُ بَزْدَة بخط جعفر بن محمد الكبير على ظهر الجامع، وبذلك صحَّ عند بعضهم سماعه حتى صارت إليه الرحلة، وهو آخر من روى عنه الجامع. قال أبو العباس المستغفري: رأيت صك جعفر بن محمد الدهقان بإيقافه سند روايته على أولاده، وتاريخ الصك في سنة ثمان وسبعين ومائتين، فعلمت أن وفاته كانت بعد هذا التاريخ".

وقال أبو حفص النسفي في «القند في ذكر علماء سمرقند» (ص: 137): "خلف بن شاهد بن الحسن بن هاشم النسفيّ: روى عن البخاري الجامع، وسمع منه أهل سمرقند الجامع، وكان على عمل البريد بها في سنة اثنتين وثلاثمائة. مات في رجب سنة ثمان وثلاثمائة".

·       رجوع البخاري إلى بُخارى!

فهؤلاء بعض من سمعوا «الصحيح» من البخاري في نَسَف، ثم رجع البخاري إلى بلده بُخارى في سنة (256هـ) بعد أن أُخرج من نيسابور، ونزل فربر، وبيكند، ونسف يسمع منه الناس كتبه.

·       الفتنة بين البخاري وأمير بخارى وإخراجه منها!

ولما رجع إلى بخارى حصلت بينه وبين أمير بخارى خالد الذهلي فتنة، فإنه طلب منه أن يحضر إلى قصره ويُحدّث أولاده بكتابيه: «الصحيح»، و«التاريخ» = وهذا يعني أن البخاري كان قد حدّث بكتابه «الصحيح»، فلما رجع لبخارى طلب منه الأمير خالد الذهلي ذلك، فرفض، فتألم، فحرض عليه أعداءه من أهل الرأي، ونفاه عن البلد، فخرج إلى سمرقند، وتوفي في "خَرْتَنْك" = وهي قرية بينها وبين سمرقند ثلاثة فراسخ - والفرسخ يساوي تقريباً (5 كيلو متر) = يعني تبعد خرتنك عن سمرقند (15 كيلو متر).

قال ياقوت الحموي في «معجم البلدان» (1/355): "وامتحن وتُعصّب عليه حتى أخرج من بخارى إلى خرتنك فمات بها".

وقال ابن خِلكان في «وفيات الأعيان» (4/190): "وكان خالد بن أحمد بن خالد الذهلي أمير خراسان قد أخرجه من بخارى إلى خرتنك".

وقَالَ غُنْجَارٌ فِي «تَارِيْخِهِ»: سَمِعْتُ أَبَا عَمْرٍو أَحْمَدَ بنَ مُحَمَّدٍ المُقْرِئَ، يقول: سَمِعْتُ بَكْرَ بنَ مُنِيْرِ بنِ خُليدِ بنِ عَسْكَرٍ يَقُوْلُ: "بعثَ الأَمِيْرُ خَالِدُ بنُ أَحْمَدَ الذُّهْلِيُّ وَالِي بُخَارَى إِلَى مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ أَنِ احملْ إِلَيَّ كِتَابَ «الجَامِعِ» وَ«التَّارِيْخِ» وَغَيْرِهِمَا لأَسْمَعَ مِنْكَ.

فَقَالَ لِرَسُوْلِهِ: أَنَا لاَ أُذِلُّ العِلْمَ، وَلاَ أَحْمِلُهُ إِلَى أَبْوَابِ النَّاسِ، فَإِنْ كَانَتْ لَكَ إِلَى شَيْءٍ مِنْهُ حَاجَةٌ، فَاحضُرْ فِي مَسْجِدِي، أَوْ فِي دَارِي، وَإِنْ لَمْ يُعجبْكَ هَذَا فَإِنَّكَ سُلْطَانٌ، فَامنعنِي مِنَ المَجْلِسِ، ليَكُوْنَ لِي عذرٌ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، لأَنِّي لاَ أَكتُمُ العِلْمَ لقولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ»، فَكَانَ سَبَبُ الوحشَةِ بَيْنَهُمَا هَذَا".

وَقَالَ الحَاكِمُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ العَبَّاسِ الضَّبِّيَّ يَقُوْلُ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ بنَ أَبِي عَمْرٍو الحَافِظَ البُخَارِيَّ يَقُوْلُ: كَانَ سَبَبُ مُنَافرَةِ أَبِي عَبْدِاللهِ أَنَّ خَالِدَ بنَ أَحْمَدَ الذُّهْلِيَّ الأَمِيْرَ خَلِيْفَةَ الطَّاهريَّةِ بِبُخَارَى سَأَلَ أَنْ يَحْضُرَ مَنْزِلَهُ، فيقرأَ «الجَامِعَ» و«التَّارِيْخَ» عَلَى أَوْلاَدِهِ، فَامْتَنَعَ عَنِ الحُضُوْرِ عِنْدَهُ، فرَاسلَهُ بِأَنْ يعقِدَ مَجْلِساً لأَوْلاَدِهِ، لاَ يَحْضُرُهُ غَيْرهُم، فَامْتَنَعَ عن ذلك أيضاً، وَقَالَ: "لا يسعني أن أخص بالسماع قوماً دون قوم".

فاستعان الأمير خالد بن أحمد الذهلي بحريثِ بنِ أَبِي الوَرْقَاءِ - وكان من كبار أهل الرأي في بلده - وَغَيْرِهِ من أهل العلم ببخارى عليه، حَتَّى تَكَلَّمُوا فِي مَذْهَبِهِ، وَنَفَاهُ عَنِ البلدِ، فَدَعَا عَلَيْهِم أبو عبدالله محمد بن إسماعيل، فقال: "اللهم أرهم ما قصدوني به في أنفسهم وأولادهم وأهاليهم".

فأما خالد فَلَمْ يَأْتِ عليه إِلاَّ أقل من شَهْرٍ حَتَّى وَرَدَ أَمْرُ الطَّاهريَّةِ بِأَنْ يُنَادَى عَلَيه، فَنُوْدِيَ عَلَيْهِ وهو عَلَى أَتَانٍ، وأشخص على أكاف ثم صار عاقبة أمره إلى ما قد اشتهر وشاع. وَأَمَّا حُريثُ بن أبي الورقاء، فَإِنَّهُ ابْتُلِيَ بِأَهْلِهِ، فَرَأَى فِيْهَا مَا يَجِلُّ عَنِ الوَصْفِ. وَأَمَّا فُلاَن أحد القوم وسمَّاه، فإنه ابْتُلِيَ بِأَوْلاَدِهِ، وَأَرَاهُ اللهُ فِيْهِمُ البلاَيَا.

وكان قد تكلّم فيه أهل الرأي الذين استعان بهم الأمير حتى يُنفّر الناس منه لطرده من البلد!

·       سبب نقمة أهل الرأي في بخارى على البخاري!

قَالَ الحَاكِمُ: حَدَّثَنَا خَلَفٌ بنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بنُ شَاذَوْيه قَالَ: "كَانَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ يَسْكُنُ سِكَّةَ الدَّهْقَانِ، وَكَانَ جَمَاعَةٌ يَخْتَلِفونَ إِلَيْهِ، يُظْهِرُونَ شِعَارَ أَهْلِ الحَدِيْثِ مِنْ إِفرَادِ الإِقَامَةِ، وَرَفْعِ الأَيدِي فِي الصَّلاَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَقَالَ حُريثُ بنُ أَبِي الوَرْقَاءِ وَغَيْرُهُ: هَذَا رَجُلٌ مُشغِبٌ، وَهُوَ يُفْسِدُ عَلَيْنَا هَذِهِ المَدِيْنَةَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى مِنْ نَيْسَابُوْرَ، وَهُوَ إِمَامُ أَهْلِ الحَدِيْثِ، فَاحتَّجُوا عَلَيْهِ بِابنِ يَحْيَى، وَاسْتعَانُوا عَلَيْهِ بِالسُّلْطَانِ فِي نَفْيِهِ مِنَ البلدِ، فَأُخْرَجَ.

وَكَانَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ وَرِعاً، يتجنَّبُ السُّلْطَانَ وَلاَ يَدْخُلُ عَلَيْهِم".

قلت: وكأن البخاري - رحمه الله - صنّف كتابيه: «رفع اليدين في الصلاة»، و«القراءة خلف الإمام» في الرد على هؤلاء.

فوافق حِنق الأمير خالد الذهلي على البخاري لرفضه تخصيص مجلس له ولأولاده لسماع «الصحيح» و«التاريخ» حِنق أهل الرأي عليه لرده عليهم وبيان وهاء مذهبهم واحتجوا بما فعله معه محمد بن يحيى الذهلي في نيسابور حول مسألة اللفظ، فنفاه الأمير من بُخارى، فخرج إلى خرتنك، ومات بها.

وروى أَحْمَدُ بنُ مَنْصُوْرٍ الشِّيرَازيُّ، قال: سَمِعْتُ بَعْضَ أَصْحَابِنَا يَقُوْلُ: "لَمَّا قَدِمَ أَبُو عَبْدِاللهِ بُخَارَى نُصِبَ لَهُ القبَابُ عَلَى فرسخٍ مِنَ البلدِ، وَاسْتقبلَهُ عَامَّةُ أَهْلِ البلدِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَذْكُوْرٌ إِلاَّ اسْتَقبَلَهُ، وَنُثِرَ عَلَيْهِ الدَّنَانِيْرُ وَالِدَرَاهِمُ وَالسُّكَّرُ الكَثِيْرُ، فَبقيَ أَيَّاماً.

قَالَ: فَكَتَبَ بَعْدَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ إِلَى خَالِدِ بنِ أَحْمَدَ أَمِيْرِ بُخَارَى: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ أَظهرَ خِلاَفَ السُّنَّةِ. فَقَرَأَ كِتَابَهُ عَلَى أَهْلِ بُخَارَى، فَقَالُوا: لاَ نُفَارِقُهُ، فَأَمرَهُ الأَمِيْرُ بِالخُرُوجِ مِنَ البلدِ، فَخَرَجَ".

قلت: دخوله لبخارى كان بعد رجوعه من نسف في آخر عمره، والظاهر أن ذلك كان في شعبان سنة (256هـ)؛ لأن الفتنة مع الأمير الذهلي حصلت قريبة من رجوعه إلى بلده، ومات بعد خروجه منها بشهر.

فإذا رجع في شعبان، واستمرت الفتنة والتحريض عليه شهراً، وهو قد مات بعد خروجه من بلده بشهر = يعني أنه خرج في بداية رمضان من تلك السنة.

فالجزء الأول من الحكاية صحيح، ويظهر أن كتاب الذهلي إلى أمير بخارى كان لما خرج البخاري من نيسابور، وكأنهم استخدموا هذا الكتاب لما دخل البخاري بخارى ورفض رغبة الأمير الذهلي في عقد مجلساً خاصاً لأولاده.

وقَالَ أَحْمَدُ بنُ مَنْصُوْرٍ: فحَكَى لِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ إِبْرَاهِيْمَ بنِ مَعْقِلٍ النَّسفيِّ قَالَ: رَأَيْتُ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ فِي اليَوْمِ الَّذِي أُخرِجَ فِيْهِ مِنْ بُخَارَى، فَتقدَّمْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِاللهِ، كَيْفَ تَرَى هَذَا اليَوْمَ مِنَ اليَوْمِ الَّذِي نُثِرَ عَلَيْكَ فِيْهِ مَا نُثِرَ؟

فَقَالَ: لاَ أُبَالِي إِذَا سَلِمَ دينِي.

قَالَ: فَخَرَجَ إِلَى بِيْكَنْد، فَسَارَ النَّاسُ مَعَهُ حزبينِ: حزبٌ مَعَهُ، وَحزبٌ عَلَيْهِ، إِلَى أَنْ كتبَ إِلَيْهِ أَهْلُ سَمَرْقَنْدَ، فَسَأَلُوْهُ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِم، فَقَدِمَ إِلَى أَنْ وَصلَ بَعْضَ قُرَى سَمَرْقَنْدَ، فَوَقَعَ بَيْنَ أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ فِتْنَةٌ مِنْ سَبَبِهِ، قَوْمٌ يُرِيْدُوْنَ إِدخَالَهُ البلَدَ، وَقَوْمٌ لاَ يُرِيْدُوْنَ ذَلِكَ، إِلَى أَنِ اتَّفقُوا عَلَى أَنْ يَدْخُلَ إِلَيْهِم، فَاتَّصلَ بِهِ الخَبَرُ وَمَا وَقَعَ بَيْنَهُم بِسَبِبِهِ، فَخَرَجَ يُرِيْدُ أَنْ يَرْكَبَ، فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى دَابَّتِهِ، قَالَ: اللَّهُمَّ خِرْ لِي، ثَلاَثاً، فَسقَطَ مَيْتاً، فَاتَّصل بِأَهْلِ سَمَرْقَنْدَ، فَحضروهُ بِأَجمعهِم.

قال الذهبي في «السير» (12/463): "هَذِهِ حِكَايَةٌ شَاذَّةٌ مُنْقَطِعَةٌ، وَالصَّحِيْحُ مَا يَأْتِي خِلاَفهَا" = يقصد ما تقدّم من رواية غُنجار في سبب الفتنة بينه وبين أمير البخارى من امتناعه عن تخصيص أولاده بمجلس خاص.

قلت: الحكاية ليست شاذة وإن لم يُسمّ أحمد بن منصور من حدثه من أصحابه، فأصل الحكاية صحيح، وهو مُتفِق في جزئها الأول مع ما رواه أحمد بن منصور قبل.

·       خروج البخاري من بخارى لسمرقند!

وهذه الحكاية تدلّ على أن البخاري لما خرج من بخارى خرج لبيكند أولاً، وهي أول بلدة بعد بخارى، ثم كتب إليه أهل سمرقند فخرج إليهم، فلما وصلهم جاء كتاب إليه بأن يخرج منها، وهناك ضاقت عليه الأرض بما رحبت، فدعا أن يقبضه الله.

قَالَ مُحَمَّد بن أَبي حَاتِم: سَمِعت غَالب بن جِبْرِيل - وَهُوَ الذي نزل عَلَيْهِ أَبُو عبدالله – يَقُول: "أَقَامَ أَبُو عبدالله عندنَا أَيَّامًا فَمَرض وَاشْتَدَّ بِهِ المَرَض حَتَّى جَاءَ رَسُول إِلَى سَمَرْقَنْد بِإِخْرَاجِهِ، فَلَمَّا وافى تهَيَّأ للرُّكُوب فَلبس خُفيه وتعمّم فَلَمَّا مَشى قدر عشْرين خطْوَة أَو نَحْوهَا وَأَنا آخذ بعضده وَرجل آخر معي يَقُود الدَّابَّة ليرْكبَهَا، فَقَالَ - رَحمَه الله -: أرسلوني فقد ضعفت، فَدَعَا بدعوات، ثمَّ اضْطجع، فَقضى - رَحمَه الله -، فَسَالَ مِنْهُ من العرق شيء لَا يُوصف فَمَا سكن مِنْهُ العرق إِلَى أَن أدرجناه فى ثِيَابه.

وَكَانَ فِيمَا قَالَ لنا: وَأوصى إِلَيْنَا أَن كفنوني فى ثَلَاثَة أَثوَاب بيض لَيْسَ فِيهَا قَمِيص وَلَا عِمَامَة، فَفَعَلْنَا ذَلِك.

فَلَمَّا دفناه فاح من تُرَاب قَبره رَائِحَة غَالِيَة فدام على ذَلِك أَيَّامًا، ثمَّ علت سواري بيض في السَّمَاء مستطيلة بحذاء قَبره فَجعل النَّاس يَخْتَلِفُونَ ويتعجبون.

وَأما التُّرَاب فَإِنَّهُم كَانُوا يرفعون عَن القَبْر حَتَّى ظهر القَبْر وَلم يكن يقدر على حفظ الْقَبْر بالحراس، وغلبنا على أَنْفُسنَا فنصبنا على الْقَبْر خشباً مشبكاً لم يكن أحد يقدر على الْوُصُول إِلَى القَبْر.

وَأما ريح الطّيب فَإِنَّهُ تداوم أَيَّامًا كَثِيرَة حَتَّى تحدث أهل الْبَلدة وتعجبوا من ذَلِك. وَظهر عِنْد مخالفيه أمره بعد وَفَاته، وَخرج بعض مخالفيه إِلَى قَبره وَأظْهر التَّوْبَة والندامة".

قَالَ مُحَمَّد: "وَلم يَعش غَالب بعده إِلَّا الْقَلِيل وَدفن إِلَى جَانِبه". [طبقات الشافعية الكبرى: (2/233)].

·       إخراج البخاري من سمرقند!

فالبخاري لما خرج من بخارى نزل بيكند ثم توجّه إلى سمرقند، ونزل عند قريب له في خرتنك، ولما جاء كتاب والي سمرقند بالخروج منها وتهيأ للخروج مرض وتوفي هناك بعد شهر من خروجه من بخارى.

قال أبو أحمد بن عدي الحافظ الجرجاني: سمعت عبدالقدوس بن عبدالجبار السمرقندي، يقول: "جاء محمد بن إسماعيل إلى خرتنك، قرية من قرى سمرقند، على فرسخين منها وكان له بها أقرباء فنزل عندهم، قَالَ: فسمعته ليلة من الليالي وقد فرغ من صلاة الليل يدعو ويقول في دعائه: "اللهم إنه قد ضاقت على الأرض بما رحبت فاقبضني إليك".

قَالَ: فما تم الشهر حتى قبضه الله تعالى وقبره بخرتنك".

قلت: يعني أن خروجه من بخارى كان في بداية شهر رمضان من سنة (256هـ)؛ لأنه توفي ليلة الفطر من تلك السنة.

وكان البخاري قد نزل على قريبه أبي منصور غالب بن جبرائيل الخرتنكي، ومات في داره، وهو تولى أسباب دفنه، ويُقال إنه كان من أهل العلم، حكي عنه حكايات في مناقب البخاري، ومات بعده بقليل، وأوصى أن يدفن بجنبه. [الأنساب للسمعاني: (5/79)، ومعجم البلدان لياقوت: (2/356)].

وجاء في كتاب «تلخيص تاريخ نيسابور» - المترجم من الفارسية - لأحمد بن محمد بن الحسن المعروف بالخليفة النيسابوري (ص: 29): "قال أبو حسّانَ مَهِيبَ بنَ سُلَيْمٍ الكَرْمِيْنِيَّ يَقُوْلُ: مات محمد بن إسماعيل رحمه الله عِنْدنَا ليلة الفطر أول ليلة من شوال سنة ست وخمسين ومائتين، وكان بلغ عمره اثنين وستين إلا عشر ليلة، وكان مولده في شهر شوال من سنة أربع وتسعين ومائة، وَكَانَ فِي بَيْتٍ وَحدَهُ، فَوَجَدنَاهُ لَمَّا أَصْبَحنا وَهُوَ مَيِّتٌ، وهذا كان في فترة أخرجوه فيها من بخارى، وسببه حريث بن أبي الورقاء، وتمسك محمد بن يحيى الذهلي النيسابوري، وقال: إنه أخرجه من نيسابور، وهو إمام عصره، وقيل: سبب إخراجه خالد بن أحمد الذهلي الأمير خليفة الطاهرية ببخارا؛ لأن أبا عبدالله محمد بن إسماعيل أبى تعليم أولاده رحمة الله عليه رحمة واسعة".

قلت: غفر الله للذهليين: محمد بن يحيى، وخالد بن أحمد! ماذا كان ينقصهما حتى يتسببا في هذه الفتن لإمام الدنيا!

فمحمد بن يحيى كان من أعلم أهل الأرض في الحديث وعلله، وهو إمام كبير، والأمير خالد الذهلي صَاحِبُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ: لَهُ آثَارٌ حَمِيدَةٌ بِبُخَارَى أَكْرَمَ بِهَا المُحَدِّثِيْنَ وَأَعْطَاهُم، وأصابته دعوة البخاري، فوَالَى يَعْقُوْبَ الصَّفَّارَ، وَخَرَجَ عَلَى ابنِ طَاهِرٍ، ثُمَّ حَجَّ سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّيْنَ، فَأُخِذَ وَسُجِنَ بِبَغْدَادَ حَتَّى مَاتَ سَنَة سَبْعِيْنَ وَمائَتَيْنِ.

قال الخطيب في «تاريخ بغداد» (9/256): "ولما استوطن بخارى أقدم إِلَى حضرته حفاظ الحديث، مثل: مُحَمَّد بن نصر الْمَرْوَزِيّ، وَصالح بن مُحَمَّد جزرة، وَنصر بن أَحْمَد البغداديين، وَغيرهم، فصنف له نصر مسنداً، وَكَانَ خَالِد يختلف مَعَ هؤلاء المسمين إِلَى أبواب المحدثين ليسمع منهم، وَكَانَ يمشي برداء وَنعل يتواضع بذلك، وَبسط يده بالإحسان إِلَى أَهْل العلم فغشوه، وَقدموا عَلَيْهِ من الآفاق، وَأراد من مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ المصير إِلَى حضرته، فامتنع من ذلك، فأخرجه من بخارى إِلَى ناحية سمرقند، فلم يزل مُحَمَّد هناك حتى مات".

ثم روى بإسناده إلى خلف بن مُحَمَّد الكرابيسي، قَالَ: سمعت أبا بَكْر مُحَمَّد بن حريث البُخَارِيّ الأنصاري، يقول: "كَانَ نصرك البغدادي يفيد خَالِد بن أَحْمَد الأمير ببخارى عَنْ ست مائة مُحدِّث، غير أن مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل جلس عنه ببخارى، وَأظهر الاستخفاف به، فاعتل عَلَيْهِ خَالِد باللفظ فنفاه من بخارى، حتى مات فِي بعض قرى سمرقند".

قال الخطيب: "قلت: وَقد قَالَ بعض أَهْل العلم: إن ما فعله بمحمد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ كَانَ سبب زوال ملكه".

ثم ساق بإسناده إلى أبي بَكْر مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن صابر بن كاتب، قال: سمعت أبا الهيثم خَالِد بن أَحْمَد الأمير، يقول: "أنفقت فِي طلب العلم أكثر من ألف ألف درهم".

قال الخطيب: "قلت: وَورد خَالِد بن أَحْمَد بَغْدَاد فِي آخر أيامه، وَحدث بها فسمع منه مُحَمَّد بْن خلف المعروف بوكيع القَاضِي، وَأبو طالب أَحْمَد بْن نصر الحَافِظ، وَأبو العَبَّاس بن عقدة، وَاعتقل السلطان خالداً، وَأودعه الحبس بِبَغْدَادَ، فلم يزل فيه حتى مات".

ثم ساق بإسناده إلى أَبي علي الحُسَيْن بن مُحَمَّد الصاغاني، قَالَ: سمعت أبا رجاء السندي، يقول: "كَانَ خَالِد بن أَحْمَد اشتد على الطاهرية فِي آخر أمورهم، وَمال إِلَى يعقوب بن الليث القائم بسجستان، فلما حمل مُحَمَّد بن طاهر إِلَى سجستان كَانَ خَالِد بهراة، فتكلم فِي وَجهه بما ساءه، ثُمَّ اجتاز خَالِد بِبَغْدَادَ حاجاً سنة تسع وَستين، فحبس بِبَغْدَادَ، وَمات فِي الحبس، بِبَغْدَادَ سنة تسع وَستين وَمائتين".

[وسيكون هناك تفصيل أكثر لهذا، وكذلك العلاقة بينه وبين مسلم، ولمِ لمْ يرو مسلم عنه صحيحه، وهل قصده في مقدمة صحيحه، وغير ذلك من التساؤلات - إن شاء الله - في كتابي: «سيرة الشيخين الإِمامين صاحبي الصحيحين»].

·       كلام الأخ الأقطش حول موقف أبي زرعة من «صحيح مسلم»، ومناقشته!

قال الأخ الأقطش: "قال البرذعي: «شَهِدْتُ أبا زرعة ذَكَرَ كتاب الصحيح الذي ألَّفه مسلم بن الحجاج ثم الفضل الصائغ على مثاله، فقال لي أبو زرعة: "هؤلاء قومٌ أرادوا التقدُّم قبل أوانه، فعملوا شيئًا يتشوَّفون به! ألَّفوا كتابًا لَمْ يُسبقوا إليه، لِيُقِيموا لأنفسهم رياسةً قبل وقتها"». اهـ فهذا القول مِن أبي زرعة دلَّنا على أمرين: أحدهما أنَّ مسلمًا لمَّا ألف صحيحه كانت سِنُّه في نظر أبي زرعة أَقَلَّ مِن أن يُنَصِّبَ نفسه لهذا الشأن، وكأنَّه جَمَعَ كل الحديث النبوي وأحاط بما لَمْ يُحِطْ به شيوخُه، لا سيما في حضرة شيخه محمد بن يحيى الذهلي إمام نيسابور. الأمر الآخر: أنَّ البخاري لَمْ يكن قد أخرج صحيحه للناس وقتئذ، لأنَّ أبا زرعة رأَى أنَّ مسلمًا بتأليفه للصحيح قد ابتدع شيئًا غير معهودٍ لدى علماء الحديث. ومعلومٌ أنَّ البخاري مِن الحفاظ المشهورين الذين انتفع أبو زرعة وغيرُه بمصنفاتهم. فلو كان صحيح البخاري معروفًا في ذلك الوقت، فكيف قال أبو زرعة إنَّ مسلمًا لَمْ يسبقه أحدٌ إلى جَمْع الصحيح؟!

ولعلَّ ما رَمَى أبو زرعة به مسلمًا مِن تشوُّفه للرياسة كان مِنه اعتضادًا بما حدث بينه وبين شيخه الذهلي مِن قبلُ، فإنه عامَلَه رأسًا برأس لمَّا وقعت الوحشة بينهما. قال مكي بن عبدان: «وافَى داود الأصبهاني نيسابور أيام إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، فعقدوا له مجلس النظر، وحضر مجلسه يحيى بن محمد بن يحيى ومسلم بن الحجاج. فَجَرَت لهم مسألةٌ تكلَّم فيها يحيى بن محمد بن يحيى، فزَبَرَه داودُ وقال: "اسكت يا صبي! ". ولَمْ ينصره مسلم. فرجع إلى أبيه وشكا إليه داودَ، فقال محمد بن يحيى: "ومَن كان في المجلس؟". قال: "مسلم بن الحجاج، ولَمْ ينصرني! ". قال: "قد رجعتُ عن كل ما حدَّثته به". قال: فبلغ مسلمًا قول محمد بن يحيى هذا، فجمع ما كتب عنه وجعله في زنبيل، وحمله إلى داره وقال: "لا أروي عنك أبدًا!". ثم خرج إلى عبد بن حميد». اهـ فلعلَّ أبا زرعة قد رأى في تصرُّف مسلم مع أستاذه على هذا النحو ضربًا مِن العُجب والغرور وهو في تلك السنِّ إذ بينه وبين الذهلي 34 سنة، فحَمَلَ تأليفَه للصحيح بعد ذلك على أنه طلبًا للرياسة. وكان للذهلي قَدْرُه عند أبي زرعة، حتى إنه تَرَكَ حديثَ البخاري بعد ذلك اتباعًا له... ويبدو أنَّ البرذعي أشفق على مسلم مِن هذا النقد اللاذع الذي وجَّهه له شيخُه، فاهتبل فرصة خروجه إلى نيسابور فالتقى بمسلم وأبلغه بما قاله أبو زرعة. قال البرذعي: «فلمَّا رجعتُ إلى نيسابور في المرة الثانية، ذَكَرْتُ لمسلم بن الحجاج إنكار أبي زرعة عليه روايته في هذا الكتاب عن أسباط بن نصر وقطن بن نسير وأحمد بن عيسى. فقال لي مسلم: "إنما قلتُ: (صحيح)، وإنما أدخلتُ مِن حديث أسباط وقطن وأحمد ما قد رواه الثقات عن شيوخهم. إلاَّ أنه ربما وقع إليَّ عنهم بارتفاع، ويكون عندي مِن روايةِ مَن هو أوثق منهم بنزول. فأقتصر على أولئك، وأَصْلُ الحديث معروفٌ مِن رواية الثقات"». اهـ

ثم عزم مسلم على الخروج إلى الري بعدما سمعه مِن البرذعي، إذ صاحِبُ الكتاب أَوْلَى بالدفاع عنه مِن غيره. فلمَّا دخلها، توجَّه إلى ابن وارة وقد أخذ نفس موقف أبي زرعة مِن صحيح مسلم. قال البرذعي: «وقَدِمَ مسلم بعد ذلك إلى الري، فبلغني أنه خرج إلى أبي عبد الله محمد بن مسلم بن وارة. فجفاه وعاتبه على هذا الكتاب، وقال له نحوًا مِمَّا قاله أبو زرعة: إنَّ هذا يُطَرِّق لأهل البدع علينا. فاعتذر إليه مسلم وقال: "إنما أخرجتُ هذا الكتاب وقلتُ: هو صحاح، ولَمْ أَقُلْ: إنَّ ما لَمْ أخرجه مِن الحديث في هذا الكتاب ضعيف. ولكني إنما أخرجتُ هذا مِن الحديث الصحيح ليكون مجموعًا عندي وعند مَن يكتبه عني، فلا يُرتاب في صحتها. ولَمْ أَقُلْ: إنَّ ما سواه ضعيف". ونحو ذلك مِمَّا اعتذر به مسلم إلى محمد بن مسلم، فقبل عذره وحدَّثه». اهـ

وانطلق مسلم إلى أبي زرعة ومعه صحيحه، فربما يلطِّف مجيئُه إليه مِن حِدَّة انتقاده له. فَعَرَضَ الكتابَ عليه وسأله أن يعلِّم له على الأحاديث المعلولة. قال أبو علي الغساني: «ورُوِّينا عن أبي حاتم مكي بن عبدان قال: سمعتُ مسلم بن الحجاج يقول: "لو أنَّ أهل الحديث يكتبون الحديث مائتي سنة، لكان مدارُهم على هذا المسند". يعني مسند الصحاح. قال مكي: وسمعتُ مسلمًا يقول: "عرضتُ كتابي هذا المسند على أبي زرعة الرازي، فكل ما أشار عليَّ في هذا الكتاب أنَّ له علةً وسببًا تركتُه، وكل ما قال إنه صحيحٌ ليس له علةٌ فهو هذا الذي أَخرجتُ"». اهـ ويظهر أنَّ ذلك كان مِن مسلم تبجيلاً لأبي زرعة وإقرارًا بمنزلته في هذا الفن، وكذلك إعلامًا مِنه لأبي زرعة بأنه لا يبتغي رياسةً ولا غير ذلك مِمَّا قاله، وإنما كان غرضه مِن تأليفِ هذا الكتاب جَمْع السنن والأخبار الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد طَعَنَ بعضُ إخواننا في ثبوت هذا النقل عن مكي بن عبدان اعتمادًا على ذِكْر ابن الصلاح له بصيغة البلاغ، فكأنه لَمْ يقف عليه عند الغساني.

والظاهر أنَّ موقف أبي زرعة مع ذلك لَمْ يتغيَّر كثيرًا، فقد ظَلَّ في نفسه مِن هذا الكتاب كما سيأتي أيضًا. فإنه قد لَبَّى لمسلم طَلَبَه إكرامًا له ولِمَا وَجَدَه مِن تواضعه، ولكنه مع ذلك لَمْ تَحْمِلْهُ نفسُه على أن ينشط فيتتبَّع كل أحاديث الكتاب، وإنما كان يُعمِل نظره فيه كما أعمله أول مرة. ومِن المؤكَّد أنَّ أبا زرعة قد وقف على شيءٍ مِن تميُّز مسلم في هذا الشأن لمَّا جالسه، خصوصًا وأنَّ مذاكرة مِثل هذا الحافظ لَمْ يكن يقوم بها إلاَّ مَن كان قريبًا مِن منزلته في الحفظ والضبط. لكن يبدو أنَّ أبا زرعة كان لَمْ يَزَلْ عائبًا على مسلم تَرْكَه الرواية عن شيخه الذهلي، وقد تجلَّى ذلك في صحيحه إذ لَمْ يُخرج فيه عنه شيئًا! مع أنه لو كان رَوَى عنه في كتابه، لاستغنى بكثيرٍ مِن حديثه عن الأسانيد النازلة ولأدخل فيه كثيرًا مِن الحديث الصحيح. قال أبو قريش القهستاني: «كنا عند أبي زرعة الرازي، فجاء مسلم بن الحجاج فسلَّم عليه وجلس ساعةً وتذاكرا. فلمَّا أن قام، قلتُ له: هذا جَمَعَ أربعة آلاف حديثٍ في الصحيح. فقال أبو زرعة: "لِمَ تَرَكَ الباقي! ". وقال: "ليس لهذا عقل؟ لو دارَى محمد بن يحيى لصار رجلاً». اهـ

ولعلَّ مِن ثمرة هذه الرحلة وتلك الملاحظات التي أبداها أبو زرعة بحسب ما سمح به هذا الظرف: أنَّ مسلمًا لمَّا رجع إلى نيسابور، أَصْلَحَ كثيرًا مِن الخلل في كتابه وأعاد النظر في عددٍ مِن الأحاديث التي أخرجها، وحذف مِنه وأضاف. وكان مِمَّا نقَّحه فيه أنه أدخل فيه حديثًا سمعه مِن أبي زرعة في الدعاء، وهذا مِن رواية الأقران. قال النووي: «وهذا الحديث رواه مسلم عن أبي زرعة الرازي أحد حفاظ الإسلام وأكثرهم حفظًا، ولَمْ يَرْوِ مسلم في صحيحه عنه غير هذا الحديث، وهو مِن أقران مسلم». اهـ ومِمَّا يدلُّ على أنه لَمْ يكن في النسخة القديمة أنَّ الدارقطني في تصنيفه لرجال الصحيحين لَمْ يَذكر أبا زرعة ضمن رجال مسلم. ويَظهر مِن ثمار هذه الرحلة أيضًا أنَّ مسلمًا أصلح ما بينه وبين شيخه الذهلي فيما بعد، وجعل يختلف إلى مجلسه" انتهى.

·       تخمينات تفتقر للأدلة والقرائن!

قلت:

* أما قوله: "فهذا القول مِن أبي زرعة دلَّنا على أمرين: أحدهما أنَّ مسلمًا لمَّا ألف صحيحه كانت سِنُّه في نظر أبي زرعة أَقَلَّ مِن أن يُنَصِّبَ نفسه لهذا الشأن، وكأنَّه جَمَعَ كل الحديث النبوي وأحاط بما لَمْ يُحِطْ به شيوخُه، لا سيما في حضرة شيخه محمد بن يحيى الذهلي إمام نيسابور."

فتخمينٌ لا دليل عليه! وأبو زرعة قرين مسلم، وكيف يتوافق كلامه هذا مع ما قَالَه أَحْمَدُ بنُ سَلَمَةَ: "رَأَيْتُ أَبَا زُرْعَةَ وَأَبَا حَاتِم يقدِّمَان مسلمَ بن الحَجَّاج فِي مَعْرِفَةِ الصَّحِيْح عَلَى مَشَايِخ عَصْرهمَا"؟!

فهل يُظنّ بأبي زرعة ما خمّنه الأقطش مع تقديمه هو وأبو حاتم لمسلم في معرفة الصحيح على مشايخ عصره؟!

ثم إن من جملة اعتراضات أبي زرعة على مسلم في تصنيفه للصحيح أنه يطرِّق لأهل البدع بحيث أنه إذا لم يجدوا الحديث في صحيح مسلم وهو صحيح لم يحتجوا به!

وهذا يدلّ على عدم طعنه في أصل تصنيف مسلم للصحيح.

وليست المسألة كما صوّرها الأقطش كأنه جمع كل الحديث النبوي وأحاط بما لم يُحط به شيوخه! فهذا بعيد عن مقصد أبي زرعة!

·       لمَ عَاب أبو زرعة على مسلم تصنيفه في الصحيح!

والذي يظهر لي أن أبا زرعة إنما قال هذا ضجراً من مسألة التصنيف عموماً! وهو - رحمه الله - على علمه لم يُصنِّف، وقد يكون هذا الكلام خرج منه لما وقف مسلمٌ مع البخاري في فتنته مع شيخهما الذهلي، وكان الذهلي كتب لهما فتركا حديث البخاري، فمن باب أولى أن يتركا حديث مسلم!

ثم لمّا وصل الكتاب لأبي زرعة اعترض عليه بأنه أدخل فيه بعض الرواة المتكلّم فيهم كأسباط بن نصر وقطن بن نسير وغيرهما على قلّة ما أخرج لهم، والله أعلم.

وأما قوله: " الأمر الآخر: أنَّ البخاري لَمْ يكن قد أخرج صحيحه للناس وقتئذ، لأنَّ أبا زرعة رأَى أنَّ مسلمًا بتأليفه للصحيح قد ابتدع شيئًا غير معهودٍ لدى علماء الحديث. ومعلومٌ أنَّ البخاري مِن الحفاظ المشهورين الذين انتفع أبو زرعة وغيرُه بمصنفاتهم. فلو كان صحيح البخاري معروفًا في ذلك الوقت، فكيف قال أبو زرعة إنَّ مسلمًا لَمْ يسبقه أحدٌ إلى جَمْع الصحيح؟!"

·       صحيح فَضْلَك الصائغ الرازي!

فتخمين أيضاً يفتقر إلى الدليل الصحيح أو القرائن التي تدعمه!

والأخ يتحدث هنا عن إخراج البخاري لصحيحه في وقت كلام أبي زرعة هذا الكلام عن مسلم = يعني قد يكون البخاري كان انتهى من تصنيف كتابه قبل مسلم، لكنه لم يظهره! فهذا يُحتمل.

ثم إن أبا زرعة ذكر صحيح فضلك الصائغ الرازي مع كتاب مسلم = فهل هذا يعني أن صحيح فضلك الرازي كان قبل صحيح البخاري أيضاً؟! وأين هو صحيح فضلك؟

وفضلك إمام كبير من بلد أبي زرعة، وقد روى عنه أبو زرعة وأبو حاتم، وهما يعرفان مكانته، وقد توفي سنة (270هـ) بعد وفاة أبي زرعة بست سنوات.

قال شعيب بن إبراهيم البيهقي: سمعت فضلك الرازي، وهو الفضل بن العباس الحافظ إمام عصره في معرفة الحديث، فذكر مكانه.

وروى محمد بن أحمد غُنجار، قال: حدثنا خلف بن محمد، قال: سمعت أبا بكر محمد بن حريث يقول: سمعت الفضل بن العباس الرازي - وسألته فقلت: أيهما أحفظ أبو زرعة أو محمد بن إسماعيل؟ - فقال لي: "لم أكن التقيت مع محمد بن إسماعيل فاستقبلني ما بين حلوان وبغداد، قال: فرجعت عنه مرحلة، قال: وجهدت الجهد على أن أجيء بحديث لا يعرفه، فما أمكنني، قال: وأنا أُغْرِبُ على أبي زرعة عدد شَعْرِه".

فمسلمٌ وفضلك من كبار الحفاظ، وأبو زرعة يعرف منزلتهما، وقوله في كتابيهما إنما قاله ضجراً من التأليف عموماً! وإلا فإنهما لا يبحثان عن رياسة ولا غيره!

وقول أبي زرعة هذا لا يلزم منه أن صحيح البخاري لم يكن معروفاً، فقد يكون إعراض أبي زرعة عن ذكره لسبب تركه لحديثه بعد فتنة اللفظ مع الذهلي! أو أنه لم يطلع عليه حينما قال ما قال عن صحيحي مسلم وفضلك! بل لم يكن قد اطلع على صحيح مسلم!

·       نزول مسلم الريّ بعد تحديثه بالصحيح ولقاء أبي زرعة دون ذكر صحيحه!

ومما يؤيد ذلك ما قَالَه أَبُو قُرَيْشٍ الحَافِظُ مُحَمَّدُ بنُ جُمُعَةَ بنِ خَلَفٍ القُهُسْتَانِيُّ: "كُنْتُ عِنْدَ أَبِي زُرْعَةَ، فَجَاءَ مُسْلِمُ بنُ الحَجَّاجِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَجَلَسَ سَاعَةً، وَتذَاكرَا.

فَلَمَّا أَن قَامَ قُلْتُ لَهُ: هَذَا جَمَعَ أَرْبَعَةَ آلاَفِ حَدِيْثٍ فِي «الصَّحِيْحِ»، فَقَالَ: فلِمَنْ تركَ البَاقِي؟

ثُمَّ قَالَ: هَذَا لَيْسَ لَهُ عقلٌ، لَوْ دَارَى مُحَمَّدَ بنَ يَحْيَى لصَارَ رَجُلاً".

قلت: فالظاهر أن مسلماً نزل مرو وزار أبو زرعة وذاكره، وكان قد جمع «صحيحه»، لكنه لم يُخبره بذلك، ولم يكن يعلم به، ولهذا أخبره بذلك أبو قريش الحافظ، وعاب عليه أنه ترك محمد بن يحيى الذهلي بعد فتنته مع البخاري، وقال بأنه لو داراه = يعني لو لم يقف مع البخاري لصار رجلاً - بمعنى لكان مُقدّماً في هذا العلم ولاستفاد مما سمعه وأخذه عن الذهلي.

والظاهر أن مسلماً كان قد حدّث بصحيحه، واطلع عليه أبو قريش وكان حافظاً كبيراً، وهو من قُهُسْتَان ناحية من خراسان بين هراة ونيسابور فيما بين الجبال، ويظهر لي أن أن زيارة مسلم هذه لمرو كانت بعد وفاة محمد بن يحيى الذهلي - أي بعد سنة (258هـ)؛ لأنه أشار لما حدث بين مسلم وشيخه الذهلي في سنة (252هـ) بسبب الفتنة مع البخاري، ولو كان الذهلي حياً آنذاك لنصحه أبو زرعة بأن يُصلح أمره معه، والله أعلم.

·       نكارة قصة يحيى بن محمد بن يحيى الذهلي مع داود الأصبهاني! وعدم صحة ترك مسلم لما سمع من أبيه بسبب عدم نصرته في تلك الحكاية!

* وأما قوله: "ولعلَّ ما رَمَى أبو زرعة به مسلمًا مِن تشوُّفه للرياسة كان مِنه اعتضادًا بما حدث بينه وبين شيخه الذهلي مِن قبلُ، فإنه عامَلَه رأسًا برأس لمَّا وقعت الوحشة بينهما. قال مكي بن عبدان: «وافَى داود الأصبهاني نيسابور أيام إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، فعقدوا له مجلس النظر، وحضر مجلسه يحيى بن محمد بن يحيى ومسلم بن الحجاج. فَجَرَت لهم مسألةٌ تكلَّم فيها يحيى بن محمد بن يحيى، فزَبَرَه داودُ وقال: "اسكت يا صبي! ". ولَمْ ينصره مسلم. فرجع إلى أبيه وشكا إليه داودَ، فقال محمد بن يحيى: "ومَن كان في المجلس؟". قال: "مسلم بن الحجاج، ولَمْ ينصرني! ". قال: "قد رجعتُ عن كل ما حدَّثته به". قال: فبلغ مسلمًا قول محمد بن يحيى هذا، فجمع ما كتب عنه وجعله فِي زِنْبِيْل، وحمله إلى داره وقال: "لا أروي عنك أبدًا!". ثم خرج إلى عبد بن حميد». اهـ فلعلَّ أبا زرعة قد رأى في تصرُّف مسلم مع أستاذه على هذا النحو ضربًا مِن العُجب والغرور وهو في تلك السنِّ إذ بينه وبين الذهلي 34 سنة، فحَمَلَ تأليفَه للصحيح بعد ذلك على أنه طلبًا للرياسة. وكان للذهلي قَدْرُه عند أبي زرعة، حتى إنه تَرَكَ حديثَ البخاري بعد ذلك اتباعًا له"

فهذا أيضاً ضربٌ من الخيال ولا دليل عليه!

فما شأن أبي زرعة بما حدث بذلك المجلس! والمجلس كان في حياة ابن راهويه - إن صحّ - = يعني مضى عليه سنوات كثيرة! وما أدرانا أن أبا زرعة عرف بذلك المجلس أو استحضره عندما قال ما قال عن مسلم؟!

وهل يُعقل أن مسلماً يعامل شيخه الذهلي رأساً برأس!

ثم كيف يكون ذلك ضرباً من العُجب والغرور؟!

وهذا - وإن كان الأخ سبقه بلفظ: "لعل" الذي يدل على الاحتمالية إلا أنه لا ينبغي في مثل هؤلاء الأئمة! والله المستعان.

ولا أدري كيف يحتج الأخ الأقطش بهذه القصة وهي منكرة!

·       مَيل الحاكم إلى الشك بالحكاية ومعارضتها بما هو محفوظ عن سبب الوحشة بين الذهلي ومسلم في فتنة اللفظ!

فالقصة يرويها الحَاكِمُ، قَالَ: سَمِعْتُ طَاهِرَ بنَ أَحْمَدَ الوَرَّاق المُوْلْقَابَاذي، يَقُوْلُ: سألت مَكيَّ بن عَبْدَانَ: لم ترك مسلم حديث محمد بن يحيى؟ فقال: "وَافَى دَاوُد بن عَلِيٍّ الأَصْبَهَانِيّ نَيْسَابُوْر أَيَّام إِسْحَاق بن رَاهْوَيْه الحنظليّ، فعقدُوا لَهُ مَجْلِس النَّظَر، وَحضر مَجْلِسه يَحْيَى بن محمد بن يحيى الذُّهْلِيّ، وَمُسْلِم بن الحَجَّاجِ، فجرت مسَألَة تَكَلَّمَ فِيْهَا يَحْيَى، فَزَبَرَهُ دَاوُد..." القصة.

قَالَ الحَاكِمُ: "هكذا علقت هَذِهِ الحِكَايَة قديماً عَنْ طَاهِر، والله أعلم؛ فإن مُسْلِم بن الحجاج قد كان يَخْتَلِف بَعْد هَذِهِ الوَقعَة بينه وبين حمكان إِلَى أبيه، وَكَانَ الحَافِظ أَبُو عَبْدِاللهِ بنُ الأَخْرَمِ أَعْرَف بِذَلِكَ من غيره، فَأَخبر عَنِ الوحشَة الأَخيرَة، وأخبر مكي بن عبدان عن الوحشة القديمة".

قال الحاكم: وسمعت أبا عبدالله محمد بن يعقوب ابن الأخرم يَقُوْلُ: "كَانَ مُسْلِم بن الحَجَّاجِ يُظْهِر القَوْل بِاللَّفْظ، وَلاَ يَكْتُمهُ، فَلَمَّا اسْتوطن البُخَارِيّ نَيْسَابُوْر أَكْثَر مُسْلِم الاخْتِلاَف إِلَيْهِ، فَلَمَّا وَقَعَ بَيْنَ البُخَارِيّ وَالذُّهْلِيّ مَا وَقَعَ فِي مَسْأَلَة اللَّفْظ، وَنَادَى عَلَيْهِ، وَمنع النَّاس مِنَ الاخْتِلاَف إِلَيْهِ، حَتَّى هُجِر، وَسَافَرَ مِنْ نَيْسَابُوْر، قَالَ: فَقطعه أَكْثَر النَّاس غَيْر مُسْلِم. فَبلغ مُحَمَّد بن يَحْيَى، فَقَالَ يَوْماً: أَلاَ مَنْ قَالَ بِاللَّفْظ فَلاَ يحلّ لَهُ أَنْ يحضر مَجْلِسنَا. فأخذ مسلم الرداء فوق عمامته وقام على رؤوس الناس، وخرج من مجلسه، وجمع كل ما كان كتب منه، وبعث به على ظهر حمال إلى باب محمد بن يحيى، فاستحكمت تلك الوحشة، وتخلف عن زيارته".

قلت: كأن الحاكم يشك في هذه الحكاية! ولهذا قال: "علقتها عنه قديماً"! ثم ذكر إن المعروف كما أخبر ابن الأخرم وهو أعرف الناس بما حدث أن الوحشة بين مسلم وشيخه الذهلي كانت بسبب فتنته مع البخاري.

فلا يمكن أن يكون حصل بينهما وحشتين: قديمة وأخيرة! فإذا صح ما روي عن مكي بن عبدان، فكيف يفعل الذهلي ذلك وهو من هو في الإمامة والعلم؟ أيعقل أن يغضب من مسلم بسبب سكوته لما حدث في مجلس قيل لابن الذهلي فيه: "اسْكُتْ يَا صَبِيّ"؟ وكيف يَنْصره مُسْلِم؟ أليس الأولى أن يستثبت الذهلي عن هذه المسألة؟ وكيف ينتصر لابنه دون معرفة سبب الخلاف؟! فهلا وضّح له ابنه ذلك السبب؟ ثم كيف يقول: "قَدْ رَجَعت عَنْ كُلّ مَا حدثته بِهِ؟!

فإذا كان مسلم قد أرجع إليه ما سمع منه، فكيف رجع إليه مرة أخرى؟ وهل أرجع له ما سمعه منه؟! وكيف كان ذلك؟

·       احتمال سماع طاهر بن أحمد القصة من بعض المجاهيل عن مكيّ!

وطَاهِرَ بنَ أَحْمَدَ الوَرَّاق ثقة، ويُحتمل أن القصة: "سئل مَكيَّ بن عَبْدَانَ" = يعني ربما لم يسمع ذلك من مكي، وإنما سمع ذلك من أحدهم، وهذا متّجه؛ لأنه كان وراقاً ويكتب عن الناس.

ثم لو صح ما في هذه الحكاية = فهذا يعني أن هذا هو سبب ترك مسلم لشيخه، فماذا نفعل بما حدث معه في فتنته مع البخاري؟ ألا يعلم مكي بما حدث بين شيخه مسلم مع شيخه الذهلي في فتنة اللفظ مع البخاري؟!

فهذه الحكاية منكرة، ولا أظن طاهر بن أحمد سمعها من مكي، وإنما سمعها من بعضهم، وهي لا تصح، ومسلمٌ انْقَطَع عَنْ الذهلي مِنْ أَجل قِصَّة البُخَارِيّ، وهذا متفقٌ عليه.

·       كتابة محمد بن يحيى الذهلي لأحمد يُحذره من داود الأصبهاني!

ثم إنّ الذهلي كان يُحذر من داود بسبب ما قاله عندهم في نيسابور: "إن القرآن مُحدَث"!

قَالَ أَبُو بَكْرٍ الخَلاَّلُ: أَخْبَرَنَا الحُسَيْنُ بنُ عَبْدِاللهِ، قَالَ: سَأَلْتُ المَرُّوْذِيَّ عَنْ قِصَّةِ دَاوُدَ الأَصْبَهَانِيِّ، وَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَبُو عَبْدِاللهِ، فَقَالَ: كَانَ دَاوُدُ خَرَجَ إِلَى خُرَاسَانَ إِلَى ابنِ رَاهْوَيْه، فَتَكَلَّمَ بِكَلاَمٍ شَهِدَ عَلَيْهِ أَبُو نَصْرٍ بنُ عَبْدِالمَجِيْدِ، وَآخَرُ، شَهِدَا عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: "القُرْآنُ مُحْدَثٌ".

فَقَالَ لِي أَبُو عَبْدِاللهِ: مَنْ دَاوُدُ بنُ عَلِيٍّ؟ لاَ فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ.

قُلْتُ: هَذَا مِنْ غِلْمَانِ أَبِي ثَوْرٍ.

قَالَ: جَاءنِي كِتَابُ مُحَمَّدِ بنِ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيِّ: أَنَّ دَاوُدَ الأَصْبَهَانِيَّ قَالَ بِبَلَدِنَا: إِنَّ القُرْآنَ مُحْدَثٌ.

قَالَ المَرُّوْذِيُّ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ النَّيْسَابُورِيُّ: "أَنَّ إِسْحَاقَ بنَ رَاهْوَيْه لَمَّا سَمِعَ كَلاَمَ دَاوُدَ فِي بَيْتِهِ، وَثَبَ عَلَى دَاوُدَ وَضَرَبَهُ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ".

قلت: فالظاهر أن ابن راهويه وأهل نيسابور طردوه من بلدهم بسبب مقالته، وكان داود نزل بغداد وحاول الدخول على أحمد، فحاول صالح بن أحمد مع والده بأن يدخل عليه، فرفض.

* وأما قوله: "ثم عزم مسلم على الخروج إلى الري بعدما سمعه مِن البرذعي، إذ صاحِبُ الكتاب أَوْلَى بالدفاع عنه مِن غيره. فلمَّا دخلها، توجَّه إلى ابن وارة وقد أخذ نفس موقف أبي زرعة مِن صحيح مسلم. قال البرذعي: «وقَدِمَ مسلم بعد ذلك إلى الري، فبلغني أنه خرج إلى أبي عبدالله محمد بن مسلم بن وارة. فجفاه وعاتبه على هذا الكتاب، وقال له نحوًا مِمَّا قاله أبو زرعة: إنَّ هذا يُطَرِّق لأهل البدع علينا. فاعتذر إليه مسلم وقال: "إنما أخرجتُ هذا الكتاب وقلتُ: هو صحاح، ولَمْ أَقُلْ: إنَّ ما لَمْ أخرجه مِن الحديث في هذا الكتاب ضعيف. ولكني إنما أخرجتُ هذا مِن الحديث الصحيح ليكون مجموعًا عندي وعند مَن يكتبه عني، فلا يُرتاب في صحتها. ولَمْ أَقُلْ: إنَّ ما سواه ضعيف". ونحو ذلك مِمَّا اعتذر به مسلم إلى محمد بن مسلم، فقبل عذره وحدَّثه». اهـ"

ففيه نظر!

ومن أين للأخ الأقطش أن مسلماً عزم على الخروج إلى الري بعدما سمع مِن البرذعي؟! وكيف فهم أنه خرج للدفاع عن نفسه؟ فلو كان كذلك فلم لم يذهب مباشرة لأبي زرعة؟ ولم ذهب إلى ابن وارة؟!

فالظاهر أنه ذهب للريّ كعادته في زياراته للحواضر العلمية، فزار ابن وارة، وعاتبه ابن وارة على كتابه؛ لأنه يُطرّق لأهل البدع بردهم الأحاديث الصحيحة التي ليست في كتابه، فلما أفصح عن مقصده عذره ابن وارة، وحَمِده.

·       تصحيف!

وما جاء في القصة: "وحدثه" كذا في بعض نسخ كتاب البرذعي، وفي مطبوعات بعض الكتب التي نقلت عنه، وفي بعض النسخ: "فحمده"، وهو الصواب = أي حمد فعله أو صحيحه، ولا يتجه قوله: "وحدثه"؛ لأن مسلماً من أقران ابن وارة، ولم يأت إليه ليحدّثه، والقصة يناسبها قوله: "وحمده"، والله أعلم.

* وأما قوله: "وانطلق مسلم إلى أبي زرعة ومعه صحيحه، فربما يلطِّف مجيئُه إليه مِن حِدَّة انتقاده له. فَعَرَضَ الكتابَ عليه وسأله أن يعلِّم له على الأحاديث المعلولة. قال أبو علي الغساني: «ورُوِّينا عن أبي حاتم مكي بن عبدان قال: سمعتُ مسلم بن الحجاج يقول: "لو أنَّ أهل الحديث يكتبون الحديث مائتي سنة، لكان مدارُهم على هذا المسند". يعني مسند الصحاح. قال مكي: وسمعتُ مسلمًا يقول: "عرضتُ كتابي هذا المسند على أبي زرعة الرازي، فكل ما أشار عليَّ في هذا الكتاب أنَّ له علةً وسببًا تركتُه، وكل ما قال إنه صحيحٌ ليس له علةٌ فهو هذا الذي أَخرجتُ"». اهـ ويظهر أنَّ ذلك كان مِن مسلم تبجيلاً لأبي زرعة وإقرارًا بمنزلته في هذا الفن، وكذلك إعلامًا مِنه لأبي زرعة بأنه لا يبتغي رياسةً ولا غير ذلك مِمَّا قاله، وإنما كان غرضه مِن تأليفِ هذا الكتاب جَمْع السنن والأخبار الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد طَعَنَ بعضُ إخواننا في ثبوت هذا النقل عن مكي بن عبدان اعتمادًا على ذِكْر ابن الصلاح له بصيغة البلاغ، فكأنه لَمْ يقف عليه عند الغساني".

فهو مَحضُ خَيالٍ!

فمن أين له أن مُسلماً انطلق إلى أبي زرعة ومعه صحيحه، حتى يلطِّف مجيئُه إليه مِن حِدَّة انتقاده له؟!

فها هو البرذعي يذكر أنه دخل الري، ثم اتجه إلى ابن وارة، ولو زار أبا زرعة ومعه صحيحه لنقلوا ذلك لنا! لكن الظاهر أنه لم يلق أبا زرعة لما دخل الري في تلك المرة، فكأن أبا زرعة كان خارج بلده، ولما جلس معه وذاكره ربما كان ذلك في مرة أخرى؛ لأنه لم يذكر له صحيحه في تلك المذاكرة بينهما، وإنما أخبره به أبو قريش بعد أن خرج مسلم من مجلسه.

·       نكارة قصة عرض مسلم صحيحه على أبي زرعة!

ويبدو أن الأخ الأقطش اعتمد على القصة التي فيها أن مسلماً عرض كتابه على أبي زرعة فكل ما أشار عليه في كتابه أنَّ له علةً وسببًا تركتُه، وكل ما قال إنه صحيحٌ ليس له علةٌ فهو هذا الذي أَخرجه! وبنى عليه: أنَّ ذلك كان مِن مسلم تبجيلاً لأبي زرعة وإقرارًا بمنزلته في هذا الفن، وكذلك إعلامًا مِنه لأبي زرعة بأنه لا يبتغي رياسةً ولا غير ذلك مِمَّا قاله! وهذا من الخيالات!

وأشار الأخ أن بعض طلبة العلم طعنوا في ثبوت هذه القصة؛ لأن ابن الصلاح أوردها بصيغة البلاغ، ورد ذلك بأنه لم يقف عليها عند الغساني!

وظاهر كلام الأقطش أن الغساني قد أسنده بخلاف البلاغ الذي قاله ابن الصلاح! وهذا ليس بصحيح! فابن الصلاح إنما نقل ذلك عن الغساني.

والذي جعل الأقطش يقول ذلك ما نقله عن الغساني: «ورُوِّينا عن أبي حاتم مكي بن عبدان قال: سمعتُ مسلم بن الحجاج يقول: "لو أنَّ أهل الحديث يكتبون الحديث مائتي سنة، لكان مدارُهم على هذا المسند". يعني مسند الصحاح. قال مكي: وسمعتُ مسلمًا يقول: "عرضتُ كتابي هذا المسند على أبي زرعة الرازي...»!

وقد وهم الأخ في هذا!

قال أبو علي الغساني: «سمعت أبا عمر أحمد بن محمد بن يحيى - ابن الحذاء - يقول: سمعت أبي - رحمه الله - يَقُول: أَخْبرنِي ثِقَات أهل مصر أَن أَبَا الحسن عَليّ بن عمر الدَّارَقُطْنِيّ كتب إِلَى أهل مصر من بغداد: أَن اكتبوا عَن أبي العَلَاء بن ماهان كتاب مُسلم بن الحجَّاج، وَوصف أَبَا العَلَاء بالثقة والتمييز.

وروينا عن أبي حامد بن الشرقي قال: سمعت مسلم بن الحجاج، يقول: "ما وضعت شيئاً في هذا المسند إلا بحجةٍ، وما أسقطت منه شيئاً إلا بحجة".

وروينا عن أبي حاتم مكي بن عبدان، قال: سمعت مسلم بن الحجاج يقول: "لو أن أهل الحديث يكتبون الحديث مئتي سنةٍ لكان مدارهم على هذا المسند، يعني مسند الصحاح". قال مكي: وسمعت مسلماً يقول: "عرضت كتابي هذا المسند على أبي زرعة الرازي، فكل ما أشار علي في هذا الكتاب أن له علةً وسبباً تركته، وكل ما قال: إنه صحيحٌ ليس له علةٌ، فهو هذا الذي أخرجت"» انتهى.

وقد نقل ابن خير هذا عن أبي علي في «فهرسته»، وعنده: "وَبَلغنِي عَن أبي حَاتِم مكي بن عَبْدَانِ، قَالَ: سَمِعت مُسلم بن الحجَّاج يَقُول: لَو أَن أهل الحَدِيث يَكْتُبُونَ الحَدِيث مِائَتي سنة...".

فكأن هناك نسخا من كتاب أبي علي فيها: "وبلغني" ومنها نقل ابن الصلاح، وهي كذلك فيما نقله ابن خير من كتاب أبي علي.

وقوله: "بلغني" بلاغ ضعيف، وإن كان "وروينا" فأين إسناده؟ وهل لو عنده الإسناد يزهد به، ويقول: "وروينا"؟

والحاصل أن هذه القصة لا تصح، ولا إسناد لها! ولو أنّ مسلماً عرض صحيحه على أبي زرعة لترك أحاديث من اعترض عليه إخراج حديثهم كأسباط بن نصر، وقطن بن يسير، وأحمد بن عيسى المصري!

قَالَ أَبُو الدارقطني: "وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ أَبُو زُرْعَةَ إِخْرَاجَهُ عَنْ أَسْبَاطِ بْنِ نَصْرٍ، وَعَنْ قَطَنٍ عَنْ جَعْفَرَ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَأَحْمَدَ بْنِ عِيسَى".

·       تعليل أبي زرعة لأحاديث في «صحيح مسلم»!

وكيف تكون هذه القصة صحيحة وهناك أحاديث أخرجها مسلم في «صحيحه»، وقد عللّها أبو زرعة!

منها: ما رواه مسلم في «صحيحه» (2/801) (1144) قال: وحَدَّثَنِي أَبُو كُرَيْبٍ، قال: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ - يَعْنِي: الجُعْفِيَّ -، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ ابنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا تَخْتَصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي، وَلَا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الْأَيَّامِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ».

قال ابن أبي حاتم في «علل الحديث» (2/532) (567): وسألتُ أَبِي وَأَبَا زُرْعَةَ عَنْ حديثٍ رَوَاهُ حُسَيْنٌ الجُعْفي، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ سِيرين، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ تَخُصُّوا لَيْلَةَ الجُمُعةِ بِقيام ٍ، ولاَ يَوْمَ الجُمُعةِ بِصِيامٍ»؟

فَقَالا: "هَذَا وَهَمٌ؛ إِنَّمَا هُوَ: عَنِ ابن سِيرين، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، مُرسَل، لَيْسَ فِيهِ ذكرُ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ رَوَاهُ أيُّوبٌ وهشامٌ وغيرُهما كذا مُرسَلًا".

قلتُ لَهما: الوَهَمُ مِمَّن هُوَ، مِنْ زَائِدَةَ أَوْ مِنْ حُسَيْنٍ؟

فقالا: "ما أَخْلَقَهُ أَنْ يكونَ الوَهَمُ مِنْ حُسَيْنٍ"!

- ومنها ما رواه أيضاً في «صحيحه» (2/737) (1060) قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ أَبِي عُمَرَ المَكِّيُّ، قال: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عُمَرَ بنِ سَعِيدِ بنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبَايَةَ بنِ رِفَاعَةَ، عَنْ رَافِعِ بنِ خَدِيجٍ، قَالَ: «أَعْطَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَصَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ، وَعُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ، وَالْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ، كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى عَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ دُونَ ذَلِكَ»، فَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ، وذكر شعراً.

وحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ، قال: أَخْبَرَنَا ابنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عُمَرَ بنِ سَعِيدِ بنِ مَسْرُوقٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ، فَأَعْطَى أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِهِ. وَزَادَ: وَأَعْطَى عَلْقَمَةَ بْنَ عُلَاثَةَ مِائَةً.

وحَدَّثَنَا مَخْلَدُ بنُ خَالِدٍ الشَّعِيرِيُّ، قال: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قال: حَدَّثَنِي عُمَرُ بنُ سَعِيدٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الحَدِيثِ عَلْقَمَةَ بْنَ عُلَاثَةَ، وَلَا صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ، وَلَمْ يَذْكُرِ الشِّعْرَ فِي حَدِيثِهِ.

قال ابن أبي حاتم في «علل الحديث» (3/342) (916): وسألتُ أَبَا زرعة عَنْ حديثٍ رَوَاهُ ابنُ عُيَينة، عَنْ عُمَرَ بنِ سَعِيدِ بنِ مَسْروق، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبَايَة بنِ رِفاعَة بنِ رَافِعِ بنِ خَدِيج، عَنْ رَافِعِ بنِ خَدِيج؛ قال: «أعطى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أَبَا سُفْيانَ - يَوْمَ حُنَيْن - وصَفْوانَ بنَ أُميَّة، وعُيَينةَ بنَ حِصْن، والأَقْرَعَ بن حابِس، مِئَةً مِنَ الإِبِل... الحديثَ»؟

فَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: "هَذَا خطأٌ؛ رَوَاهُ الثَّوري فَقَالَ: عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابنِ أبي نُعْم ٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدري، عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ وَهَذَا الصَّحيحُ".

قلتُ لأَبِي زُرْعَةَ: مِمَّن الوَهَمُ؟

قَالَ: "مِنْ عُمَرَ".

فالقصة التي رُويت أن مسلماً عرض «صحيحه» على أبي زرعة باطلة لا تصح!

* وأما قوله: "والظاهر أنَّ موقف أبي زرعة مع ذلك لَمْ يتغيَّر كثيرًا، فقد ظَلَّ في نفسه مِن هذا الكتاب كما سيأتي أيضًا. فإنه قد لَبَّى لمسلم طَلَبَه إكرامًا له ولِمَا وَجَدَه مِن تواضعه، ولكنه مع ذلك لَمْ تَحْمِلْهُ نفسُه على أن ينشط فيتتبَّع كل أحاديث الكتاب، وإنما كان يُعمِل نظره فيه كما أعمله أول مرة. ومِن المؤكَّد أنَّ أبا زرعة قد وقف على شيءٍ مِن تميُّز مسلم في هذا الشأن لمَّا جالسه، خصوصًا وأنَّ مذاكرة مِثل هذا الحافظ لَمْ يكن يقوم بها إلاَّ مَن كان قريبًا مِن منزلته في الحفظ والضبط. لكن يبدو أنَّ أبا زرعة كان لَمْ يَزَلْ عائبًا على مسلم تَرْكَه الرواية عن شيخه الذهلي، وقد تجلَّى ذلك في صحيحه إذ لَمْ يُخرج فيه عنه شيئًا! مع أنه لو كان رَوَى عنه في كتابه، لاستغنى بكثيرٍ مِن حديثه عن الأسانيد النازلة ولأدخل فيه كثيرًا مِن الحديث الصحيح. قال أبو قريش القهستاني: «كنا عند أبي زرعة الرازي، فجاء مسلم بن الحجاج فسلَّم عليه وجلس ساعةً وتذاكرا. فلمَّا أن قام، قلتُ له: هذا جَمَعَ أربعة آلاف حديثٍ في الصحيح. فقال أبو زرعة: "لِمَ تَرَكَ الباقي! ". وقال: "ليس لهذا عقل؟ لو دارَى محمد بن يحيى لصار رجلاً». اهـ

ولعلَّ مِن ثمرة هذه الرحلة وتلك الملاحظات التي أبداها أبو زرعة بحسب ما سمح به هذا الظرف: أنَّ مسلمًا لمَّا رجع إلى نيسابور، أَصْلَحَ كثيرًا مِن الخلل في كتابه وأعاد النظر في عددٍ مِن الأحاديث التي أخرجها، وحذف مِنه وأضاف. وكان مِمَّا نقَّحه فيه أنه أدخل فيه حديثًا سمعه مِن أبي زرعة في الدعاء، وهذا مِن رواية الأقران. قال النووي: «وهذا الحديث رواه مسلم عن أبي زرعة الرازي أحد حفاظ الإسلام وأكثرهم حفظًا، ولَمْ يَرْوِ مسلم في صحيحه عنه غير هذا الحديث، وهو مِن أقران مسلم». اهـ ومِمَّا يدلُّ على أنه لَمْ يكن في النسخة القديمة أنَّ الدارقطني في تصنيفه لرجال الصحيحين لَمْ يَذكر أبا زرعة ضمن رجال مسلم. ويَظهر مِن ثمار هذه الرحلة أيضًا أنَّ مسلمًا أصلح ما بينه وبين شيخه الذهلي فيما بعد، وجعل يختلف إلى مجلسه" انتهى.

فهذا أيضاً من نَسج الخيال! ويفتقد إلى الدليل الصحيح!

والأخ قد استند إلى القصة السالفة، وهي منكرة! فمسلم لم يعرض كتابه على أبي زرعة، والقصة التي ذكرها عن أبي قريش حجة عليه، وقد بينت فيما سبق أن مسلماً لما زار أبا زرعة وذاكره، فلما ذهب أخبره أبو قريش بأنه جمع أربعة آلاف حديث في الصحيح، فلو كان عرضه عليه، فلم يحتاج أبو قريش لإخباره بذلك؟!

ثم إن القصة التي اعتمد عليها الأقطش: "عرضتُ كتابي هذا المسند على أبي زرعة الرازي، فكل ما أشار عليَّ في هذا الكتاب أنَّ له علةً وسببًا تركتُه، وكل ما قال إنه صحيحٌ ليس له علةٌ فهو هذا الذي أَخرجتُ" = تعني أن أبا زرعة قد نظر في كلّ كتاب مسلم كما واضح من قوله، وهذا يُعارض ما قاله الأخ: "ولكنه مع ذلك لَمْ تَحْمِلْهُ نفسُه على أن ينشط فيتتبَّع كل أحاديث الكتاب، وإنما كان يُعمِل نظره فيه كما أعمله أول مرة"!!!

وأما منزلة مسلم عند أبي زرعة فقد تقدّم ذكرها.

·       دعوى أن مسلماً أصلح كثيراً من الخلل في كتابه بعد عودته من لقاء أبي زرعة! = (قَدحٌ في مُسلم)!

وقد بنى الأخ على هذا الخيال الواسع أن مسلماً رجع من رحلته ولقائه بأبي زرعة فأصلح كثيراً من الخلل وأعاد النظر في عدد من الأحاديث التي أخرجها، وحذف منه وأضاف!

فإذا كان مسلم لم يُخبر أبا زرعة عن كتابه لما جلس معه ساعة وذاكره، فأخبره بذلك أبو قريش، فكيف عرض مسلم كتابه عليه، وأخذ بتلك الملاحظات التي أبداها له بحسب زعم الأقطش؟!

ثم إن قوله: "فأصلح كثيراً من الخلل" فيه قدح شديد بمسلم! = وهذا يعني أنه لما أخرج كتابه للناس كان فيه الكثير من الخلل! فأين هذا الخلل الكثير؟! وما هي الأحاديث التي حذفها؟ فالله المستعان.

·       تخريج مسلم لحديث واحد في «صحيحه» عن أبي زُرعة! وهل هذا الحديث لم يكن في نسخة مسلم القديمة!

واستدل الأخ الأقطش على أن مسلماً نقّح بعض ما في كتابه من خلال جلوسه مع أبي زرعة بإدخاله فيه حديثاً سمعه من أبي زرعة في الدعاء = يعني أن هذا الحديث لم يكن في أصل كتاب مسلم القديم، واستدل بذلك على أنَّ الدارقطني في تصنيفه لرجال الصحيحين لَمْ يَذكر أبا زرعة ضمن رجال مسلم! = يعني لو كان في النسخة القديمة لذكر الدارقطني "أبا زرعة" في رجال الصحيحين، فلما لم يذكره دلّ ذلك على أن هذا الحديث عن أبي زرعة لم يكن في نسخة مسلم القديمة، وإنما أدخله مسلم بعد جلوسه مع أبي زرعة!!

وإثبات ذلك دونه خرط القَتاد!

والأخ يحتاج لأن يثبت لنا أولاً متى كان لقاء مسلم بأبي زرعة، وهل كان بعد أن حدّث بصحيحه أم لا؟!

نعم، لم يذكر الدارقطني أبا زرعة في «رجال مسلم»، وحديثه عنه في «صحيحه»، لكن هل هذا الحديث لم يكن في النسخة القديمة لمسلم؟

إن عدم ذكر الدارقطني له في «رجال مسلم» ليس بدليل على أنه لم يكن في أصل مسلم! وغاية ما في الأمر أن الدارقطني فاته ذكره في كتابه!

·       قد يفوت الدارقطني ذكر بعض رجال الصحيحين في كتابه!

فقد أخرج مسلم في «صحيحه» لعَبداللَّهِ بن جَعْفَر بن يَحْيَى بن خَالِد بن برمك البرمكي البَصْرِيّ أربعة أحاديث عن معن بن عيسى عن مالك، ولم يذكره الدارقطني في «رجال مسلم» مع أنه من شيوخ مسلم المشهورين! فهل أحاديثه هذه لم تكن في نسخة مسلم العتيقة ثم أدخلها بعد؟! أم أن الدارقطني غفل عنه؟!

ثم إن حديث أبي زرعة الذي أخرجه مسلم له في «صحيحه» موجود في نسخة ابن خير الإشبيلي لصحيح مسلم، والأخ الأقطش مَالَ إلى أن الدارقطني كانت عنده هذه النسخة من رواية ابن ماهان، فكيف تكون عنده ولا يذكره في «رجال مسلم»!

وكذلك أحاديث شيخه عبدالله بن جعفر البرمكي موجودة أيضاً في نسخة ابن خير لصحيح مسلم!

فالأمر لا يتعلق بأن مسلماً أدخل حديث أبي زرعة بعد أن لقيه! وإنما هو في كتابه من قديم، وقد غفل الدارقطني عن ذكره في «رجال مسلم» كما غفل عن غيره! والله أعلم.

·       دعوى أن مسلماً أصلح ما بينه وبين الذهلي من نَسج الخيال!

* وأما قوله: "ويَظهر مِن ثمار هذه الرحلة أيضًا أنَّ مسلمًا أصلح ما بينه وبين شيخه الذهلي فيما بعد، وجعل يختلف إلى مجلسه"

فقول غريب عجيب!!

فمن أين استظهر الأخ هذا؟!

ونحن ننازعه أن زيارة مسلم لأبي زرعة كانت بعد موت الذهلي؛ لأن أبا قريش ذكر له الصحيح بعد أن ذاكره مسلم وغادره، وقال بأنه لو دارى الذهلي لكان رجلاً.

وعلى فرض أن هذه الزيارة كانت في حياة الذهلي، فمن أين له أنه أصلح ما بينهما؟ بل ورجع يختلف إلى مجلسه؟!

لو حصل ذلك لأدخل مسلم بعض حديثه في «صحيحه» تطييباً له على الأقل! لكنه لم يحصل.

ثمّ إن الذهلي كان شديداً في مسألة اللفظ التي حدثت بسببها الفتنة مع البخاري، ووقف مسلم معه، فكيف يرجع له مسلم ولم يأتنا شيء في أنه تراجع عن نصرته للبخاري أو نحو ذلك حتى يقبله الذهلي؟!!

 

6- قال صاحب المقالة: "ومما أفادني به الشيخ أحمد الأقطش أن صحيح البخاري لم يدخل إلى نيسابور في حياة الإمام مسلم (ت261)، ومما يدل على ذلك قول الحافظ أبو علي النيسابوري (ت349): «ما تحت أديم السماء أَصَحُّ مِن كتاب مسلم بن الحجاج في علم الحديث». قال الذهبي: «لَعَلَّ أبا علي ما وَصَلَ إليه صحيح البخاري». وهو كما قال.

وأزيد: ولو كان البخاري قد كتب صحيحه قبل زيارته لنيسابور لتزاحم عليه المحدثون بتلك المدينة العظيمة ولرووا عنه الصحيح. لكن هذا لم يحصل أبدا، وإنما حدّث بالصحيح في قرية صغيرة نائية لا يُسمع بها. لما البخاري توجه لمدينة نيسابور استقبله أربعة آلاف رجل ركبانًا على الخيل (عدا عن المشاة) مع الولاة والعلماء قبل المدينة ب100 كم من شدة احتفالهم به. فلو كان قد عرفوا أن عنده كتاب الجامع الصحيح لتقاطر هؤلاء الآلاف المؤلفة على سماع ذلك الكتاب منه ولسار ذكره في الشرق والغرب. وأما عن فتنة اللفظ فلم تحدث إلا بعد سنتين من هذا. وخلال تلك السنتين لم يسمع أحد بهذا الكتاب قط. الأمر واضح".

قلت:

أولاً: طالما أن الأخ أحمد الأقطش قد أفادك هذا، وهو موجود في كلامه حول هذا الموضوع، فهل يُعقل أن توافقه في كل شيء، وهو قد سبقك في مقالته! ثم تشير له هنا فقط في هذا الموضع؟!

قال أحمد الأقطش: "ونظرًا لتأخُّرِ إخراجِ البخاريِّ صحيحَه للناس إلى ما قبل وفاته، كان صحيحُ مسلم في ذلك الوقت قد انتشر في نيسابور ونواحيها وسارت به الركبان. وأمَّا صحيح البخاري فأوَّل مَن رواه خارج فربر هو ابن السكن، فقد حدَّث به في مصر سنة 343 هـ. ثم حدَّث به أبو زيد المروزي في مكة سنة 353 هـ، وفي بغداد 359 هـ. وهذا يؤكد على أنَّ أبا علي الحافظ النيسابوري لَمْ يَصِلْهُ صحيح البخاري فإنه توفي سنة 349 هـ، ورواية ابن السكن إنما وقعت للمغاربة. قال أبو علي الحافظ: «ما تحت أديم السماء أَصَحُّ مِن كتاب مسلم بن الحجاج في علم الحديث». اهـ قال الذهبي: «لَعَلَّ أبا علي ما وَصَلَ إليه صحيح البخاري». اهـ وهو كما قال. والله الموفق.

فائدة:

قال أبو عبدالله الحاكم في ترجمة ابن رميح النسوي: «انصرف إلى خراسان وقد شاخ، وذلك في سنة خمسين وثلاثمائة [350 هـ]. فعقدتُ له المجلس في مسجد يحيى بن صبيح، وقرأتُ عليه الجامع الصحيح للبخاري، وحضر الناس. فأقام بنيسابور ثلاث سنين». اهـ قلتُ: فيُعلم مِن هذا أنَّ صحيح البخاري دَخَلَ نيسابور بعد وفاة أبي علي الحافظ بسنةٍ واحدة. والله أعلم" انتهى.

·       تناقضات وخيالات!

ثانياً: قلت: الأخ الأقطش يتحدث عن تأخر البخاري في إخراجِ صحيحَه للناس إلى ما قبل وفاته = وهذا يعني ضمنياً أنه كان قد أنهى صحيحه، لكن لم يخرجه إلا ما قبل وفاته، وهذا يتناقض مع العنوان الذي وضعه لهذا المقال: "أوَّل مَن صنَّف الصحيح هو مسلم"! وإلا فما فائدة التحدث عن تأخير التحديث! والكلام عمّن صنّف الصحيح أولاً!

ثالثاً: لا يوجد دليل على أن صحيحُ مسلم في ذلك الوقت كان قد انتشر في نيسابور ونواحيها وسارت به الركبان! ومدعي ذلك معه إلى يوم القيامة ليأتنا بالدليل على ذلك!

والمشهور ما قاله إِبْرَاهِيم بن سفيان راوي الصحيح عنه: "فرغ لنا مُسلم من قِرَاءَة الكتاب لعشر خلون من رَمَضَان من العَام المَذْكُور – يعني سنة (257هـ)".

فلو كان مسلم انتهى من «صحيحه» سنة (242هـ) وانتشر فلم لم يصل البخاري الذي عاش بعد انتهاء الكتاب بأربعة عشر عاماً!

وأين روايات أهل نيسابور له؟ بل أين رواية غيرهم له؟

يقول ابن الصلاح في «صيانة صحيح مسلم» (ص: 106): "هَذَا الكتاب مَعَ شهرته التَّامَّة صَارَت رِوَايَته بِإِسْنَاد مُتَّصِل بِمُسلم مَقْصُورَة على أبي إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن سُفْيَان غير أَنه يرْوى فِي بِلَاد المغرب مَعَ ذَلِك عَن أبي مُحَمَّد أَحْمد بن عَليّ القلانسي عَن مُسلم".

وهذا الإسناد يرويه عَبْدُالغَافِرِ بن مُحَمَّدٍ الفَارسي: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ عِيْسَى الجُلُودِي سَنَة خَمْسٍ وَسِتِّيْنَ وَثَلاَثِ مائَةٍ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيْمُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ سُفْيَان: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بنُ الحَجَّاجِ.

وعليه نقول للأخ الأقطش والسارق (اللاأمين) كما قيل عن "صحيح البخاري": ظهر صحيح مسلم سنة (365هـ) = يعني بعد وفاة أبي علي النيسابوري صاحب المقالة المتقدمة التي احتجوا بها على أن مسلماً أول من صنّف الصحيح! والفائدة التي ذُكرت أن صحيح البخاري دخل نيسابور أول مرة سنة (350هـ)، فهل هذا يعني أن صحيح البخاري قُرئ في نيسابور قبل صحيح مسلم؟!

فالتحديث شيء، والانتهاء من التصنيف شيء آخر.

·       قول أبي علي الحافظ: «ما تحت أديم السماء أَصَحُّ مِن كتاب مسلم بن الحجاج في علم الحديث»!

فهل يُعقل أن يتحدث "أبو علي النيسابوري الحافظ" على كتاب مسلم ولا يوجد عنده إسناد له؟! بل هل يعقل أنه لم يطلع على صحيح البخاري وهو من هو في الحفظ والمعرفة! ومن قرأ ترجمته عرف أنه لم يترك بلداً إلا دخله، وأخذ من الكبار، وجمع وصنّف وأملى.

بل إن الأخ الأقطش جمع أقواله في «التاريخ والعلل» في بحث خاص، وترجم له!

وهل قوله إلا مقارنة بين صحيح مسلم وغيره = وهذا يعني أنه اطلع على صحيح البخاري، لكنه يُقدّم عليه كتاب بلديه.

وقد دفع أهل العلم عبارة أبي عليٍ الحافظ هذه!

فقال ابن حجر في "مقدمة الفتح": "روينَا بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيح عَن أبي عبدالرَّحْمَن النَّسَائِيّ وَهُوَ شيخ أبي علي النَّيْسَابُورِي أَنه قَالَ: مَا فِي هَذِه الكتب كلهَا أَجود من كتاب مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل. وَالنَّسَائِيّ لَا يَعْنِي بالجودة إلا جودة الْأَسَانِيد كَمَا هُوَ المُتَبَادر إِلَى الفَهم من اصْطِلَاح أهل الحَدِيث، وَمثل هَذَا من مثل النَّسَائِيّ غَايَة فِي الوَصْف مَعَ شدَّة تحريه وتوقيه وتثبته فِي نقد الرِّجَال وتقدمه فِي ذَلِك على أهل عصره حَتَّى قدّمه قوم من الحذاق فِي معرفَة ذَلِك على مُسلم بن الحجَّاج، وَقدمه الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره فِي ذَلِك وَغَيره على إِمَام الْأَئِمَّة أبي بكر بن خُزَيْمَة صَاحب الصَّحِيح".

قلت: وَقَالَ إِمَام الْأَئِمَّة أَبُو بكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة وهو شيخ أبي عليٍ النيسابوري أيضاً: "مَا تَحت أَدِيم السَّمَاء أعلم بِالحَدِيثِ من مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل".

فهل يُعقل أن أبا علي لم يعرف كتاب البخاري وقد لازم النسائي، وابن خزيمة!

قال أبو علي الحافظ: "استأذنت أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة في الخروج إلى العراق سنة ثلاث وثلاثمائة، فقال: توحشنا مفارقتك يا أبا علي، وقد رحلت وأدركت الأسانيد العالية، وتقدمت في حفظ الحديث، ولنا فيك فائدة وأُنس، فلو أقمت فما زلت به حتى أذن لي فخرجت إلى الري، وبها علي بن الحسن بن سلم الأصبهاني، وكان من أحفظ مشايخنا وأثبتهم وأكثرهم فائدة، فأفادني عن إبراهيم بن يوسف الهسنجاني وغيره من مشايخ الري ما لم أكن اهتدي أنا إليه".

وقال الحاكم: سمعت أبا علي يقول: "قال لي أبو بكر محمد بن إسحاق، يا أبا علي لقد أصبت في خروجك إلى العراق والحجاز، فإن الزيادة على حفظك وفهمك ظاهرة، ثم إن أبا علي أقام بنيسابور إلى سنة عشر وثلاثمائة يُصنِّف ويجمع الشيوخ، وله أبواب وَجَوّدها، ثم حملها إلى بغداد سنة عشر - ومعه أبو عمرو الصغير - فأقام ببغداد وليس بها أحفظ منه إلا أن يكون أبو بكر ابن الجَعابي فإني سمعت أبا علي يقول: ما رأيت من البغداديين أحفظ منه ".

قلت: بقي أبو علي في نيسابور إلى سنة (310هـ)، ثم غادرها في الرحلة، ثم رجع إليها سنة (337هـ) وعقد له مجلس الإملاء في تلك السنة وهو ابن ستين سنة.

فهو قد ترك نيسابور (27) سنة، فيُحتمل أن «صحيح البخاري» دخل نيسابور خلال هذه السنوات التي غابها عن بلده.

فمثل أبي علي الحافظ يستحيل أن يفوته «صحيح البخاري»، وكتب السنة الأخرى، وهو - رحمه الله - اعتنى بالحفظ والعلل دون تسميع الكتب المسندة، ولهذا لا نجد له إسناداً إلى أي كتاب من كتب المسانيد والصحاح والسنن وغيرها.

وهذه قصة حصلت معه لحديث في «صحيح مسلم» قد غاب عنه.

قَالَ الحَاكِمُ: حَضَرْنَا مَجْلِس الشيخ أبي بكر بن إسحاق الصِّبْغِي، وأبو عبدالله محمد بن يعقوب الأَخْرَم وَأَبُو عَلِيٍّ الحَافِظان حَاضران،، فَأَملَى علينا الشيخ أبو بكرٍ: عَنْ إِبْرَاهِيْمَ بنِ يوسفَ الهِسِنْجَانِي، عَنْ أَبِي الطَّاهِر، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُوْنُس، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: «منَ أَدركَ مِنَ الصَّلاَة رَكْعَةً فَقَدْ أَدْرَكَهَا كلها».

فَقَالَ أبو عَبدالله: يَا أَبَا عليّ، مَنْ قَالَ عن يُونسَ: «فقد أَدركهَا كُلَّهَا»؟

فقَالَ أبو عليٍّ: هَذَا لاَ نَحْفَظُه إِلاَّ مِنْ حَدِيْثِ عُبَيْداللهِ بن عُمَرَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ.

فقَالَ أَبُو عَبْدِاللهِ: بَلَى، فِي حَدِيْث حَرْمَلَة، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ، يُوْنُس، «فقد أَدركهَا كُلَّهَا».

فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: حدَّثنَاهُ ابنُ قُتَيْبَةَ، عَنْ حَرْمَلَة، وَلَمْ يقل فيه: «كُلّهَا».

فقَالَ أَبُو عَبْدِاللهِ: حَدَّثَ بِهِ مُسْلِمٌ بنُ الحجّاجِ عَنْ حَرْمَلَة، وقال فيه: «كُلّهَا».

وَجرَى بينهُمَا كَلاَم كَثِيْر، وقام أبو عبدالله - وكان أبو علي يهابه هيبة الولد لأبيه -، فلما كان المَجْلِس الثَّانِي عند الشيخ حضرا جميعاً، وقعد أبو عبدالله عن يمينه، وأبو علي عن يساره، فأخرج أَبُو عَبْدِاللهِ كِتَاب مُسْلِمبن الحجاج بِخَط مُسْلِم عَنْ حَرْمَلَة، وَفِيْهِ «كُلَّهَا».

فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: مَنْ لاَ يحفظُ الشَّيْء؛ فإنّه يُعذر.

فَقَالَ أَبُو عَبْدِاللهِ: مَنْ يُنكر مثل هَذَا تُعركُ أُذُنُه، وَتُفَكُّ أَسنَانُه.

فَامتلأَ أَبُو عَلِيٍّ من ذلك غَيْظاً، وَهمَّ أَبُو عَبْدِاللهِ بِالقِيَام، فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: اقعدْ فَإِنَّ بيننا حِسَاباً آخر.

قَالَ: وَمَا هُوَ؟

قَالَ: حدَّثتَ عَنْ كشمرد، عَنْ حَفْص، عَنْ إِبْرَاهِيْمَ بنِ طَهْمَان بِحَدِيثَيْن قَدْ تَفَرَّد بِهِمَا أحمد بن حَفْص عن أبيه!

فقَالَ أبو عبدالله: لَمْ أُحَدِّثْ!

قَالَ: بَلَى، أبو القاسم وأبو حفص ابنا عمر ثِقَتَانِ، وقد سَمِعَاهُ مِنْكَ!

فقَالَ أبو عبدالله: إِنْ كُنْتُ حَدَّثْتُ بِهِ فَقَدْ رجعتُ عَنْهُ.

فقال: لك غير هذا؟

قال: مثل ما هذا؟

قَالَ: حدّثت فِي تخريجك القَدِيْم عَلَى كتَاب مُسْلِم: عَنْ أَحْمَدَ بنِ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ المُثَنَّى، عَنْ مُحَمَّد جَهْضَم، عن إسماعيل بن جعفر، عن خبيب بن عبدالرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا قال المؤذن: الله أكبر، الله أكبر»، والآن فقد حدثت به عن علي بن الحسن، عن محمد بن جَهْضَم!

فقَالَ أبو عبدالله: كِلاَهُمَا عِنْدِي، وَقَدْ حَدَّثْتُ بِهِمَا، وهذا حديثي، إن شئت حديث بالنزول، وإن شئت حديث بالعلو؟

فقَالَ أبو عليٍّ: لا ترتق من النزول إلى العلو، وأنت تحفظ حديثك، أَخْرجَ إِلَيْنَا حديثَكَ عَنْ عَلِيِّ بنِ الحَسَن؟

فقال أبو عبدالله: كلّ من جاءني هذه الساعة، فإني أخرج إليه حديث علي بن الحسن.

ثم تفرقنا.

قَالَ الحَاكِمُ: وصحبت أبا عبدالله بن يعقوب - يعني: بنَ الأَخْرَم -  فسمعته غير مرة في الطريق يَقُوْلُ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ لَمْ يمُتْ مَعَ أَقْرَانه، وَكُنْتُ أَرَى أَبَا عليّ بَعْد ذلك نَادماً عَلَى مَا قَالَ ذَلِكَ اليَوْم". [تاريخ دمشق: (14/278)].

رابعاً: قول أبي علي: "في علم الحديث" يُبيّن لنا أنه ربما أراد تفضيله من ناحية ما فيه من علم صناعة الحديث، وهذا ما فضّل به بعض أهل العلم وعلماء المغرب صحيح مسلم على صحيح البخاري، والله أعلم.

·       القول لابن عبدالهادي!

خامساً: ما نُقل عن الإمام الذهبي بعد نقله لكلام أبي علي الحافظ: "قلت: لعل أبا علي ما وصل إليه صحيح البخاري"، والذي جزم به الأخ الأقطش موجود في كتاب الذهبي «تذكرة الحفاظ» (2/126)، ولم يقله الذهبي عندما نقل كلام أبي علي في «تاريخه»، وفي «السير».

وهذا القول إنما قاله ابن عبدالهادي في «طبقات علماء الحديث» (2/288)، فإنه قال: "وقال الحافظ أبو علي النَّيسابوري: ما تحتَ أديم السّماء كتاب أصح من كتاب مسلم. فلعلَّ أبا عليٍّ ما وصلَ إليه صحيحُ البخاري".

والذهبي اعتمد كثيراً في «تذكرة الحفاظ» على «طبقات ابن عبدالهادي»، وكان الذهبي يستفيد منه.

وقد ترجم له في «التذكرة» وختم كتابه به، فقال: "وسمعت من الإمام الأوحد الحافظ ذي الفنون شمس الدين محمد بن أحمد بن عبدالهادي، ولد سنة خمس أو ست وسبع مائة... واعتنى بالرجال، والعلل، وبرع وجمع، وتصدى للإفادة والاشتغال في القراءات والحديث والفقه والأصول والنحو، وله توسع في العلوم وذهن سيال، توفي في شهر جمادى الأولى سنة أربع وأربعين وسبع مائة".

وقال الحسيني في «ذيل تذكرة الحفاظ»: "ومات يوم الأربعاء عاشر جمادى الأولى سنة أربع وأربعين وسبعمائة، ودفن بقاسيون وتأسف الناس عليه، وسمعت شيخنا الذهبي يقول يومئذ وهو يبكي: ما اجتمعت به قد إلا واستفدت منه - رحمه الله تعالى -".

·       لا يُجزم بالظنّ!

وهذا القول سواءا أكان من الذهبي أم من ابن عبدالهادي فهو ظنّ، فلا أدري كيف يجزم به الأخ الأقطش! ويتبعه عليه السارق (اللا أمين)!

·       انتشار «صحيح البخاري» في الآفاق قبل ظهور «صحيح مسلم»!

سادساً: إذا كان الجُلودي قد حدث بصحيح مسلم سنة (365هـ) فأين دعوى انتشاره في نيسابور ونواحيها وأنه سارت به الركبان؟!

فلو تتبعت كل كتب التواريخ وغيرها ممن لهم عناية في ذكر أسانيد كتب السنة وخاصة الصحيحين فلا تجد لصحيح مسلم إلا هذا الإسناد الذي يقول فيه إبراهيم بن سفيان أن مسلماً حدث بصحيحه سنة (257هـ) = يعني بعد موت البخاري، وكان البخاري قد حدث بكتابه، ورواه عنه جماعة، وهو محط عناية كل من صنّف في تواريخ البلدان.

وكون صحيح البخاري انتشر عمن رواه عن الفربري كابن السكن في سنة 343هـ، وعن أبي زيد المروزي في مكة سنة 353هـ، وفي بغداد 359هـ لا يعني أنه لم ينتشر قبل هذه السنوات!

فقد سبق أن ذكرنا ما قاله صاحب «القند في ذكر علماء سمرقند» في ترجمة: "خلف بن شاهد بن الحسن بن هاشم النسفيّ" قال: "روى عن البخاري الجامع، وسمع منه أهل سمرقند الجامع، وكان على عمل البريد بها في سنة اثنتين وثلاثمائة. مات في رجب سنة ثمان وثلاثمائة".

فهذا خلف بن شاهد حدث بصحيح البخاري عنه في سمرقند سنة (302هـ).

وذكر أيضاً في ترجمة "أبي القاسم عبيدالله بن عبدالله بن محمد بن إسحاق التاجر السّرخسيّ" - وكان يسكن بخارى - إنه دخل نسف سنة (327هـ) لسماع جامع البخاري عن الدهقان أبي طلحة منصور بن محمد بن علي البزدي وهو آخر من روى الجامع عن البخاري.

فكون «صحيح البخاري» قد انتشر بتلك الروايات عن الفربري لا يعني أنه لم ينتشر عن غيره قبل ذلك بعشرات السنوات، بل عن الفربري نفسه، فهو مشتهر، لكن اعتنى أهل العلم وطلبته بهذه الروايات ورحلوا في تحصيلها.

سابعاً: ما زاده (اللا أمين) يدلّ على غبائه وجهله! فالبخاري كان يصنّف كتبه في رحلاته، ولا ندري هل كان قد أنهى كتابه لما دخل نيسابور آخر مرة!

فعدم التحديث به هناك لا يعني أنه لم يكن قد انتهى منه.

وأما مسألة التزاحم عليه فقد فعلوا للسماع منه، والاستفادة من علمه، وليس بالضرورة أن يخبرهم بكتابه «الجامع» الذي بدأ به قبل وفاة شيخه ابن راهويه، والفكرة إنما جاءت في بعض مجالس ابن راهويه.

·       جهلٌ وغباءٌ!

وأما إنما حدّث بالصحيح في قرية صغيرة نائية لا يُسمع بها فهذا من جهلك! ففربر مدينة وليست نائية، وقد تكلمت عليها فيما سبق، وقد رُوي عن محمد بن يوسف الفربري راوي الصحيح بإسناد صحيح أنه كان يقول: "سمع كتاب الصحيح لمحمد بن إسماعيل تسعون ألف رجل فما بقي أحد يروي عنه غيري".

 

7- قال صاحب المقالة: "اعتراضات:

*بالنسبة للبخاري: قال أبو نصر الكلاباذي: كان سماع الفربري بهذا الكتاب من البخاري مرتين بفربر في سنة 248، ومرة ببخارى. وجاء في إسناد أبو محمد عبدالله بن أحمد بن حمويه السرخسي لصحيح البخاري وسماع الفربري لهذا الكتاب من البخاري مرتين: مرة بفربر في سنة 248، ومرة ببخارى سنة 252.

الجواب: الكلاباذي (ت 398 هـ) أخطأ بهذا الزعم وتابعه البعض عليه. وكلامه مردود. والصحيح ما قاله الفربري نفسه: حدثنا البخاري سنة 253، كذا رواه عنه أربعة من تلاميذه: أبو زيد المروزي، ابن السكن، الكشاني، أبو أحمد الجرجاني.

فروايتهم مقدمة على مرسل الكلاباذي. خاصة أن البخاري كان في بغداد سنة 248 ثم دخل نيسابور من 250 إلى 252".

·       النقد يتوجه لرواية ابن حمويه لا للكلاباذي!

قلت:

قد بيّنت فيما سبق أن الكلاباذي إنما أتى بهذا من رواية ابن حمويه، والعجب من هذا الجاهل كيف ذكر ما جاء في رواية ابن حمويه التي أخذ منها الكلاباذي ذلك، ورد كلامه دون الكلام على رواية ابن حمويه! فالنقد متوجه لما جاء في الرواية لا للكلاباذي.

وكلام هذا (اللا أمين) مسروق مما ذكره الأقطش، فإنه قال:

"ومكث البخاري يحدِّث بصحيحه في فربر حتى سنة 255 هـ. فقد روى غنجار في تاريخ بخارى، عن الكشاني، عن محمد بن يوسف الفربري أنه قال: «سمعتُ الجامع الصحيح مِن أبي عبدالله محمد بن إسماعيل بفربر في ثلاث سنين: في سنة ثلاث وخمسين، وأربع وخمسين، وخمس وخمسين ومائتين». اهـ وقد أثبت أبو زيد المروزي تاريخ هذا السماع الأول، فقال في سند روايته للصحيح: «نا أبو عبدالله محمد بن يوسف بن مطر بن صالح بن بشر الفربري بفربر في ذي القعدة سنة ثماني عشرة وثلاثمائة قال: نا أبو عبدالله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الجعفي البخاري رحمه الله سنة ثلاث وخمسين ومائتين». اهـ فهذا هو المعتمد في تاريخ سماع الفربري لصحيح البخاري. وأمَّا ما ذكره الكلاباذي بقوله: «وكان سماعُه محمدَ بن إسماعيل مرتين: مرة بفربر سنة 248 ومرة ببخارى في سنة 252». اهـ فينقضه أنَّ البخاري في سنة 248 هـ كان قادمًا مِن العراق إلى الري، ثم مِن الري إلى نيسابور سنة 250 هـ وأقام بها بضع سنين. فمِن أين له أن يأتي فربر في ذلك الوقت؟ فما رواه الكشاني عن الفربري هو الأَوْلَى والأجدر بالقبول".

 

8- قال صاحب المقالة: "*مقولة أبو أحمد الحاكم.

قالَ أَبُو أَحْمد الحَاكِم في الكنى: وَمن تَأمل كتاب مُسلم في الْأَسْمَاء والكنى علم أَنه مَنْقُول من كتاب مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل حَذْو القذة بالقذة حَتَّى لَا يزِيد عَلَيْهِ فِيهِ إِلَّا مَا يسهل عده وتجلد في نَقله حق الجلادة إِذْ لم ينْسبهُ إِلَى قَائِله. وكتاب محمد بْن إِسْمَاعِيل فِي التاريخ كتابٌ لم يُسْبَق إِلَيْهِ. وَمن ألف بعده شَيْئا من التَّارِيخ منهم من نَسَبَه إلى نفسه مثل أَبِي زُرْعَة، وأبي حاتم، ومُسلْمِ. ومنهُمُ من حكاه عَنْهُ. فاللَّه يرحمه، فإنّه الّذي أصّل الأصُول.

الجواب: من الواضح أن كلام الحاكم هو مقارنة كتاب التاريخ للبخاري مع كتاب مسلم في الأسماء والكنى، وليس مقارنة بين الصحيحين. وسأوضح أكثر أن ما فعله مسلم أيضا ليس فيه ما يعيبه.

وقد قال أبو أحمد الحاكم مقولة مشابهة: "كنت بالري وهم يقرؤن على ابن أبي حاتم كتاب الجرح والتعديل، فقلت لابن عدويه الوراق هذه ضحكة أراكم تقرؤن كتاب التاريخ للبخاري على شيخكم على الوجه الذي نسبتموه إلى أبي زرعة وأبي حاتم.

فقال يا أبا أحمد. إن أبا زرعة وأبا حاتم لما حمل إليهما تاريخ البخاري. قالا: هذا علم لا يستغنى عنه. ولا يحسن بنا أن نذكره عن غيرنا. فاقعدا عبدالرحمن يسألهما عن رجل بعد رجل وزادا فيه ونقصا.

أقول: كون ابن أبي حاتم ومسلم وابن حبان وغيرهم قد استفادوا من تاريخ البخاري، لا يعني أن نسمي هذا سرقة. لأنه في مسألة رجال الحديث أنت مضطر للنقل والتقليد. خاصة أن هؤلاء لم ينقلوا حرفيا بل رتبوا وحذفوا وأضافوا.

وقال أبو أحمد مُحَمَّد ابْن مُحَمَّد بن إِسْحَاق الْكَرَابِيسِي: رحم الله الإمام محمد بن إسماعيل، فإنه الذي ألف الأصول، وبين للناس، وكل من عمل بعده فإنما أخذ من كتابه: كمسلم بن الحجاج، فرق كتابه في كتبه، وتجلد فيه حق الجلادة، حيث لم ينسبه إلى قائله، ولعل من ينظر في تصانيفه لا يقع فيها ما يزيد إلا ما يسهل على من يعده عدا، ومنهم من أخذ كتابه فنقله بعينه إلى نفسه، كأبي زرعة، وأبي حاتم، فإن عاند الحق معاند فيما ذكرت فليس يخفي صورة ذلك على ذوي الألباب.

وهذه نفس المقالة بتغيير بعض الألفاظ. انظر الإرشاد للخليلي 3|962. لا دخل لهذه المقولة بالصحيح رغم ما فيها من مبالغة ظاهرة.

وقال الخطيب: ومن العَجَبِ: أن ابن أبي حاتمٍ أغار على كتابِ البخاريِّ، ونقلَهُ إلى كتابِهِ في الجَرْح والتعديل، وعمَدَ إلى ما تضمَّن من الأسماءِ، فسأل عنها أباه وأبا زُرْعة، ودوَّن عنهما الجوابَ في ذلك، ثم جمَعَ الأوهامَ المأخوذَةَ على البخاريِّ، وذكَرَهَا مِنْ غيرِ أن يقدِّم ما يُقِيمُ به العُذْرَ لنفسِهِ عند العلماء؛ في أنَّ قَصْدَهُ بتدوينِ تلك الأوهامِ بيانُ الصوابِ لمن وقَعَتْ إليه، دون الانتقاصِ والعَيْبِ لمن حُفِظَتْ عليه!

المقصود أن الواضح هو أن الكلام عن كتاب التاريخ للبخاري وليس صحيح البخاري. وأظن هذا كاف لنسف تلك الشبهة تماما".

·       غباء منقطع النظير!

قلت:

سبحان الله! ما هذا الغباء! نعم كلام من نقلت عن تاريخ البخاري لا الصحيح، فما دخل هذا في مسألة "أول من صنّف الصحيح"؟!

 

9- قال صاحب المقالة: "*قيل أن الدارقطني قال: لولا البخاري لما جاء مسلم ولا راح. وقيل أنه قال "إنما أخذ مسلم كتاب البخاري، فعمل فيه مستخرجا وزاد فيه أحاديث".

الجواب أين نجد كلام الدارقطني هذا؟ لم أجده في أي من كتبه (ولم يجدها أحد من المحققين كذلك). وإنما وجدت مقولته الأولى مبتورة في تاريخ بغداد دون معرفة سياقها. ويبدو أن كلامه عن كتاب الكنى المأخوذ عن تاريخ البخاري لا عن كتاب الصحيح".

·       قول الدارقطني: «لولا البخاري لما ذهب مسلم ولا جاء» مُسنَدٌ وصحيحٌ!

قلت:

وهذا يدلّ على جهلك وغبائك!

أولاً: كلام الدارقطني ليس بالضرورة أن يكون في كتبه، فكم من قول للأئمة روي عنهم وليست في كتبهم، فمثل هذه الأقوال تذكر في المجالس لا في الكتب.

ثانياً: المقولة مسندة في كتاب الخطيب وليست مبتورة كما ادعى هذا (اللا أمين)! وهذا يدل على أنه يقرأ دون فهم ووعي!

قال الخطيب في «تاريخه» (15/121): "قلت: إنما قفا مسلم طريق البخاري ونظر في علمه، وحذا حذوه، ولما ورد البخاري نيسابور في آخر أمره لازمه مسلم، وأدام الاختلاف إليه.

وقد حَدَّثَنِي عبيدالله بن أحمد بن عثمان الصيرفي، قَالَ: سمعت أبا الحسن الدارقطني، يقول: لولا البخاري لما ذهب مسلم ولا جاء".

فهذه مقولة الدارقطني أسندها الخطيب عنه، فقد سمعها من شيخه عبيدالله الصيرفي عن الدارقطني، وهو يروي بعض أقوال الدارقطني في كتابه عنه.

ولما أوردها ابن الجوزي في «المنتظم» (12/117) قال: أخبرنا عبدالرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أَحْمَد بن علي الحَافِظ الخطيب قَالَ: حدثني عبيداللَّهِ بن أَحْمَد الصيرفي قَالَ: سمعت الدارقطني يقول: "لولا البخاري ما ذهب مسلم ولا جاء".

ثالثاً: المقولة الثانية نقلها بعض أهل العلم كابن حجر وغيره عن الدارقطني، ولا بد أن يكون لهم مستند في ذلك، والله أعلم.

 

10- قال صاحب المقالة: "ودعوى أن صحيح مسلم مسروق من صحيح البخاري، أحسب أن هذا باطل لكل من اطلع على الصحيحين. فلو قارنت بابا واحدا بين الكتابين المنسوبين إلى الإمامين البخاري ومسلم لتبين لك أن هذا الكتاب غير هذا وأن أسلوب المؤلف في الأول يختلف عنه في الثاني...

ولذلك فإن دعوى أن مسلم أخذ كتاب البخاري ونسبه إلى نفسه دعوى باطلة. كل واحد له شيوخ وأسانيد غير الآخر. والبخاري له رجال يروي عنهم ويتجنبهم مسلم (مثل عكرمة) والعكس صحيح، هناك رجال عند مسلم يتجنبهم البخاري. وهناك أحاديث يصححها مسلم مثل حديث التربة بينما البخاري يراه عن كعب الأحبار (أي من الإسرائيليات). فدعوى السرقة دعوى سخيفة".

·       دعوى فارغة من بنات أفكاره الغبية!

قلت:

لم يتهم أحد الإمام مسلم بأنه سرق كتاب البخاري! ولو صح القول السابق عن الدارقطني إنه عمل مستخرجا عليه وزاد فيه أحاديث، فهذه لا يسمى سرقة!

و(اللا أمين) بهذا يريد إثبات أن مسلماً أنهى كتابه قبل البخاري فكيف يسرقه منه! وهذا الإثبات دونه خرط القتاد!

 

11- قال صاحب المقالة: "*وماذا عن عرض البخاري كتابه على أئمة الحديث بالعراق؟

قال مسلمة في "الصلة": «سمعت بعض أصحابنا يقول: سمعت العقيلي يقول: لما ألّفَ البخاري كتابه "الصحيح"، عرضه على ابن المديني 234هـ ويحيى بن معين 233هـ وأحمد بن حنبل 241هـ وغيرهم، فامتحنوه. وكلهم قال: كتابك صحيح إلا أربعة أحاديث. قال العقيلي: "والقول فيها قول البخاري، وهي صحيحة"».

الجواب: هذا لا يصحّ فإن في إسناده رجلاً مجهولاً. وقد ضعّف العقيلي عدداً من أحاديث صحيح البخاري. مثل حديث همام بن يحيى في الأبرص. وجميع هؤلاء توفي قبل أن ينهي البخاري تأليف صحيحه. ولا يعرف أحد من أئمة الحديث قط، ممكن كانوا مشايخ للبخاري أثنى على صحيح البخاري، أبدا، رغم أنه كتاب رائع مستحق لكل ثناء.

والسبب بسيط واضح، وهو أنه ألفه بآخر حياته بعد وفاة كل هؤلاء، فلا نجد منهم ثناء عليه وهم لم يطلعوا عليه. وأول سماع ثابت (ضع خط تحت كلمة ثابت) لهذا الكتاب ما قاله الفربري: حدثنا البخاري سنة 253. وهذا بقرية نائية بأقصى مشارق الأرض فلم يشتهر بحياته. وقد توفي البخاري 256هـ ولم يتم التحديثة الرابعة".

·       ما نُقل عن العقيلي أن البخاري عرض «صحيحه» على شيوخه!

قلت:

أولاً: هذه الحكاية المروية عن العقيلي قد تكلمت عليها مراراً قبل سنوات بفضل الله، وبينت ضعفها، وكنت بفضل الله أول من نبّه لذلك في وسائل التواصل تحت عنوان: «قصص لا تصح».

وقلت:

"هذه قصة منكرة! والقصة ذكرها ابن خير الإشبيلي في "فهرسته"، قال: قال مسلمة بن قاسم: سمعت من يقول عن أبي جعفر العقيلي... وذكرها.

وهذا إسناد مجهول. والعقيلي نفسه قد ضعف أحاديث في صحيح البخاري كما في كتابه في الضعفاء".

وقد أفردت تضعيف العقيلي لحديث الأبرص في بحث خاص أيضاً منذ سنوات!

فهذا هو السرّاق (اللا أمين)!

وأزيد: كيف عَرَضَ البخاري كتابه على هؤلاء الأئمة الذين توفوا قبل أن يُظهر كتابه بسنوات طويلة؟! = يعني لو كان قد أنهى كتابه في زمنهم وعرضه عليهم لحدّث به الناس! وإنما حدّث به سنة (253هـ) بعد خروجه من نيسابور أواخر سنة (252هـ).

ثانياً: نعم، أول سماع ثابت لصحيح البخاري كان سنة (253هـ) فكان ماذا؟

والمصيبة أن هذا الجاهل جزم بأن مسلماً أنهى كتابه قبل البخاري سنة (242هـ) وعليه بنى أن مسلماً أول من صنف الصحيح!

وعلى فرض صحة أن مسلماً أنهى كتابه سنة (242هـ) فمتى كان أول تحديث ثابت به (لنضع تحت ثابت خط)!

وقد بينت فيما سبق أن البخاري لما خرج من نيسابور بعد فتنته مع محمد بن يحيى الذهلي إلى فربر حدث بكتابه هناك، وهذا يدل على أنه كان قد انتهى منه، وكأنه كان ينقّح فيه، ولهذا أخذ ثلاث سنوات في تسميعه، وكان فيه بعض البياضات.

·       خُلاصة وفوائد:

وقد خلصت - بفضل الله - في هذا البحث إلى نتائج وفوائد كثيرة، نذكر منها:

1- قول من يقول بأن مسلماً لم يلق البخاري إلا في وقت متأخر سنة ٢٥٠ تقريباً، أي بعد أن أتم مسلم صحيحه تصنيفاً بعد رحلاته الطويلة قول باطل!

وهو مأخوذ مما نُقل عن الحاكم: "أوّل ما ورد البُخَارِيّ نَيْسابور سنة تسعٍ ومائتين، ووردها فِي الأخير سنة خمسين ومائتين، فأقام بها خمس سِنين يُحدَّثَ عَلَى الدّوام".

فظنّ بعضهم أن البخاري قدم إلى نيسابور هاتين القدمتين فقط: الأولى كانت سنة (209هـ)، والثانية كانت سنة (250هـ)!

وهذا فهم لا يستقيم لكلام الحاكم - رحمه الله -، فهو إنما ذكر أول قِدمة للبخاري لنيسابور، وآخر قدمة إليها، ولم يقل بأنه لم يدخلها إلا هاتين المرتين، ولا يفهم من كلامه هذا - على اعتبار صحة ما نُقل عن الحاكم.

وهناك بعض الحكايات الصحيحة للبخاري مع شيخه ابن راهويه وغيره في نيسابور مما يدلّ على أنه دخلها مراراً.

وكان مسلم يحضر مجالس إسحاق بن راهويه أيضاً، وكان إسحاق يقول عنه: "مردا كاين بود" = يعني: "أي رجل كان هذا؟".

2- بدأ البخاري تصنيف تاريخه الكبير في الثامنة عشرة من عمره، وكان قد انتهى منه قبل سنة (230هـ)؛ لأن شيخه ابن راهويه أدخل كتابه هذا على الأَمِيْر العَادِل عَبْداللهِ بن طَاهِر (ت230هـ)، حَاكِمُ خُرَاسَانَ، وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وأراه إياه، وقال له: "دعني أريك سحراً".

وكان ابن طاهر صار أميراً على خراسان سنة (214هـ) وبقي عليها إلى أن مات.

3- يروي البخاري قصة مشهورة له مع شيخه (الدَّاخلي) حينما ردّ عليه في خطأ له وهو يُحدِّث وهو ابن إحدى عشرة سنة.

والداخلي هذا لم يعرفه أهل العلم، وأظنه محرّفا من: (المسندي) - ورسمهما قريب جداً- وهو: مَوْلاَه مِنْ فَوْقِ عَبْدِاللهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِاللهِ بنِ جَعْفَرِ بنِ اليَمَانِ الجُعْفِيِّ، وقد سمع منه، والله أعلم.

4- استند من قال بأن مسلماً أتمّ كتابه الصحيح سنة (242هـ) إلى ما رُوي عن أَحْمَد بن سَلَمَةَ أنه قال: "كُنْت مَعَ مُسْلِم فِي تَأَلِيف صَحِيْحه خَمْسَ عَشْرَةَ سنَة"! وما رواه أحمد بن بالويه العفصي: "سمعتُ أحمد بن سلمة يقول: صحبتُ مسلم بن الحجاج مِن سنة سبع وعشرين إلى أن دفنته سنة تسع وخمسين ومائتين".

فقالوا: ابتدء مسلم في جمع صحيحه سنة (227هـ) منذ بدء صحبته مع أحمد بن سلمة، وكان معه في تأليف الصحيح (15) سنة = يعني: (227) + (15) = (242)!

وهذا فهمٌ سقيمٌ عقيمٌ!

وغاية ما في القول الأول أن أحمد بن سلمة كان مع مسلم خمس عشرة سنة في تأليف صحيحه = يعني أن مدة تأليف مسلم لصحيحه كانت خمس عشرة سنة، وكان معه في هذه السنوات، وهو قد صاحبه سنة (227هـ) إلى أن مات، فليس معنى العبارة الأولى أنه ابتدأ تأليف صحيحه منذ أن صاحبه في سنة (227)!

فالكلام واضح في أن صحبته له كانت في سنة (227)، وكان معه في تأليف صحيحه مدة (15) سنة، فمن أين لهم أنه ابتدأ جمعه ببدء صحبته مع أحمد بن سلمة!

ووقتها كان مسلم لا زال يطلب الحديث، فرافقه أحمد بن سلمة في رحلته إلى قتيبة بن سعيد، وإلى البصرة في رحلته الثانية.

5- عبارة أَحْمَد بن سَلَمَةَ: "كُنْت مَعَ مُسْلِم فِي تَأَلِيف صَحِيْحه خَمْسَ عَشْرَةَ سنَة"! لا توجد موثقة في أي كتاب من كتب المتقدمين الذين نقلوا لنا سيرة الإمام مسلم، وصاحبه أحمد بن سلمة بالأسانيد، كالخطيب البغدادي، والحاكم! وإنما نقلها هكذا المتأخرون دون إسناد! فالله أعلم بصحتها!

6- اختلف أهل العلم في نقل عبارة أحمد بن سلمة، فنقلها الذهبي: "كُنْت مَعَ مُسْلِم فِي تَأَلِيف صَحِيْحه خَمْسَ عَشْرَةَ سنَة".

ونقلها العراقي عن مُعترض اعترض على قول ابن الصلاح بأن البخاري هو أول من صنّف في الصحيح، قال أحمدَ بنِ سلمةَ: "كنتُ معَ مسلمِ بنِ الحجاجِ في تأليفِ هذا الكتابِ سنة خمسٍ ومئتينِ"، كذا نقله العراقي من خط المعترض، ثم قال: "وقدْ تصحفَ التاريخُ عليهِ، وإنما هوَ سنةُ خمسينٍ ومئتينِ بزيادةِ الياءِ والنونِ"، وهو الصواب؛ لأن مسلماً لم يكن موجوداً سنة (205) فهو ولد سنة (206).

والصواب: "كنت مع مسلم في تأليف هذا الكتاب سنة خمسين ومئتين".

7- قول أحمد بن بالويه ذكره السمعاني في «الأنساب» دون إسناد، قال: "وكان العَفْصي يقول: سمعت أحمد بن سلمة يقول: صحبت مسلم بن الحجاج من سنة سبع وعشرين إلى أن دفنته سنة تسع وخمسين ومائتين".

فإذا قبلنا أن أحمد بن سلمة صحب مسلماً من سنة (227هـ)، فيجب قبول قوله في أنه مات سنة (259هـ)! وهذا خلاف المشهور المتفق عليه أنه مات سنة (261هـ).

8- القول بأن مسلماً أنهى كتابه سنة (242هـ) يدحضه بعض الأمور التاريخية الثابتة:

أولها: أن مسلماً سمع من إسحاق بن منصور الكوسج لما نزل نيسابور سنة (251هـ)، وكان مسلم ينتخب عليه، وأثنى إسحاق على مسلم فقال: "لن نعدم الخير ما أبقاك الله للمسلمين"، وروى عنه مسلم في «صحيحه» أكثر من (80) حديثاً، فإذا كان مسلم قد أتمّ كتابه سنة (242هـ)، فكيف يروي أحاديث إسحاق بن منصور في كتابه وهو لم يسمع منه إلا سنة (251هـ)؟!

ثانيها: أن فكرة الصحيح جاءت للبخاري في مجلس شيخه ابن راهويه، قال: "كُنْتُ عندَ إِسْحَاقَ بنِ رَاهْوَيْه، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَوْ جمعتُم كِتَاباً مختصِراً لسُنَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَقَعَ ذَلِكَ فِي قَلبِي، فَأَخذتُ فِي جمعِ هَذَا الكِتَابِ" - يعني: كتاب الجامع.

ثالثها: أن مسلماً لم يُخرّج لشيخه محمد بن يحيى الذهلي بسبب ما وقع له مع البخاري في فتنة اللفظ، وأرجع له مسلم كل ما سمعه منه سنة (252هـ)، فلو كان قد أتم كتابه قبل هذا لملأ كتابه من الرواية عن شيخه وشيخ نيسابور ومقدمهم محمد بن يحيى الذهلي.

9- رأى بعضهم أن الذي استجاب له مسلم لتأليف الصحيح كما في مقدمته: صاحبه أحمد بن سلمة، ولا دليل على ذلك، والراجح أنه ليس هو.

10- التبويبات التي في بعض النسخ المغربية لصحيح مسلم من رواية القلانسي ليست من مسلم، وإنما هي من بعض أهل العلم، وقد اختلفت الأبواب من نسخة ابن خير لرواية القلانسي عن الأبواب التي ذكرها القاضي عياض في شرحه!

وكثير من الأبواب في نسخة ابن خير: "باب" دون تسمية، وكثير منها: "باب منه"! وهذا يعني أنها من وضع بعض أهل العلم تقليداً للترمذي وغيره، وليست من الإمام مسلم، والله أعلم.

11- روى عبدالوَهَّاب بن عِيسَى بن ماهان البغدادي صحيح مسلم عن أَبي بكر أَحْمد بن مُحَمَّد بن يحيى الفَقِيه على مَذْهَب الشَّافِعِي المَعْرُوف بالأشقر بنيسابور، عن أَبي مُحَمَّد أَحْمد بن عَليّ بن الحُسَيْن بن المُغيرَة بن عبدالرَّحْمَن القَلَانِسي، عن مسلم.

وقد أثنى عليها السمعاني، وكأنه تبع ما رواه أَبو عمر بن الحذاء، قال: سَمِعت أبي - رَحمَه الله - يَقُول: أَخْبرنِي ثِقَات أهل مصر: أَنّ أَبَا الحسن عَليّ بن عمر الدَّارَقُطْنِيّ كتب إِلَى أهل مصر من بغداد: "أَن اكتبوا عَن أبي العَلَاء بن ماهان كتاب مُسلم بن الحجَّاج"، وَوصف أَبَا العَلَاء بالثقة والتمييز.

ولا نعرف هؤلاء الثقات الذين قالوا ذلك عن الدارقطني! وبتتبع ما ذكره أبي علي الغساني في «تقييد المهمل» يتبيّن أن رواية إبراهيم بن سفيان أتقن وأحسن من رواية القلانسي.

12- لا يُعرف أن مسلماً حدّث بصحيحه أكثر من مرة! وقد ذكر إبراهيم بن سفيان أن مسلماً حدثهم بصحيحه سنة (257هـ)، ولا يُعرف أن رواية القلانسي قبله! والأظهر أنه ربما سمع من مسلم في تلك المرة التي سمع فيها إبراهيم بن سفيان، والله أعلم.

13- إقامة البخاري في البصرة كانت من سنة (244) إلى (248هـ)، وقد حدّث بكتابه «التاريخ الكبير» في البصرة سنة (246هـ).

14- حصلت الفتنة بين البخاري والذهلي تقريباً في النصف من رمضان سنة (252هـ)؛ لأن البخاري والذهلي حضرا جنازة سعيد بن مروان في نيسابور في النصف من شعبان سنة (252هـ)، وصلّى عليه الذهلي، وبعدها بشهر حصلت الفتنة بينهما في مسألة اللفظ، وبقي البخاري بعدها مدة في نيسابور، وقد أخبر أحمد بن سلمة أنه أتاه بعد الفتنة، ثم خرج وبقي في البلد ثلاثة أيام.

15- ما نقله الذهبي وغيره عن الحاكم أنه قال: "أَوَّل مَا وَردَ البُخَارِيُّ نَيْسَابُوْرَ سَنَةَ تِسْعٍ وَمائَتَيْنِ، وَوَرَدَهَا فِي الأَخِيْرِ سنَةَ خَمْسِيْنَ وَمائَتَيْنِ، فَأَقَامَ بِهَا خَمْسَ سِنِيْنَ يُحَدِّثُ عَلَى الدّوامِ"، فيه خلل!

لأنه إذا كان قدم نيسابور سنة (250) وهو خرج منها بعد الفتنة سنة (252) = فهذا يعني أنه لم يقم فيها خمس سنين يُحدث على الدوام!

ثم إنه قد بدأ التحديث بصحيحه في فِربر سنة (253) إلى سنة (255)، وهذا يعارض ما نقل عن الحاكم!

والصواب ما جاء عن الحاكم في كتاب «تلخيص تاريخ نيسابور» - المترجم من الفارسية - لأحمد بن محمد بن الحسن المعروف بالخليفة النيسابوري: "محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري أبو عبدالله الجعفي: ورد نيسابور على كِبر سنّه، وأقام بها خمس سنين إلى أن وقعت الفتنة بينه وبين شيخ عصره محمد بن يحيى الذهلي".

وهذا يعني أنه دخل نيسابور آخر مرة سنة (248هـ) وبقي فيها خمس سنوات إلى سنة (252هـ) لما حصلت الفتنة معه مع شيخه وشيخ نيسابور محمد بن يحيى الذهلي.

فما نقلوه عن الحاكم: "وَوَرَدَهَا فِي الأَخِيْرِ سنَةَ خَمْسِيْنَ وَمائَتَيْنِ" لا يصح!

16- سمع محمد بن يوسف بن مطر الفربري الجامع الصحيح من البخاري بفربر في ثلاث سنين: في سنة ثلاث وخمسين، وأربع وخمسين، وخمس وخمسين ومائتين.

وكانت ولادة الفربري سنة (231هـ)، وكانت سنّه لما بدأ سماع الصحيح (22) سنة.

17- ما قالَه أَبو نَصر الكُلاباذي البُخَارِيّ في كتابه: «رجال صحيح البخاري»: "كَانَ سَماع مُحَمَّد بن يُوسُف الفربرِي بِهَذَا الكتاب من مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ مرَّتَيْنِ: مرّة بفربر فِي سنة 248هـ، وَمرَّة ببخارى سنة 252"، وتبعه عليه الذهبي خطأ!

ومنشؤ هذا الخطأ ما جاء في رواية ابنِ حَمَّوَيْهِ السَّرْخَسِيّ الحَمَوِيّ عن الفربري!

فقد جاء في بعض الروايات عن أَبي الوَقْتِ، عن الدَّاوُدِيّ، عن ابنِ حَمُّوَيْهِ، قَالَ: أنبأنا أَبُو عَبْدِاللَّهِ مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ بنِ مَطَرٍ الفَرَبْرِيُّ، فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ وَثَلاثِ مِائَةٍ، قال: حدّثنا أَبُو عَبْدِاللَّهِ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيلَ بنِ إِبْرَاهِيمَ بنِ المُغِيرَةِ الجُعْفِيُّ البُخَارِيُّ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَمرةً فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ.

وجاء في بعض الروايات عن أبي الوقت: "سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ، وَسَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وَسَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَمِئَتَيْنِ"!

فكأن ما جاء في رواية ابن حمويه إنما أراد ذكر هذه السنوات الثلاثة فأخطأ هو أو بعض رواة روايته في ذكرها!

والصواب ما رواه الجماعة (أبو زيدٍ المروزي، وأبو أَحْمَد الجرجاني، وأَبو عَليّ ابن السكن الحَافِظ) عن الفربرِي، سمع البخاري سنة (253هـ).

فالبخاري لم يُحدث بصحيحه في بخارى، وإنما في فربر في ثلاث سنوات.

18- خرج البخاري بعد فتنته مع شيخه الذهلي من نيسابور إلى فربر، وكان يتنقل أحياناً منها إلى بيكند، وحدث ببعض كتبه فيهما، ولما انتهى من التحديث بصحيحه سنة (255هـ) دخل (نَسَف) في تلك السنة، وبقي هناك يحدِّث بصحيحه، وممن سمع منه الصحيح من أهلها: حَمَّادُ بنُ شَاكِرٍ، وَإِبْرَاهِيْمُ بنَ مَعْقِلٍ، وَأبو الفضل طَاهرُ بنُ الحسين بنِ مَخْلَدٍ، وأَبُو طَلْحَةَ مَنْصُوْرُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عَلِيٍّ البَزْدِيُّ، وأبو الفَضل جَعفرُ بن محمد بن العباس التُوْبَني دِهْقَان تُوْبَن، وخلف بن شاهد بن الحسن بن هاشم.

ثم رجع لبخارى ودخلها في شعبان من سنة (256هـ)، ولما رجع حصلت بينه وبين أمير بخارى خالد الذهلي فتنة، فإنه طلب منه أن يحضر إلى قصره ويُحدّث أولاده بكتابيه: «الصحيح»، و«التاريخ»، فرفض، فتألم، فحرض عليه أعداءه من أهل الرأي، وتَكَلَّمُوا فِي مَذْهَبِهِ، وَنَفَاهُ عَنِ البلدِ، فخرج من بخارى إلى بيكند في بداية رمضان سنة (256هـ)، ثم كتب إليه أهل سمرقند فخرج إليهم، ونزل عند قريب له في (خرتنك)، ثم جاء كتاب أمير سمرقند بأن يخرج منها، وهناك ضاقت عليه الأرض بما رحبت، فدعا أن يقبضه الله، فلما تهيأ للخروج مرض وتوفي هناك بعد شهر من خروجه من بخارى في ليلة الفطر من سنة (256هـ) رحمه الله رحمة واسعة.

19- القصة التي رواها الحاكم عن طاهر بن أحمد الوراق عن مكي بن عبدان في سبب ترك مسلم لحديث شيخه محمد بن يحيى الذهلي: أن داود الأصبهاني دخل نيسابور أيام إسحاق بن راهويه، فعقدوا له مجلس النظر، وحضر مجلسه يحيى بن محمد بن يحيى الذهلي ومسلم بن الحجاج. فَجَرَت لهم مسألةٌ تكلَّم فيها يحيى بن محمد بن يحيى، فزَبَرَه داودُ وقال: "اسكت يا صبي! ". ولَمْ ينصره مسلم. فرجع إلى أبيه وشكا إليه داودَ، فقال محمد بن يحيى: "ومَن كان في المجلس؟". قال: "مسلم بن الحجاج، ولَمْ ينصرني! ". قال: "قد رجعتُ عن كل ما حدَّثته به". قال: فبلغ مسلمًا قول محمد بن يحيى هذا، فجمع ما كتب عنه وجعله فِي زِنْبِيْل، وحمله إلى داره وقال: "لا أروي عنك أبدًا!

هذه القصة منكرة! وقال الحاكم بأنه علّقها عن طاهر بن أحمد - وهو ثقة - قديماً، ثم قدّم عليها ما ذكره ابن الأخرم وهو أعرف بذلك من غيره في أن مسلماً ترك حديث شيخه بسبب فتنته مع البخاري في مسألة اللفظ، فَقطعه أَكْثَر النَّاس غَيْر مُسْلِم، فَبلغ مُحَمَّد بن يَحْيَى، فَقَالَ: "أَلاَ مَنْ قَالَ بِاللَّفْظ فَلاَ يحلّ لَهُ أَنْ يحضر مَجْلِسنَا"، فأخذ مسلم وخرج من مجلسه، وجمع كل ما كان كتب منه، وبعث به على ظهر حمال إلى باب محمد بن يحيى، فاستحكمت تلك الوحشة، وتخلف عن زيارته.

ولعل الحكاية التي ذكرها طاهر بن أحمد عن مكي كان فيها: "سئل مَكيَّ بن عَبْدَانَ"، فصارت: "سألت"، فربما لم يسمع ذلك من مكي، وإنما سمع ذلك من أحدهم، وهذا متّجه؛ لأنه كان وراقاً ويكتب عن الناس، والله أعلم.

ثم إنّ الذهلي كان يُحذر من داود بسبب ما قاله عندهم في نيسابور: "إن القرآن مُحدَث"، وكتب بذلك إلى الإمام أحمد، فلم يدخله أحمد إلى بيته لما استأذن عليه بسبب قولته تلك.

20- القصة التي رُويت أن مسلماً عرض كتابه على أبي زرعة فكل ما أشار عليه في كتابه أنَّ له علةً وسببًا تركتُه، وكل ما قال إنه صحيحٌ ليس له علةٌ فهو هذا الذي أَخرجه! قصة منكرة!

فهي لا إسناد لها، وإنما ذكرها أبو عليّ الغساني بقوله: "روينا" وفي بعض النسخ: "وبلغني"! فلو كان عنده إسناد هذه القصة لما زهد به، ولذكره!

ومما يدل على نكارتها أن أبا زرعة َأَنْكَرَ عَلَيْهِ إِخْرَاجَهُ عَنْ أَسْبَاطِ بنِ نَصْرٍ، وَعَنْ قَطَنٍ عَنْ جَعْفَرَ بنِ سُلَيْمَانَ، وعن أَحْمَدَ بنِ عِيسَى.

وكذلك علّل أبو زرعة بعض الأحاديث التي أخرجها مسلم في صحيحه! فكيف يُعلل هذه الأحاديث، ويخرجها مسلم وهو قد عرض عليه كتابه!

21- فات الدارقطني ذكر أبي زرعة في «رجال مسلم»، وقد أخرج عنه حديثاً واحداً في «صحيحه»، والحديث في رواية القلانسي وإبراهيم بن سفيان، وممن فات الدارقطني ذكرهم أيضاً في كتابه شيخ مسلم: عَبداللَّهِ بن جَعْفَر بن يَحْيَى بن خَالِد بن برمك البرمكي البَصْرِيّ، وقد روى له أربعة أحاديث عن معن بن عيسى عن مالك.

22- الحكاية التي رواها مسلمة بن القاسم في «الصلة»: «سمعت بعض أصحابنا يقول: سمعت العقيلي يقول: لما ألّفَ البخاري كتابه "الصحيح"، عرضه على ابن المديني 234هـ ويحيى بن معين 233هـ وأحمد بن حنبل 241هـ وغيرهم، فامتحنوه. وكلهم قال: كتابك صحيح إلا أربعة أحاديث. قال العقيلي: والقول فيها قول البخاري، وهي صحيحة" - حكاية منكرة! وإسنادها مجهول. والعقيلي نفسه قد ضعف أحاديث في صحيح البخاري كما في كتابه «الضعفاء»!

وكيف عَرَضَ البخاري كتابه على هؤلاء الأئمة الذين توفوا قبل أن يُظهر كتابه بسنوات طويلة؟! = يعني لو كان قد أنهى كتابه في زمنهم وعرضه عليهم لحدّث به الناس! وإنما حدّث به سنة (253هـ) بعد خروجه من نيسابور أواخر سنة (252هـ).

والحمد لله الذي به تتم الصالحات.

وكتب: خالد الحايك.

الثالث عشر من رجب 1444هـ.

شاركنا تعليقك