الموقع الرسمي للشيخ الدكتور خالد الحايك

سلسلة فهم أقوال أهل النَّقد (34). قولُ ابن مَعين: «كان يُقَيِّن»!

سلسلة فهم أقوال أهل النَّقد (34).

قولُ ابن مَعين: «كان يُقَيِّن»!

 

قال إبراهيم بنُ الجُنيد في «سؤالاته» (668): سَأَلْتُ يَحْيَى عن عبدالصَّمَد بن النُّعْمَان، جار مُعَاوِيَة بن عَمْرو؟ قَالَ: "ذاك الذي كان يُقيِّنُ".

قُلْتُ: كتبتَ عنه شَيْئًا؟ قَالَ: "لا".

قُلْتُ: كَيْفَ حَدِيْثُهُ؟ قَالَ: "لا أُراه كان مِمن يَكْذِب".

جاء في مطبوع الكتاب: "كان يعيّن"!

وعلّق عليها محقق الكتاب د. أحمد محمد نور سيف في الحاشية (3): "لعله أراد أنه يبيع بالعينة. وهو أن يبيع من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها له. (النهاية: 3/333)" انتهى.

ونقل الخطيب هذا النص من كتاب ابن الجنيد في ترجمة «عبدالصمد بن النعمان البزّاز» في «تاريخ بغداد» (12/303)، وفيه: "ذاك الذي كان يُعَيِّن".

وعلّق محققه د. بشار معروف في الحاشية (5): "ضبطها ناشر م، وناشر سؤالات ابن الجنيد بفتح الياء آخر الحروف، ولا معنى لها، والذي يُعَيِّن: هو الذي يبيع بالنسيئة، كما في معجمات اللغة، وهو المراد هنا، وتصحح قراءتي في تهذيب الكمال" انتهى.

قلت: كان ينبغي عليه أن يُبيّن أين ذكر ذلك في «تهذيب الكمال»!

ويقصد تعليقه على ما أورده المزي في ترجمة «أحمد بن بَشير الكوفي» (1/274) (14): "قال عَبَّاس الدُّورِيُّ عَنْ يحيى بن مَعِين: «كَانَ يُقَيِّن، وليس بحديثه بأس».

وَقَال علي بن الحسين بن حبان: وجدتُ فِي كتاب أَبِي بخط يده: سألته، يعني: يحيى بْن مَعِين، عَنْ أَحْمَد بن بشير مولى عَمْرو بن حُريث، فَقَالَ: قد رأيتُهُ وكتبت عَنْهُ، لم يكن به بأس إلا أنه كَانَ يُقَيِّنُ".

وعلّق د. بشار على هذا الموضع في الحاشية (4): "يقين: أي يبيع القينات، وهن الجواري" انتهى.

قلت: تراجع د. بشار عن ضبط هذه اللفظة ومعناها في «تهذيب الكمال» إلى ما أثبته لاحقاً في «تاريخ بغداد»!

وكان قبل هذا الموضع الأخير في «تاريخ بغداد» مرّ به هذا اللفظ في ترجمة «أحمد بن بشير» وضبطها كما في «تهذيب الكمال»، ولم يُنبّه لهذا في آخر موضع تراجع فيه عن ضبط ومعنى هذه اللفظة!

جاء في «تاريخ بغداد» في ترجمة «أحمد بن بشير» (5/78): "... حَدَّثَنَا عَلِيّ بن الحُسَيْن بن حبان، قَالَ: وجدت فِي كتاب أَبِي بخط يده، سألته، يَعْنِي يَحْيَى بن معين، عَنْ أَحْمَد بن بشير مولى عمرو بن حريث، فَقَالَ: قد رأيته وكتبت عَنْهُ، لم يكن بِهِ بأس إلا أنه كَانَ يُقَيِّن.

... أَخْبَرَنَا عباس بن مُحَمَّد، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بن معين، يَقُولُ: أَحْمَد بن بشير هو مولى عمرو بن حريث، وَكَانَ يُقَيِّن، وليس بحديثه بأس".

وعلق د. بشار على الموضع الأول في الحاشية (1): "في م: «بعين»، وعلق مصححه في الهامش بقوله: «كذا في الأصل في الموضعين من الترجمة، ولعله يلين أو نحوها»، ويقيّن، مجودة التقييد في جـ 1، وتهذيب الكمال وغيرهما".

وهذا النص في «تاريخ ابن معين - رواية الدوري» (3/490) (2396): سَمِعت يحيى يَقُول: "أَحْمد بن بشير، هُوَ مولى عَمْرو بن حُرَيْث، وَكَانَ يُقيّن. وَلَيْسَ بحَديثه بَأْس".

وعلق محققه د. أحمد محمد نور سيف في الحاشية (2): "قال ابن حجر: قوله: يقين، أي: يبيع القينات ا.هـ تهذيب. وفي تاريخ بغداد: بعين، وهو تحريف" انتهى.

قلت: العجب من د. أحمد سيف فإن تحقيقه لكتاب الدوري كان سنة (1399هـ - 1979م)، ونقل معنى اللفظة عن ابن حجر، وتحقيقه لسؤالات ابن الجنيد كان سنة (1408هـ - 1988م) وخالف في ضبط اللفظة وفي معناها كما تقدّم النقل عنه!

وقد نقل الذهبي قول ابن معين في ترجمة «أحمد بن بشير» من «سير أعلام النبلاء» (9/241) (68): "وقال ابن معين: كان يُقيِّن، وليس بحديثه بأس".

فعلّق محققه شعيب الأرنؤوط في الحاشية (2): "يقين: من التقيين وهو التزيين، فيحتمل أنه كان يزين الرجال، أي: يصلح شعورهم، أو أنه كان يُقين القيان، أي: يؤدبهن ويروضهن" انتهى.

قلت: الصواب في ضبط هذه اللفظة: «وكان يُقَيِّن» وهو اللفظ الذي تراجع عنه بشار معروف مع أنه أشار إلى أنه مجوّد في نسخة «تهذيب الكمال» وغيرها!

ولما نقل ابن حجر هذه اللفظة في «تهذيب التهذيب» (1/19) (16) قال: "وقوله: «يقين» أي يبيع القينات".

قلت: القَيْنات جمع قَيْنَة، وهي الأَمة مُغنية كانت أو غير مُغنية.

وفي «لسان العرب» (13/352): "قَالَ أَبو عَمْرٍو: كُلُّ عَبْدٍ عِنْدَ العَرَبِ قَيْنٌ، والأَمة قَيْنة، قَالَ: وَبَعْضُ النَّاسِ يَظُنُّ القَيْنة المُغَنِّيَةَ خَاصَّةً، قَالَ: وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ. وَفِي الحَدِيثِ: «دَخَلَ أَبو بَكْرٍ وَعِنْدَ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَيْنَتان تُغَنّيان فِي أَيام مِنًى». القَينة: الأَمة غَنَّتْ أَو لَمْ تُغَنِّ والماشطةُ، وَكَثِيرًا مَا يُطْلَقُ عَلَى المُغَنِّيَةِ فِي الإِماء، وَجَمْعُهَا قَيْناتٌ. وَفِي الحَدِيثِ: «نَهَى عَنْ بَيْعِ القَيْنات» أَي الإِماء المغَنّيات".

وربما قالت العرب للرجل المتزين باللباس: قَيْنَةٌ، كان الغناء صناعة له أو لم يكن. [العين: 5/219)].

لكن خصّوا ذلك بالمرأة، ففي «النهاية» لابن الأثير (4/135): "وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ «كَانَ لَهَا دْرِعٌ مَا كَانَتِ امْرَأَةٌ تُقَيَّن بِالمَدِينَةِ إِلَّا أرسَلَت تَسْتعيره» تُقَيَّن: أَيْ تُزَيَّن لِزِفَافِهَا. والتَّقْيين: التَّزيين. وَمِنْهُ الحَدِيثُ «أَنَا قَيَّنْت عَائِشَةَ»".

وعليه فالمعنى الذي ذهب إليه من أشرنا إليهم من محققي الكتب لا يصح!

وقد علّق د. علي العمران في بحث له عن «أحمد بن بشير» على هذه اللفظة، فقال: "معنى التَّقْيين على ما جاء في لسان العرب: التزين بألوان الزينة، وتقيَّن الرجل واقتان: تزيَّن... والتقيين: التَّزين. فلعله كان يزين الرجال؛ كإصلاح الشعر ونحوه، وهي من الأعمال الممتهنة التي قد تخل بالمروءة، وشرحها الحافظ بقوله: «أي: يبيع القينات». فلعله كان يزينهن ويعلمهن ويبيعهن، فغمزه يحيى بن معين بهذا العمل، ومعلوم سلفاً أن يحيى من المتشددين في الجرج، فيغمز الراوي بأدنى شيء، مع العلم أنه لم يغمزه بهذا العمل إلا هو، وهذا الجرح لا تأثير له، حتى عند يحيى بن معين؛ لأنه قد قال فيه: «لا بأس به»، فلو كان لما ذكره يحيى من الجرح أي تأثير لما وثَّقه، والله أعلم" انتهى.

قلت: وهذا كله ليس بصحيح!

بل إن كلام الحافظ ابن حجر فيه نظر! وبيع القينات كان موجوداً عندهم وهو مباح.

والذي يبيع القينات لا يُقال عنه: "كان يُقيّن"!

ومما يُساعد على فهم معنى هذا المصطلح ما ذكره ابن ماكولا في «الإكمال» (1/321): "وأبو نضير عمر بن عبدالملك مولى بني سليم، شاعر من أهل البصرة، وهو ابن أخت أبي حنش الهلالي، له مدائح في البرامكة وفي محمد بن عباد بن عباد المهلبي، ولما هلكت البرامكة صار يُقَيّن على جوار له".

وكذلك ما قاله صلاح الصفدي في «الوافي بالوفيات» (22/319): "عمر بن عبدالملك أَبُو النَّضير المَذحجي الشَّاعِر مولى بني جُمَح، وَقيل اسْمه الفضل، انْقَطع إِلَى البرامكة وَله فيهم مدائح كَثِيرَة فأغنوه إِلَى أَن مَاتَ، ولمَّا هَلك البرامكة عَاد إِلَى البَصْرَة، فَصَارَ يُقَيِّنُ على جوارٍ لَهُ".

وما قاله أيضاً (18/159): "عبدالرَّحْمَن بن مَرْوَان بن سَالم بن المُبَارك أَبُو مُحَمَّد التنوخي المعري ابن المنجم الوَاعِظ، قدم بغداذ وَعَلِيهِ مسح على هَيْئَة السياح فَصَارَ لَهُ ناموس عَظِيم، وَعقد مجْلِس الوَعْظ بدار السُّلْطَان، وَحضر السُّلْطَان مَجْلِسه، وَصَارَ لَهُ الجاه التَّام ونفذه الخَلِيفَة رَسُولاً إِلَى الموصل، واشتهر ذكره ونمى خَبره، وَكَانَ مشتهراً بتزويج الْأَبْكَار وَأكْثر من ذَلِك حَتَّى قيلت فِيهِ الْأَشْعَار، وَصَارَ لَهُ جوَار يُقَيِّن عَلَيْهِنَّ".

وعليه فالذي كان يُقين يكون له جوار يُقين عليهن = يعني يستخدمهن، والمعنى: كان يتكسّب من جوار له يَعْملن بالغناء.

وهذا من خوارم المروءة، وقول يحيى لما سئل عنه: "ذاك الذي كان يقين" = يعني أنه كان مشهوراً بهذا العمل، وفيه إشارة إلى ذمّ ذلك، وأما عدالة الراوي فتلك مسألة أخرى، ولهذا وثّق يحيى بعض من وصفهم بهذا الوصف.

 

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

وكتب: د. خالد الحايك

16 صفر 1444هـ.

شاركنا تعليقك