الموقع الرسمي للشيخ الدكتور خالد الحايك

سلسلة مناقشة البحوث العلمية (1). بحثا د. عبدالسلام أبو سمحة - أستاذ الحديث بجامعة الوصل، الإمارات - حول تدليس الشيوخ، وبحث د. عبدالعزيز اللحيدان: «تدليس الشيوخ الضعفاء»!

سلسلة مناقشة البحوث العلمية (1).

بحثا د. عبدالسلام أبو سمحة - أستاذ الحديث بجامعة الوصل، الإمارات - حول تدليس الشيوخ، وبحث د. عبدالعزيز اللحيدان: «تدليس الشيوخ الضعفاء»!

 

الحمد لله مُعلي شأن أهل الحديث في القديم والحديث، والصلاة والسلام على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه الذين حملوا شرعه وبلغوه للعالمين، وبعد:

فنحن نعيش فوضى علمية لم تمر عبر التاريخ!

نعم.. هي فوضى علمية بسبب وسائل النت المنتشرة! وحبّ الشهرة! وسهولة الحصول على الدرجات العلمية!

ومن خلال مسيرتي العلمية واطلاعي على كثير من البحوث المحكّمة لدكاترة الحديث الشريف، والبحوث غير المحكمة وجدت في كثير منها الخلل الكبير، سواءاً في المنهجية أو في الفهم لقضايا علم الحديث، أو التكرار، أو السرقة العلمية، وغير ذلك.

ومن هنا جاءت الفكرة للبدء بسلسلة منهجية جديدة أناقش فيها بعض البحوث العلمية التي كتبها بعض المشتغلين بالحديث لتكون مناراً لمحبي هذا العلم، والمساهمة في وقف هذا العبث في هذا العلم الشريف الذي تقحّمه من لا يُحسنه.

وسأتناول هنا ثلاثة بحوث حول تدليس الشيوخ: الأول: بحث للدكتور عبدالعزيز اللحيدان، والآخران: بحثان مُحكّمان للدكتور عبدالسلام أبو سمحة.

المبحث الأول: المقارنة بين بحثي د. أبو سمحة وبحث د. اللحيدان من حيث تاريخ النشر.

نشر د. عبدالسلام أبو سمحة في ملتقى أهل الحديث مشاركة بعنوان: «من أمثلة تدليس الشيوخ المؤدية إلى الجهالة والاضطراب في حال الرواة» بتاريخ: (1/7/2011م) تحت الرابط:

https://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=252930

وكنت ناقشته فيما ذكر في تلك المشاركة، ثم جمعت ما دار بيننا تحت عنوان: «تدليس الشيوخ وأثره على الجهالة، ومناقشة د. عبدالسلام أبو سمحة فيما كتبه حول هذا الموضوع» في موقعي «دار الحديث الضيائية»، تحت الرابط:

http://www.addyaiya.com/uin/arb/Viewdataitems.aspx?ProductId=464

وقد بيّنت وهاء ما ذكره د. عبدالسلام حول هذا الموضوع، وضعف الأمثلة التي ذكرها فيه.

ثم أعدت نشر كلامي قبل أيام، فقام أحد الإخوة بإرساله لعبدالسلام، فكان ردّه جلفاً وأنه انتهى من مناقشتي! ويكأنه دحض الحجج التي دمغت فيه باطله، وبيّنت وهاء منطقه!

فرجعت إلى أصل كلام د. عبدالسلام وهو ما نشره في بحثين مُحكمين حول هذا الموضوع.

الأول: شيوخ بقية بن الوليد المجاهيل الذين تبين أنه دلسهم تدليس شيوخ - نشر مجلة دراسات، علوم الشريعة والقانون، الجامعة الأردنية، المجلّد 38، العدد 2 ، 2011 - من (ص549 - 567).

تاريخ استلام البحث: 20/2/2009م، وتاريخ قبوله: 18/5/2010م.

الثاني: تدليس الشيوخ وعلاقته بالجهالة - نشر مجلة جامعة آل البيت، الأردن، المجلد 8، العدد 2، 30 حزيران 2012 - من (ص29 - 53).

تاريخ وصول البحث: ١٦/٧/٢٠٠٩م، وتاريخ قبول البحث: ٢٥/٤/٢٠١٠م.

فرجعت إلى هذين البحثين فوجدت أن موضوعهما متشابه، وتذكرت أن الباحث الدكتور أبو سمحة قال عندما كنت أناقشه بأنه سيطبعهما في كتاب، وقد فعل فطبعه سنة 2014 في دار المقتبس تحت عنوان: «تدليس الشيوخ وعلاقته بالجهالة - دراسة اصطلاحية مقارنة».

فبدأت بالنظر في البحثين، ثم ظهر لي بحث للدكتور عبدالعزيز اللحيدان المدرس في جامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض بعنوان: «تدليس الشيوخ الضعفاء»، ولم أكن قد وقفت عليه من قبل.

فلما تصفحته سريعاً وجدت توافقاً بين بحثي د. أبو سمحة وبين بحث د. اللحيدان!

ولم أجد تاريخ نشر الدكتور اللحيدان لبحثه لمعرفة السابق من اللاحق! وجهدت في ذلك وراسلت بعض المتخصصين وتلاميذ الدكتور - لأنه قد توفي قبل سنة (2018م)- فلم أظفر بشيء!

حتى وجدت أحد أعضاء ملتقى أهل الحديث تحت مُعرّف "يونس1" قد رفع كتاب د. عبدالعزيز اللحيدان نسخة للشاملة في (6/9/2008م) تحت الرابط:

http://ahlalhdeeth.com/~ahl/vb/showthread.php?t=147723

فتبيّن لي هنا أن بحث الدكتور اللحيدان قبل بحثَي د. أبو سمحة! ولم ينتشر بحث اللحيدان إلا بعد أن رفعه الأخ المذكور في ملتقى أهل الحديث للشاملة.

فكان بين رفع الأخ للبحث بتاريخ (6/9/2008) وبين تسلّم الجامعة الأردنية البحث الأول للدكتور أبو سمحة (20/2/2009) تقريباً خمسة أشهر!

والغريب أن أبو سمحة أرسل بحثيه للتحكيم في فترة متقاربة!!

فالأول استلم في (20/2/2009) والثاني في (١٦/٧/٢٠٠٩)!!!

وهذه (قرينة) قوية على أن العمل على البحثين كان في الوقت نفسه! وإرسال البحثين للتحكيم مع أنهما في الموضوع نفسه يخالف (الواقع العلمي البحثي) - على رأي مصطلح أستاذنا د. حمزة المليباري في مخالفة الراوي للواقع الحديثي-!! = الواقع الأكاديمي المعروف.

والغريب إرساله البحث الثاني للتحكيم قبل قبول بحثه الأول! لأن المقدمات واحدة، والموضوع واحد!! وهذا يدخل في باب (التوهيم والتدليس)!

والمتخصص في الحديث إذا نظر لكتاب د. اللحيدان وبحثي د. أبو سمحة لا يتردد في أن يقول: "لا أشك أن فكرة بحثي د. أبو سمحة مأخوذة من بحث د. اللحيدان"!!

فلو نظرنا إلى عنوان بحثَيّ د. أبو سمحة لوجدها في الموضوع نفسه إلا أن الأول خصّه في تدليس بقية، وعمم الآخر، وكل ذلك يتعلق بتدليس الشيوخ، وعنوان بحث د. اللحيدان: «تدليس الشيوخ الضعفاء».

فالعناوين تقريباً متشابهة وفيها دلالة على تشابه المضمون.

فهل يُعقل أن د. أبو سمحة وهو من أعضاء ملتقى أهل الحديث القدماء (2005) النشطين فيه، ومن المعتنين بالموسوعة الشاملة هل يُعقل أنه لم يقف على بحث د. اللحيدان؟! هذا غريب جداً! بل لم يُشر إليه حتى بعد طبعه البحثين في كتاب! والأمانة العلمية تقتضي ذلك!

فكيف نفسر مجيء بحثه الأول مباشرة بعد نشر بحث د. اللحيدان! والفترة الزمنية بينهما ليست بعيدة (5 أشهر) فقط؟!!

وكذلك كيف نفسر التوافق في العنوان! ثم التوافق في كثير من المضمون؟!!

وبعد هذه التقدمة ندخل في أصل بحثي د. أبو سمحة ومقارنتهما ببحث د. اللحيدان، والتعليق عليها.

المبحث الثاني: المقارنة بين بحثي د. أبو سمحة وبحث د. اللحيدان من حيث أصل الفكرة.

فبحث د. أبو سمحة الأول: «شيوخ بقية بن الوليد المجاهيل الذين تبين أنه دلسهم تدليس شيوخ» يعني أن بقية دلس بعض شيوخه تدليس شيوخ لأنهم ضعفاء فخفي على بعض العلماء هذا التدليس فجهلوهم!

وهذا حقيقة لا يبعد عن عنوان بحث د. اللحيدان: «تدليس الشيوخ الضعفاء».. فأبو سمحة خصص بحثه بما هو عام في بحث اللحيدان! واللحيدان أتى بأمثلة كثيرة لما قيل بأن بقية دلّس شيوخه فيها.

وبعد التحقيق فغالب هذه الأمثلة لم يُدلّس فيها بقية شيوخه، وبذا يسقط عنوان بحث أبو سمحة لقوله: "الذين تبين أنه دلسهم.."! فلم يثبت ذلك حتى يجزم به في العنوان! والله المستعان.

المبحث الثالث: المقارنة بين بحث د. اللحيدان وبحثي د. أبو سمحة من حيث العناصر.

·       عناصر بحث د. اللحيدان:

قال د. اللحيدان: "ويتكون البحث، بعد المقدمة، من:

الفصل الأول: دراسة نظرية، في خمسة مباحث:

الأول: تعريف تدليس الشيوخ الضعفاء، وفيه عرفت التدليس لغة واصطلاحاً، وذكرت أنواعه، وعرفت تدليس الشيوخ، وبينت أن تدليس الشيوخ الضعفاء أحد نوعيه.

الثاني: باعثه.

الثالث: حكمه.

الرابع: شروط الوصف به، ومراتب الشيوخ الضعفاء المدلَّسين.

الخامس: صوره.

الفصل الثاني: أمثلة تدليس الشيوخ الضعفاء، مشتملة على أسماء المدلِّسين، والمدلَّسين، ذكرت فيه تدليس الراوي لاسم شيخه الضعيف أو شهرته في ضوء مثال مؤيد بنص الأئمة النقاد الدال عليه، وقد شمل (35) راوياً عُرفوا بتدليس شيوخهم الضعفاء، و(61) مثالاً تطبيقاً.

خاتمة: فيها أهم نتائج البحث العلمية".

·       عناصر بحث أبو سمحة الأول:

قال د. أبو سمحة: "فجاءت الدراسة في مبحثين هما:

المبحث الأول: المبحث النظري. والذي جاء في مطالب ثلاثة هي:

الأول: تعريف تدليس الشيوخ.

الثاني: تعريف المجهول.

الثالث: ترجمة بقية بن الوليد.

وأما المبحث الثاني: المبحث التطبيقي "شيوخ بقية الذين ثبت عدم جهالتهم بتدليسه لهم تدليس الشيوخ". وجاء في مطالب تسعة، أفردت لكل شيخ مطلباً خاصاً على نحو ما سيأتي عرضه".

·       عناصر بحث أبو سمحة الثاني:

قال د. أبو سمحة: "يتطرق هذا البحث إلى العلاقة الجامعة بين نوعين من أنواع علوم المصطلح هما: التدليس، وعلى وجه الخصوص بتدليس الشيوخ. والجهالة التي يوصف بها الرواة، ومن ثم يتساءل الباحث: ألتدليس الشيوخ علاقة بالجهالة التي وصف بها بعض الرواة، ولا سيما شيوخ المدلسين لهذا النوع من التدليس، أم لا علاقة بينهما؟ وتحتم الإجابة عن هذا السؤال الوقوف على موضوع تدليس الشيوخ، ثم علاقته بالجهالة.

وسيتم تناوله في مبحثين هما:

المبحث الأول: تدليس الشيوخ:

ويتناول البحث فيه المسائل الآتية: تعريف تدليس الشيوخ لغة واصطلاحاً، ثم بيان الخلاف الحاصل فيه مع الوقوف على الرأي الراجح، ثم أسبابه وأشهر من عرف به، مع الكشف عن طريقتهم في تغيير الأسماء أو الكنى وتركيبها، وأخيراً بيان أثر تدليس الشيوخ في أنواع علوم الحديث.

المبحث الثاني: علاقة تدليس الشيوخ بالجهالة:

ويتطرق البحث فيه للمسائل الآتية: تعريف المجهول وموجز أنواعه، آراء العلماء في العلاقة بين تدليس الشيوخ والجهالة، الوقوف على الأمثلة العملية في هذا السياق، وأخيراً الكشف عن صور العلاقة بين تدليس الشيوخ والجهالة".

·       نقاط تفصيلية:

·       فكرة البحث!

قال د. أبو سمحة في بحثه الأول في المقدمة (ص549): "الداعي للبحث: جاءت فكرة هذا البحث أثناء دراستي لحال بقية بن الوليد وما رمي به من التدليس لأقف عند أمرين هامين، هما؛ أولاً: وصفه بأنواع التدليس المختلفة ومنها تدليس الشيوخ. ثانياً: كثرة الذين وصفوا بالجهالة من شيوخه. ليتبادر إلى الذهن السؤال التالي: ألا يمكن أن يكون بعض هؤلاء المجاهيل ممن دلسهم بقية تدليس شيوخ، فغير ما عرفوا به فأضحوا مجاهيل؟ فعدت أمحص كتب الرجال باحثاً عمن وصفه النقاد، بعضهم أو كلهم، بالجهالة وهو من شيوخ بقية، عارضا روايات هؤلاء على روايات بقية المختلفة عله غير اسمه في رواية أخرى، فنقف على اسمه الحقيقي. مستعرضاً طريقة الرواية التي روى بها بقية عن هؤلاء المجاهيل علها تدلنا عليهم. وبعد بحث مضن امتد لأكثر من سنة وقفت على مجموعة من الرواة الذين وصفوا بالجهالة تأكد لي عدم جهالتهم؛ إنما دلسهم بقية تدليس شيوخ، ولا أزعم أنني أتيت على كل من هذه حاله إنما أفرغت وسعي وجهدي، والكمال صفة الله مطلقة" انتهى.

قال د. اللحيدان في مقدمة بحثه تحت عنوان "أهميته وأسباب اختياره":

"1- إسهام البحث في معرفة الضعفاء والهلكى الذين لهم عدة أسماء وأنساب ونعوت مختلفة، قد تخفى على من لا خبرة له بهم فيفرق بين مجتمع، قال الإمام ابن الصلاح (ت643هـ): ((النوع الثامن والأربعون: معرفة من ذكر بأسماء مختلفة، أو نعوت محتلفة فظن من لا خبرة له بها أن تلك الأسماء أو النعوت لجماعة متفرقين، هذا فن عويص، والحاجة إليه حاقَّة، وفيه إظهار تدليس المدلسين، فإن أكثر ذلك إنما نشأ من تدليسهم)).

ومنه ما قد يخفي على النقاد كصنيع بقية بن الوليد، فكان إذا روى عن عمر بن موسى الوَجِيهي الحمصي، متهم، دلّس نسبته بغير ما اشتهر به قائلاً: ((عن عمر الدمشقي))، فقد بيّن الإمام أبو حاتم الرازي (ت277هـ): أنه الوَجِيهي؛ في حين خفي أمره على الإمام الذهبي (ت748هـ) فلم يعرفه، وصنيع أبي أسامة حماد بن أسامة فكان إذا روى عن محمد بن السائب الكلبي أبي النضر الكوفي، متهم بالكذب ورُمي بالرفض، دلّس اسمه بمشتق منه قائلاً: ((عن حماد بن السائب))؛ لذا خفي أمره على حمزة بن محمد ابن علي السّهمي (ت427هـ): - صاحب الدارقطني - فوثقه، ووهم الإمام النسائي (ت303هـ): فيه أيضاً حين ظن أن أبا أسامة، هي: كنية حماد بن السائب، وقد تعقبهما النقاد.

2- أثره في معرفة أشهر الرواة المدلسيين لأسماء شيوخهم الضعفاء، وطريقة تدليسهم.

3- أن معرفة تدليس الشيوخ الضعفاء له علاقة مهمة في الحكم عليهم، وتمييز مراتب ضعفهم؛ لأن الجهل به يُفضي إلى خفاء حالهم، أو حملهم على الستر وجبر مروياتهم، وحال قسم منهم لا تقبل الانجبار" انتهى.

قلت:

الفكرة واحدة فيما يتعلق بتدليس بقية لبعض شيوخه الهلكى مما أدّى إلى جهالة حالهم على بعض أهل العلم، وهذا واضح فيما أظهره د. اللحيدان في أهمية هذا البحث، ولم يُخلّ الأمر من ذكر بقية بن الوليد.

ففكرة البحث واضحة في بحث د. اللحيدان، والكلام الذي ذكره أبو سمحة كيف نشأت فكرة البحث عنده هي نفسها موجودة في كلام اللحيدان، فربما إن كان د. أبو سمحة اطلع على بحث اللحيدان تحمّس للموضوع فأفرد ما يتعلق ببقية وتدليسه لشيوخه في بحث مستقل؛ لأنه أكثر من فعل ذلك من الشيوخ، وهو أول من بدأ به د. اللحيدان في بحثه.

المبحث الرابع: المقارنة بين بحثي د. أبو سمحة وبحث د. اللحيدان من حيث التأصيل للموضوع.

·       تعريف تدليس الشيوخ في اللغة!

قال د. أبو سمحة في المبحث الأول - المبحث التمهيدي (ص549-550): "المطلب الأول: تعريف تدليس الشيوخ: التعريف اللغوي: كشف اللغويون في تأصيلهم لمفردة التدليس عن المعنى الذي تدور حوله هذه الكلمة؛ المخادعة في تغطية عيب وكتمانه. وهذا واضحٌ تمام الوضوح فيما أصله ابن فارس حيث قال: (الدال واللام والسين أصل يدلُ على سترٍ وظُلمة)، وكذا الحال عند ابن منظور حين تراه يبين دلَس البيع إذ يقول: (والمدالَسة المخادعة... ودَلس في البيع وفي كل شيء إِذا لم يبين عيبه، وهو من الظُّلمة. والتَّدليس في البيع كتْمان عيب السلعة عن المشتري. قال الأَزهري: ومن هذا أُخذ التدليس في الإسناد). ومن هنا قال ابن حجر في التدليس: كأنه أظلم أمره على الناظر لتغطيته وجه الصواب فيه" انتهى.

قلت:

وهذا نفس الكلام ذكره بحروفه د. أبو سمحة في بحثه الثاني (ص30) في "المبحث الأول: تدليس الشيوخ - تعريف تدليس الشيوخ"!

وذكر نفس التوثيقات في كلا الموضعين.

وهذا غريبٌ جداً من أكاديمي يُرسل بحثين له ويضع فيهما نفس المقدمة بحروفها!!!

قال د. اللحيدان: "المبحث الأول: تعريف تدليس الشيوخ الضعفاء... المطلب الأول: تعريف التدليس اللغوي:

التدليس لغة: من الدَّلَس، وهو : اختلاط الظلام بالنور بحيث لا تتضح فيه الأشياء على وجه الكمال، ومنه الخفاء وستر الشئ، قال أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا (ت 395هـ): ((دَلَسَ: الدال، واللام، والسين أصل يدل على ستر وظلمة، فالدَّلَس : دَلَس الظلام، ومنه قولهم: لا يُدالِس، أي لا يُخادِع))، وقال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت 370هـ): ((انْدَلَس الشئ إذا خفي، ودلَّسْتُه فتَدَلَّس، وتَدَلُّسُه: ألا يُشعر به))، وقال محمد بن مُكرم بن مَنْظور الإفريقي (ت 711هـ): ((الدَّلَس بالتحريك: الظلمة، وفلان لا يُدالِس ولا يُوالِس أي: لا يُخادِع ولا يَغْدر، والمدَالَسة: المخادعة، وفلان لا يُدالِسُك ولا يُخادِعك ولا يُخفي عليك الشيء، فكأنه يأتيك به في الظلام))" انتهى.

قلت:

لا بأس بأن يكون هناك توافق في التعريفات اللغوية لأن المراجع واحدة.

مع التنبيه أن الأزهري الذي نقل عنه أبو سمحة كان كلامه عن تدليس الإسناد لا تدليس الشيوخ الذي هو المطروح هنا.

قَالَ الأَزهري: "وَمِنْ هَذَا أُخذ التَّدْلِيسُ فِي الإِسناد وَهُوَ أَن يحدِّث المحدِّثُ عَنِ الشَّيْخِ الأَكبر وَقَدْ كَانَ رَآهُ إِلا أَنه سَمِعَ مَا أَسنده إِليه مِنْ غَيْرِهِ مِنْ دُونِهِ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الثِّقَاتِ".

وتدليس الشيوخ هو: "أن يروي عن شيخ حديثا سمعه منه فيسميه أو يكنيه أو يصفه بما لم يعرف به لئلا يعرف، كقول ابن حجر: حدثنا أحمد الصحراوي، وهو يعني شيخ الإسلام ولي الدين العراقي لئلا يعرف فهو من أقرانه لا في عداد مشايخه، وقد احتاج للرواية عنه" [التوقيف على مهمات التعاريف].

·       تعريف تدليس الشيوخ في الاصطلاح!

قال د. أبو سمحة في المبحث الأول: "التعريف الاصطلاحي: يعد التدليس نوعاً مهماً من أنواع علوم الحديث، الأمر الذي نجد لأجله تنوع الجهود التي أفردها علماء الحديث للكشف عنه وأنواعه. فأفرد الحاكم له نوعاً مستقلاً، وجعل له الخطيب باباً خاصاً، حتى جاء ابن الصلاح فخصه بالنوع الثاني عشر من أنواع علوم الحديث، مبيناً أنواعه المختلفة ممثلاً لها بما يقتضيه المقام. من هنا فالاهتمام متوافر بالتدليس وأنواعه ومسائله المتعددة المتنوعة.

أقوال العلماء في تعريفه: قال الخطيب البغدادي: (فأما التدليس للشيوخ فمثل أن يغير اسم شيخه لعلمه بأن الناس يرغبون عن الرواية عنه، أو يكنيه بغير كنيته أو ينسبه إلى غير نسبته المعروفة من أمره). وقال في موضع آخر: "أما الضرب الثاني من التدليس هو أن يروي المحدث عن شيخ سمع منه حديثا فغير اسمه أو كنيته أو نسبه أو حاله المشهور من أمره لئلا يعرف، والعلة في فعله ذلك كون شيخه غير ثقة في اعتقاده أو في أمانته، أو يكون متأخر الوفاة قد شارك الراوي عنه جماعة دونه في السماع منه، أو يكون أصغر من الراوي عنه سنا، أو تكون أحاديثه التي عنده عنه كثيرة فلا يحب تكرار الرواية عنه، فيغير حاله لبعض هذه الأمور). وهذا عين ما قاله ابن حبان دون تسميته تدليس شيوخ؛ فقال: (أقوام ثقات كانوا يروون عن أقوام ضعفاء كذابين، ويكنونهم حتى لا يعرفوا). وهو الجنس الرابع من المدلسين عند الحاكم حيث قال: (قوم دلسوا أحاديث رووها عن المجروحين فغيروا أساميهم وكناهم كي لا يعرفوا). وأما ابن الصلاح فقال: (أن يروي عن شيخ حديثا سمعه منه فيسميه أو يكنيه أو ينسبه أو يصفه بما لا يعرف به كيلا يعرف). وهذا عين ما ذهب إليه العراقي بقوله: (وهو أن يصف المدلس شيخه الذي سمع ذلك الحديث منه بوصف لا يعرف به من اسم أو كنية أو نسبة إلى قبيلة أو بلد أو صنعة أو نحو ذلك كي يوعر الطريق إلى معرفة السامع له).

ويجب هنا أن نقف عند قول ابن الصلاح (بما لا يعرف به) فهذا ليس قيداً في التعريف فلربما غيره إلى ما يعرف به لكنه لم يشتهر، وهذا ما نبه عليه ابن حجر بقوله: (ليس قوله - أي ابن الصلاح - (بما لا يعرف به) قيداً فيه، بل إذا ذكره بما لا يعرف به، إلا أنه لم يشتهر به كان ذلك تدليساً" انتهى.

قلت:

وكذلك فعل في بحثه الآخر في تعريف تدليس الشيوخ في الاصطلاح فذكر هذه التعاريف ثم قسّمها إلى صورتين ومثّل لكل منها.

قال: "الصورة الأولى: أن يخترع المدلِّس للراوي اسماً أو كنيةً أو لقباً أو نسباً لا يعرف به. ويوضح هذه الصورة الأمثلة الآتية - ما قيل في محمد بن سعيد المصلوب...

الصورة الثانية: أن يغير المدلس الراوي ويأتي ببعض ما عرف به لكنه لم يشتهر. ومن الأمثلة على ذلك قول ابن مهدي في هشيم...".

ولا شك أن عمله في البحث الثاني أكثر ترتيباً وتقسيماً، وزاد عليه تعريف ابن كثير وغيره، لكن المحتوى هو هو في الغالب.

وقال د. اللحيدان:

"المطلب الثاني: تعريفه الاصطلاحي:

التدليس: إخفاء الضعف، أو إيهام كثرة الشيوخ.

ومن أشهر أنواعه: تدليس الإسناد، وهو: أن يروي عن عمن لقيه شيئاً لم يسمعه منه بصيغة محتملة، ويُسقط من كان بينهما، وهذا النوع باعثه: إخفاء ضعف الراوي المُسْقَط.

وتدليس الشيوح، وهو: وصف الشيخ بما لم يشتهر به إيهاماً لكثرة الشيوخ أو استصغاراً له، أو إخفاء لضعفه أو بدعته، قال الخطيب البغدادي (ت 463هـ): ((الضرب الثاني من التدليس هو: أن يروي المحدث عن شيخ سمع منه حديثاً فيغَيّر اسمه أو كنيته أو نسبه أو حاله المشهور من أمره؛ لئلا يُعرف، والعلة في فعله ذلك كون شيخه غير ثقة في اعتقاده، أو في أمانته، أو يكون متأخر الوفاة قد شارك الراوي عنه جماعة دونه في السماع منه، أو يكون أصغر من الراوي عنه سناً، أو تكون أحاديثه التي عنده عنه كثيرة فلا يحب تكرار الرواية عنه)).

وقال الخطيب البغدادي أيضاً: ((أما التدليس للشيوخ فمثل أن يُغيّر اسم شيخه لعلمه بأن الناس يرغبون عن الرواية عنه، أو يُكنيه بغير كنيته، أو ينسبه إلى غير نسبته المعروفة من أمره ووصفهم))، وقال ابن الصلاح (ت 643هـ): ((تدليس الشيوخ، هو: أن يروي عن شيخ حديثاً سمعه منه فيُسميه، أو يُكنيه، أو ينسبه، أو يصفه بما لا يُعرف به؛ كي لا يُعرف)).

ولعل الخطيب البغدادي - في الموضع الثاني -، وابن الصلاح أرادا بقولهما: ((لا يُعرف به)) المعرفة المشتهرة، لا المعرفة المجردة؛ لأن تقييد التعريف بالمعرفة المجردة يُخرج كثيراً من صور تدليس الشيوخ؛ لأن الشيخ قد يُعرف بعدة أنساب وكنى، ومع ذلك فإن العدول عن المشتهر منها إلى أحدها يُعتبر تدليساً فالأولى التقييد بما اشتهر منها منعاً للالتباس، والمعرفة عند النقاد تأتي بالمعنيين: المشتهرة، والمجردة  ومنه قول وكيع (ت 197هـ): ((من كنّى من يُعرف بالاسم، أو سمّى من يُعرف بالكنية فقد جهل العلم))، وقول يعقوب بن سفيان (ت 277هـ): ((بقية يُكني الضعيف المعروف بالاسم، و يُسمّي المعروف بالكنية باسمه)).

وقد تعقب الحافظ ابن حجر (ت852 هـ) تعريف ابن الصلاح المُقيد بالمعرفة، فقال: ((ليس قوله: "بما لا يُعرف به" قيداً فيه، بل إذا ذكره بما يُعرف به إلا أنه لم يشتهر به كان ذلك تدليساً))؛ لذا عرّفه الحافظ ابن حجر بقوله: ((تدليس الشيوخ، هو: أن يصف شيخه بما لم يشتهر به من اسم أو لقب أو كنية أو نسبة إيهاماً للتكثير غالباً، وقد يفعل ذلك لضعف شيخه)).

وبهذا يتبين أن تدليس الشيوخ شامل لنوعين هما: تدليس الشيوخ الثقات وتدليس الشيوخ الضعفاء، ويختلف الباعث فيهما، فالأول: باعثه إيهام كثرة الشيوخ أو استصغارهم، وحكمه أخف، والثاني: باعثه إخفاء ضعف الشيخ أو بدعته، وحكمه أشد، وتعلق البحث بالأخير منهما.

وبناءً عليه فيُمكن تعريف تدليس الشيوخ الضعفاء اصطلاحاً، بأنه: وصف الشيخ بما لم يشتهر به إخفاء لضعفه أو بدعته.

ويشمل الوصف: كل ما يُعرف به الراوي اسماً ونسباً ونسبة وكنية ولقباً، قال أبو عبدالله الحاكم (ت 405هـ): ((الجنس الرابع من المدلسين: قوم دلّسوا أحاديث رووها عن المجروحين فغَيّروا أساميهم وكناهم؛ كي لا يُعرفوا)). وقال الحافظ ابن رجب (ت 795هـ): ((ذِكْر من روى عن ضعيف وسماه باسم يتوهم أنه اسم ثقة)).

المطلب الثالث: العلاقة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي:

الجامع بين المعنى اللغوي والاصطلاحي، هو: حصول الإخفاء والتغطية، والإيهام فيهما، فاختلاط الظلام بالنور لا يُمكّن من كمال رؤية الأشياء، بحيث لا تُعرف، أو تشتبه بغيرها، وهذه هي طريقة المدلّس لاسم شيخه الضعيف وغايته، حيث يُخفي الضعف بذكر أسماء وكنى وأوصاف غير كافية - وحدها - في معرفته؛ لأنه لم يشتهر بها، أو يُوهم بها أنه الثقة المشهور بالوصف الذي اقتصر عليه الراوي في شيخه الضعيف" انتهى.

قلت:

نلاحظ هنا أصل المادة التي عند أبو سمحة مختصرة وصياغة أخرى! مع إضافة كلام ابن حبان، لكن المحتوى واحد.

قارن بين ما وضعنا تحته خط فيما مضى:

- قال د. اللحيدان:" ولعلَّ الخطيب البغدادي - في الموضع الثاني -، وابن الصلاح أرادا بقولهما: ((لا يُعرف به)) المَعرفة المُشتهرة، لا المعرفة المُجردة؛ ".

- قال د. أبو سمحة:" ويجب هنا أن نقف عند قول ابن الصلاح (بما لا يعرف به) فهذا ليس قيداً في التعريف فلربما غيره إلى ما يعرف به لكنه لم يشتهر، "

·       ترجمة بقية بن الوليد:

قال د. أبو سمحة في بحثه الأول (ص550): "المطلب الثالث: ترجمة بقية بن الوليد: هو بقية بن الوليد...

غير أن ما نود التركيز عليه في هذه الترجمة هو ما وصف به من تدليس الشيوخ، وذلك للحاجة المباشرة لهذا الأمر في هذا البحث فقد وصفه بذلك غير واحد من النقاد؛ قال ابن المبارك: "نعم الرجل بقية لولا أنه يكنى الأسامي ويسمي الكنى، كان دهرا يحدثنا عن أبي سعيد الوحاظي فنظرنا فإذا هو عبد القدوس". وقال في موضع آخر: "أعياني بقية كان يسمي الكنى ويكني الأسامي، قال: حدثني أبو سعيد الوحاظي فإذا هو عبد القدوس". وقال ابن معين: "إذا لم يسم بقية الرجل الذي يروى عنه وكناه فاعلم أنه لا يساوي شيئا". وقال يعقوب بن شيبة: "يحدث عن قوم متروكي الحديث وعن الضعفاء، ويحيد عن أسمائهم إلى كناهم، وعن كناهم إلى أسمائهم". قال يعقوب بن سفيان: "بقية يذكر بحفظ، إلا أنه يشتهي الملح والطرائف من الحديث، ويروي عن شيوخ فيهم ضعف، وكان يشتهي الحديث فيكني الضعيف المعروف بالاسم، ويسمى المعروف بالكنية باسمه". وقال العلائي في أنواع التدليس: "الثالث من يدلس عن أقوام مجهولين لا يدرى من هم". ذكر منهم بقية. وقال ابن حجر: "كان كثير التدليس عن الضعفاء والمجهولين وصفه الأئمة بذلك". قلت: من هنا ندرك أن بقية عرف واشتهر بتدليس الشيوخ، الأمر الذي يجعل البحث يطرح السؤال الآتي: هل أثر تدليس بقية لشيوخه في جهالة عين بعضهم أم لا؟ ونترك الإجابة للدراسة التطبيقية التي أفردت لها المبحث الثاني من هذا البحث" انتهى.

قال د. اللحيدان في "الفصل الثاني: أمثلة تدليس الشيوخ الضعفاء"، ثم قال: "بقية بن الوليد الكلاعي:

وهو: صدوق، لكنه كثير تدليس الإسناد والشيوخ، ذكره الحافظ ابن حجر في المرتبة الرابعة من مدلسي الإسناد، قال الإمام ابن المبارك: ((نعم الرجل بقية لولا أنه يُكْني الأسامي ويُسمّي الكنى))، وقال الإمام يحيى بن معين: ((إذا لم يُسم بقية الرجل الذي يروي عنه وكناه، فأعلم أنه لا يساوي شيئاً)).

وقال يعقوب بن سفيان: ((بقية ثقة إذا حدث عن ثقة فحديثه يقوم مقام الحجة يذكر بحفظ إلا أنه يشتهي الملح والطرائف من الحديث، ويروي عن شيوخ فيهم ضعف، وكان يشتهي الحديث فيُكني الضعيف المعروف بالاسم، ويُسمي المعروف بالكنية باسمه، وقد قال أهل العلم: بقية إذا لم يسم الذي يروي عنه وكناه فلا يسوى حديثه شيئاً، وسمعت إسحاق بن إبراهيم بن راهويه قال: قال ابن المبارك: أعياني بقية كان يُكني الأسامي ويُسمي الكنى، قال: "حدثني أبو سعيد الوحاظي" إنما هو عبد القدوس)).

وقال يعقوب بن شيبة: ((بقية ثقة حسن الحديث إذا حدث عن المعروفين، ويُحدث عن قوم متروكي الحديث وعن الضعفاء، ويحيد عن أسمائهم إلى كناهم، وعن كناهم إلى أسمائهم، ويُحدث عمن هو أصغر منه))" انتهى.

قلت:

أتى د. أبو سمحة بالنصوص نفسها التي عند د. اللحيدان، وزاد عليها نص العلائي وابن حجر، والمستغرب أن د. اللحيدان وثّق كلام يعقوب بن سفيان من كتابه "المعرفة والتاريخ" وهذا بدهي؛ لأن الأصل توثيق كلام القائل من كتابه، لكن د. أبو سمحة لم يوثقه من كتاب يعقوب! وإنما وثقه كما في حاشية (26): "الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد 7/124، ابن حجر، تهذيب التهذيب 1/239-241".

وكأنه يريد أن يقول: إذا جاء بعضهم وقال: استفدت هذا من كتاب د. اللحيدان، فسيرى أن توثيقه يختلف عن توثيقي!!

فهل يُعقل أن متخصصًا في الحديث أمامه كتاب يعقوب وينقل من الكتب المتأخرة في بحث علمي محكّم؟! إلا لهدف ما! فالله أعلم.

ود. اللحيدان وثق من كتاب "تهذيب التهذيب" من النسخة الهندية القديمة المعروفة، ود. أبو سمحة وثق من نسخة الزيبق وعادل مرشد! وهذا ربما له هدف أيضاً! والله أعلم.

·       تدليس بقية لبعض شيوخه الضعفاء!

قال د. أبو سمحة: "المبحث الثاني: "شيوخ بقية الذين ثبت عدم جهالتهم بتدليسه لهم تدليس الشيوخ". تمهيد: نتناول في هذا المبحث أمثلة تطبيقية لشيوخ بقية بن الوليد، دلس أسماءهم تدليس شيوخ، الأمر الذي أدى إلى جهالة عينهم وحالهم، عند بعض علماء الجرح والتعديل، وبعد البحث المضني تم رفع الجهالة عنهم والتوصل إلى حقيقتهم. من هنا أفردت لكل راو منهم مطلبا خاصاً" انتهى.

ثم ذكر الأمثلة.

قال د. اللحيدان: "ومنه ما قد يخفي على النقاد كصنيع بقية بن الوليد، فكان إذا روى عن عمر بن موسى الوَجِيهي الحمصي، متهم، دلّس نسبته بغير ما اشتهر به قائلاً: ((عن عمر الدمشقي))، فقد بيّن الإمام أبو حاتم الرازي (ت277هـ): أنه الوَجِيهي؛ في حين خفي أمره على الإمام الذهبي (ت748هـ) فلم يعرفه".

ثم قال: "هدف المدلس لاسم شيخه الضعيف: إخفاء ضعف شيخه أو بدعته، كصنيع بقية بن الوليد الكَلاعي، فكان إذا روى عن خُليد بن دَعْلَج السدوسي البصري، ضعيف الحديث، دلّسه فنسبه بغير ما اشتهر به بأن كنّى والده به، فقال: ((عن خُليد بن أبي خُليد))، فهو نسب في الصورة، لكنه في حقيقته كمن اقتصر على الاسم، وفسر الماء بعد الجهد بالماء" انتهى.

ثم ذكر الأمثلة.

·       المثال الأول:

قال د. أبو سمحة: "المطلب الأول: خليد بن أبي خليد: تباينت فيه الآراء على النحو الآتي:

أولا: الاضطراب فيه بين جهالة عينه أو اعتباره خليد بن دعلج: ويظهر ذلك في فعل ابن حجر من خلال الترجمة له في عموم كتبه: فقد ذكر احتمالية كونه خليد بن دعلج، بعد وصفه بالجهالة فقال: "مجهول من السادسة، ويحتمل أنه الذي بعده؛ وفرق في اللسان بينهما فأفرد لكل ترجمة دون الربط. بينما جزم في التهذيب في ترجمة ابن أبي خليد بأنه ابن دعلج؛ متابعاً المزي، قال: "وقد روى بقية عن خليد بن دعلج عن معاوية بن قرة حديثا غير هذا، وما أخلقه أن يكون خليد ابن أبي خليد هذا، ويكون بقية قد دلسه في هذا الحديث لضعفه، فإن ذلك معروف لبقية". وهذا التباين في فعل ابن حجر يدل على حيرته في حال ابن أبي خليد، وليته توقف عند متابعة المزي؛ لاسيما نصه على صنيع بقية، وكشفه عن حال خليد بن دعلج. ليدل على أن خليد بن أبي خليد اسم مدلَّس.

ثانياً: ترجيح كونه خليد بن دعلج: وهذا ما سبق نقله عن المزي وذهب إليه الذهبي، قال: "شيخ لبقية، مجهول الحال. والظاهر أنه خليد بن دعلج".

روايات بقية عنه: لم أقف له إلا على حديث واحد رواه واختلف عنه: فرواه يحيى بن عثمان وموسى بن مروان كلاهما عن بقية عن أبي حلبس عن خليد بن أبي خليد عن معاوية بن قرة عن أبيه... وخالفه عبدالرحمن بن الحارث وعيسى بن المنذر فروياه عن بقية عن خليد عن أبي حلبس، به. والصواب هنا فيما ذهب إليه المزي والذهبي ذلك أنه ذُكر في شيوخ خليد بن دعلج معاوية بن قرة وذكر بقية في تلاميذه، كما أن المزي نص أن بقية روى عن خليد بن دعلج عن معاوية بن قرة حديثا غير هذا، ولم أقف لخليد بن أبي خليد على أحاديث أخرى من رواية بقية عنه أو من رواية غير بقية" انتهى.

قال د. اللحيدان: "مثال(2):

في ترجمة: خُليد بن دَعْلَج السدوسي البصري، ضعيف الحديث، وكان بقية يُدلس نسبه بغير ما اشتهر به، يقول: ((عن خُليد بن أبي خُليد)).

قال الإمام الذهبي: ((خُليد بن أبي خُليد، عنه أبو حَلْبَس، شيخ لبقية مجهول الحال، والظاهر أنه خليد بن دَعْلَج))، وقال الحافظ ابن حجر: ((كأن بقية دلّسه في هذا الحديث؛ لضعفه فإن بقية معروف بذلك، وهو: خُليد بن دَعْلَج)) انتهى.

قلت:

المثال هو هو، وقول الذهبي وابن حجر في تدليس بقية له.

وزاد أبو سمحة متابعة ابن حجر للمزي فإن الكلام له، وأتى بالرواية وخرّجها، وأبو سمحة في كل الأمثلة أتى بروايات بقية عن هؤلاء الشيوخ بخلاف د. اللحيدان فلم يلتفت للروايات لأنها خارج موضوعه، فالذي كان يهمه هو إثبات تدليس لبقية لهؤلاء المشايخ من خلال هذه الأمثلة، وزيادات د. أبو سمحة لهذه الروايات ضرورية في بحثه؛ لأنه خصصه في تدليس بقية لشيوخه، وربما ليوهم القارئ أن بحثه ليس مثل بحث اللحيدان، فالأخير لم يأت بهذه الأمثلة!

مع أن أي مبتدئ في هذا العلم يستطيع أن يأتي بهذه الروايات لأن العلماء المتأخرين اعتمدوا أصلا عليها في بيان تدليس بقية لهؤلاء الشيوخ مع عدم التسليم لكثير مما قالوه.

والحديث فيه مشكلة في إسناده:

فابن ماجه رواه عن يَحْيَى بن عُثْمَانَ بنِ سَعِيدِ بنِ كَثِيرِ بنِ دِينَارٍ الحِمْصِيّ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، عَنْ أَبِي حَلْبَسٍ، عَنْ خُلَيْدِ بنِ أَبِي خُلَيْدٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ: «مَنْ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَأَوْصَى فكَانَتْ وَصِيّتة عَلَى كِتَابِ اللَّهِ كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا تَرَكَ مِنْ زَكَاتِهِ فِي حَيَاتِهِ».

ورواه الدارقطني عن الحُسَيْن بن مُحَمَّدِ بنِ سَعِيدٍ، عن عَبْدالرَّحْمَنِ بن الحَارِثِ، عن بَقِيَّة، عَنْ خُلَيْدِ بنِ أَبِي خُلَيْدٍ، عَنْ أَبِي حَلْبَسٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ.

ورواه ابن زَبْر عن أبيه، عن مُوسَى بن عِيسَى بنِ المُنْذِرِ، عَنْ أَبِيهِ، عن بَقِيَّة، عن خُلَيْد بن أَبِي خُلَيْدٍ، عَنْ أَبِي حَلْبَسٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بنِ قُرَّةَ المُزَنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ.

ورواه الدولابي عن أَبي صَالِحٍ الرَّاسِبِيّ، عن مُوسَى بن مَرْوَانَ الرقيّ، عن بَقِيَّة، عَنْ أَبِي حَلْبَسٍ خُلَيْدِ بنِ دعْلِجٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ.

نلاحظ الاختلاف على بقية فيه:

فيَحْيَى بن عُثْمَانَ رواه عَنْ بقية، عن أبي حلبس، عن خليد بن أبي خليد، عن معاوية بن قرة.

وخالفه عِيسَى بن المنذر الحمصي، وعَبْدالرَّحْمَنِ بن الحارث المعروف بجحدر، وغيرهما - كما قال المزي-، فقالوا: عَنْ بقية، عَنْ خليد بن أَبي خليد، عَن أبي حلبس، عَنْ معاوية بن قرة.

وخالفهم أبو عمران موسى بن مروان الرقي فرواه عن بقية، عن أبي حلبس خليد بن دعلج، عن معاوية.

والذي يظهر لي أن الرواية الصحيحة عن بقية هي رواية مروان فضبط الرواية عنه.

وعليه فتكون الروايات الأخرى "بقية عن أبي حلبس خليد بن أبي خليد" أو "بقية عن خليد بن أبي خليد أبي حلبس".

يعني زِيد بين الكنية وبين الاسم "عن" والأصل عدمها لأن كنية خليد "أبو حلبس".

وهذا يؤيده رواية موسى بن مروان.

ويستحيل أن هذا الخلل في الرواية يكون من بقية! وكذلك يُستبعد أن يكون دلّس اسمه مرة فقال: "خليد بن أبي خليد"، ومرة قال: "خليد بن دعلج"!!

فالخلل في روايات هؤلاء عن بقية، لكن هل يُعقل أنهم كلهم أخطأؤا على بقية؟

أقول: نعم إذا عرفنا أنهم ليسوا بذاك!

فيَحْيى بن عثمان من أهل الصدق إلا أنه كان يتلقّن.

قال ابن عدي في ترجمته (9/120): سمعت الحُسَيْنَ بنَ أَبِي مَعْشَرٍ يَقُولُ: "يَحْيى بن عثمان هذا لا يسوى نواة في الحديث، كان يتلقن كل شيء، وكان يعرف بالصدق".

وقال: "وليحيى بن عثمان أحاديث صالحة عن شيوخ الشام، ولم أر أحدًا يطعن فيه غير ابن أبي معشر، وَهو معروف بالصدق".

وعبدالرحمن بن الحارث يسرق الحديث.

وعِيسَى بن المُنْذر من أهل الستر، ذكره ابن حبان في «ثقاته» (8/494) وقال: "يُغرب".

وقال ابن حجر: "مقبول".

وابنه الراوي عنه كتب عنه النسائي، وقال: "حمصيٌّ لا أحدثُ عنه شيئًا، ليس هو شيئًا".

فالظاهر أن هذا الحديث عن بقية كان في كتاب واحد من هؤلاء وفيه ما أشرت إليه من زيادة "عن" بين الكنية والاسم، فاختلفوا في الإسناد، وأخذه بعضهم بهذه الزيادة.

ورواية موسى بن مروان - وهو صدوق كما قال أبو حاتم وقد كتب عنه هو وأبو داود - أتقن من روايات هؤلاء حيث ضبط الكنية مع الاسم: "عن أبي حلبس خليد بن دعلج"، وعليه فلا يثبت أن بقية دلّسه، وإنما هو خطأ عليه، والله أعلم.

وقول المزي بأن بقية دلسه لضعفه فيه نظر!

قال المزي في «تهذيب الكمال» (8/306) "ق: خليد بن بي خُلَيْدٍ. عَن: مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ (ق). وعَنه: أبوحلبس (ق)".

وروى حديث يحيى بإسناده، ثم قال: "هَكَذَا رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ عَنْ بقية، وخالفه عِيسَى بن المنذر الحمصي، وعَبْدالرَّحْمَنِ بْن الحارث المعروف بجحدر، وغيرهما، فقالوا: عَنْ بقية، عَنْ خليد بْن أَبي خليد، عَن أبي حلبس، عَنْ معاوية بْن قرة، وقد روى بقية، عَنْ خليد بْن دعلج، عَنْ معاوية بْن قرة حديثا غير هذا وما أخلقه أن يكون خليد بْن أَبي خليد هذا، ويكون بقية قد دلسه فِي هذا الحديث لضعفه، فإن ذلك معروف لبقية، ولا بد من ذكره ليعرف حاله".

ثم ذكره: (تمييز): خليد بن دعلج السدوسي، أبو حلبس، ويُقال: أَبُو عُبَيد، ويُقال: أَبُو عُمَر، ويُقال: أَبُو عَمْرو، البَصْرِيّ، سكن الموصل، ثم قدم الشام فسكن بيت المقدس".

قال أحمد ويَحْيَى بن مَعِين: "ضعيف الْحَدِيث".

وَقَال عَباس الدُّورِيُّ عَن يحيى بن مَعِين: "ليس بشيءٍ".

وقَال النَّسَائي: "ليس بثقة".

وقَال أَبُو حاتم الرازي: "صالح ليس بالمتين فِي الحديث. حدث عَنْ قتادة أحاديث بعضها منكرة".

وذكره الدَّارَقُطنِيّ فِي جَمَاعَةٍ من المتروكين.

وَقَال أَبُو أَحْمَد بن عدي: "عامة حديثه تابعه عليه غيره، وفي بعض حديثه إنكار، وليس بالمنكر الحديث جداً".

وقال الدولابي عن حديثه هذا: "هذَا حَدِيثٌ مُعْضَلٌ يَكَادُ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا".

قلت: هل عرف بقية أن خليد بن دعلج كان ضعيفاً حتى يُدلسه؟! وهو أصلاً بصري، نزل الشام، وسكن بيت المقدس، ولم يُكثر عنه أصلا.

ولمَ يُدلسه مرة، ويسميه مرة أخرى في الحديث نفسه؟

ولمَ لمْ يُدلسه في حديث آخر رواه عنه طالما أنه ضعيف؟!

روى الحارث بن أبي أسامة في «مسنده» [كما في «بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث» (2/803) (817) قال: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ هَاشِمُ بنُ القَاسِمِ، قال: حدثنا بَقِيَّةُ بنُ الوَلِيدِ الحِمْصِيُّ، عَنْ خُلَيْدِ بنِ دَعْلَجٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بنِ قُرَّةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَعْمَلُونَ بِالْخَيْرِ وَإِنَّمَا يُعْطَوْنَ أُجُورَهُمْ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ».

فهذه الرواية تؤيد أن بقية لم يكن يدلّسه وأنه لم يسمه "خليد بن أبي خليد"! وكأن هذه التسمية من الكتاب الذي أُخذت منه الرواية، فقد يكون فيه: "عن أبي حلبس خليد" فلم يعرفوه فنسبه بعضهم فقال: "ابن أبي خليد"، والله أعلم.

·       ملاحظات في التخريج:

1- قال أبو سمحة عند ذكره للحديث: "فرواه يحيى بن عثمان وموسى بن مروان كلاهما عن بقية عن أبي حلبس عن خليد بن أبي خليد عن معاوية بن قرة عن أبيه".

فخلط هنا رواية يحيى بن عثمان مع رواية موسى بن مروان!!

فرواية موسى كما في كنى الدولابي وهو نفسه أشار لها: "أَبُو صَالِحٍ الرَّاسِبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بنُ مَرْوَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، عَنْ أَبِي حَلْبَسٍ خُلَيْدِ بْنِ دِعْلِجٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ".

فإسناد موسى يختلف عن إسناد يحيى بن عثمان! ففي رواية يحيى: "عن أبي حلبس عن خليد بن أبي خليد"، وفي رواية موسى: "عن أبي حلبس خليد بن دعلج"، فجعل أبو حلبس هو خليد بن دعلج.

وكان ينبغي لأبو سمحة الاستفادة من هذه الرواية في أصل البحث ليدلل على أن خليد بن أبي خليد هو خليد بن دعلج، لا أن ينقل كلام من جعله على الاحتمال!

2- قال أبو سمحة عند ذكره لرواية عيسى بن المنذر في الحاشية رقم (36): "وأخرجه: المزي بسنده في تهذيب الكمال 8/306، وابن زبر الربعي في وصايا العلماء 1/8".

قلت: المزي لم يخرّج رواية عيسى بن المنذر حتى نقول: "وأخرجه المزي"! وإنما هو ذكرها ذكراً، فهو ساق رواية يحيى بن عثمان بإسناده، ثم قال: "وخالفه عيسى بن المنذر..."، فلا يصلح أن يقول هنا: "وأخرجه المزي..." عند توثيقه لرواية عيسى بن المنذر.

ورواية عيسى بن المنذر أخرجها ابن زبر كما أشار عن أَبِيه عَبْداللَّهِ بن أَحْمَدَ، عن مُوسَى بن عِيسَى بنِ المُنْذِرِ، عَنْ أَبِيهِ، به.

·       المثال الثاني:

قال د. أبو سمحة: "المطلب الثاني: سعيد بن أبي سعيد الزبيدي: تباينت فيه الآراء على النحو الآتي: أولاً: اعتباره سعيد بن عبد الجبار الزبيدي: وممن اعتبره كذلك أبو حاتم وأبو زرعة...

ثانياً: وصفه بالجهالة: ذهب إلى هذا الرأي ابن عدي؛ حيث قال في ترجمته: "شيخ مجهول، وأظنه حمصياً...

بينما نجد أن ابن الجوزي رد قولهما فقال: "وقد ظن بعض العلماء الزبيدي في هذا الحديث هو: محمد بن الوليد، الثِّقة الثَّبت، وذلك وهمٌ، وإنَّما هو سعيد بن أبي سعيد...

ثالثا: الاضطراب في ذلك، تارة بوصفه بجهالة العين أو اعتباره ابن عبدالجبار، وقد سلك هذا المسلك المزي فجهله في معرض ذكر من روى عن حريز بن عثمان الرحبي المشرقي...

روايات بقية عنه: روى عنه أحاديث ثلاثة هي...

وعلى ضوء ما سبق نتبين أن تدليس بقية هو الذي أشكل أمر سعيد بن أبي سعيد الزبيدي؛ وهو إنما سعيد بن عبد الجبار الزبيدي، وليس برجل مجهول؛ وليس أيضاً الزبيدي الثقة" انتهى.

قال د. اللحيدان: "مثال (6) (7):

في ترجمة: سعيد بن عبد الجبار الزُبيدي، وزرعة الزُبيدي، هالكين، كان بقية يُدلسهما بالاقتصار على نسبتهما فيقول: "الزُبيدي" حتى يُظن أنهما: محمد بن الوليد الزُبيدي الثقة صاحب الزهري، قال الحافظ ابن رجب: ((بقية بن الوليد من أكثر الناس تدليساً، وأكثر شيوخه الضعفاء مجهولون لا يعرفون، وكان ربما روى عن سعيد بن عبدالجبار الزُبيدي أو عن زرعة بن عمرو الزُبيدي - وكلاهما ضعيف الحديث - فيقول: "ثنا الزُبيدي" فيظن أنه محمد بن الوليد الزُبيدي صاحب الزهري، وقد تقدم له عنه في كتاب الصيام في باب الكحل للصائم حديث رواه عن الزُبيدي، وظنه بعضهم محمد بن الوليد، فنسبه كذلك، وأخطأ وإنما هو: سعيد بن عبدالجبار))، وقال الإمام الذهبي: ((زرعة ابن عبد الرحمن الزُبيدي: شيخ لبقية متروك))" انتهى.

قلت:

كلام د. أبو سمحة أوسع، وكلام د. اللحيدان يتقاطع معه في جزئية واحدة فقط، ولم يتعرض أبو سمحة لكلام ابن رجب الذي اعتمده اللحيدان.

واختلاف أهل العلم الذي نقله أبو سمحة في سعيد بن أبي سعيد وسعيد بن عبدالجبار لا علاقة لتدليس بقية فيه!

فالدكتور لا يُحسن تحرير محل النزاع! هم اختلفوا في هل سعيد بن أبي سعيد هو سعيد بن عبدالجبار أم لا؟ هل هما واحد أم اثنان؟ ولم يذكر أحد منهم أن بقية دلّسه حتى خفي على بعض أهل العلم!!

وتفريق ابن عدي بينهما وتجهيل "سعيد بن أبي سعيد" لا لأن بقية دلسه! بل هو ظنّ أنه من شيوخ بقية المجاهيل ولم يعرفه، وقد روى في ترجمته (4/463) حديث بقية عنه، وروى أيضاً حديث أَبي هَمَّامٍ السكوني، عنه أيضاً، وأبو همام يقول في روايته: "حَدَّثني سَعِيد بْنُ أَبِي سَعِيد الزُّبَيْدِيُّ"، فهل نقول هنا إن أبا همام دلّسه أيضاً؟

وأبو همام ثقة لا يُدلس وقد سماه: "سعيد بن أبي سعيد" كما فعل بقية، فأين التدليس؟

وأما تدليس لسعيد أيضاً بقوله: "حَدَّثني الزُّبَيْدِيِّ" ليوهم أنه "محمد بن الوليد الزبيدي" الثقة! فهذا لا يصح! وبقية لم يدلسه ليوهم أنه الزبيدي الثقة.

والحديث رواه ابن عدي في ترجمته قال: أخبرنا أبو يعلى، قال: حَدَّثَنا عَبدالجَبَّارِ بنُ عَاصِمٍ، قال: حَدَّثَنا بَقِيَّةُ، عَنْ سَعِيد بنِ أَبِي سَعِيد الزُّبَيْدِيّ، عَنْ هِشَامَ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «اكْتَحَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهو صَائِمٌ».

ورواه أيضاً عن أَحْمَد بن عَامِرٍ البَرْقَعِيدِيّ، قال: حَدَّثَنا كَثِيرُ بنُ عُبَيد، قال: حَدَّثَنا بَقِيَّةُ، عَنْ سَعِيد الزُّبَيْدِيّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «رُبَّمَا اكْتَحَلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهو صائم».

ورواه عن الحُسَيْن بن عَبداللَّهِ القطان، قال: حَدَّثَنا أَبُو التَّقِيِّ، قال: حَدَّثَنا بَقِيَّةُ، قال: حَدَّثني الزُّبَيْدِيّ، عَنْ هِشَامَ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «اكْتَحَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسلَّمَ، وَهو صائم».

قلت: فهذه روايات الحديث عن بقية، لا يمكن أن يكون بقية حدث بها هكذا مرة قال: "عن سعيد بن أبي سعيد الزبيدي"، ومرة قال: "عن سعيد الزبيدي"، ومرة قال: "حدثني الزبيدي"!!

فلو أنه دلسه لكانت الرواية دون بيان الاسم في بعضها، والظاهر أن الرواة عنه هم من اختصروا اسمه. والظاهر أن الذي فعل ذلك أبو التقي، فقد رةى ابن ماجه الحديث في «سننه» (1/536) (1678) قال: حَدَّثَنَا أَبُو التَّقِيِّ هِشَامُ بنُ عَبْدِالمَلِكِ الْحِمْصِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْدِيُّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، به.

وكذا رواه الطبراني في «مسند الشاميين» (3/75) (1830) قال: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِرْقٍ الْحِمْصِيُّ، قال: حدثَنَا أَبُو تَقِيٍّ هِشَامُ بْنُ عَبْدِالْمَلِكِ، قال: حدثَنَا بَقِيَّةُ، قال: حدثَنَا الزُّبَيْدِيُّ، عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، به.

فبقية لم يُدلسه وإنما سماه: «سعيد بن أبي سعيد الزبيدي».

ورواه الطبراني في «المعجم الصغير» (1/246) (401) قال: حَدَّثَنَا الحُسَيْنُ بنُ تَقِيِّ بنِ أَبِي تَقِيٍّ الحِمْصِيُّ، حَدَّثَنِي جَدِّي أَبُو تَقِيٍّ هِشَامُ بنُ عَبْدِالْمَلِكِ، قال: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتِ: «اكْتَحَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ صَائِمٌ».

قال الطبراني: "لَمْ يَرْوِهِ عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ إِلَّا الزُّبَيْدِيُّ، تَفَرَّدَ بِهِ بَقِيَّةُ".

قلت: الظاهر أن من نسبه هو "الحسين بن تقي" فوهم! فالزبيدي هنا ليس محمد بن الوليد، وإنما هو سعيد بن أبي سعيد.

وقد تقدّم نقل د. اللحيدان عن ابن رجب قوله عن بقية: "وكان ربما روى عن سعيد بن عبدالجبار الزُبيدي أو عن زرعة بن عمرو الزُبيدي - وكلاهما ضعيف الحديث - فيقول: "ثنا الزُبيدي" فيظن أنه محمد بن الوليد الزُبيدي صاحب الزهري، وقد تقدم له عنه في كتاب الصيام في باب الكحل للصائم حديث رواه عن الزُبيدي، وظنه بعضهم محمد بن الوليد، فنسبه كذلك، وأخطأ وإنما هو: سعيد بن عبدالجبار".

قلت: لعل ابن رجب يقصد رواية الحسين بن تقي التي نسب فيها الزبيدي فقال: "محمد بن الوليد" فوهم!

وكلام ابن رجب أن بقية كان يُحدث عن سعيد بن عبدالجبار الزبيدي فيقول: "حدثنا الزبيدي" فيه نظر! ولا دليل عليه! بل بينت أن بقية ا علاقة له بمن حدّث عنه وقال: "حدثني الزبيدي"! وإنما هذا من الرواة عنه.

وكان د. أبو سمحة قال في بيان اختلاف العلماء حول "سعيد بن أبي سعيد": ["ثانياً: وصفه بالجهالة: ذهب إلى هذا الرأي ابن عدي؛ حيث قال في ترجمته: "شيخ مجهول، وأظنه حمصياً، حدث عنه بقية وغيره، حديثه ليس بالمحفوظ". والبيهقي أيضاً بقوله: "من مجاهيل شيوخ بقية، ينفرد بما لا يتابع عليه". ومال ابن الملقن إلى قولهما بقوله: "والقلب إِلَى ما قَالَه ابن عدي ثم البيهقي". وكذا الذهبي حيث قال في ترجمته: "لا يعرف، وأحاديثه ساقطة". بينما نجد أن ابن الجوزي رد قولهما فقال: "وقد ظن بعض العلماء أن الزبيدي في هذا الحديث هو: محمد بن الوليد، الثِّقة الثَّبت، وذلك وهمٌ، وإنَّما هو سعيد بن أبي سعيد- كما صرح به في رواية البيهقي وغيره-، وليس هو بمجهولٍ- كما قاله ابن عدي والبيهقي- بل هو سعيد بن عبدالجبار الزبيدي الحمصي، وهو مشهورٌ لكنَّه مجمعٌ على ضعفه. وأبو أحمد بن عدي فرق في كتابه بين (سعيد بن أبي سعيد) وبين (ابن عبدالجبار) وهما واحد"].

ووثق ذلك في الحاشية رقم (49): "تنقيح التحقيق: 3/249)".

قلت:

وهم أبو سمحة هنا في النقل! فهذا كلام الحافظ ابن عبدالهادي، وكتاب «تنقيح التحقيق» له، لا لابن الجوزي!

وكتاب ابن الجوزي هو: «التحقيق في مسائل الخلاف» وهو ذكر المسألة في كتابه (2/90) فقال: "مَسْأَلَةٌ: إِذا اكتحل بِمَاء يَصِلُ إِلَى جَوْفِهِ أَفْطَرَ، وقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يفْطر".

وابن عبدالهادي نقّح كتاب ابن الجوزي وسماه «تنقيح التحقيق» وكلامه كاملاً هو: "وقد ظنَّ بعض العلماء أنَّ الزُّبيديَّ في هذا الحديث هو: محمَّد بن الوليد، الثِّقة الثَّبت، وذلك وهمٌ، وإنَّما هو سعيد بن أبي سعيد- كما صُرِّح به في رواية البيهقيِّ وغيره-، وليس هو بمجهولٍ- كما قاله ابن عَدِيٍّ والبيهقيُّ- بل هو سعيد بن عبد الجبَّار الزُّبيديُّ الحمصيُّ، وهو مشهورٌ لكنَّه مجمعٌ على ضعفه. وأبو أحمد بن عَدِيٍّ فرَّق في كتابه بين (سعيد بن أبي سعيد) وبين (ابن عبدالجبَّار) وهما واحد، وروى هذا الحديث في ترجمة سعيد بن أبي سعيد الزُّبيديِّ، فرواه من رواية أبي التَّقِيِّ عن بقيَّة كرواية ابن ماجه، ورواه من رواية عبدالجبَّار بن عاصم عن بقيَّة فقال: (عن سعيد بن أبي سعيد الزُّبيديِّ)، ورواه من رواية كثير بن عُبيد عن بقيَّة فقال: (عن سعيد الزُّبيديِّ). ويظهر من هذا أنَّ بقيَّه سمَّى الزُّبيديَّ لبعض من رواه عنه دون بعض، أو سمَّاه لجميعهم ولكنَّ أبو التَّقيِّ الحمصيُّ لم ينسب الزُّبيديِّ، ليوهم أنَّه محمَّد بن الوليد الثَّقة المشهور، أو لأنَّه لو سمَّاه لبيَّن ضعف الحديث، والله أعلم".

قلت: كلام ابن عبدالهادي الذي لم ينقله أبو سمحة مهم هنا، وقد بيّن كيف سمى الرواة عن بقية اسم الشيخ، وذكر احتمالين: أن بقية سمى الزبيدي لبعض من رواه عنه دون بعض، أو سماه لجميعهم، والأظهر الثاني، وأبو التقي لم ينسبه كما قال، لكنه أبعد النجعة في أن أبا التقي لم ينسبه ليوهم أنه محمد بن الوليد الثقة المشهور، أو لأنه لو سماه لبيّن ضعف الحديث!!

فهذا لا يوافق عليه أبداً! فأبو التقي ثقة ولم يقصد أي شيء من عدم نسبته، وإنما هو من باب الاختصار فقط، والظاهر أن هذا الحديث كان معروفاً عن بقية عن سعيد الزبيدي، فعندما حدث به أبو التقي عن بقية لم يحتج لأن يسميه، فقال: "عن الزبيدي"، والله أعلم.

وزاد أبو سمحة الطين بلة بما قاله في حاشية تخريجه لهذا الحديث: "أخرج روايته: ابن ماجه، السنن1/536، أبو يعلى، المسند 8/225، ابن عدي، الكامل 3/405، والطبراني، مسند الشاميين 3/75. غير أنه قال: عن بقية عن الزبيدي. قلت: وهنا نوع آخر من أنواع تدليس الشيوخ؛ وهو المتسبب في ظن الضعيف ثقةً؛ ذلك أن بقية اعتاد الرواية عن الزبيدي الثقة، فأطلق هنا النسب إيهاما للناظر بأنه الثقة، وقد نبه على ذلك الزيلعي بقوله: "وظن بعض العلماء أن الزبيدي في سند ابن ماجه هو محمد بن الوليد الثقة الثبت، وذلك وهم وإنما هو سعيد بن أبي سعيد الزبيدي كما هو مصرح به عند البيهقي ولكن الراوي دلسه". انظر: نصب الراية 2/331" انتهى.

قلت:

رجع للقول بأن بقية دلسه وجعله نوع آخر من أنواع تدليس الشيوخ! والمصيبة أن روايات ابن عدي للحديث أمامه وهي واضحة في أن بقية لم يُدلّسه، لكنه لم يستفد منها؛ لأنه يريد أن يُدلل على مسألة تدليس بقية بأيّ طريقة!

وقول الزيلعي إنما أخذه من ابن عبدالهادي، والزيلعي ساق كلامه بعد، ولم ينبه أبو سمحة عليه.

ثم خلطه للروايات في التخريج وطريقته في ذلك! فرواية ابن عدي عن أبي يعلى وكان ينبغي له التنبيه على ذلك، ورواية أبي يعلى "عن سعيد بن أبي سعيد الزبيدي"، ورواية ابن ماجه والطبراني "عن الزبيدي"، وكان ينبغي له التنبيه على ذلك أيضاً؛ لأنه هو نفسه من أقحم في ذلك تدليس بقية وهو بريء منه.

والخلاصة أن سعيد بن أبي سعيد الزبيدي هو سَعِيدُ بنُ عَبْدِالجَبَّارِ الزُّبَيْدِيُّ الحِمْصِيُّ أَبُو عُثْمَانَ.

ولا يوجد دليل على أن بقية كان يدلسه بقوله: "سعيد بن أبي سعيد" لأن غير بقية كأبي همام السكوني كان يحدث عنه ويقول أيضا: "سعيد بن أبي سعيد الزبيدي"، فإذا حدثوا عنه هكذا عُرف أنه ابن عبدالجبار.

وأخطأ ابن عدي في التفريق بينهما ظنّاً منه أن سعيد بن أبي سعيد هذا من شيوخ بقية المجاهيل.

وقد روى ابن عساكر في «تاريخه» (67/37) من طريق أبي يعلي الموصلي، قال: حدثنا أبو همام الوليد بن شجاع، قال: حدثني سعيد الزبيدي - وهو ابن عبدالجبار-، قال: حدثني حيي بن مخمر الوصابي...

وذكر الخطيب في «المتفق والمفترق» (2/1050): "سعيد بن أبي سعيد الزبيدي الشامي"، وقال: "واسم أبيه عبدالجبار، حدّث عن هشام بن عروة، وبشر بن منصور، وجرير بن عثمان، وصفوان بن عمرو، وأبي بكر بن أبي مريم. روى عنه: بقية بن الوليد الحمصي، ويحيى بن المغيرة، وهشام بن عبدالله الرازيان، ومحمد بن أبي بكر المقدمي. وكان غير ثقة".

وذكر أيضاً (2/1101): "سعيد بن عبد الجبار الزبيدي"، وقال: "وهو سعيد بن أبي سعيد الشامي، وقد ذكرناه في ترجمة سعيد بن أبي سعيد".

والخلاصة أن بقية لم يُدلّسه.

·       المثال الثالث:

قال د. أبو سمحة: "المطلب الثالث: عبد االله بن عمر: روى بقية عن عبداالله بن عمر عن أبي الزناد عن ابن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى االله عليه وسلم قال: "لا نكاح إلا بإذن الرجل والمرأة.

أقوال العلماء فيه: تباينت فيه الآراء ففي حين جهله الإمام الدارقطني جهالة عين؛ حيث قال: "وروى بقية بن الوليد عن شيخ له مجهول سماه عبداالله بن عمر... الحديث"، نجد أن ابن أبي حاتم بين أنه عبداالله العمري، ويظهر هذا مسألته أبيه؛ قال: "سألت أبي عن حديث رواه بقية عن عبد االله بن عمر العمري عن أبي الزناد.. الحديث. وكذا فعل عبد الحق الأشبيلي فقد أورده مبيناً أنه العمري، وسار على مساره القطان في بيان الوهم والإيهام. أما ابن عدي فقد ذكره في ترجمة بقية دون أن ينسبه، ولم يذكر هذه الرواية في ترجمة العمري وقال: "وهذا الحديث بهذا الإسناد لا يرويه عن عبداالله بن عمر غير بقية" انتهى.

قلت:

لم يذكر د. اللحيدان هذا المثال، وهو مثال لا يستقيم هنا في هذا البحث! فبقية لم يُدلسه.

وهو عبدالله بن عمر بن حفص العمري بحسب ما نسبه ابن أبي حاتم أو أبوه، وهو ضعيف.

وهو من شيوخ بقية المجاهيل عند الدارقطني، فقد الاختلاف في أسانيد هذا الحديث في "العلل" (9/199) وقال: "ورَوَى بَقِيَّةُ بنُ الوَلِيدِ عَنْ شَيْخٍ لَهُ مَجْهُولٍ سَمَّاهُ: عَبْدَاللَّهِ بنَ عُمَرَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنْفَعَ الْحِمْيَرِيُّ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ ابنِ المُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا نِكَاحَ إِلَّا بِإِذْنِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ. وخَالَفَهُ عُمَرُ بنُ صَهْبَانَ فَرَوَاهُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَصِحُّ واحد منهما".

وعبدالله بن عمر بن أنفع الحميري لا يوجد له ذكر في كتب الأئمة.

والذي أراه أنه مشهور ومعروف لقول ابن عدي بعد روايته للحديث في ترجمة بقية: "وهذا الحَدِيث بَهَذَا الإِسْنَادِ لا يَرْوِيهِ عَنْ عَبداللَّهِ بن عُمَر غير بقية".

والأرجح أنه "عُبيدالله بن عمر العمري" أخو عبدالله! فهو الذي ذكروا له رواية عن أبي الزناد!

وذكر المزي في ترجمة بقية (4/193) أنه روى عن عبدالله بن عُمَر العُمَري، وعُبَيداللَّه بن عُمَر العُمَري (س).

وبقية له روايات عن عبيدالله، فيكون حصل تحريف في الكتب فصار "عبدالله".

وقال أبو داود: سمعت أحمد يقول: "روى بقية عن عبيدالله بن عمر مناكير"، وهذا منها، والله أعلم.

وعلى فرض أن بقية رواه "عن عبدالله بن عمر" فأين التدليس بحسب قول الدكتور؟ ومن الذي قال بأن بقية دلسه؟!

·       المثال الرابع:

قال د. أبو سمحة: "المطلب الرابع: عمر بن أبي عمر الكلاعي: هو عمر بن أبي عمر الكلاعي أبو محمد الدمشقي، نص على ذلك المزي وابن خحر، وجهله الدارقطني، وابن عدي، والبيهقي، وابن حجر. وقد عرف بأسماء وكنى غيرها، وهي على وجه الحصر...

أولاً: أبو أحمد الكلاعي، أو أبو أحمد بن علي الكلاعي...

ثانياً: أبو محمد الكلاعي...

ثالثاً: عمر بن موسى الكلاعي: ذكره ابن حجر العسقلاني...

رابعاً: عمر الدمشقي: ويظهر ذلك من فعل ابن عدي في الكامل؛ فقد أورد في ترجمة عمر بن أبي عمر أحاديث يرويها بقية عن عمر الدمشقي مما يدلل على أنه عمر بن أبي عمر.

على ضوء ما سبق يتبين لنا أن عمر بن أبي عمر هو: أبو أحمد الكلاعي وأبو أحمد بن علي الكلاعي وأبو محمد الكلاعي وعمر بن موسى الكلاعي وعمر الدمشقي. لنتساءل هنا: هل عمر هذا هو مجهول حقيقة أم أنه من الرواة الذين دلسهم بقية تدليس شيوخ وأخفى عنا اسمه الحقيقي وأعطاه كل هذه الأسماء والكنى؛ ذلك أنه لم يرو أحد عن هذه الأسماء والكنى سوى بقية؟ من خلال التتبع والبحث وجدت أن بقية دلس هذا الراوي تدليس شيوخ ويتضح ذلك من خلال الكشف عن علاقته بعمر بن موسى الوجيهي والتي نبينها على النحو الآتي..." انتهى.

قال د. اللحيدان: "مثال (8):

في ترجمة: عمر بن موسى الوَجِيهي الحمصي، متهم، وكان بقية يُدلس نسبه بغير ما اشتهر به فيقول: ((عن عمر الدمشقي))، قال ابن أبي حاتم: ((سألت أبي عن حديث رواه بقية، عن عمر الدمشقي، عن مكحول، عن واثلة بن الأَسْقَع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر: "جعلت له مأدبة، وأكل متكئاً، وأطلى بنورة، وأصابته الشمس" قال أبي: هو عمر بن موسى الوَجِيهي، وهذا حديث باطل)).

وقد خفي أمره على الإمام الذهبي، حيث قال: ((عمر الدمشقي: لا يُعتمد عليه، ولا يُعرف: ابن راهويه: "أخبرنا بقية، عن عمر الدمشقي، عن القاسم، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حمل بضاعته بيده برىء من الكبر"))، وقال الحافظ ابن حجر: ((لعله الوَجِيهي)).

ودلسه بقية مرة أخرى بقوله: ((حدثنا عمر المَيْتَمي))، ومرة بقوله: ((عمر بن موسى الشامي)) قال الإمام يحيى بن معين: ((عمر بن موسى الشامي الذي يُحدث عنه بقية، هو: الوَجِيهي، كذاب ليس بشيء))" انتهى.

قلت:

قد فصّل أبو سمحة في هذا أكثر مما أجمله اللحيدان.

وقد فصّلت فيما قاله أبو سمحة فيما ناقشته قديما تحت هذا الرابط:

http://www.addyaiya.com/uin/arb/Viewdataitems.aspx?ProductId=464

 وبيّنت أن الأئمة المتقدمين فرّقوا بين "عمر بن أبي عمر الكلاعي الدمشقي أبو محمد" و"أبو أحمد" شيخ بقية المجهول، وبين "عمر بن موسى بن وجيه الوجيهي الدمشقي"، وهو معروف بكذبه ووضعه للحديث.

وقد روى عنهما بقية وحصل بعض الخلط بين حديثيهما.

·       المثال الخامس:

قال د. أبو سمحة: "المطلب الخامس: أبو الحجاج المهري: هو رشدين بن سعيد. نبه على ذلك علماء الجرح والتعديل في ترجمتهم، واقتفوا بذلك أثر قول أبي يوسف الرقي؛ قال: "إذا سمعت بقية يقول: حدثنا أبو الحجاج المهري فاعلم أنه رشدين بن سعد. قلت: غير أن هذا الأمر فات الزيلعي فجهله في تعليقه على حديث النبي صلى االله عليه وسلم: "لَا يملك العبد والمكاتب شيئاً إلَّا الطَّلَاقَ". قال: "أَخْرجه الدارقطُني في "سننه" عن بقية عن أبي الحجاج المهري، وبقية غالب شيوخه مجاهيل وهذا منهم". وهذه مما أخطأ فيه الزيلعي وفاتته تكنية بقية لرشدين بها لا سيما أنه ضعف رشدين في أكثر من موضع" انتهى.

وذكر هذا المثال أيضاً بتمامه في بحث الآخر: "تدليس الشيوخ وعلاقته بالجهالة" (ص41)، قال: "المثال الثامن: أبو الحجاج المهري: جهلَه الزيلعي في تعليقه على حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا يملك العبد والمكاتب شيئاً إلَّا الطَّلَاقَ". قال: "أَخْرجه الدارقطُني في "سننه" عن بقية عن أبي الحجاج المهري، وبقية غالب شيوخه مجاهيل وهذا منهم". والصواب أن أبا الحجاج المهري إنما هو رشدين بن سعد، قال أبو يوسف الرقي مبيناً ذلك: "إذا سمعت بقية يقول: حدثنا أبو الحجاج المهري فاعلم أنه رشدين ابن سعد". ورشدين هذا ضعفه أبو حاتم والنسائي وابن حبان، قال أبو حاتم: لا يحتج به. وقال الزيلعي فيه: "أكثر الناس ضعفاً"، وهذا يدل على أنه لم يعرف أن أبا الحجاج هي كنية رشدين، وذلك بسبب تدليس بقية له".

قلت:

هذا المثال من زيادات أبو سمحة، ولم يذكره اللحيدان.

وفي هذا المثال نعم جهله الزيلعي بسبب تكنية بقية له، لكن الأئمة يعرفون أن أبا الحجاج المهري الذي يروي عنه بقية هو: رِشدين بن سعد المصري الضعيف، وهذا مشهور عندهم، ولهذا لم يقعوا فيما وقع فيه الزيلعي.

قال ابن عدي في ترجمته من «الكامل» (4/68): "رشدين بْن سعد، وَهو ابن أبي رشدين، وأَبُو رشدين اسمه سعد، يُكَنَّى أبا الحجاج المِهْري مصري.

سمعت مُحَمد بْن سَعِيد الْحَرَّانِيُّ يَقُولُ: سَمعتُ هِلالَ بْنَ الْعَلاءِ يَقُولُ: سَمعتُ أَبَا يُوسُفَ الرقي يقول: إذا سمعت بقية يقول: حَدَّثَنا أبو الحجاج المهري فاعلم أنه يريد به رشدين بن سعد، وَإذا سمعته يقول: حَدَّثَنا أبو مسكين الرقي فاعلم أنه يريد به طلحة بْن زيد".

وقال ابن حجر في «تهذيب التهذيب» (12/68): "أبو الحجاج المهري هو: رشيدين بن سعد، كذا يقول بقية إذا روى عنه".

فالأئمة عرفوا تدليس بقية له بهذا فلم يقعوا في الخطأ، ووقع فيه الزيلعي، وغاب عنه ذلك، فكان ماذا؟

·       المثال السادس:

قال د. أبو سمحة: "المطلب السادس: أبو الفضل: جهله أبو حاتم الرازي وابن حجر. روى عنه بقية حديثا واحدا أخرجه ابن أبي حاتم الرازي في العلل قال: "سألت أبي عن حديث رواه بقية عن أبي الفضل عن مكحول عن ابن عباس عن النبي قال: "من سعادة المرء خفة لحيته". قلت لأبي: من أبو الفضل هذا؟ قال: شيخٌ مجهول. وقال أبي: هذا حديث موضوع باطل". وهذه منه جهالة عينٍ لأبي الفضل؛ لكن غيرهم من العلماء بينوا أن أبا الفضل هذا إنما هو بحر بن كنيز المعروف ببحر السقاء، ومن هؤلاء ابن الجوزي في قوله بعد تخريجه الحديث السابق راداً تجهيل من جهله: "وفيه بقية وكان من المدلسين يروى عن الضعفاء ويدلسهم، وقد قال في هذا الحديث عن أبي الفضل وهو بحر بن كنيز السقاء، فكناه ولم يسمه تدليساً". وقال الذهبي في ترجمة بحر: "أبو الفضل هو بحر". وبنحو ذلك قال السيوطي. قلت: وهذا يدلل على أن تدليس بقية إنما هو المسبب للجهالة في قول أبي حاتم وابن حجر، لاسيما إذا عرفنا أن لبقية روايةً عن بحر السقاء" انتهى.

وقال في حاشية رقم (106): "قلت: ومما يذكر هنا أن الثوري دلسه أيضاً غير أن النقاد عرفوا فعله؛ فقال ابن حبان في ترجمة بحر: "كان الثوري إذا روى عنه يقول: حدثني أبو الفضل حتى لا يعرف". انظر: المجروحين 1/192" انتهى.

قال د. اللحيدان: "مثال(1):

في ترجمة: بَحر بن كَنيز الباهلي أبي الفضل البصري المعروف بالسّقّاء، ضعيف، وكان بقية يُدلسه مقتصراً على كنيته، وهو مشهور باسمه ونسبه ولقبه، فيقول: ((عن أبي الفضل))، قال ابن الجوزي: ((بقية كان من المدلسين يروي عن الضعفاء ويُدلّسهم، وقد قال في هذا الحديث: "عن أبي الفضل"، وهو: بَحر بن كَنيز السّقّاء، فكنّاه ولم يُسمّه تدليساً))".

وقال في بيان تدليس سفيان الثوري للشيوخ: "مثال (17):

"في ترجمة: بَحر بن كَنيز الباهلي أبي الفضل البصري المعروف بالسّقّاء، ضعيف، وكان الإمام سفيان الثوري إذا روى عنه اقتصر على كنيته، قال يحيى بن سعيد القطان: ((كان سفيان الثوري يُحدثني، فإذا حدثني عن الرجل يعلم أني لا أرضاه كنّاه لي ،فحدثني يوماً قال: "حدثني أبو الفضل" يعني: بحراً السقاء))، وقال أبوحاتم: ((روى عنه الثوري، وكناه ولم يُسمّه))، وقال ابن حبان: ((كان ممن فحش خطؤه وكثر وهمه حتى استحق الترك، وكان الثوري إذا روى عنه يقول: "حدثني أبو الفضل"؛ حتى لا يُعرف))، وقال الإمام المِزِّي: ((روى عنه سفيان الثوري، وكنّاه ولم يُسمِّه))" انتهى.

قلت:

تبع الدكتور ابن الجوزي في أن "أبا الفضل" هذا هو "بحر بن كنيز"! لأن كنية بحر "أبا الفضل".

وتبع ابن الجوزي على ذلك الذهبي وقد قال في "تلخيص كتاب ابن الجوزي في الموضوعات": "وأَيْضًا من طَرِيق سُوَيْد بن سعيد، عَن بَقِيَّة، عَن أبي الْفضل - فَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: هُوَ بَحر بن كنيز-، عَن مَكْحُول، عَن ابن عَبَّاس". وتبعه أيضاً السيوطي في "اللآلئ المصنوعة".

وأيّد الدكتور ذلك بوجود ثلاث روايات في بعض الكتب لبقية عن بحر!

وهنا نجده يستدرك على أبي حاتم بكلام مظنون لابن الجوزي!!

والغريب أننا إذا بينا وهماً ما لأبي حاتم وغيره بالدليل خرج علينا الباحث وعرَّض بنا! ولسان حاله: أين أنتم من أبي حاتم الرازي!!

ولو أن الدكتور ببحثه المضني كما قال في تمهيد بحثه أتى بحجة قوية لقبلنا قوله! فكيف وهو قد اعتمد على قول لا برهان عليه!

فلو كان "أبو الفضل" هذا الذي روى عنه بقية هو "بحر بن كنيز السقاء" لعرفه أبو حاتم، وقد ترجم له ابنه من كلام والده، فقال في "الجرح والتعديل" (2/418) (1655): " بَحْرُ بْنُ كُنَيْزٍ أَبُو الْفَضْلِ السَّقَّاءُ الْبَاهِلِيُّ. روى عن الحسن، والزهري، وعبدالعزيز بن أبي بكرة. روى عنه: الثوري [قال أبو محمد: وكنّاه ولم يُسمّه]، روى عنه يزيد بن هارون. سمعت أبي يقول ذلك".

قال عبدالرحمن: حدثنا أبي: حدثنا محمد بن المنهال الضرير قال: سمعت يزيد بن زريع يقول: "بحر السقاء كان لا شيء".

وقال: سئل أبي عن بحر بن كنيز السقاء فقال: "ضعيف".

ولا تُستبعد رواية بقية بن الوليد (197هـ) عن بَحْر بن كَنِيزٍ السَّقَّاءَ (160هـ)، فبحر من طبقة شيوخ بقية.

لكن لا يوجد دليل على أن بقية سمع من بحر! وبحر بصري، وبقية شامي نزل بغداد، ولا يُعرف أنه لقيه!

وهذا الحديث الذي رواه بقية عن أبي الفضل لم يروه أحد من أهل البصرة وغيرهم عن بحر السقاء! ولا يُعرف عنه، وهذه قرينة على أن أبا الفضل هذا الذي روى عنه بقية هذا الحديث ليس ببحر السقاء!

وكأن ابن الجوزي لم رأى أن كنية بحر السقاء "أبا الفضل" ذهب إلى أنه هو!

وأما استدلال ال بما قاله ابن عدي في ترجمة "بحر بن كنيز" بأن بقية روى عنه، وساق الباحث ثلاثة أحاديث لبقية عنه ليؤيد أنه هو "أبو الفضل" فليس بدليل! بل هو ظنّ مجرد!

وابن عدي قال في ترجمة "بحر السقاء" (2/235): "قَدْ رَوَى عَنْهُ بَقِيَّةُ أَحَادِيثَ"! وذكر حديثاً واحداً فقط.

وساق له حديثاً عنه بواسطة!

قال حَدَّثَنَا مُحَمد بنُ أَحْمَدَ بْنِ عَنْبَسَةَ، قال: حَدَّثَنا كَثِيرُ بْنُ عُبَيد، قال: حَدَّثَنا بَقِيَّةُ، عَنْ عِيسَى بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ بَحْرٍ السَّقَّاءِ، عَن أَبِي عِيَاضٍ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: «مَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ فَضَرَبَنِي بِرِجْلِهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَوَجَبَ عَلَيَّ الْوُضُوءُ؟ قَال: لاَ حَتَّى تَضَعَ جَنْبَكَ».

فلو كان بقية روى عنه - على قلة ما قيل إنه رواه عنه - فلم يروي عنه بواسطة؟

ولم يُدلّسه في ذلك الحديث، وهو قد ذكر اسمه في أحاديث أخرى بحسب ما رُوي عنه؟!!

على أننا لا نُسلّم بصحة سماع بقية من بحر السقاء!

والأحاديث الثلاثة التي ذكرها الدكتور في حواشي بحثه:

الحديث الأول:

ما رواه الطبراني في «المعجم الأوسط» (9/104) (9254) قال: حَدَّثَنَا وَاثِلَةُ بْنُ الْحَسَنِ الْعَرْقِيُّ، قال: حدثنَا كَثِيرُ بْنُ عُبَيْدٍ الْحِمْصِيُّ، قال: حدثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، عَنْ بَحْرٍ السَّقَّاءِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يُؤْمِنُ الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ؟».

قال الطبراني: "لَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ بَحْرٍ السَّقَّاءِ إِلَّا بَقِيَّةُ بْنُ الوَلِيدِ".

قلت: هذا الحديث مشهور عند البصريين عن محمد بن زياد عن أبي هريرة، رواه عنه جماعة منهم: حماد بن زيد، ويونس بن عبيد، وشعبة بن الحجاج، وحماد بن سلمة، وعباد بن منصور، وعمر بن أبي خليفة، وعَبْدالله بن المختار.

وبحر السقاء بصري، ورواية بقية عنه لا تعني بالضرورة أنه سمعه منه! فهو مدلّس ورواه عنه بالعنعنة، فلو أراد تدليس اسمه لفعل هنا! لكن يبدو أنه أسقط من حدثه به عن بحر ورواه بالعنعنة، والله أعلم.

الحديث الثاني:

ما رواه تمام في «فوائده» (1/291) (726) قال: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ القِنَّسْرِينِيُّ، قال: حدثنا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ الْبَغْدَادِيُّ، بِأَنْطَاكِيَةَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، قال: حدثنا يَعْقُوبُ بنُ كَعْبٍ، قال: حدثنا بَقِيَّةُ، عَنْ بَحْرٍ السَّقَّاءِ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا جَامَعَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا. قَالَ: فَإِنْ حُمِلَ لَهُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ».

قال: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، قال: حدثنا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ، قال: حدثنا يَعْقُوبُ بْنُ كَعْبٍ، قال: حدثنا بَقِيَّةُ، عَنْ شُعْبَةَ، وَوَرْقَاءَ، وَقَيْسٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَهُ.

قال الدارقطني في «الغرائب والأفراد» [كما في الأطراف: (3/315) (2767): "تفرد بِهِ بَقِيَّة عَن بَحر السقاء، وَهُوَ غَرِيب عَن وَرْقَاء وَقيس عَن مَنْصُور".

قلت: وهذه الرواية لا تثبت أن بقية سمع من بحر! ويُحتمل أنه دلسها فأسقط من حدثه بها عن بحر، وإلا لاكتفى بتدليسه وأتى بكنيته! والله أعلم.

الحديث الثالث:

ما رواه ابن عدي في «الكامل» (2/233) قال: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنُ يُونُس، قال: حَدَّثَنا كَثِيرُ بْنُ عُبَيد، قال: حَدَّثَنا بَقِيَّةُ، عَنْ بَحْرٍ السَّقَّاءِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَن ابن أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: «أَنّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسلَّمَ دَخَلَ الْكَنِيفَ فَلَمَّا خَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَقَدْ جَعَلَ لَهُمْ غَدَاءً فَلَمَّا رَآهُمْ قَعَدُوا لَمْ يَتَوَضَّأْ قَالَ: إِنَّمَا أُمِرْتُ بِالْوُضُوءِ لِلصَّلاةِ».

فهذه الأحاديث الثلاثة يرويها بقية عن بحر بالعنعنة، وهو مدلس معروف. ولا يمكن اعتماد هذه الأحاديث في إثبات سماعه منه، بل هي حجة على أنه لم يُدلس اسم بحر، ولو أراد ذلك لدلّسه هنا.

وكذلك مما يدل على أن أبا الفضل الوارد في الحديث السابق ليس هو بحر بن كنيز أن شيخه الذي روى عنه شامي "مكحول"، فلو كان بصرياً لكان ذلك قرينة على أن أبا الفضل هو بحر، لكن كونه شامياً دلّ على أنه من شيوخ بقية الشاميين المجاهيل، والله أعلم.

·       المثال السابع:

قال د. أبو سمحة: "المطلب السابع: أبو بكر العنسي النقاد فيه على النحو الآتي: منهم من ذهب إلى تجهيله جهالة عين نحو قول البيهقي وابن عدي. ومنهم من ذهب إلى تضعيفه رافعاً الجهالة عنه؛ نحو قول أبي زرعة الرازي... ومنهم من ذهب إلى احتمالية كونه أبو بكر بن أبي مريم؛ وهو قول ابن حجر...".

ثم أتى بأحاديثه الأربعة، ثم رجح أنه هو ابن أبي مريم.

قلت:

هذا المثال لم يأت به د. اللحيدان، وهو مثال لا علاقة له بتدليس بقية!

فرجّح أبو سمحة أن أبا بكر العنسي هو ابن أبي مريم الضعيف، وأنّ بقية دلّسه، وهذا الذي أدى إلى عدم معرفة بعض اهل العلم له فجهّلوه!

أما ترجيحه أنه هو أبو بكر ابن أبي مريم فصحيح، لكن السؤال: هل دلّسه بقية بحيث خفي على ابن عدي وغيره فجهّلوه؟

إن قلنا بأن بقية دلسه ولما روى عنه قال: "أبو بكر العنسي" فماذا يقول الدكتور فيما ساقه ابن عدي في ترجمته من حديث يحيى بن صالح الوحاظي، قال: حَدثنا أَبو بكر العنسي، عن أبي قَبيل، عن ابن عُمر، عن أبيه، قال: «خرجنا مع رسول الله صَلى الله عَليه وسَلم في ثماني عشرة ليلة من شهر رمضان، إذا برجل يحتجم، فلما رآه رسول الله صَلى الله عَليه وسَلم قال: أفطر الحاجم والمحجوم، فقلتُ، يا رسول الله، أفلا آخد بعنقه،- قال الشَّيخ: يعني حجمه حتى كسره -، قال: ذره، فما لزمه من الكفارة أعظم مما تريد به، قال: قلتُ: وما كفارة ذلك يا رسول الله؟ قال: يوم مثله، قال: قلتُ: إذن لا تجده، قال: إذن لا أبالي».

فهذا يحيى بن صالح الوحاظي الحمصي وهو ثقة رواه عنه وقال: "أبو بكر العنسي"، فهل دلسه أيضاً كما فعل بقية بحسب كلامك؟!

إن قلت: نعم، فقد افتريت عليه لأنه ليس بمدلّس!

وإن قلت: لا، فقد هدمت قولك في أن بقية دلسه، ولزمك أن تقول بأن الوحاظي دلسه كذلك!

ومن هنا نرى منزع ابن عدي في عدّه من شيوخ بقية المجاهيل لأن الوحاظي روى عنه وسماه كما سماه بقية، فهو مجهول عنده ولا علاقة لتدليس بقية هنا.

ولهذا قال: "مجهول، له أحاديث مناكير عن الثقات، روى عنه بقية، ويحيى الوحاظي"، ثم أورد له الحديث السابق، وقال: "وهذا في متنه بعض الإنكار، وأَبو بكر العنسي له أحاديث يرويها عنه بقية والوحاظي، وهو مجهول".

وتبعه البيهقي على ذلك فقال عنه مجهول كذلك.

على أنه لم يستفد مما خرّجه الحاكم في «المستدرك» (1/471) (1212) قال: أَخْبَرَنِي أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ الْعَنَزِيُّ، قال: حدثنا عُثْمَانُ بنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، قال: حدثنا يَحْيَى بنُ صَالِحٍ الْوُحَاظِيُّ، قال: حدثنا أَبُو بَكْرٍ العَنْسِيُّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ سَالِمِ بنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا سَهْوَ فِي وَثْبَةِ الصَّلَاةِ إِلَّا قِيَامٌ عَنْ جُلُوسٍ، وَجُلُوسٌ عَنْ قِيَامٍ».

قال الحاكم: "هذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ".

وهذا أيضاً يلزم الدكتور بأن أبا بكر العنسي لم يكن بقية يدلسه وإنما هو معروف عند أهل حمص، لكنه مجهول بالنسبة لنا.

وبتصحيح الحاكم للإسناد فهو عنده ليس بمجهول على أننا لا نقره على ذلك، فإن كان هو ابن أبي مريم فهو ضعيف، وإلا فمجهول.

قال ابن الملقّن في «البدر المنير» (4/218): "قال الحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ - وَخَالفهُ البَيْهَقِيّ، فَقَالَ فِي «سنَنه»: تفرد بِهِ أَبُو بكر الْعَنسِي، وَهُوَ مَجْهُول. وَتوقف فِيهِ الحَافِظ عبدالحق فَقَالَ فِي «أَحْكَامه» كتبت هَذَا الْإِسْنَاد - يَعْنِي: السالف - حَتَّى أسأَل عَن أبي بكر هَذَا. انْتَهَى. وَعَن ابْن عدي أَنه قَالَ فِيهِ: إِنَّه مَجْهُول، لَهُ أَحَادِيث مَنَاكِير عَن الثِّقَات، رَوَى عَنهُ بَقِيَّة وَيَحْيَى الوُحَاظي.

قلت: فينكر إِذن عَلَى الْحَاكِم تَصْحِيحه، لَا جرم ذكر النَّوَوِيّ هَذَا الحَدِيث فِي فصل الضَّعِيف من «خلاصته»، وَنقل عَن البَيْهَقِيّ وغَيره أَنهم قَالُوا: تفرد بِهِ أَبُو بكر الْعَنسِي، وَهُوَ مَجْهُول، قَالَ: وغلطوا الحَاكِم فِي دَعْوَاهُ صِحَة إِسْنَاده قَالَ: والعنسي - بالنُّون -. قلت: وَيَحْيَى بن صَالح الَّذِي رَوَى هَذَا الحَدِيث عَنهُ من فرسَان الصَّحِيحَيْنِ وَهُوَ ثِقَة، وَإِنَّمَا تكلم فِيهِ لتجهُّمه".

وأما قول الدكتور بأن أبا زرعة ضعّفه ورفع عنه الجهالة بقوله السابق الذي رواه البرذعي له: قلت: أبو بكر الذي يُحدّث عن أبي قبيل؟ قال: "أبو بكر العنسي، روى عنه بقية، ويحيى بن صالح، منكر الحديث".

فتضعيفه له لا يرفع من جهالته بل الظاهر عنده أنه مجهول ضعيف، فقوله فيه: "منكر الحديث" لا يعني رفع الجهالة عنه، فكم من مجهول يُقال في حديثه: "منكر الحديث". فهو مجهول وحديثه منكر، كما قال ابن عدي فيه: "مجهول، له أحاديث مناكير عن الثقات".

وقد يكون أبو زرعة عرفه وأنه هو نفسه أبو بكر ابن أبي مريم، وقد قال ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (2/405): سئل أبو زرعة عن أبي بكر بن أبي مريم؟ فقال: "ضعيف الحديث، منكر الحديث".

وأما قول ابن حجر فإنه على الاحتماليه بأنه قد يكون هو ابن أبي مريم.

قال في «تهذيب التهذيب» (12/44): "أحسب أنه أبو بكر بن أبي مريم، فالله تعالى أعلم".

وقال في «التقريب» (ص: 625): " أبو بكر العنسي، بالنون، مجهول قاله ابن عدي. من السابعة، وأنا أحسب أنه ابن أبي مريم الذي تقدم".

وقال في «التلخيص الحبير» (2/6) بعد أن ذكر حديثاً: "وفِيهِ أَبُو بَكْرٍ العَنْسِيُّ وهُوَ ضَعِيفٌ، وقَالَ البَيْهَقِيُّ: مَجْهُولٌ، ومُقْتَضَاهُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِي بَكْرِ بنِ أَبِي مَرْيَمَ، والظَّاهِرُ أَنَّهُ هُوَ، وهُوَ ضَعِيفٌ".

والحديث الذي رواه له ابن ماجه في «سننه» (4/567) (3546) قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بنُ عُثْمَانَ بنِ سَعِيدِ بنِ كَثِيرِ بْنِ دِينَارٍ الحِمْصِيُّ، قال: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، قال: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ العَنْسِيُّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ، الْمِصْرِيَّيْنِ، قَالَا: حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا يَزَالُ يُصِيبُكَ في كُلَّ عَامٍ وَجَعٌ مِنْ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ الَّتِي أَكَلْتَ. قَالَ: «مَا أَصَابَنِي شَيْءٌ مِنْهَا إِلَّا وَهُوَ مَكْتُوبٌ عَلَيَّ وَآدَمُ فِي طِينَتِهِ».

قال المزي في «تهذيب الكمال» (33/154) (7264): "ق: أَبُو بكر العنسي. رَوَى عَن: مُحَمَّد بْن يزيد بن أَبي زياد (ق)، ويزيد بن أَبِي حبيب (ق)، وأبي قبيل المعافري. روَى عَنه: بقية بْن الوليد (ق)، ويحيى بْن صالح الوحاظي.

قال أَبُو أَحْمَد بن عدي: مجهول، له أحاديث مناكير عَنِ الثقات".

وقال الذهبي في «الميزان» (4/498): "أبو بكر العنسي: شيخ لبقية. تُكلّم فيه. وحدّث عنه أيضاً يحيى الوحاظى، وله ما ينكر. ذكره ابن عدي...".

وقد رجّح الدكتور أن أبا بكر العنسي هذا هو ابن أبي مريم لأسباب هي:

"أولاً: ممارسة بقية تدليس الشيوخ واشتهاره بذلك، لاسيما أن ابن أبي مريم ضعيف؛ فقد ضعفه أحمد وابن معين وأبو زرعة وعيسى بن يونس والجوزجاني والنسائي والدارقطني وابن سعد وابن حجر، وغيرهم.

ثانياً: أن من الأحاديث التي رواها بقية عن أبي بكر وجدتها في موضع آخر من روايته عن ابن أبي مريم كما هو الحال في الحديث الثاني كما سبق تخريجه.

ثالثاً: ما ذهب إليه ابن حجر من احتسابه لأبي بكر أنه ابن أبي مريم، كما سبق نقله.

رابعاً: الشيوخ والتلاميذ؛ فقد ذكر في تلاميذ كل منهما بقية بن الوليد، كما أن أبا قبيل المعافري شيخ مشترك فيما بينهما أيضاً، كما يظهره الحديث الثاني".

قلت: أنا أؤيد الدكتور أن أبا بكر هذا هو ابن أبي مريم، لكن أخالفه في أن بقية دلّسه! ولم يتحدث أحد من أهل العلم على أنه دلّسه! بل إن ابن حجر قال قوله على الاحتمال.

ولولا أن أبا بكر هذا معروف عند الحمصيين لما اتفق بقية والوحاظي في الرواية عنه بقولهما: "أبو بكر العنسي"، فهل الوحاظي دلسه أيضاً؟ فالجواب: لا.

ولازم كلام الدكتور أن بقية كنّاه تدليساً! فإن كان كذلك فهذا مردود؛ لأن ابن أبي مريم اسمه "أبو بكر" وهذا هو المشهور، وقد سماه بعض أهل العلم لكن لا يصح من ذلك شيء.

قال الحاكم أبو أحمد في «الكنى»: أخبرنا محمد بن المسيب، قال: أخبرنا أحمد بن عبدالواحد، قال: سألت عن اسم أبي بكر بن أبي مريم، فلم أجد أحداً يخبرني، فذهبت إلى داره فنزل شخص، فقلت: ما اسم أبيك؟ قال: "أبو بكر".

وقال ابن حبان في «المجروحين» (3/146): "أَبُو بكر بن عبدالله بن أبي مَرْيَم الغساني، من أهل حمص، يروي عَن ضَمرَة بن حبيب وَأهل الشَّام، روى عَنهُ: ابن الْمُبَارك وَأهل بَلَده، لم أسمع أحداً من أَصْحَابنَا يذكر لَهُ اسْماً".

وقال العقيلي في «الضعفاء» (3/310): "أَبُو بَكْرِ بنُ أَبِي مَرْيَمَ الغَسَّانِيُّ، اسْمُهُ عَامِرٌ، وَيُقَالُ: عَمْرٌو، وَيُقَالُ: بُكَيْرٌ".

وقال ابن عدي في «الكامل» (2/207): "اسم أَبِي بَكْر يُقال: بُكَير، ويقال: اسمه عَبدالسلام بن حميد".

وقال ابن حجر في «التقريب»: "وقد ينسب إلى جده، قيل: اسمه بكير، وقيل: عبدالسلام".

فابن أبي مريم مشهور وهو محدّث حمص واسمه المعروف: أبو بكر، فهل يستطيع بقية أن يُدلسه تدليس شيوخ؟

إذا نظرنا إلى نسبته التي جاءت في كتب الرواية وكتب الرجال وضبط بعضهم لها: «العَنسيّ» فيمكن القول بأن بقية نسبه بهذا تدليساً له! لكن يبقى الإشكال في نسبة الوحاظي له كذلك أيضاً.

وعليه فلا بدّ أن يكون معروفاً مشهوراً عند أهل حمص، وابن أبي مريم «غسّاني» فكيف نسبوه: «عنسيا»؟!

أقول: من هنا أُتينا، فلا يجتمع «الغساني» و«العنسي»، وعليه فنسبة «العنسي» مصحفة، وبقية والوحاظي كانوا يُحدّثون عنه فيقولون: "أبو بكر الغساني" وهو معروف مشهور عندهم لا أحد يُدلسه، فلما تصحفت النسبة صار "العنسي" فجّهلوه.

والأمر لا علاقة له بتدليس بقية، فهو لم يُدلّسه.

كيف وهو يروي عنه، ويقول أحياناً: "حدثنا أبو بكر بن أبي مريم"، وأحياناً: "حَدَّثني ابن أبي مريم"، وأحياناً: "حَدثنا أَبو بكر بن عَبدالله بن أبي مريم".

وقال حَيْوَة: سَمِعْتُ بَقِيَّةَ يَقُولُ: خَرَجْنَا إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ نَسْمَعُ مِنْهُ فِي ضَيْعَتِهِ، وَكَانَتْ كَثِيرَةَ الزَّيْتُونِ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا نَبَطِيٌّ مِنْ أَهْلِهَا فَقَالَ لِي: مَنْ تُرِيدُونَ؟ فَقُلْنَا: نُرِيدُ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي مَرْيَمَ، فَقَالَ: الشَّيْخُ؟ فَقُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: مَا فِي هَذِهِ القَرْيَةِ شَجَرَةٌ مِنْ زَيْتُونٍ إِلَّا وَقَدْ قَامَ إِلَيْهَا لَيْلَةً جَمْعَاءَ.

وقال مُحَمَّدُ بنُ مُصَفًّى: سَمِعْتُ بَقِيَّةَ بنَ الوَلِيدِ، يَقُولُ: أَخَذْتُ بِيَدِ عَبْدِاللهِ بنِ المُبَارَكِ فَأَدْخَلْتُهُ عَلَى أَبِي بَكْرِ بنِ أَبِي مَرْيَمَ وَصَفْوَانَ بنِ عَمْرٍو فَسَمِعَ مِنْهُمَا.

فهو «أبو بكر الغساني» لا «العنسي»!

قال عبداللَّه بن أحمد: سألت أَبِي عن أَبِي بَكْر الغَسَّاني؟ فقال: "هو أبو بَكْر بن عبدالله بن أَبِي مَرْيَم الغَسَّاني، ضعيف الحديث".

ثم قال: "قلت لإِسْحَاق بن راهويه: حدثني عن عِيْسَى - يعني ابن يُونُس-، قال: قال عِيْسَى بن يُونُس: لو أردت أبا بَكْر الغَسَّاني على أن يجمع لي ستة سبعة فلان وفلان لفعل".

وكان عيسى بن يونس وعبدالله بن المبارك يروون عنه ويقولون: "حدثنا أبو بكر الغساني".

وروى ابن عساكر في «معجمه» حديثاً من طريقه وعرّف به (2/769) رواه من طريق بقية بن الوليد، قال: حدثني ابن أبي مريم - وهو أبو بكر الغساني -.

وفي «أمالي ابن بشران» - الجزء الأول (ص: 228) (522) من طريق أَبي أَيُّوبَ سُلَيْمَان بن عُمَرَ بنِ خَالِدِ الَأقْطَع، قال: حدثَنَا بَقِيَّةُ بنُ الْوَلِيدِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْغَسَّانِيِّ، عَنْ خَالِدِ بنِ مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيّ...

وقد تصحّف اسمه في كل الكتب - للأسف -! ويبدو أن التصحيف من قديم! والتصحيف واضح جليّ «الغساني» صارت «العنسي» سيما إن كتبت «الغساني» دون ألف «الغسني» فقرئت «العنسي»!

قال السمعاني في «الأنساب» (10/42): "«الغَسَّاني» بفتح الغين المعجمة وتشديد السين المهملة وفي آخرها النون، هذه النسبة إلى غسان، وهي قبيلة نزلت الشام، وإنما سميت «غسان» بماء نزلوه، قال أبو المنذر ابن الكلبي: سمي «ماء السماء»؛ لأنه كان غياثا لقومه مثل ماء السماء، وأما المنذر بن ماء السماء فإن أمه كانت تسمى «ماوية» ولقبت بماء السماء، وهي بنت عوف بن جشم، وأخوه لأمه جابر بن أبي حوط الحظائر النمري فعامر هو ماء السماء ابن حارثة وهو الغطريف بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن، وهو جماع غسان، و«غسان» ماء شرب منه ابنا مازن فسموا «غسان» ولم يشرب منه خزاعة ولا أسلم ولا بارق ولا أزد عمان، فلا يقال لهم «غسان»، وهؤلاء من أولاد مازن بن الأزد".

وقال أيضاً (9/395): "«العنسيّ» بفتح العين المهملة وسكون النون وفي آخرها سين مهملة، هذه النسبة إلى عنس، وهو عنس بن مالك بن أدد ابن زيد، وهو من مذحج في اليمن، وجماعة منهم نزلت الشام وأكثرهم بها".

وتصحفت في بعض الكتب إلى «العَبسي» بالباء!

قال السمعاني في «الأنساب» (9/199): "«العبسيّ» بفتح العين المهملة وسكون الباء الموحدة وكسر السين المهملة، هذه النسبة إلى عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد ابن قيس عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. وهي القبيلة المشهورة التي ينسب إليها العبسيون بالكوفة، ولهم بها مسجد، وفيهم كثرة...".

قلت: فهذه نسب مختلفة ولا تجتمع، وأبو بكر ابن أبي مريم غسّاني، فلا يمكن أن يكون عنسياً، وهذا يلزم الدكتور لأنه رجّح أن أبا بكر العنسي هو ابن أبي مريم، فعليه أن يٌسلّم بأنه غساني لا عنسي، وحينها لا يكون هناك تدليس أصلاً من بقية.

والمشكلة أن الدكتور ذكر في أسباب ترجيحه أنه جاء في الحديث الثاني التصريح بأن بقية رواه عن ابن أبي مريم، وهذه حجة عليه لا له، فبقية لم يدلسه طالما أنه صرّح باسمه في بعض الروايات، وإن كانت هذه حجة له في أن أبا بكر هذا هو ابن أبي مريم، وهذا لا شك أننا نوافقه عليه، لكن هو بنى كل ذلك على تدليس بقية وهذا دونه خرط القتاد.

والحديث الذي يدل على أن أبا بكر هذا هو ابن أبي مريم:

رواه البيهقي في «شعب الإيمان» (5/387) (3590)، و«فضائل الأوقات» (ص: 532) (304) من طريق أَبي عُتْبَةَ إسماعيل بن عيّاش، قال: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ العَنْسِيِّ، عَنْ أَبِي قَبِيلٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَامَ الْأَرْبِعَاءَ وَالْخَمِيسَ وَالْجُمُعَةَ بَنَى اللهُ لَهُ قَصْرًا فِي الْجَنَّةِ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَيَاقُوتٍ وَزُمُرُّدٍ، وَكَتَبَ اللهُ لَهُ بَرَاءَةً مِنَ النَّار».

ورواه الطبراني في «مسند الشاميين» (2/366) (1506) قال: حَدَّثَنَا عَبْدَانُ بنُ مُحَمَّدٍ المَرْوَزِيُّ، قال: حدثَنَا إِسْحَاقُ بنُ رَاهَوَيْهِ، قال: حدثَنَا بَقِيَّةُ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ أَبِي قَبِيلٍ، عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ، فذكره.

ورواه ابن عدي في «الكامل» (2/211) في ترجمة «بقية»، قال: حَدَّثَنَا أبو عَرُوبة، قال: حَدَّثَنا المُسَيَّب، قال: حَدَّثَنا بَقِيَّةُ، عَنْ عَبدالسَّلامِ بنِ حُمَيْدٍ - وَهو أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ-، عَن أَبِي قَبِيلٍ، عَن أَنَس بْنِ مَالِكِ... الحديث.

ورواه أبو يعلى الموصلي في «مسنده» (10/10) (5636) قال: حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بنُ سَعِيدٍ، قال: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بنُ الْوَلِيدِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ حَنَشٍ الصَّنْعَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَامَ الْأَرْبِعَاءَ وَالْخَمِيسَ كُتِبَ لَهُ بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ».

قال: حَدَّثَنَا سُوَيْدٌ، قال: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ.

وهذا يدلّ على أن بقية لم يكن يُدلسه تدليس شيوخ. وهو حديث منكر! رواه بقية على عدة أوجه باطلة!

ومن بلايا الدكتور أنه اعتمد ما في الكتب المطبوعة من تصحيفات في ضبط اسم أبي بكر! فنسب لبعض العلماء الاضطراب في ذلك في كتب الرواية وكتب الرجال!

قال في حاشية (108): "اختلف في ضبط أبي بكر فتارة قيل العبسي، وتارة قيل العنسي، وإليكم تفصيل ذلك:

المزي وابن حجر: اضطربا في ضبطه: ففي تهذيب الكمال وتهذيب التهذيب والتقريب نجد أنه ضبط في باب الكنى بالعنسي، وقد بينا أنه راوي حديث ابن ماجه. انظر: تهذيب الكمال 33/154-155، تهذيب التهذيب 4/497، التقريب 1120. بينما خالفا فعلهما في ترجمة محمد بن يزيد الثقفي. -وهو شيخ أبي بكر الذي روى عنه حديث ابن ماجه - فذكرا فيمن روى عنه: أبو بكر العبسي (ق) وليس العنسي؛ انظر: تهذيب الكمال 27/18، تهذيب التهذيب 3/734. وكذا فعل المزي في ترجمة يزيد بن أبي حبيب. انظر: تهذيب الكمال 32/105.

ابن عدي: ضبطه بالعبسي. انظر: الكامل 7/299.

الذهبي: ذكره في موضعين هما: الأول: "أبو بكر العنسي شيخ لبقية تُكلم فيه، وحدث عنه أيضا يحيى الوحاظى، وله ما ينكر". الميزان 4/498. الثاني: "أبو بكر العبسي (ق) عن يزيد بن أبى حبيب وأبي قبيل، وعنه بقية والوحاظىي ضعيف". الميزان 4/507.

وأما أهل الرواية؛ فابن ماجه والطبراني والبيهقي والفريابي وابن بطة واللالكائي؛ كلهم ضبطوه العنسي كما سيأتي ذلك في ذكر رواياته.

وخالفهم: ابن بشران في الأمالي؛ ضبطه العبسي في إحدى الروايات مخالفاً في ذلك الطبراني كما سيأتي. وضبطه الدارقطني بالعبسي في حديث رواه عن يزيد بن أبي حبيب... سنن الدارقطني 1/377. وخالفه البيهقي فضبطه بالعنسي وقال: "وهذا حديث ينفرد به أبوبكر العنسي وهو مجهول". السنن 2/344. وخالفه الحاكم في هذا الحديث فضبطه بالعنسي. المستدرك 1/471.

قلت: وما أرجحه هنا هو العنسي ذلك أن المزي وابن حجر ذكراه على هذا النحو في ترجمته المستقلة، وهو الموضع الذي يدقق فيه المترجم في ضبط الاسم عادة، وكذا واقع كتب الرواية على هذا الأمر، وجانب من قول الذهبي يدل على ذلك، وأما تفريقه بينهما فلا دليل عليه" انتهى.

قلت:

غالب ما ذكره خبط عشواء!! فكيف يجزم بما جاء في كتب الرواية وما فيها من تصحيفات بقوله: "ضبطه فلان وخالفه فلان"؟

وكذا في كتب الرجال، نعم، المزي وابن حجر يرون أنه العنسي، لكن في بعض المواضع تصحف للعبسي، بالباء، فلا يجوز أن أنسب لهم قولاً بالاضطراب!!

وقوله بأن ابن عدي ضبطه بالعبسي مصيبة! فهو اعتمد النسخة المطبوعة من كتاب ابن عدي، وهي مليئة بالتصحيفات والتحريفات، وها هي بعض النسخ الجديدة المطبوعة كطبعة السرساوي (10/758) مضبوطة بالعنسي، ففيها: "أَبو بكر العنسي".

وقد أصاب فيما ذكره عن الذهبي بإيراده له في «العنسي» و«العبسي»، ويستفاد من هذا أن التصحيف كان موجوداً، فأورد الذهبي ذلك على الاحتمال، ولم يجزم.

وترجيحه بأنه «العنسي» غير صحيح، وإنما هو «الغساني» كما فصّلته آنفاً.

والحمد لله على فضله وإنعامه.

·       المثال الثامن:

قال د. أبو سمحة: "المطلب الثامن: أبو عبد السلام الوحاظي: تباينت الآراء فيه؛ جهله الذهبي وابن رجب الحنبلي وابن حجر العسقلاني والألباني من المعاصرين...".

ثم نقل كلامهم، ثم قال: "قلت: ويقع البحث هنا في حال أبي عبد السلام هل هو من المجاهيل؟ أم أنه من مشايخ بقية الذين دلس أسماءهم تدليس شيوخ؟ وللإجابة نقول: روى عنه بقية سوى هذا الحديث حديثاً آخر قال فيه: حدثني أبو عبدالسلام قال: حدثني إسحاق بن عبد االله بن أبي طلحة عن أنس عن رسول االله صلى االله عليه وسلم قال: "طلب العلم واجب على كل مسلم". وبعد البحث والتدقيق في هذا الراوي يتبين لنا أنه ليس بمجهول؛ إنما هو عبد القدوس بن حبيب الشامي، ويتضح ذلك من خلال الآتي:

1- ذكر الخطيب البغدادي في كتابه "موضح أوهام الجمع والتفريق" عبدالقدوس بن حبيب، وقال فيه: "وهو أبو عبد السلام الذي روى عنه بقية". مبيناً أن هذه التكنية إنما هي من فعل بقية. ثم ذكر الحديث الأول، وقال: "المشهور أن كنيته أبو سعيد، وإنما غير بقية كنيته".

2- أخرج الخطيب حديث طلب العلم السابق من رواية بقية عن أبي سعيد الوحاظي، والمعروف أن أبا سعيد الوحاظي هو عبد القدوس.

3- قال ابن عساكر في ترجمة عبد القدوس: "كان يكنى أيضا بأبي عبدالسلام".

4- أخرج ابن عساكر الحديث الأول بسنده إلى بقية قال: عن أبي عبدالسلام عبد القدوس... الحديث؛ فنجده صرح بأن أبا عبد السلام إنما هو عبدالقدوس.

5- السبب في إطلاق هذه الكنية أن لعبد القدوس ابناً اسمه عبد السلام، روى عن أبيه جملة من الأحاديث غير أن عبد القدوس لم يشتهر بهذه الكنية، ولم يعرف بها.

6- الشيوخ والتلاميذ: ذكر في شيوخ عبد القدوس نافع وهو من شيخ أبي عبد السلام هنا، ونجد كذلك أن من شيوخ عبد القدوس إسحق بن عبد االله الذي روى عنه أبو عبد السلام، وذلك واضح في رواية ابن عساكر للحديث الثاني" انتهى.

وقال في حاشية (128): "كناه بقية بهذه الكنية ولولا ابن المبارك لجهله النقاد؛ قال ابن المبارك: "أعياني بقية، كان يحدثنا فيقول: حدثنا أبوسعيد الوحاظي؛ فإذا هو عبد القدوس". انظر: موضح أوهام الجمع والتفريق 2/247. وقال في موضع آخر: "نعم الرجل بقية لولا أنه كان يكني الأسامي ويسمي الكنى، كان دهراً يحدثنا عن أبي سعيد الوحاظي فنظرنا فإذا هو عبدالقدوس" مسلم، الصحيح 1/6".

قال د. اللحيدان: "مثال(3):

في ترجمة: عبد القدوس بن حبيب الكُلاعِي الشامي الدمشقي أبي سعيد، قال عبد الرزاق الصنعاني: ((ما رأيت ابن المبارك يُفصح بقوله: "كذاب" إلا لعبد القدوس، فإني سمعته يقول له: "كذاب")). ولأجل ذلك كان بقية يُدلّسه مقتصراً على كنيته، ونسبة لم يشتهر بها، يقول: ((حدثني أبو سعيد الوُحَاظي))، قال الإمام ابن المبارك: ((نعم الرجل بقية لولا أنه يُكْني الأسامي ويُسمّي الكنى، كان دهراً يُحدثنا عن أبي سعيد الوُحَاظي، فنظرنا فإذا هو عبد القدوس))".

قلت:

اعتمد أبو سمحة في هذا المثال على تدليس بقية لشيخه على حديثين:

الأول: ما رواه أبو نُعيم في «تاريخ أصبهان» (2/19) من طريق إِسْحَاق بنُ رَاهَوَيْهِ، قال: أَخبرنَا بَقِيَّةُ بنُ الْوَلِيدِ، قال: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِالسَّلَامِ، قال: حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «صَلَاةُ المَرْأَةِ وَحْدَهَا تَفْضُلُ صَلَاتَهَا فِي الْجَمِيعِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً».

قال ابن رجب في «فتح الباري» (6/20) وذكره: "خرّجه أبو نعيم فِي «تاريخ أصبهان»، وهُوَ غريب جداً، وروايات بقية عَن مشايخه المجهولين لا يعبأ بِهَا".

فأبو عبدالسلام هنا من شيوخ بقية المجاهيل عند ابن رجب.

الثاني: ما رواه الخطيب البغدادي في «موضح أوهام الجمع والتفريق» (2/274) من طريق إِسْحَاق بن راهويه، قال: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بنُ الوَلِيدِ، قال: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِالسَّلامِ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بنُ عَبْدِاللَّهِ بن أَبِي طَلْحَة، عَن أنس بن مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «طَلَبُ العِلْمِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ».

وأبو عبدالسلام هذا جهّله الذهبي وابن حجر كما قال أبو سمحة.

وقد ذكره الخطيب في «ذكر عبدالقدوس بن حبيب الشَّامي»، وقال: "وهُوَ أَبُو عبدالسَّلَام الَّذِي روى عَنهُ بَقِيَّة"، وقال: "المَشْهُور أَن كنيته أَبُو سَعِيد، وَإِنَّمَا غيّر بَقِيَّة كنيته".

وذكر ابن عدي في ترجمة «سُلَيْمَان بن سَلَمَةَ الخَبَائِرِيّ الحِمْصِيّ» من «الكامل» (4/297) هذا الحديث رواه سليمان بن سلمة، قال: حَدَّثَنا بقية، قَال: حَدَّثَنا الأَوْزاعِيّ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبداللَّهِ، عَن أَنَس، قال: قَال رَسُول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسلَّمَ: «طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مسلم».

قَالَ ابنُ عَدِي: "وقَدْ رَوَاهُ عَنْ بَقِيَّةَ عَنِ الأَوْزاعِيّ غَيْرُ سُلَيْمَانَ هذا، وقد روى بعض الرواة عن بقية، عَن أبي عَبدالسلام الوحاظي، عَنْ إِسْحَاقَ بنِ عَبداللَّهِ، عَن أَنَس".

وسليمان هذا منكر الحديث مُتّهم.

وقل ابن عبدالبر في «جامع بيان العلم وفضله» (1/35): "وهذا الحَدِيثُ لَمْ يَرْوِهِ عَنْ بَقِيَّةَ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ إِلَّا الْخَبَائِرِيُّ، وَهُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِالجَبَّارِ الْخَبَائِرِيُّ الْحِمْصِيُّ ابْنُ أَخِي عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبْدِالْجَبَّارِ الخَبَائِرِيُّ، وَلَيْسَ سُلَيْمَانُ هَذَا عِنْدَهُمْ بِالقَوِيِّ، وَأَكْثَرُ الرُّوَاةِ عَنْ بَقِيَّةَ يَرْوُونَ هَذَا الحَدِيثَ عَنْ بَقِيَّةَ، عَنْ حَفْصِ بنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ شِنْظِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسٍ، وَيَرْوُونَهُ عَنْ بَقِيَّةَ أَيْضًاً عَنْ أَبِي عَبْدِالسَّلَامِ الْوُحَاظِيِّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَلَا يُعْرَفُ مِنْ حَدِيثِ الْأَوْزَاعِيِّ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ سَلَمَةَ الْخَبَائِرِيِّ، عَنْ بَقِيَّةَ بْنِ الْوَلِيدِ، عَلَى أَنَّ سُلَيْمَانَ الْخَبَائِرِيَّ قَدْ جَمَعَ هَذِهِ الْأَسَانِيدَ كُلَّهَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ بَقِيَّةَ".

وفي رواية ابن عساكر في «تاريخه» (22/322) من طريق أبي عروبة الحسين بن أبي معشر الحرّاني، عن سليمان، عن بقية بن الوليد، عن أبي عبدالسلام عبدالقدوس بن حبيب، عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة عن أنس.

ورواه الخطيب في «الموضح» (2/273) من طريق المُطَيَّنُ، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُالجَبَّارِ بنُ عَاصِمٍ، قال: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بنُ الْوَلِيدِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الوُحَاظِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقَ بنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ.

وروى ابن عبدالبر في «جامع بيان العلم» (1/33) (25) من طريق عَبْدالجَبَّارِ بن أُبَيٍّ السَّرِيّ العَسْقَلَانِيّ، وعبّاس بن عبدالله الترقفي، كلاهما عن رَوَّاد بن الجَرَّاحِ العسقلاني الشامي، قَالَ: حدثنا عَبْدُالقُدُّوسِ الوُحَاظِيُّ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: مَا سَمِعْتُ مِنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ إِلَّا حَدِيثًا وَاحِدًا سَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ».

وعليه فأبو عبدالسلام هذا ليس بمجهول، وإنما هو: عَبْدُالقُدُّوْسِ بن حَبِيْبٍ أَبُو سَعِيْدٍ الكَلاَعِيُّ، الوُحَاظِيُّ، الشَّامِيُّ.

فهل دلّسه بقية لأنه معروف بتدليس أسماء شيوخه؟ هذا محتمل ولا ننفيه.

قال صالح بن محمد الحافظ المعروف بجزرة: "عبدالسلام بن عبدالقدوس بن حبيب: دمشقي ضعيف، وأبوه عبدالقدوس أضعف منه وكان يكنى بأبي سعيد الوحاظي، وكان يكنى أيضاً بأبي عبدالسلام، وله كنيتان". [تاريخ دمشق: (36/212)].

وذكره الخطيب في «الموضح» (2/273) وقال: "وهُوَ أَبُو سَعِيد الوحاظي الَّذِي روى عَنهُ بَقِيَّة بن الْوَلِيد".

وقال: "وَهُوَ أَبُو سَعِيد الشَّامي الَّذِي روى عَنهُ عبدالرَّزَّاق بْن همام".

وكان عبدالرزاق يدلسه؛ لأنه متّهم.

قال عبدالرزاق: "ما رأيت ابن المبارك يفصح بقوله كذاب إلا لعبدالقدوس، فإني سمعته يقول له: كذاب".

وقال يعقوب بن سفيان الفسوي في «المعرفة والتاريخ» (2/424): "وبَقِيَّةُ يُذْكَرُ بِحِفْظٍ إِلَّا أَنَّهُ يَشْتَهِيَ المُلَحَ وَالطَّرَائِفَ مِنَ الحَدِيثِ، وَيَرْوِي عَنْ شُيُوخٍ فِيهِمْ ضَعْفٌ، وَكَانَ يَشْتَهِي الحَدِيثَ، فَيُكَنِّي الضَّعِيفَ المَعْرُوفَ بِالِاسْمِ، وَيُسَمِّي المَعْرُوفَ بِالكُنْيَةِ بِاسْمِهِ. وسَمِعْتُ إِسْحَاقَ بنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ رَاهَوَيْهِ قَالَ: قَالَ ابنُ الْمُبَارَكِ: «أَعْيَانِي بَقِيَّةُ كَانَ يُكَنِّي الْأَسَامِيَ وَيُسَمِّي الْكُنَى، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الْوُحَاظِيُّ، فإذا هُوَ عَبْدُالقُدُّوسِ».

وقَدْ قَالَ أَهْلُ العِلْمِ: بَقِيَّةُ إِذَا لَمْ يُسَمِّ الَّذِي يَرْوِي عنه وكناه فلا يسوى حَدِيثُهُ شَيْئًا".

وقول ابن المبارك رواه الخطيب في «الموضح» (2/273)، وابن عساكر في «تاريخه» (10/342) من طريق يعقوب قال: سمعت إسحاق بن إبراهيم يقول: قال ابن المبارك... فذكره.

لكن رواه مسلم في «مقدمة صحيحه» (1/26) بواسطة مجهولة بين ابن راهويه وابن المبارك!  

قال: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ بَعْضَ أَصْحَابِ عَبْدِاللهِ، قَالَ: قَالَ ابنُ الْمُبَارَكِ: «نِعْمَ الرَّجُلُ بَقِيَّةُ لَوْلَا أَنَّهُ كَانَ يُكَنِّي الْأَسَامِيَ، وَيُسَمِّي الْكُنَى، كَانَ دَهْرًا يُحَدِّثُنَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْوُحَاظِيِّ فَنَظَرْنَا فَإِذَا هُوَ عَبْدُالْقُدُّوسِ».

وعدم تعيين الواسطة لا يضر؛ لأن ابن راهويه قال بأنه سمعه من بعض أصحاب ابن المبارك.

وكان سفيان الثوري يروي عنه ويكنيه أيضاً تدليساً له.

قال ابن عمار الموصلي: "كان سفيان يروي عن أبي سعيد الشامي، وإنما هو عبدالقدوس كنّاه ولم يُسمه، وهو ذاهب الحديث".

وقال أبو عُبيد محمد بن علي الآجري: سألت أبا داود عن عبدالقدوس الشامي، قال: "ليس بشيء، وابنه شر منه. روى عنه سفيان الثوري، فقال: حدثنا أبو سعيد". [تاريخ دمشق لابن عساكر (36/424)].

وقال ابن أبي حاتم في «العلل» (4/220) (1380): وسُئِلَ أَبِي عَنْ حديثٍ رَوَاهُ الثَّوْري، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ عَطَاء، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قاتِل المُؤْمِنِ: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ تَوبَةٌ؟

قَالَ أَبِي: "أَبُو سَعِيدٍ: هو عبدالقُدُّوس بنُ حَبِيب الشَّامي، وكَانَ لا يَصدُقُ".

والخلاصة أن بقية كان أكثر ما يُدلسه بقوله: "أبو سعيد الوحاظي" كما قال ابن المبارك.

وما جاء في الأسانيد من قوله: "حدثني أبو عبدالسلام" جاء في طرق أخرى قوله: "حدثني أبو عبدالسلام الوحاظي"، فيحتمل أن هذا منه، أو من الرواة عنه أهملوا الكنية.

وعموماً، فهذا المثال الذي ذكره أبو سمحة ينطبق على تدليس بقية لشيوخه.

·       المثال التاسع:

قال د. أبو سمحة: "المطلب التاسع: أبو مسكين الجزري: أقوال النقاد فيه: قال ابن أبي حاتم: "أبو مسكين الجزري روى عن إسماعيل بن نشيط عن عكرمة، روى عنه بقية. نا عبد الرحمن قال سألت أبي عنه فقال: هو مجهول، والحديث الذي رواه كأنه موضوع". بينما ذهب ابن عدي في بيان حاله إلى رأيين مختلفين؛ جاء ذلك في معرض حديثه عن روايات بقية عنه، وهذا ما سأنبه عليه في الحديث الأول من روايات بقية عنه...".

ورجّح الباحث أنه طلحة بن زيد الرقي دلّسه بقية.

قلت:

هذا المثال لم يذكره د. اللحيدان.

وقد أصاب أبو سمحة في ذكره لهذا المثال على تدليس بقية لشيوخه معتمداً في ذلك على قول أبي يوسف الرقي الذي نقله ابن عدي.

وفات ابن أبي حاتم وأبوه هذا التدليس كما ذكر الدكتور.

قال ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (9/447) (2264): "أبو مسكين الجزري. روى عن إسماعيل بن نشيط عن عكرمة. روى عنه بقية".

قال عبدالرحمن: سألت أبي عنه، فقال: "هو مجهول، والحديث الذي رواه كأنه موضوع".

وقال في «العلل» (6/130) (2382): وسألتُ أَبِي عَنْ حديثٍ رَوَاهُ بَقِيَّة، عَنْ أَبِي مِسْكِينٍ الجَزَري، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ نَشِيط، عَنْ عِكرمَة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ قَالَ: نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يضربَ الرجلُ بِإِحْدَى نعلَيه عَلَى الأُخرى فِي المَسْجِدِ؟

قَالَ أَبِي: "هَذَا حديثٌ مُنكَرٌ جدًّا، كَأَنَّهُ موضوعٌ، وَأَبُو مِسْكِينٍ مجهولٌ".

وذكره ابن عدي في «الكامل» (5/174) وقال: "طلحة بن زيد الرقي، يُكَنَّى أبا مسكين".

قال: سَمِعْتُ مُحَمد بْنَ سَعِيد الحَرَّانِيُّ يَقُولُ: سَمعتُ هِلالَ بنَ العَلاءِ يقول: قال أبو يوسف الرقي مُحَمد بن أحمد الصيدلاني: "إذا سمعت بقية يقول: حَدَّثَنا أبو مسكين الرقي، فاعلم أنه يريد طلحة بن زيد".

ثم نقل أقوال أهل العلم فيه، وهو متروك الحديث، متّهم بالوضع.

وساق له من رواية مُحَمد بن مُصَفَّى، قال: حَدَّثَنا بَقِيَّةُ، قال: حَدَّثني أَبُو مُسْكِينٍ الجَزَرِيُّ، عَنْ نَصْرِ بنِ عَبداللَّهِ الْبَاهِلِيِّ عَنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائشة، عَن عَبداللَّهِ بْنُ عَبداللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ قَالَ: «نَدَرْتُ ثَنِيَّتِي فَأَمَرَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسلَّمَ أَنْ أَتَّخِذَ ثَنِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ».

وأعاد ذكر الحديث في ترجمة «نصر بن طريف الباهلي البصري» (8/274) بالإسناد نفسه، ثم قال: "وهذا عن هشام بن عُرْوَة غير محفوظ، إنما يروى نصر بْن طريف وعاصم بْن سُلَيْمَان الكوزي وجميعا ضعيفين، وأَبُو مسكين الجزري هو طلحة بن نافع".

كذا جاء في المطبوع: «طلحة بن نافع»!

وبناء على هذا نسب أبو سمحه لابن عدي رأيين فيه!

قال: "بينما ذهب ابن عدي في بيان حاله إلى رأيين مختلفين؛ جاء ذلك في معرض حديثه عن روايات بقية عنه، وهذا ما سأنبه عليه في الحديث الأول من روايات بقية عنه".

ثم ذكر تخريج ابن عدي للحديث في كلا الترجمتين، ثم قال: "قال - أي ابن عدي- بعد إيراده لهذ الحديث: "وهذا عن هشام بن عروة غير محفوظ، إنما يروي نصر بن طريف وعاصم بن سليمان الكودي وجميعا ضعيفين، وأبو مسكين الجزري هو طلحة بن نافع". من هنا نجد أن ابن عدي اضطرب في حال أبي مسكين الجزري فتارة عده طلحة بن زيد القرشي، وتارة طلحة بن نافع. غير أن الذي أرجحه أن ابن عدي أخطأ في الموضع الثاني؛ فطلحة هو ابن زيد".

قلت: لم يضطرب ابن عدي في حال أبي مسكين، وهو طلحة بن زيد عنده وليس "طلحة بن نافع"، وإنما حصل تحريف في بعض نسخ كتابه، وهو على الصواب في كتاب «ذخيرة الحفاظ» لمُحَمَّد بن طَاهِر المَقْدِسِي - وأورد فيه الأَحَادِيث التي أوردهَا أَبُو أَحْمد عبدالله بن عدي الحَافِظ الجِرْجَانِيّ - رَحمَه الله - فِي كتاب الْكَامِل، والتي اسْتدلَّ بهَا على ضعف الرجل المسطور -، فذكر الحديث فيه (5/2475) (5732) وقال: "حَدِيث: ندرت ثنيتي؛ فَأمرنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَن اتخذ ثنية من ذهب. رَوَاهُ أَبُو مِسْكين الجزاري: عَن نصر بن عبدالله الْبَاهِلِيّ، عَن هِشَام بن عُرْوَة... أوردهُ فِي تَرْجَمَة نصر البَاهِلِيّ وَهُوَ أَبُو جزي نصر بن طريف: عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة، عَن عبدالله بن عبدالله بن أبي قَالَ: ندرت سني. وقَالَ: وهَذَا غير مَحْفُوظ، إِنَّمَا يرويهِ نصر بن طريف، وعَاصِم بن سُلَيْمَان. هُوَ طَلْحَة بن زيد".

وطلحة بن زيد أبو مسكين، ويقال: أبو محمد القرشي الرقي، قيل أنه دمشقي، وسكن الرقة.

فهو: أبو مسكين الرقي، أو الشامي، أو القرشي.

وأما نسبة «الجزري» فنسب الدكتور ذلك إلى بقية وأنه دلّسه بذلك؛ وبحث عن السر في ذلك فقال: "السر في نسبة أبي مسكين جزرياً يظهر في قول السمعاني: "الجزري: بفتح الجيم والزاي وكسر الراء، هذه النسبة إلى الجزيرة، وهي إلى عدة بلاد... ذكر منها الرقة". قلت: وركب نسب الجزري الرقي لكثير من الرواة".

قلت: هذا أمر معروف عند أهل الحديث فبلاد الجزيرة هي جزيرة ابن عمر، وعدة بلاد منها الموصل وسنجار وحران والرقة ورأس العين وآمد وميافارقين، وهي بلاد بين الدجلة والفرات كما قال السمعاني.

فالنسبة لمن هو من بلادها أو دخلها واستوطن فيها: «جزريّ».

ويُحتمل أن أبا مسكين كان يُعرف بهذه النسبة «الجزري» لكن اشتهر بنسبة «الرقي» أكثر؛ لأنه سكن الرقة، فليس بالضرورة أن يكون بقية هو من نسبه بذلك ليدلسه!

ويؤيد هذا ما رواه ابن سعد في «الطبقات الكبرى» (3/49) قالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بنُ عَبْدِاللَّهِ بنِ يُونُسَ قال: أَخْبَرَنَا طَلْحَةُ بنُ زَيْدٍ الجَزَرِيُّ أَوِ الشَّامِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بنِ عَبْدِاللَّهِ بنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُثْمَانَ: «إِنِ اللَّهَ كَسَاكَ يَوْمًا سِرْبَالا فَإِنْ أَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى خَلْعِهِ فَلا تَخْلَعْهُ لِظَالِمٍ».

فهذا أحمد بن عبدالله بن يونس اليربوعي الكوفي الحافظ الثقة نسبه «الجزري» أيضاً وهو شامي كذلك.

وجاء في مطبوع كتاب ابن عدي: "الكودي" وهو تصحيف، والصواب: "الكوزي".

وقد روى بقية عنه حديثاً آخر لم يُكنه فيه وإنما سماه ونسبه باسم غير مشتهر أيضاً، وكأنه قصد بذلك تدليسه.

أخرجه ابن عدي في «مقدمة الكامل» في باب «الكذّاب يكون مجانباً للإيمان» (1/44) قال: حَدثنا ميمون بن مسلمة، أَبو خولة البهراني، قال: حدثنا أَبو التقي هشام بن عَبدالملك، قال: حدثنا بقية، قال: حَدَّثني طلحة القرشي، عن جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أُمامة، قال: قال رسول الله صَلى الله عَليه وسَلم: «إِن الْمُؤمن ليطبع على خلال شَتَّى: على الجُود، والبخل، وَحسن الخُلق، ولايطبع المُؤمن على الكَذِب، ولا يكون المُؤمن كذاباً».

قال ابن عدي: "وطلحة القرشي هو الذي يروي عنه بقية، هو: طلحة بن زيد أَبو مسكين الرقي، ضعيف".

وهنا انتهى بحث د. عبدالسلام أبو سمحة.

وعند د. اللحيدان ثلاثة أمثلة أخرى من تدليس بقية لم يذكرهما أبو سمحة؛ لأنها ليست على شرطه في البحث.

قال د. اللحيدان: "مثال(4):

في ترجمة: يوسف بن السَّفْر بن الفَيْض أبي الفَيْض الشامي كاتب الأوزاعي، متروك الحديث، وقد دلّسه بقية، فكان مرة يُسميه، ومرة يقتصر على كنيته موهماً أنه آخر غير المسمّى، قال الحافظ ابن عدي عند حديث له: ((كان بقية يرويه أحياناً عن الأوزاعي نفسه فيُسقط يوسف لضعفه، وربما قال : "ثنا يوسف بن السَّفْر، عن الأوزاعي"، وربما كنّاه فيقول: "عن أبي الفَيْض، عن الأوزاعي"، وكل ذلك لضعفه))".

قلت:

هذا لم يذكره أبو سمحة لأنه لم يترتب عليه جهالة بتدليس بقية لهذا الراوي.

أورد له ابن عدي في ترجمته من «الكامل» (7/163) ما رواه سليمان بن سلمة، قال: حدثنا بقية، قال: حدثنا يوسف بن السفر، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ».

قال: "وهذا كان بقية يرويه أحياناً عن الأوزاعي نفسه فيسقط يوسف لضعفه، وربما قال: «حدثنا يوسف عن الأوزاعي»، وربما كنّاه فيقول: «عن أبي الفَيض عن الأوزاعي» وكلّ ذلك يُضعفه؛ لأن هذا الحديث يتفرد به يوسف عن الأوزاعي".

وذكره العقيلي أيضاً في ترجمته من «الضعفاء» (4/452) من طريق عِيسَى بن المُنْذِرِ الحِمْصِيّ، قال: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بنُ السَّفْرِ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ».

ثم رواه من طريق كَثِير بن عُبَيْدٍ الحَذَّاءُ، قال: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ».

ثم رواه من طريق عِيسَى بن يُونُسَ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ قالَ: «كَانَ يُقَالُ: أَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْإِلْحَاحُ عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَالتَّضَرُّعُ إِلَيْهِ».

ثم قال: "حَدِيثُ عِيسَى بنِ يُونُسَ أَوْلَى، ولَعَلَّ بَقِيَّةُ أَخَذَهُ عَنْ يُوسُفَ بنِ السَّفْرِ".

وأورده ابن حجر في «التلخيص الحبير» (2/226) (715): "حَدِيثٌ: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ». العُقَيْلِيُّ وابْنُ عَدِيٍّ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الدُّعَاءِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ. تَفَرَّدَ بِهِ يُوسُفُ بنُ السَّفَرِ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ، وهُوَ مَتْرُوكٌ، وكَانَ بَقِيَّةُ رُبَّمَا دَلَّسَهُ".

وبقيّة أكبر من يوسف، فربما كان يُدلسه أحياناً لذلك، والله أعلم.

قال أبو أحمد الحاكم عن بقية: "ثقة في حديثه إذا حدث عن الثقات بما يعرف، ولكنه ربما روى عن أقوام مثل الأوزاعي والزبيدي وعبيدالله العمري أحاديث شبيهة بالموضوعة أخذها عن محمد بن عبدالرحمن ويوسف بن السفر وغيرهما من الضعفاء فيسقطهم من الوسط ويرويها عمن حدثوه بها عنهم".

وقال د. اللحيدان: "مثال(5):

في ترجمة: عُبيد الله بن عمرو بن أبي الوليد الرَّقي أبي وهب الأسدي ثقة، وإسحاق بن عبدالله بن أبي فَرْوة الأموي مولاهم المدني متروك الحديث، وكان بقية يُدلس اسم عبيدالله بن عمرو مقتصراً على كنية ونسبة لم يشتهر بها؛ ليُخفي إسحاق بن عبدالله بن أبي فَرْوة إذا دلّسه بإسقاطه وتسوية الإسناد لضعف إسحاق، قال عبدالرحمن بن أبي حاتم: ((سمعت أبي وذكر الحديث الذي رواه إسحاق بن راهويه، عن بقية، قال: حدثني أبو وهب الأسدي، قال: حدثنا نافع، عن ابن عمر قال: "لا تحمدوا إسلام إمرىء حتى تعرفوا عقدة رأيه"، قال أبي: هذا الحديث له علة قلّ من يفهمها، روى هذا الحديث عبيدالله بن عمرو، عن إسحاق ابن أبي فَرْوة، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعبيدالله بن عمرو كنيته أبو وهب وهو أسدي، فكأن بقية بن الوليد كنّى عبيدالله بن عمرو، ونسبه إلى بني أسد لكيلا يُفطن به، حتى إذا ترك إسحاق بن أبي فَرْوة من الوسط لا يهتدى به، وكان بقية من أفعل الناس لهذا، وأما ما قال إسحاق في روايته: "عن بقية، عن أبي وهب: حدثنا نافع"، فهو وهم غير إن وجهه عندي أن إسحاق لعله حفظ عن بقية هذا الحديث، ولما يفطن لما عمل بقية من تركه إسحاق من الوسط، وتكنيته عبيدالله بن عمرو، فلم يفتقد لفظة بقية في قوله: "حدثنا نافع"، أو: "عن نافع")). وقال الخطيب البغدادي: ((قول أبي حاتم كله في هذا الحديث صحيح، وقد رُوي الحديث عن بقية كما شرح قبل أن يُغيّره ويُدلسه لإسحاق: أخبرنا أبو بكر البَرْقَاني، قال: أنا الحسين بن علي التميمي، قال: ثنا محمد بن المسيب أبو عبدالله، قال: ثنا موسى بن سليمان، قال: ثنا بقية، قال: ثنا عبيدالله بن عمرو، عن إسحاق بن عبدالله بن أبي فَرْوة، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تعجبوا لإسلام امرئ حتى تعرفوا عقدة عقله"))".

قلت:

هذا المثال يذكره أهل العلم في مسألة «تدليس التسوية».

قال الخطيب في «الكفاية»: "ورُبَّمَا لَمْ يُسْقِطِ المُدَلِّسُ اسْمَ شَيْخِهِ الَّذِي حَدَّثَهُ لَكِنَّهُ يُسْقِطُ مِمَّنْ بَعْدَهُ فِي الْإِسْنَادِ رَجُلًا يَكُونُ ضَعِيفًا فِي الرِّوَايَةِ أَوْ صَغِيرَ السِّنِّ وَيَحْسُنُ الْحَدِيثُ بِذَلِكَ وَكَانَ سُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَبَقِيَّةُ بنُ الْوَلِيدِ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذَا".

فالمدلس يدلس شيخه بأن يكنيه وهو ثقة ليسقط شيخه الضعيف الذي حدّثه بالحديث.

فهنا قام بقية بتكنية شيخه "عبيدالله بن عمرو": "أبو وهب الأسدي" ثم أسقط شيخه الضعيف "إسحاق بن أبي فروة" لئلا يهتدي أحد إلى أنه أسقطه، فلو أنه سماه لعرف من ينظر في الإسناد أنه أسقط رجلاً، وسوّاه مستقيماً، ومن هنا سموه «تدليس التسوية»، أي سوّى الإسناد وجعله حسنا في الظاهر.

والرواية التي ذكرها الخطيب بعد كلام أبي حاتم تبيّن فيها أن بقية دلّس الرواية الأخرى؛ فالمدلس أحياناً يُدلّس الحديث، وأحياناً يُحدث به دون تدليس.

وقول أبي حاتم: "فكأن بقية بن الوليد كنّى عبيدالله بن عمرو، ونسبه إلى بني أسد لكيلا يُفطن به" فيه أن بقية هو من نسبه «الأسدي» وفيه نظر! فكأنه كان معروفاً بهذه النسبة، فقد روى الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» (740) عن علي بن حُجرٍ، قال: حدثنا عبيدالله بن عمرٍو الرقي أبو وهبٍ الأسدي، قال: حدثنا عبدالكريم، عن زياد بن الجراح، عن عبدالله بن معقلٍ، قال: دخلت مع أبي على ابن مسعودٍ، فسمعت أبي يسأل ابن مسعودٍ: أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الندم توبةٌ»؟ قال: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الندم توبةٌ».

وترجم له أهل العلم بهذا أيضاً.

قال البخاري في «التاريخ الكبير» (5/392) (1262): "عبيدالله بن عَمْرو أَبُو وهب الأسدي الرقي، سمع عَبْدالملك بن عمير، وابن عَقِيل، وزيد بن أَبِي أنيسة. قَالَ مُحَمَّد بن يوسف عَنْ علي بن مَعْبد: مات سنة ثمانين ومائة".

وتبعه أبو حاتم على ذلك.

قال ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (5/328) (1551): "عبيدالله بن عمرو الرقي أبو وهب الأسدي: روى عن عبدالملك بن عمير، وعبدالله بن محمد بن عقيل، وزيد بن أبي أنيسة. سمعت أبي يقول ذلك".

وقال أبو عليّ القشيري في «تاريخ الرقة» (ص: 123): "عبيدالله بن عمرو بن أبي الوليد، يكنى أبا وهب الأسدي".

وروى من طريق عبيدالله بن عمرو، قال: "أتيت الأعمش، فسلّمت عليه وانتسبت له، فقلت: رجلٌ من أصحابك، من بني أسد؛ فقرب ورحب وقال جميلاً؛ قلت: أريد أن أسمع وآخذ بحظي منك؛ فقال: نعم؛ فحدثني بعشرة أحاديث...".

وروى بقية حديثاً آخر عن عبيدالله وكنّاه فيه.

قال ابن أبي حاتم في «العلل» (3/668) (1177): وسألتُ أَبِي عَنْ حديثٍ رَوَاهُ بَقِيَّة، عَنْ أَبِي وَهْبٍ الأَسَدي، عَنْ أيُّوب، عَنِ ابْنِ سِيرين، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ قَالَ: «نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ تَلَقِّي الجَلَبِ، فإنِ اشْتَرَاهُ مُشْتَرٍ فإنَّ صاحبَ السِّلْعَة بالخِيار - إِذَا دخلَ المِصْرَ - مَا بينَهُ وبينَ نِصْفِ النَّهَار»؟

فسمعتُ أَبِي يَقُولُ: "لَيْسَ فِي شيءٍ مِنَ الحَدِيثِ: «إِذَا دخلَ المِصْرَ فإنَّ صاحبَهُ بالخِيار مَا بينَهُ وبينَ نِصْفِ النَّهار»، وَأَبُو وَهْبٍ: هُوَ عُبَيدالله بنُ عَمْرٍو الرَّقِّي".

قلت: أعلّ أبو حاتم هذه اللفظة لكن لم يُبين من الذي وهم فيها! والظاهر أنه بقية؛ لأن غيره رواه عن عبيدالله دونها.

رواه أبو داود في «سننه» (5/310) (3437) عن الربيع بن نافع أبي تَوبةَ. والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (4/9) (5506) من طريق يُوسُف بن عَدِيٍّ، كلاهما عن عُبيدالله بن عمرو الرقي، عن أيوبَ، عن ابنِ سيرين، عن أبي هريرة: «أن النبي صلَّى الله عليه وسلم نهى عن تَلَقِّي الجَلَبِ، فإن تَلَقَّاهُ مُتلَقٍّ فاشتراه، فصاحبُ السلعةِ بالخيار، إذا وردت السوقَ».

وهذا اللفظ محفوظ أيضاً من طرق أخرى عن أيوب السختياني.

وهناك حديث آخر ذكره ابن أبي حاتم في «العلل» عن بقية يبدو أنه دلّس فيه شيخه!

قال ابن أبي حاتم في «العلل» (5/112) (1847): وسمعتُ أَبَا زُرْعَةَ - وسُئِلَ عَنْ حديثٍ اختُلِفَ فِي الرِّوَايَةِ، عَنْ الوَلِيدِ بنِ سُلَيمان بنِ أَبِي السَّائِب:

فَرَوَى بقيَّة، عَنْ أَبِي عبدالحميد، عن بُسْر بن عُبَيدالله، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ، عَنْ نُعَيم بنِ هَمَّار الغَطَفاني، عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنِ امْرِئٍ إِلاَّ قَلْبُهُ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ؛ إِنْ شَاءَ أَنْ يُزِيغَهُ أَزَاغَهُ، وإِنْ شَاءَ أَنْ يُقِيمَهُ أَقَامَهُ، والمِيزَانُ بِيَدِ الرَّحْمَنِ؛ يَرْفَعُ قَوْمً، وَيَضَعُ آخَرِينَ».

ورَوَاهُ عَمْرُو بنُ بِشْر بنِ السَّرْح، عن الوليد بن سُلَيمان بنِ أَبِي السَّائب، عَنْ بُسْر بن عُبَيدالله، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ، عَنِ النَّوَّاس بن سَمْعان، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؟

فسمعتُ أَبَا زُرْعَةَ يَقُولُ: "الصَّحيحُ: عن النَّوَّاس، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أنَّ عبدالرحمن بن يَزِيد بن جَابِر رَوَاهُ عَنْ بُسْر بن عُبَيدالله، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ، عَنِ النَّوَّاس، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم".

قلت:

من خلال كلام ابن أبي حاتم في ذكر الاختلاف على الوليد بن سليمان يظهر أن شيخ بقية هو الوليد بن سليمان وأن بقية روى عنه هذا الحديث وكنّاه! لكن الوليد هذا يكنى أبا العباس، وويُقال: أَبُو عَبْدالرَّحْمَنِ كما قال المزي، فيُحتمل أن "عبدالحميد" محرّفة، والصواب: "عن أبي عبدالرحمن"، والله أعلم.

ولم أجد أهل العلم ذكروا لبقية رواية عن الوليد بن سليمان، لكن لا تستبعد روايته عنه، فهو دمشقي، وروى عنه الوليد بن مسلم، والوليد وبقية أقران، فربما سمع بقية الحديث من قرين له أو ممن هو أصغر منه فأسقطه ودلّس اسم الوليد بن سليمان، والحديث يرويه أَبُو المُغِيرَةِ عَبْدُالْقُدُّوسِ بنُ الحَجَّاجِ الحمصيّ، عَنِ الْوَلِيدِ بنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي السَّائِبِ، عن بُسْر بن عُبَيْدِاللَّهِ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ هَمَّارِ الغَطَفَانِيِّ.

فلا يُستبعد أن يكون بقية أخذه منه وأسقطه ودلّس اسم الوليد وكناه بأبي عبدالحميد أو أبي عبدالرحمن، والله أعلم.

وقال د. اللحيدان: "مثال(9) (10):

في ترجمة: محمد بن عبدالرحمن القشيري الكوفي، متهم، وكان بقية يُدلّسه فينسبه بما لا يُميزه يقول: ((أخبرنا محمد الكوفي))، وقد روى له ابن عدي حديثاً تالفاً، وقال: ((هذا الحديث لا يرويه بهذا الإسناد غير بقية عن محمد، ومحمد الكوفي ربما نسبه بقية، فقال: "محمد بن عبدالرحمن" وهو مجهول))، وأورد ابن الجوزي كلام ابن عدي، وقال: ((لا أُراه إلا العَرْزَمي أيضاً)) يعني: محمد بن عبيدالله العَرْزمي، متروك الحديث، وإنما سمّى والده بعبدالرحمن تدليساً؛ لأن المعنى فيما عُبّد واحد، وقال الذهبي: ((محمد بن عبدالرحمن القُشيري عنه بقية: كذاب مشهور))، ومهما يكن من شيء، فقد دلس بقية أسماء الهلكى" انتهى.

قلت:

ذهب بعض أهل العلم إلى أنه من شيوخ بقية المجاهيل، وذهب بعضهم إلى أنه كوفي نزل الشام وسكن بيت المقدس، وهو كذاب.

روى ابن ماجه في «سننه» (2/634) (1749) قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ المُصَفَّى، قال: حَدّثَنَا بَقِيَّةُ، قال: حَدّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبِلَالٍ: «الغَدَاءُ يَا بِلَالُ. فَقَالَ: إِنِّي صَائِمٌ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَأْكُلُ أَرْزَاقَنَا، وَفَضْلُ رِزْقِ بِلَالٍ فِي الْجَنَّةِ، أَشَعَرْتَ يَا بِلَالُ أَنَّ الصَّائِمَ تُسَبِّحُ عِظَامُهُ وَتَسْتَغْفِرُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ مَا أُكِلَ عِنْدَهُ؟».

وروى ابن عدي وابن بشران من طريق بَقِيَّة بن الوَلِيدِ، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ الْكُوفِيُّ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا لِيُحِلَّ حَرَامًا وَيُحَرِّمَ حَلالا أَوْ يُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».

ورواه الطبراني من طريق مُحَمَّد بن مُصَفَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ الْقُشَيْرِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، به.

وروى البيهقي في «الشُّعَب» (9/390) (6846) من طريق أَبي عُتْبَةَ أَحْمَد بن الْفَرَجِ، قال: حدثنا بَقِيَّةُ بنُ الْوَلِيدِ، قال: حدثنا مُحَمَّدٌ الْكُوفِيُّ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى حَجَزَ التَّوْبَةَ عَنْ كُلِّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ».

ورواه أيضاً (12/54) من طريق كَثِير بن عُبَيْدٍ، قال: حدثنا بَقِيَّةُ بنُ الوَلِيدِ، قال: حدثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسٍ، به.

وروى الدارمي في «سننه» (1/408) قال: أَخبَرَنا نُعَيْمُ بنُ حَمَّادٍ، قال: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، عَنْ مُحَمَّدُ بنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ القُشَيْرِيِّ، قَالَ: قَالَ دَاوُدُ النَّبِيُّ صَلى الله عَليهِ وسَلم: «قُلْ لِصَاحِبِ الْعِلْمِ يَتَّخِذُ عَصًا مِنْ حَدِيدٍ وَنَعْلَيْنِ مِنْ حَدِيدٍ وَيَطْلُبُ الْعِلْمَ حَتَّى تَنْكَسِرَ الْعَصَا وَيَنْخَرِقَ النَّعْلاَنِ».

وذكره ابن عدي في «الكامل» وقال: "مُحمد بن عَبدالرحمن القشيري، ويقال: كوفي. عن الأَعمَش وغيره، روى عنه بقية وغيره، منكر الحديث".

ثم ساق له عن مُحمد بن عُبيدالله بن فضيل، وعَبدالله بن مُحمد بن نصر الرملي، وعَبدالله بن مُحمد بن سلم المقدسي، وعَبدالله بن أحمد بن أبي الحواري، قالوا: حَدثنا هشام بن خالد الأزرق، حَدثنا بَقِيَة، حَدَّثني مُحمد، يعني القشيري،- وقال ابن فضيل: مُحمد الكوفي -، عن الأَعمَش، عن زاذان، عن أبي هريرة، عن النبي صَلى الله عَليه وسلم؛ أنه قال: «من أصاب دينارا أو درهما في الفتنة، طبع على قلبه بطابع النفاق حتى يؤديه».

ثم ساق له أيضاً عن بَقِيَة: حَدَّثني مُحمد بن عَبدالرحمن، عن هشام بن حسان، عن مُحمد بن سِيرين، عن أَنَس بن مالك، وهِشام، عن الحسن، قالا: قال رسول الله صَلى الله عَليه وسلم: «من جمع المال من غير حقه، سلطه الله على الماء والطين، يعني البناء».

ثم حديث بَقِيَة، قال: حَدَّثني مُحمد القشيري، عن عَطاء، عن جابر، عن النبي صَلى الله عَليه وسلم: «أنه نهى أن تُغسل الرأس والبدن بشَيءٍ يؤكل».

ثم حديث بَقِيَة، قال: حَدثنا مُحمد القشيري، عن عَبدالرحمن بن سابط الجمحي، عن أبي بكر الصديق، قال: قال رسول الله صَلى الله عَليه وسَلم: «صنفان من أُمَّتِي لا يدخلون الجنة: القدرية، والمرجئة».

ثم حديث بَقِية، عن مُحمد رجل من أهل الكوفة، عن حميد الطويل، عن أَنَس، قال: قال رسول الله صَلى الله عَليه وسَلم: «إِنّ الله حجر التوبة عن كل صاحب بدعة».

ثم حديث بَقِيَة، قال: حَدَّثني مُحمد، عن حميد الطويل، عن أَنَس بن مالك، قال: قال رسول الله صَلى الله عَليه وسَلم: «صنفان من أُمَّتِي لا يدخلون الجنة: القدرية، والحرورية».

ثم قال: "وهذه الأحاديث لمحمد بن عَبدالرحمن القشيري بأسانيدها كلها مناكير بهذا الإسناد، ومنها ما متنه منكر، ومُحمد هذا مجهول، وهو من مجهولي شيوخ بقية".

قلت: كل الأحاديث التي يرويها بقية عنه عن شيوخ كوفيين، وكل الأحاديث التي أوردها له ابن عدي من رواية بقية، ولهذا قال عنه إنه من شيوخ بقية المجاهيل.

وعرض الدارقطني له في حديث في «العلل» (1/282) رواه بَقِيَّة، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، عَنْ فِطْرٍ، ثم قال: "ومُحَمَّدٌ هذا مَجْهُولٌ".

وهناك «محمد بن عبدالرحمن المقدسي القشيري» عدّهما أبو حاتم واحداً.

قال ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (7/325) (1752): "محمد بن عبدالرحمن المقدسي القشيري، كان يسكن بيت المقدس. روى عن جعفر بن محمد، وحميد الطويل، وخالد الحذاء، وعبيدالله بن عمر، وفطر بن خليفة. روى عنه: أبو ضمرة، وبقية، وأبو بدر شجاع بن الوليد، وسليمان بن شرحبيل. سمعت أبي يقول - وسألته عنه - فقال: متروك الحديث، كان يكذب ويفتعل الحديث، وأفرد البخاري باسم: [محمد بن عبدالرحمن القشيري: روى عن عبيدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «من أصابه جهد من صيام فلم يفطر وجبت له النار». روى عنه بقية].

قال عبدالرحمن: سمعت أبي يقول: "هو محمد بن عبدالرحمن المقدسي، هما واحد".

قال عبدالرحمن: سمعت أبي يقول: "هو محمد بن عبدالرحمن هذا، شيخ عراقي وقع إلى الشام، حدثنا عنه ابن شرحبيل وغيره".

قلت: الترجمة التي نقلها ابن أبي حاتم عن البخاري لا توجد في نسخ «التاريخ الكبير» المطبوعة، ولم يُشر إليها أحد ممن حقق الكتاب، والأصل أن تكون في الجزء الذي جمعه ابن أبي حاتم عن أبيه وأبي زرعة في بيان خطأ البخاري في «تاريخه»؛ لأن أبا حاتم يشير إلى أن البخاري ذكر في ترجمته رواية بقية عنه فكأنه فرّق بينه وبين المقدسي وهما واحد، وهذه ليست في ذلك الجزء.

والذي ذهب إليه أبو حاتم من أنهما واحد هو الصواب إن شاء الله، فهو كوفيّ، وكل من حدث عنهم من أهلها، ونزل الشام، وسمع منه بقية، وكأنه بسبب كذبه لم ينتشر حديثه، وأكثر من روى عنه بقية، وكان شغوفاً بالرواية عن الضعفاء وتدليسهم لئلا يُعرفون، ولهذا فرق بينهما أهل العلم.

قال المزي في «تهذيب الكمال» (25/657) (5416): "ق: مُحَمَّد بن عبدالرحمن. عَن: سُلَيْمان بْن بريدة (ق)، عَن أبيه حديث: «قال: الغداء يا بلال. قال: إني صائم». وعَنه: بقية بْن الوليد (ق). روى له ابن ماجه هذا الحديث، وأظنه: مُحَمَّد بن عبدالرحمن القشيري، وهو شيخ كوفي وقع إلى الشام وسكن بيت المقدس. يروي عَن: جعفر بن مُحَمَّد بْن علي، وحميد الطويل، وخالد الحذاء، وسُلَيْمان الأعمش، وعبداللَّه بْن عُمَر العُمَري، وعبدالملك بْن أَبي سُلَيْمان، وعُبَيداللَّه بن عُمَر العُمَري، وفطر بْن خليفة، ومسعر بْن كدام، وهشام بْن عروة، وأبي الزبير المكي.

ويروي عَنه: أَبُو ضمرة أنس بْن عياض، وجعفر بن عاصم الحراني، وسُلَيْمان بْن عَبْدالرَّحْمَنِ ابْن بنت شرحبيل، وأَبُو بدر شجاع بْن الوليد.

وهو من الضعفاء المتروكين.

قال أَبُو حاتم: متروك الحديث، كان يكذب ويقتعل الحديث. وهُوَ الذي روى عن هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَن أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «نبات الشعر في الأنف أمان من الجذام».

وَقَال أَبُو جعفر العقيلي: حديثه منكر، ليس له أصل، ولا يتابع عليه، وهو مجهول بالنقل.

وَقَال أَبُو أَحْمَد بْن عَدِيّ: وهو من مشايخ بقية المجهولين، منكر الحديث.

وَقَال أَبُو الفتح الأزدي: كذاب، متروك الحديث".

قلت: الظاهر أن المزي يرى أنهما واحد، وتعقبّه ابن حجر في «تهذيب التهذيب» (9/310) فقال: "قلت: هذه الترجمة كلها للمقدسي، وأما شيخ بقية، فقال أبو حاتم والأزدي: مجهول، وزاد الأزدي: منكر الحديث، وفرّق بينه وبين الشيخ المقدسي، وجوّز صاحب الميزان أن يكون هو محمد بن عبدالرحمن بن شداد بن أوس نزيل بيت المقدس ونسبه قبل ذلك فقال البيروتي عن بقية، لا ندري من هو".

وجعلهم الذهبي خمسة في «المغني في الضعفاء» (2/606) فذكر: "مُحَمَّد بن عبدالرَّحْمَن الْقشيرِي عَن حميد وَالْأَعْمَش وَعنهُ بَقِيَّة: كَذَّاب مَشْهُور".

ثم: "مُحَمَّد بن عبدالرَّحْمَن المَقْدِسِي عَن عبدالملك بن أبي سُلَيْمَان: مُتَّهم بِالوَضْعِ، وهُوَ الْقشيرِي، وهُوَ عراقي سكن بَيت المُقَدّس".

ثم: "مُحَمَّد بن عبدالرَّحْمَن القرشِي: تَابِعِيّ عَن وَاثِلَة بن الأسقع، مَجْهُول لا يُعرف".

ثم: "مُحَمَّد بن عبدالرَّحْمَن الْقرشِي عَن خَالِد الحذاء عَن مُحَمَّد عَن أبي مُوسَى رَفعه: «إِذا أَتَى الرجل الرجل فهما زانيان»، وعنهُ شُجَاع بن الوَلِيد. قَالَ الْأَزْدِيّ: لَا يَصح حَدِيثه، وَلَعَلَّه المَقْدِسِي القشيرِي".

ثم: "مُحَمَّد بن عبدالرَّحْمَن بن شَدَّاد بن أَوْس عَن أَبِيه عَن جده، قَالَ أَبُو حَاتِم: لا يعرف والخَبَر مُنكر".

وذكر في «الميزان» (3/623): "محمد بن عبدالرحمن القشيري الكوفي. عن الأعمش، وحميد. وعنه بقية. قال ابن عدي: منكر الحديث...

وقيل: إن هذا كان يسكن بيت المقدس".

وذكر له بعض الأحاديث التي ذكرها ابن عدي في ترجمته، ثم قال: "وذكر له ابن عدي أحاديث أخر من هذا النموذج. وفيه جهالة، وهو متهم ليس بثقة، أدركه سليمان ابن بنت شرحبيل. وهو محمد بن عبدالرحمن المقدسي الراوي عن عبدالملك بن أبي سليمان. وقد قال فيه أبو الفتح الأزدي: كذاب متروك الحديث".

ثم ذكر: "محمد بن عبدالرحمن القرشي: عن واثلة بن الأسقع: لا يُدرى من هو".

ثم ذكر: "محمد بن عبدالرحمن القرشي: عن خالد الحذاء، عن محمد، عن أبي موسى - مرفوعاً، قال: إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان. رواه عنه شجاع بن الوليد. قال الأزدي: لا يصح حديثه".

ثم ذكر: "محمد بن عبدالرحمن بن شداد بن أوس الأنصاري المقدسي: عن أبيه، عن جده. قال أبو حاتم: لا يعرف، والخبر منكر.

قلت: ويروي عن عبدالملك بن أبي سليمان".

ثم ذكر: "محمد بن عبدالرحمن المقدسي، فلعله هو. قال الأزدي: كذاب متروك.

قلت: لا، بل هذا القشيري، وقد نبهنا عليه".

وزاد ابن حجر في «اللسان» (7/287) في ترجمة «محمد بن عبدالرحمن القشيري الكوفي»: "وقال الدارقطني في غرائب مالك: متروك الحديث ذكره في ترجمة: مالك عن نافع عن ابن عمر قبل الثلاث مِئَة.

وقال ابن عَدِي: من مجهولي شيوخ بقية.

وقال الخليلي: شامي يأتي بالمناكير عن مسعر وعن غيره.

وقال العقيلي: في حديثه عن مسعر عن المقبري حديث منكر ليس له أصل، وَلا يتابع عليه وهو مجهول".

ثم عرض ابن حجر للتفريق بين هؤلاء جميعاً، فقال: "أقول: اختلف في هؤلاء الذين يُقال لهم: «محمد بن عبدالرحمن» وهم: القشيري، والقرشي عن واثلة، والقرشي عن خالد الحذاء، وحفيد شداد المقدسي، وشيخ بقية، هل هم واحد، أو خمسة، أو أربعة، أو ثلاثة، أو اثنان؟!

فأما ابن أبي حاتم فقال: محمد بن عبدالرحمن المقدسي القشيري ونقل عَن أبيه أنه عراقي وقع إلى الشام وغاير بينه وبين حفيد شداد ونقل عن البخاري أن الذي روى عنه بقية هو القشيري.

وأما ابن عَدِي فأفرد القرشي الراوي عن واثلة وهو صواب لتقدم طبقته.

وأما الأزدي فأفرد القرشي الراوي عن خالد الحذاء فجوز النباتي أنه المقدسي.

وأفرد الأزدي أيضًا القشيري الراوي عن مالك عن المقدسي الذي يقال له أيضًا: القشيري. والظاهر خلافه وكذا أفرد الذي روى عنه بقية والصواب أنه القشيري كما تقدم.

وكذا قال ابن عَدِي: إن شيخ بقية هو القشيري.

وأما تجويز الذهبي أن حفيد شداد هو المقدسي ثم رجوعه إلى أن المقدسي هو القشيري فإنه رجع في الثاني إلى قول أبي حاتم، ولا بعد فيما جوّزه أولاً؛ لأن حفيد شداد وصف بأنه مقدسي".

وذكر الذهبي اثنين في «تاريخه» في طبقتين مختلفتين.

فذكر (4/739) «مُحَمَّد بن عَبْدِالرَّحْمَنِ القُشَيْرِيّ الكُوفِيّ» في طبقة من توفوا بين سنة [171 - 180 هـ]، وقال: "نَزِيلُ بَيْتِ المَقْدِسِ. عَنْ: سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، وَأَبِي الزُّبَيْرِ، وَحُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، وَخَالِدٍ الْحَذَّاءِ. وَعَنْهُ: بَقِيَّةُ، وَأَبُو ضَمْرَةَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ ابْنِ بِنْتَ شُرَحْبِيلَ. وهُوَ مَجْهُولٌ، وَأَحَادِيثُهُ سَاقِطَةٌ. وقال ابن الجوزي: كذاب. قلت: وهو مَتْرُوكُ الحَدِيثِ".

ثم ذكر (4/962) «محمد بن عبدالرحمن القُشَيريّ المَقْدسيّ» في طبقة من توفوا بين سنة [181 - 190 هـ]، وقال: "عَنْ: حُمَيْد الطويل، وجعفر بن محمد، وخالد الحذّاء، وطبقتهم. وعَنْهُ: بقيّة، وأبو بدر السكُونيّ، وسليمان ابن بنت شُرَحْبيل. قال أبو حاتم: كان يكذب ويفتعل الحديث".

والذي يظهر لي أن شيخ بقية الكوفي هو نفسه المقدسي، وهو متروك، منكر الحديث، ولهذا كان بقية لا ينسبه ويُدلّسه، والله أعلم.

·       الخاتمة:

قال د. أبو سمحة في خاتمة بحثه: ".. ليخرج البحث بالنتائج الآتية:

1- بذل المحدثون جهوداً عظيمة في خدمة السنة النبوية حتى "أشرقت بحق شموس صحاح الأخبار وانبعثت أشعتها في الأقطار، وتمزقت عن البصائر حجب الجهالة وأغشية الضلالة".

2- لتدليس الشيوخ أثر واضح في جهالة عين جملة من الرواة، الأصل فيهم عدم الجهالة.

3- برز بقية بن الوليد في هذا الميدان، فكثر في شيوخه المجاهيل، والذين تمكن البحث من رفع جهالتهم.

4- كشف البحث أن بعض الشيوخ الذين وصفوا بالجهالة ليسوا بمجاهيل؛ إنما دلسوا تدليس شيوخ.

5- ويوصي البحث أخيراً بأن يدرس الشيوخ المجاهيل للرواة الذي وصفوا بتدليس الشيوخ" انتهى.

قلت:

النتيجة الأولى إنشائية وليست نتيجة.

والنتيجة الثانية فيها نظر حيث لم يكثر ذلك حتى يكون ظاهرة واضحة، وكثير من الأمثلة ليس فيها تدليس شيوخ، وإنما هم حقيقة من مشايخ بقية المجاهيل.

والنتيجة الثالثة والرابعة واحدة، وبعض الأمثلة لم يتم رفع جهالتهم وإنما هم أصلا مجاهيل، ولم يدلسهم بقية تدليس شيوخ.

والنتيجة الخامسة قد فعل ذلك د. اللحيدان في بحثه.

·       مناقشة د. أبو سمحة في بحثه الثاني "تدليس الشيوخ وعلاقته بالتدليس"، وعرضه على بحث د. اللحيدان:

·       صور تدليس الشيوخ:

ذكر د. أبو سمحة صورتين من صور التدليس، فقال: "الصورة الأولى: أن يخترع المدلِّس للراوي اسماً أو كنيةً أو لقباً أو نسباً لا يعرف به. ويوضح هذه الصورة الأمثلة الآتية:

- ما قيل في محمد بن سعيد المصلوب؛ قال أبو طالب بن سوادة: "قلب أهل الشام اسمه على مائة وكذا وكذا أسماء قد جمعتها في كتاب". وقال ابن حجر فيه: "وقد ينسب لجده. قيل: إنهم قلبوا اسمه على مائة وجه ليخفى". وقال ابن الجوزي فيه: "قد قلب خلق من الرواة اسمه، وبهرجوا في ذكره، والعتب عليهم في ذلك شديد، والإثم لهم لازم؛ لأن من دلَّس كذاباً فقد آثر أن يؤخذ في الشريعة بقول باطل". وقال ابن سبط العجمي: "وقد غيروا اسمه سترا له وتدليسا لضعفه". فهذا الراوي لا يمكن أن يكون له أكثر من مائة اسم اشتهر بواحد ولم يشتهر بالأخرى منها، إنما الذي صنعه المدلسون هو اختراع هذه الأسماء له فهي لا تعرف له. وممن فعل ذلك مروان بن معاوية الفزاري؛ وقد ذكره ابن معين في قوله: "وكان يحدث عن محمد بن سعيد الذي كان صلب، وهو يكَنّي اسمه فكان يقول حدثنا محمد بن أبي قيس لكيلا يعرف"، وقال: "كان مروان بن معاوية يغير الأسماء يعمي على الناس".

- قول الكلبي: "قال لي عطية كنيتك بأبي سعيد، فأنا أقول حدثنا أبو سعيد". قلت: فهو لا يعرف هذه الكنية البتة؛ إنما اخترعها عطية.

قلت: وعلى هذا يحمل تعريف ابن الصلاح له: "أن يروي عن شيخ حديثا سمعه منه فيسميه أو يكنيه أو ينسبه أو يصفه بما لا يعرف به كيلا يعرف". وهذا عين ما ذهب إليه العراقي بقوله: "وهو أن يصف المدلس شيخه الذي سمع ذلك الحديث منه بوصف لا يعرف به من اسم أو كنية أو نسبة إلى قبيلة أو بلد أو صنعة أو نحو ذلك كي يوعر الطريق إلى معرفة السامع له"...

الصورة الثانية: أن يغير المدلس الراوي ويأتي ببعض ما عرف به لكنه لم يشتهر. ومن الأمثلة على ذلك: قول ابن مهدي في هشيم: "أعياني هشيم عن أبي إسحق الكوفي حتى قال في شيء عن عكرمة قال علي. كنا نظنه عبد االله بن ميسرة أبو ليلى، كناه ببعض بنيه". قلت: فهذا غير اسمه لكنه لم يخترعه إنما كناه بما لا يشتهر به من بنيه، فهو مختلف عن الصور السابقة، لكنه متفق مع التعريف العام.

وقول ابن حبان: "محمد بن السائب الكلبي كنيته أبو النضر من أهل الكوفة، وهو الذي يروي عنه الثوري ومحمد بن إسحاق ويقولان حدثنا أبو النضر حتى لا يعرف".

وقول ابن عدي: "كان شيبان بن فروخ إذا حدث عن عثمان بن مقسم قال ثنا أبو سلمة يكنيه لضعفه".

قلت: فهما معروفان مشهوران بالاسم وغير مشهوران بالكنية لكنها تعرف لهما، فالمدلِّس لم يخترعها لهما. وقال الصنعاني...

وخلاصة القول فيه: أن لا خلاف بين تعريف ابن الصلاح ومن تبعه وابن كثير ومن تبعه فكل واحد يمثل صورة من صور تدليس الشيوخ؛ وليبقى تعريف الخطيب جامعاً لها. لكن لا مانع من الدمج بين الصورتين لنخرج بتعريف أكثر تفصيلاً؛ فنقول تدليس الشيوخ هو: "أن يذكر المدلّس شيخه بما لا يعرف به، أو بما لا يشتهر به؛ من اسم أو كنية أو نسبة إلى قبيلة أو بلد أو صنعة" انتهى.

قال د. اللحيدان: "وتدليس الشيوح، وهو: وصف الشيخ بما لم يشتهر به إيهاماً لكثرة الشيوخ أو استصغاراً له ، أو إخفاء لضعفه أو بدعته، قال الخطيب البغدادي (ت 463هـ): ((الضرب الثاني من التدليس هو: أن يروي المحدث عن شيخ سمع منه حديثاً فيغَيّر اسمه أو كنيته أو نسبه أو حاله المشهور من أمره؛ لئلا يُعرف، والعلة في فعله ذلك كون شيخه غير ثقة في اعتقاده، أو في أمانته، أو يكون متأخر الوفاة قد شارك الراوي عنه جماعة دونه في السماع منه، أو يكون أصغر من الراوي عنه سناً، أو تكون أحاديثه التي عنده عنه كثيرة فلا يحب تكرار الرواية عنه)).

وقال الخطيب البغدادي أيضاً: ((أما التدليس للشيوخ فمثل أن يُغيّر اسم شيخه لعلمه بأن الناس يرغبون عن الرواية عنه، أو يُكنيه بغير كنيته، أو ينسبه إلى غير نسبته المعروفة من أمره ووصفهم))، وقال ابن الصلاح (ت 643هـ): ((تدليس الشيوخ، هو: أن يروي عن شيخ حديثاً سمعه منه فيُسميه، أو يُكنيه، أو ينسبه، أو يصفه بما لا يُعرف به؛ كي لا يُعرف))... وعرّفه الحافظ ابن حجر بقوله: ((تدليس الشيوخ، هو: أن يصف شيخه بما لم يشتهر به من اسم أو لقب أو كنية أو نسبة إيهاماً للتكثير غالباً، وقد يفعل ذلك لضعف شيخه))...".

وقال في "مثال (47):

في ترجمة: محمد بن سعيد بن حسان بن قيس الأسدي الشامي المصلوب الكذاب، وكان مروان بن معاوية الفَزَاري، وغيره من الراواة يُدلّسون شهرته ألواناً شتى اسماً ونسباً ونسبة وكنية ولقباً...

وقال أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد ـ ابن عُقْدة ـ: ((سمعت عبدالله بن أحمد بن سوادة أبا طالب يقول: قلب أهل الشام اسم محمد بن سعيد الزنديق على مائة اسم وكذا وكذا اسماً، قد جمعتها في كتاب، و هو الذي أفسد كثيراً من حديثهم))...

وقال ابن الجوزي أيضاً: ((محمد بن سعيد بن أبي قيس الشامي المصلوب، وهذا الرجل كان كذاباً يضع الحديث، ويُفسد أحاديث الناس، صلب على الزندقة، وقد قلب خلق من الرواة اسمه وبهرجوا في ذكره، والعتب عليهم في ذلك شديد والإثم لهم لازم؛ لأن من دلّس كذاباً فقد آثر أن يؤخذ في الشريعة بقول باطل...)).

قال الحافظ ابن حجر: ((محمد بن سعيد بن حسان بن قيس الأسدي الشامي المصلوب، ويُقال له: "ابن سعد بن عبدالعزيز"، أو "ابن أبي عتبة"، أو "ابن أبي قيس"، أو "ابن أبي حسان"، ويقال له:"ابن الطبري"، "أبو عبدالرحمن"، و"أبو عبدالله"، و"أبو قيس"، وقد يُنسب لجده، قيل إنهم قلبوا اسمه على مائة وجه ليخفى، كذبوه))...".

وقال في "مثال (45):

قال أحمد بن زُهير: ((سمعت يحيى بن معين يقول: كان مروان بن معاوية يُغيّر الأسماء؛ يُعمي على الناس، يُحدثنا عن الحكم بن أبي خالد، وإنما هو الحكم بن ظُهير))...".

وقال في "مثال (29):

"... سمعت مكحولاً يقول: سمعت جعفر بن أبان يقول: سمعت ابن نمير يقول: قال لي أبو خالد الأحمر: قال لي الكلبي: قال لي عطية: "كنيتك بأبي سعيد، قال: فأنا أقول: حدثنا أبو سعيد)).

وقال أيضاً: ((هو الذي كناه عطية العوفي: "أبا سعيد"، وكان يقول: "حدثني أبو سعيد"، يريد به الكلبي، فيتوهمون أنه أراد أبا سعيد الخدري...))".

قلت:

نقل د. اللحيدان نصوصاً كثيرة عن الأئمة فيما يخص تدليس الشيوخ، ونقل بعضها أبو سمحة، وأتى بنصين أو ثلاثة إضافة لذلك عن ابن حبان وابن عدي والصنعاني...

ولا شك أن ترتيب أبو سمحة للبحث فيه تنظيم أكثر مما عند اللحيدان.. فتراه اختصر تعاريف أهل العلم في صورتين ثم جمع بينها!

وحقيقة تعريفات أهل العلم لتدليس الشيوخ لا تحتمل صورتين، وإنما صورة واحدة، فقولهم: "بما لا يعرف" لا يختلف عن قولهم: "بما لم يشتهر به"، فما لم يشتهر به = يعني لا يعرف به.

ثم تعرض أبو سمحة للكلام على "الأسباب الداعية لتدليس الشيوخ وأشهر من عُرف به".

وكل ما ذكره من كتب أهل العلم، ورتبها في عدة أسباب مع أن السبب الرئيس في التدليس عموماً هو إسقاط الضعيف، ولهذا ركز الدكتور اللحيدان على هذا في المبحث الثاني: "بواعثه"، وذكر أن هدف الدلس لاسم شيخه الضعيف هو إخفاء ضعف شيخه أو بدعته.

·       أسباب التدليس:

ثم ذكر في هذا أيضاً طرق المدلسين في هذا التدليس، والتي فصلها أبو سمحة (ص33) تحت "ثالثاً: طرق المدلسين في تغيير الأسماء وابتكارها".

وهناك أسباب ذكرها أبو سمحة هي في حقيقتها ترجع لسبب واحد وهو إخفاء ضعف الشيخ.

قال (ص32) تحت عنوان "الأسباب الداعية لتدليس الشيوخ": "1. إيهام الرواية عن الصحابة والثقات. ومثاله قول أحمد: (بلغني أن عطية كان يأتي الكلبي فيأخذ عنه التفسير، وكان يُكنيه بأبي سعيد فيقول: قال أبو سعيد). قال الخطيب معقباً على ذلك: (الكلبي يُكنى أبا النضر، وإنما غيّر عطية كنيته؛ ليُوهم الناس أنه يروي عن أبي سعيد الخدري التفسير الذي كان يأخذه عنه)".

قلت: ما فعله عطية العوفي ليس سبباً من أسباب التدليس، وإنما ما فعله يدخل في طريقة التدليس، وإلا فالسبب هو ضعف الكلبي.

وما ذكره أبو سمحة ذكره اللحيدان في بحثه (ص: 41) في مثال رقم [13] "عطية بن سعد العَوْفي الجَدَلي الكوفي أبو الحسن"، ونقل من كلام أهل العلم.

قال عبدالله: ((سمعت أبي ذكر عطية العَوْفي، فقال: هو ضعيف الحديث، قال أبي: بلغني أن عطية كان يأتي الكلبي فيأخذ عنه التفسير، وكان يُكنيه بأبي سعيد فيقول: "قال أبو سعيد" وكان هُشيم يضعف حديث عطية)).

وقال الخطيب البغدادي: ((الكلبي يُكنى أبا النضر، وإنما غيّر عطية كنيته؛ ليُوهم الناس أنه يروي عن أبي سعيد الخدري التفسير الذي كان يأخذه عنه)).

وذكر أبو سمحة أيضاً في الأسباب، قال:

"2. ضعف الراوي: كأن يكون الشيخ ضعيفا أو متروكا...

3. الرتبة الزمنية: كأنن يكون شيخه صغيراً، أو أن يروي عن نظرائه في السن...

4. لشيء وقع بين المدلّس وشيخه: ومثاله قول الزركشي: روى عنه الذهلي أي البخاري في الصحيح (ولا يصرح) بنسبه، بل ينسبه مرة إلى جده، ومرة إلى جد أبيه، وإنما فعل ذلك للفتنة الواقعة بينه وبينه.

5. الإغراب على غيره: كأن يشارك غيره في الشيخ، فيدلسه للإغراب.

6. بيان كثرة الرواية: ويقع ذلك لإيهام الرواة كثرة الشيوخ عند المدلس. أو يقع التغيير للشيخ الذي أكثر عنه فلا يحب تكرار الرواية عنه".

قلت: وثّق أبو سمحة بعض هذه الأسباب وأعرض عن توثيق بعضها! وهذه كلها موجودة في كتاب عبدالقادر المحمدي «الوجيز النفيس في معرفة التدليس» (ص: 20): "ويختلف تدليس الشيوخ باختلاف الأغراض فمنهم من يدلس شيخه لكونه ضعيفا أو متروكا، حتى لا يعرف ضعفه إذا صرح باسمه، ومنهم من يفعل ذلك لكونه كثير الرواية عنه كي لا يتكرر ذكره كثيرا أو لكونه متأخر الوفاة قد شاركه فيه جماعة فيدلسه للإغراب، أو لكونه أصغر منه أو لشيء بينهما...".

ولم يوثق المحمدي ذلك، وهذا كله كلام العلائي في «جامع التحصيل» (ص: 103) قال: "وأما القسم الثاني: وهو تدليس الشيوخ فهو يختلف باختلاف الأغراض، فمنهم من يدلس شيخه لكونه ضعيفا أو متروكا حتى لا يعرف ضعفه إذا صرح باسمه، ومنهم من يفعل ذلك لكونه كثير الرواية عنه كي لا يتكرر ذكره كثيراً، أو لكونه متأخر الوفاة قد شاركه فيه جماعة فيدلسه للأغراب، أو لكونه أصغر منه أو لشيء بينهما كما وقع للبخاري مع الذهلي".

·       طرق المدلسين في تغيير الأسماء وابتكارها:

هذا العنوان ذكره أبو سمحة ويقصد به الأساليب التي سلكها المدلسون في تدليسهم للشيوخ.

وهذا ذكره د. اللحيدان في المبحث الخامس (ص: 10 - 13) تحت عنوان «صوره» = أي صور التدليس.

- قال أبو سمحة (ص: 33): "1. النسبة إلى الجد: فقد ينسب الراوي إلى الجد دون النسبة إلى أبيه، ومن صوره:

- نسبته إلى جده القريب: ومن أمثلته ما قاله ابن حجر: (محمد بن قيس هو: محمد بن سعيد بن قيس المعروف بالمصلوب، نسب إلى جده).

- نسبته إلى جده البعيد: ومن أمثلته قول ابن أبي حاتم في إبراهيم بن محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة بن حصن بن حذيفة أبو إسحاق الفزاري: (روى عنه مروان بن معاوية ونسبه إلى جده فقال: حدثنا إبراهيم بن أبي حصن).

- نسبته إلى جد أمه، ومن أمثلته: قول إبراهيم بن أبي يحيى في ابن جريج: (نسبني إلى جدي من قِبل أمي إبراهيم بن أبي عطاء).

قلت: قسّم أبو سمحة النسبة إلى الجد إلى أقسام، والأمثلة على ذلك كثيرة، ذكر جملة منها اللحيدان في كتابه.

وذكر (ص: 57) عند الكلام على تدليس مروان بن معاوية للشيوخ: "وقال أبو داود: ((مروان بن معاوية يقلب الأسماء يقول: "حدثني إبراهيم ابن أبي حِصْن" يعني أبا إسحاق الفَزاري)".

وذكر (ص: 39) عند الكلام على تدليس ابن جريج: "وقال أحمد بن علي الأبار: ((حدثنا ابن أبي سُكَينة الحلبي، قال: سمعت إبراهيم بن أبي يحيى يقول: ابن جُريج نسبني إلى جدي من قبل أمي: إبراهيم بن أبي عطاء))".

وقال د. اللحيدان في الصورة رقم (5): "نسبة الضعيف إلى الجد أو جد الأم الذي لم يشتهر به، كصنيع : سليمان بن داود الطيالسي أبي داود البصري ، فكان إذا روى عن سليمان بن قَرْم بن معاذ الضَّبي البصري النحوي ، ضعيف الحديث يتشيع، دلّس نسبه، فقال: ((عن سليمان بن معاذ))، وصنيع: شَريك بن عبدالله النَّخَعي الكوفي القاضي أبي عبدالله ، فكان إذا روى عن محمد بن عبيدالله بن أبي سليمان الفَزاري العَرْزَمي أبي عبدالرحمن الكوفي ، متروك الحديث، دلّس نسبه، فقال: ((حدثني محمد بن أبي سليمان))، والمقصود هنا ترك شهرة الراوي بهذا الفعل، ومن الرواة من يشتهر بالنسبة إلى الجد الأدنى أو الأعلى، وهم نقيض هذا الصنف بحيث تكون نستهم إلى غير الأجداد من التدليس" انتهى.

- وقال أبو سمحة: "2. النسبة إلى أصل قوم الرجل دون أن يعرف بذلك. ومثاله ما قاله أبو حاتم: (عبيدالله بن عمرو وكنيته أبو وهب وهو أسدي، فكأن بقية بن الوليد كنّى عبيدالله بن عمرو ونسبه إلى بني أسد لئلا يفطن به)".

قلت: ذكر د. اللحيدان في الأمثلة عن تدليس بقية، مثال رقم (5) (ص: 20) قال: "في ترجمة: عُبيدالله بن عمرو بن أبي الوليد الرَّقي أبي وهب الأسدي ثقة، وإسحاق بن عبدالله بن أبي فَرْوة الأموي مولاهم المدني متروك الحديث، وكان بقية يُدلس اسم عبيدالله بن عمرو مقتصراً على كنية ونسبة لم يشتهر بها؛ ليُخفي إسحاق بن عبدالله بن أبي فَرْوة إذا دلّسه بإسقاطه وتسوية الإسناد لضعف إسحاق، قال عبدالرحمن بن أبي حاتم: ((سمعت أبي وذكر الحديث الذي رواه إسحق بن راهويه، عن بقية، قال : حدثني أبو وهب الأسدي، قال: حدثنا نافع، عن ابن عمر قال: «لا تحمدوا إسلام إمرىء حتى تعرفوا عقدة رأيه»، قال أبي: هذا الحديث له علة قلّ من يفهمها، روى هذا الحديث عبيدالله بن عمرو، عن إسحاق ابن أبي فَرْوة، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعبيدالله بن عمرو كنيته أبو وهب وهو أسدي، فكأن بقية بن الوليد كنى عبيدالله بن عمرو، ونسبه إلى بني أسد لكيلا يُفطن به، حتى إذا ترك إسحاق بن أبي فَرْوة من الوسط لا يهتدي به، وكان بقية من أفعل الناس لهذا".

- وقال أبو سمحة: "التكنية بولد غير معروف، مثاله ما قاله الخطيب في محمد بن السائب: (وهو أبو هشام الذي روى عنه القاسم بن الوليد الهمداني. وكان للكلبي ابناً يسمى هشاماً، فكناه القاسم به في روايته عنه). وكذا قول المزي في عبدالله بن ميسرة أبو ليلى الحارثي الكوفي: (كان له ابن اسمه إسحاق فكان هُشيم يكنيه به، وربما كناه أبا عبدالجليل). قلت: فكلاهما لا يعرفان بهذه الكنية بالنسبة إلى هذا الولد".

قلت: المثال الأول لم يذكره اللحيدان، لكن كان الأولى بأبو سمحة أن ينقل ما ذكره الخطيب بعد كلامه هذا أن أبا حاتم الرازي هو من أشار لذلك ونقله الخطيب بإسناده إلى «العلل»، وهو فيه.

قال ابن أبي حاتم (4/581) (1654): وسألتُ أَبِي عَنْ حديثٍ رَوَاهُ عُبَيدة بْن الأَسْوَد، عَن القاسم بنِ الوَلِيدِ، عَنْ أَبِي هِشَامٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لمَّا نَزَلَتْ: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ}... بِطُولِهِ؟

قَالَ أَبِي: "أَبُو هِشَامٍ هُوَ الكَلْبِي، وَكَانَ كنيتَه: «أَبُو النَّضْر»، وَكَانَ لَهُ ابنٌ يُقَالُ لَهُ: هشامُ بنُ الكَلْبي؛ صاحبُ نَحْوٍ وعربيةٍ، فكَنَّاهُ بِهِ".

وأما المثال الثاني فهو مشهور عن كثير من المتقدمين، وكذا المتأخرين، وقد نقل ذلك د. اللحيدان (ص: 70) ومما قال: "في ترجمة: عبدالله بن مَيْسَرة أبي ليلى الحارثي، ضعيف الحديث، وكان هُشيم يُدلّسه مقتصراً على كنية لم يشتهر بها، يقول: ((حدثنا أبو إسحاق))، أو: ((حدثنا أبو حَرِيز))، أو: ((حدثنا أبو عبدالجليل))، قال الدُّوري: ((سمعت يحيى يقول: أبو إسحاق الكوفي الذي روى عنه هشيم، هو : عبدالله بن مَيْسَرة، وهو ضعيف الحديث، وقد روى عنه وكيع وربما قال هشيم: حدثنا أبو عبدالجليل، وهو: عبدالله بن مَيْسَرة، كان يُدلّسه بكنية أخرى لا أحفظها))".

- وقال أبو سمحة: "التدليس بالتصغير أو التكبير للأسماء، ومن ذلك: قال ابن الجوزي: (نفيع بن الحارث أبو داود الأعمى الكوفي، ويقال له السبيعي؛ لأنه مولاهم يروي عَن أنس وَقد دلسه بعض الروَاة فَقَالَ (نَافِع بن أبي نَافِع). كذبه قَتَادَة، وَقَالَ يحيى: لَيْسَ بِشَيْء، وَقَالَ مرّة: لم يكن ثِقَة، وقالَ النَّسَائِيّ والفَلَّاس والدَّارَقُطْنِيّ: مَتْرُوك، وَقَالَ أَبُو زرْعَة: لم يكن بِشَيْء). وقال ابن حجر: (وقرأت بخط الذهبي: دلسه بعض الرواة فقال: نافع بن أبي نافع). قلت: فالتدليس في هذا الراوي وقع من وجهين الأول على اعتبار التكبير للاسم المصغر وهو تكبير نفيعاً نافعاً هذا أولاً، أما التدليس الآخر فوقع بتكنية الحارث بأبي نافع".

قلت: ذكر اللحيدان في صور التدليس (ص: 11): "3- تكبير الاسم المُصغّر، أو تصغيره تلطيفاً له، والمراد ما يُنادي به الأكثر في صغرهم، والشيخ معروف مشهور بالتكبير، كصنيع: خالد بن طَهْمان أبي العلاء الكوفي، فكان إذا روى عن نُفيع بن الحارث أبي داود الأعمى، ضعيف، دلّسه فكبر اسمه وساق نسبه بما يُشبه الا قتصار على الاسم؛ لأنه كنى والده به في حين أن نُفيعاً لم يشتهر بذلك، وقال: ((نافع بن أبي نافع))".

قلت: ما نقله أبو سمحة عن ابن حجر لقول الذهبي كان ينبغي عليه نقله من كتاب الذهبي مباشرة، فابن حجر ينقل هذا من كتاب «ميزان الاعتدال» وهو فيه (4/272): "وقد دلسه بعض الرواة، فقال نافع بن أبي نافع".

- وقال أبو سمحة: "5. التدليس على غير قياس وهذا أصعبه، فلا ينسب إلى جد ولا يكنى بأحد ولده. ولا ينسب إلى أصل أو حرفة أو صنعة؛ ومن الأمثلة على ذلك:

قال أبو زرعة: (قلتُ لابن نُمَيْر: شيخ يُحَدِّث عنه الحِمَّانِي، يقال له: علي بن سُوَيْد؟ فقال: لم تفطن من هذا؟ قلتُ: لا. قال: هو مُعَلَّى بن هلال، جعل الحِمَّانِي مُعَلَّى عليًّا، ونسبه إلى جده، وهو مُعَلَّى بن هلال بن سُوَيْد). قلت: فالنسبة إلى جده تدليس على قياس، أما تغيير معلى عليّاً فهو تدليس على غير قياس، لم يفطن أبو زرعة الرازي له؛ وهو من هو".

قلت: لا يوجد تدليس على غير قياس كما يدعي أبو سمحة!

وهذا المثال على قياس "الاشتقاق"، فهو اشتق من اسمه "مُعلى" "علياً"، ونسبه إلى جده.

وهذا بيّنه د. اللحيدان في صنيع حماد بن أسامة أبي أسامة الكوفي، فإنه كان إذا روى عن محمد بن السائب الكلبي أبي النضر الكوفي، وهو متهم بالكذب، دلّس اسمه بمشتقات التحميد؛ لأن المعنى فيما حُمّد واحد، فقال: "حماد بن السائب".

وكصنيع سعيد بن أحمد بن سعيد الأنماطي أبي الليث، فكان إذا روى عن محمد بن عبدالله بن إبراهيم بن ثابت الأُشْناني، وهو كذاب يضع الأحاديث، دلّسه، وسمّى أباه بوصف مشتق من الحياة الذي ينطبق على كل حيّ، فقال: "حدثنا محمد بن يحيى الأُشْناني".

وقد بيّن تدليس الحماني أيضاً أبو حاتم ونقله كذلك عن ابن نُمير.

قال ابن أبي حاتم في «العلل» (2/161) (286): وسألتُ أَبِي عَنْ حديثٍ رَوَاهُ الحِمَّانِيُّ يَحْيَى، عن عليِّ بنِ سُوَيد، عَنْ نُفَيعٍ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ جَابِرٍ؛ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ المُؤَذِّنِينَ المُحْتَسِبِينَ يَخْرُجُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَهُمْ يُؤَذِّنُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ...»، الحديثَ الطَّويلَ؟

قَالَ أَبِي: قَالَ ابنُ نُمَير: "إنَّ «عليَّ بنَ سُوَيْدٍ» هذا هو «مُعَلَّى بنُ هلالِ بنِ سُوَيدٍ»، جَعَلَ «مُعَلّى» «عَلِيَّاً»، وتَرَك «هِلالا» مِنَ الوَسَط، ونَسَب «عليّا» إلى جَدِّه".

قَالَ أَبِي: "ونَفْسُ الحديثِ كَأَنَّهُ موضوعٌ".

ثم تابع أبو سمحة فقال: "تكنية ابن جريج إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى بأبي الذئب: هذه التكنية على غير قياس فليس من بنيه من سمي بذلك. والحقيقة أني لم أقف على السر في هذه التكنية، ولا نص عليها أحد من العلماء؛ فلو كانت على قياس لذكروه كعادتهم. من هنا وجدناها غابت على غير واحد من العلماء".

قلت: كأنه يقصد بقوله: "وجدناها غابت على غير واحد من العلماء" = العلماء المتقدمون كالبخاري وأبي حاتم وغيرهما! وليس كذلك!

وكان الأولى به أن يتثبت من أن ابن جريج كنّاه بهذه الكنية!

نعم قال ذلك الحافظ حمزة السهمي، وفيه نظر!

قال الخطيب في «موضح أوهام الجمع والتفريق» (1/371) في ابن أبي يحيى: "وَهُوَ أَبُو الذِّئْب الَّذِي يروي عَنهُ ابْن جريج. حَدثنِي مُحَمَّد بن عَليّ الصُّورِي: حَدَّثَنَا عبدالغَنِيّ بن سعيد الحَافِظ قَالَ: سَمِعت حَمْزَة بن مُحَمَّد يَقُول: كَانَ ابن جريج يحدث عَن إِبْرَاهِيم بن أبي يحيى فيدلس اسْمه فَيَقُول: حَدَّثَنَا أَبُو الذِّئْب".

وقال في «الكفاية» (2/161): "وَيُقَالُ: إِنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَيْضًا رَوَى عَنْهُ فَقَالَ: حدثَنَا أَبُو الذِّئْبِ".

قلت: ما قاله في «الكفاية» وقد صنّفه بعد «الموضح» الأقرب للصواب، حيث لم يجزم بذلك.

وهذا لأن الذي ذكر هذه الكنية عن ابن جُريج هو: ذَوَّادُ بنُ عُلْبَةَ، وهو ليس بشيء.

ولو صحّ أن ابن جُريج كناه بهذا لما كان ذلك على غير قياس! فهذه الكنية تكنى بها بعض أهل العلم كأبي الذئب اللغوي، وهو: أَبو الذُّؤَيْبِ أيضاً، والله أعلم.

وقد أورد ابن عدي حديثه في «الكامل» (4/505) (6751) قال: حَدثنا مُحمد بن منير بن صغير المطيري، قال: حَدثنا مُحمد بن إسحاق البكائي، قال: حَدثنا عثمان بن سعيد المري، قال: حَدثنا ذواد بن علبة، عن ابن جُرَيج، عن أبي الذئب، عن أبي هريرة، قال رسول الله صَلى الله عَليه وسلم: «من مات مريضا مات شهيدا، ووقي فتانَي القبر، وغدي عليه برزقه من الجنة بكرة وعشية».

قال ابنُ عَدي: "وهذا هكذا يرويه ذواد، عن ابن جُرَيج، عن أبي الذئب، عن أبي هريرة، وقد رواه عَبدالرَّزَّاق، وحجاج بن مُحمد، وغيرهما: عن ابن جُرَيج، عن إبراهيم بن مُحمد بن أبي عطاء، وهو إبراهيم بن أبي يحيى، عن موسى بن وردان، عن أبي هريرة".

وعليه فلا يثبت أن ابن جُريج دلّسه وكنّاه بهذه الكنية! وإنما هذا الفعل من ذواد، ولا يعتمد عليه؛ لأنه ضعيف.

ثم تابع أبو سمحة كلامه فقال: "ما دلّسه مروان الفزاري لحبيب بن حسان الكوفي؛ قال الخطيب: (وهو حبيب بن أبي هلال الذي روى عنه مروان بن معاوية). قال يحيى: (حبيب بن حسان بن أبي الأشرس هو حبيب بن أبي هلال، يروي عنه مروان الفزاري وليس هو بشيء). قلت: وقد بحثت ملياً في السر في هذه النسبة من مروان الذي عرف عنه تدليس الشيوخ، فليس في اسم حسان واسم أبيه وجده ما يوحي بهلال فهو حبيب بن حسان بن المنذر بن عمار أبي الأشرس الأسدي" انتهى.

قلت: الأصل أن أبا هلال هذا هو: "حسان"، فهي كنية له، وقد ذكر ذلك أبو العرب القيرواني.

قال مغلطاي في «الإكمال» (4/54): "حسان بن أبي الأشرس المنذر بن عمار الكوفي أبو الأشرس"، وقال: "وكنّاه أبو العرب القيرواني: أبا هلال".

فهذه كنية أخرى له، فالتدليس على قياس لا على غير قياس كما ادّعى أبو سمحة.

·       آراء العلماء في العلاقة بين تدليس الشيوخ وجهالة العين:

تحت هذا العنوان نسب أبو سمحة لأهل العلم رأيين في هذه المسألة بعد "البحث المتأني والتحري الدقيق" بحسب قوله!

قال: "الرأي الأول: وهو رأي جمهور العلماء: أن تدليس الشيوخ يؤدي في بعض حالاته إلى جهالة في الشيوخ المدلَّسين".

ثم ذكر أقوالاً لبعض أهل العلم للتدليل على هذا الرأي.

ثم قال: "الرأي الثاني: رأي ابن حجر والذي جاء اعتراضاً على قول ابن الصباغ وابن دقيق العيد في هذه المسألة، فأما ابن الصباغ فقال: (وإن كان - أي تدليس الشيوخ - لصغر سنه فيكون ذلك رواية عن مجهول). قال ابن حجر: (فيه نظر؛ لأنه لا يصير بذلك مجهولا إلا عند من لا خبرة له بالرجال وأحوالهم وأنسابهم إلى قبائلهم وبلدانهم، وحرفهم وألقابهم وكناهم وكذا الحال في آبائهم. فتدليس الشيوخ دائر بين ما وصفنا فمن أحاط علما بذلك لا يكون الرجل المدلس عنده مجهولا). وأما ابن دقيق العيد ففي قوله السابق قال ابن حجر: (وقد نازعته في كونه يصير مجهولا عند الجميع).

ومما يؤخذ على ابن حجر قول ابن المبارك: (أعياني بقية، كان يحدثنا فيقول: حدثنا أبو سعيد الوحاظي فإذا هو عبدالقدوس). فهذا يدل على أن في الأمر صعوبة لا تدرك إلا بالبحث والتحري الشديد. ومن ذلك قول أبي زرعة: (قلتُ لابن نُمَيْر: شيخ يُحَدِّث عنه الحِمَّانِي، يقال له: علي بن سُوَيْد؟ فقال: لم تفطن من هذا؟ قلتُ: لا. قال: هو مُعَلَّى بن هلال، جعل الحِمَّانِي مُعَلَّى عليًّا، ونسبه إلى جده، وهو مُعَلَّى بن هلال بن سُوَيْد). فهل نقول أن ابن المبارك وأبي (كذا!) زرعة ممن لا خبرة له بالرجال وأحوالهم، فهذا أمر لا يقوله أحد؛ بيد أن ابن حجر كان له رأي آخر في النزهة وشرحها قال: (ثمَّ الجَهالةُ بالرَّاوِي، وهِيَ السَّببُ الثَّامِنُ في الطَّعْنِ، وسَبَبُها أَمْرانِ: أَحَدُهُما: أَنَّ الرَّاوِيَ قَدْ تَكْثُرُ نُعوتُهُ مِن اسمٍ أَو كُنْيَةٍ أَو لَقَبٍ أَو صِفَةٍ أَو حِرْفةٍ أَو نَسَبٍ، فيشتَهِرُ بشيءٍ مِنها، فيُذْكَرُ بِغَيْرِ مَا اشْتُهِرَ بِهِ لِغَرَضٍ مِن الأغْراضِ، فيُظنُّ أَنَّه آخرُ، فيَحْصُلُ الجهْلُ بحالِهِ. وصنَّفُوا فِيهِ؛ أي: في هذا النَّوعِ المُوْضِحَ لأوهامِ الجمْعِ والتَّفريقِ؛ أَجادَ فيه الخطيب).

والفيصل في هذا الاختلاف بين أهل الاصطلاح هو عمل المدلسين مع شيوخهم، فإذا وقفنا على من وصف بالجهالة ثم وجدنا بعد البحث والتمحيص أنه إنما لم يعرف من تدليس المدلسين، قطع هذا الواقع كل اختلاف. ذلك أن الفرق واضح بين التضعيف والجهالة، قال النووي في هذا أثر عملهم: (فَيُخْرِجُهُ عَنْ حَالِهِ الْمَعْرُوفَةِ بِالجَرْحِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَعَلَى تَرْكِهِ إِلَى حَالَةِ الْجَهَالَةِ الَّتِي لَا تُؤَثِّرُ عِنْدَ جماعة من العلماء بل يحتجون بصاحبها وَتُفْضِي تَوَقُّفًا عَنِ الْحُكْمِ بِصِحَّتِهِ أَوْ ضَعْفِهِ عِنْدَ الْآخَرِينَ وَقَدْ يَعْتَضِدُ الْمَجْهُولُ فَيُحْتَجُّ بِهِ أَوْ يُرَجَّحُ بِهِ غَيْرُهُ أَوْ يَسْتَأْنِسُ بِهِ).

وقد وقفت على جملة من الأمثلة التي وصف أصحابها بالجهالة من العلماء أو بعضهم لكن بعد التحري والتدقيق تبين أنهم ليسوا بمجاهيل في أنفسهم؟ إنما نسبوا بذلك لما وقع لأسمائهم أو كناهم أو ألقابهم من تدليس..." انتهى.

قلت: حقيقة لا يوجد خلاف عند أهل العلم في العلاقة بين تدليس الشيوخ وجهالة العين، فكلهم على الرأي الأول الذي ذكره الدكتور، وهو: أن تدليس الشيوخ يؤدي في بعض حالاته إلى جهالة في الشيوخ المدلَّسين.

وما نسبه كرأي ثان لابن حجر لا ينافي هذا الرأي؛ لأن ابن حجر يرد على ابن الصباغ في تعميمه، فالأصل أن لا يصير مجهولا إلا عند من لا خبرة له بالرجال وأحوالهم وما يتعلق بهم، ولذا رد على كلام ابن دقيق العيد في مسألة التعميم أيضاً.

وقد نسب أبو سمحة لابن حجر رأياً آخر في النزهة! فكأنه ينسبه إلى التناقض!! وهذا منه لعدم فهم كلام ابن حجر، ووضعه في سياقه الصحيح! فليس هناك آراء لابن حجر في هذه المسألة، وإنما هو على قول كل أهل الحديث في ذلك في أن التدليس قد يؤدي إلى جهالة الراوي في بعض الحالات.

ولتجلية المسألة ينبغي وضع كل كلام في موضعه الصحيح.

قال الحافظ العراقي في «شرح التبصرة والتذكرة» (1/241): "ولم يذكرِ ابنُ الصلاحِ حكمَ مَنْ عُرِفَ بهذا القسمِ الثاني من التدليسِ. وقد جزمَ ابنُ الصَّبَّاغُ في «العُدَّةِ» بأنَّ مَنْ فعلَ ذلكَ؛ لكونِ مَنْ روى عنهُ غيرَ ثقةٍ عندَ الناسِ، وإنّما أرادَ أنْ يُغيِّرَ اسمَهُ ليقبلوا خبرَهُ، يجبُ أنْ لا يُقبلَ خَبرُهُ، وإنْ كانَ هو يعتقدُ منهُ الثقةَ فقدْ غَلَطَ في ذلكَ؛ لجوازِ أنْ يَعْرِفَ غيرُهُ مِنْ جِرْحهِ ما لا يَعرفُهُ هو، فإنْ كانَ لصِغَرِ سنِّهِ، فيكونُ ذلكَ روايةً عن مجهولٍ، لا يجبُ قبولُ خَبَرِهِ حتَّى يعرفَ مَنْ رَوَى عنهُ".

فتعقبه ابن حجر في «النكت» (2/626) فقال: «قول العراقي حكاية عن أبي نصر بن الصباغ: وإن كان لصغر سنّه فيكون ذلك رواية عن مجهول» فيه نظر؛ لأنه لا يصير بذلك مجهولاً إلا عند من لا خبرة له بالرجال وأحوالهم وأنسابهم إلى قبائلهم وبلدانهم، وحرفهم وألقابهم وكناهم وكذا الحال في آبائهم. فتدليس الشيوخ دائر بين ما وصفنا فمن أحاط علماً بذلك لا يكون الرجل المدلس عنده مجهولاً، وتلك أنزل مراتب المحدث، وقد بلغنا أن كثيراً من الأئمة الحفاظ امتحنوا طلبتهم المهرة بمثل ذلك فشهد لهم الحفظ لما يسرعوا بالجواب عن ذلك. وأقرب ما وقع من ذلك أن بعض أصحابنا كان ينظر إلى «كتاب العلم» لأبي بكر بن أبي عاصم، فوقع في أثنائه: حدثنا الشافعي: حدثنا ابن عيينة فذكر حديثاً، فقال: لعله سقط منه شيء ثم التفت إليّ فقال: ما تقول؟ فقلت: الإسناد متصل، وليس الشافعي هذا هو محمد بن إدريس الإمام بل هو ابن عمّه إبراهيم بن محمد بن العباس.

ثم استدللت على ذلك بأن ابن أبي عاصم معروف بالرواية عنه، وأخرجت من الكتاب المذكور روايته عنه وقد سماه، ولقد كان ظن الشيخ في السقوط قوياً، لأن مولد ابن أبي عاصم بعد وفاة الإمام الشافعي بمدة.

وما أحسن ما قال ابن دقيق العيد: (إن في تدليس الشيوخ الثقة مصلحة وهي امتحان الأذهان في استخراج ذلك وإلقائه إلى من يراد اختبار حفظه ومعرفته بالرجال، وفيه مفسدة من جهة أنه قد يخفى فيصير الراوي المدلس مجهولاً لا يعرف فيسقط العمل بالحديث مع كونه عدلا في نفس الأمر).

قلت: وقد نازعته في كونه يصير مجهولاً عند الجميع، لكن من مفسدته أن يوافق ما يدلس به شهرة راو ضعيف يمكن ذلك الراوي الأخذ عنه، فيصير الحديث من أجل ذلك ضعيفاً، وهو في نفس الأمر صحيح، وعكس هذا في حق من يدلس الضعيف ليخفي أمره فينتقل عن رتبة من يرد خبره مطلقاً إلى رتبة من يتوقف فيه، فإن صادف شهرة راو ثقة يمكن ذلك الراوي الأخذ عنه فمفسدته أشد، كما وقع لعطية العوفي في تكنيته محمد بن السائب الكلبي أبا سعيد، فكان إذا حدث عنه يقول: حدثني أبو سعيد فيوهم أنه أبو سعيد الخدري الصحابي - رضي الله عنه - لأن عطية كان لقيه وروى عنه.

وهذا أشد ما بلغنا من مفسدة تدليس الشيوخ.

وأما ما عدا ذلك من تدليس الشيوخ فليس فيه مفسدة تتعلق بصحة الإسناد وسقمه بل فيه مفسدة دينية فيما إذا كان مراد المدلس إيهام تكثير الشيوخ لما فيه من التشيع - والله أعلم -. ونظيره في تدليس الإسناد أن يوهم العلو وهو عنده بنزول - والله أعلم -" انتهى.

قلت: فتعقّب ابن حجر على ابن الصباغ وابن دقيق في مسألة التعميم؛ لأنه لا يصير مجهولاً عند الجميع، بل عند من لا خبرة له بالرجال؛ لأن من له خبرة بالرجال فإن ذلك لا يخفى عليه في العموم، والمثال الذي ذكره من رواية الشافعي عن ابن عيينة يصدّق ذلك، وأن بعض أهل العلم كانوا يختبرون طلبتهم في ذلك.

والذي يُخشى فقط هو أن يوافق تدليس الشيخ شهرة راو معروف فيظن بعضهم أنه هو، وإلا فتدليس الشيوخ لا مفسدة فيه إلا من هذه الحيثية، وكان كثير من أهل العلم يدلسون الشيوخ وأهل العلم يعرفون ذلك ولا يخفى عليهم كما كان يفعل ذلك الإمام الخطيب البغدادي.

قال العراقي: "وممن اشتهر بالقسم الثاني من التدليس - وهو تدليس الشيوخ -: أبو بكر الخطيب، فقد "كان لهجاً به في تصانيفه".

قال ابن حجر: "ينبغي أن يكون الخطيب قدوة في ذلك وأن يستدل بفعله على جوازه فإنه إنما يعمى على غير أهل الفن، وأما أهله فلا يخفى ذلك عليهم لمعرفتهم بالتراجم، ولم يكن الخطيب يفعل ذلك إيهاماً للكثرة، فإنه مكثر من الشيوخ والمرويات والناس بعده عيال عليه، وإنما يفعل ذلك تفنناً في العبارة".

وأما قول أبو سمحة في إلزام ابن حجر بقوله الذي اعترض فيه على ابن الصباغ: "ومما يؤخذ على ابن حجر قول ابن المبارك: (أعياني بقية، كان يحدثنا فيقول: حدثنا أبو سعيد الوحاظي فإذا هو عبدالقدوس). فهذا يدل على أن في الأمر صعوبة لا تدرك إلا بالبحث والتحري الشديد. ومن ذلك قول أبي زرعة: (قلتُ لابن نُمَيْر: شيخ يُحَدِّث عنه الحِمَّانِي، يقال له: علي بن سُوَيْد؟ فقال: لم تفطن من هذا؟ قلتُ: لا. قال: هو مُعَلَّى بن هلال، جعل الحِمَّانِي مُعَلَّى عليًّا، ونسبه إلى جده، وهو مُعَلَّى بن هلال بن سُوَيْد). فهل نقول أن ابن المبارك وأبي زرعة ممن لا خبرة له بالرجال وأحوالهم، فهذا أمر لا يقوله أحد"!

فهذا ليس بلازم له! فإن المثالين اللذين ذكرهما من الحالات النادرة التي قد تخفى على بعض الأئمة النقاد، وكون ابن المبارك وأبي زرعة لم يعرفا هذين الرجلين لا يعني أنه لا خبرة لهما بالرجال وأحوالهم!

ثم إن ابن حجر - فيما يظهر لي - يتحدث عن تدليس الشيوخ في المرحلة المتأخرة كما كان يفعل الخطيب ومن بعده، فهذا الذي قصده في أنه لا يصير بذلك مجهولاً إلا عند من لا خبرة له بالرجال وأحوالهم وأنسابهم إلى قبائلهم وبلدانهم، وحرفهم وألقابهم وكناهم وكذا الحال في آبائهم.

والله أعلم.

المبحث الخامس: ملاحظات منهجية على بحثي د. عبد السلام أبو سمحة.

·       الأمثلة التي ذكرها أبو سمحة في بعض من وصفهم بعض العلماء بالجهالة وبعد التحري والتدقيق تبين أنهم ليسوا بمجاهيل.

ثم ذكر د. أبو سمحة بعض الأمثلة لمن وصفوا بالجهالة عند بعض العلماء وعرفهم علماء آخرون.

·       المثال الأول: محمد بن أبي قيس:

وهو المصلوب الذي كان يدلّسه مروان بن معاوية الفزاري، ونقل عدم معرفته عند بعض المتأخرين والمعاصرين كالهيثمي، والألباني، وحمدي السلفي!

قلت: هذا أمر طبيعي يحصل لكثير من المتأخرين والمعاصرين، فكم من راو لم يعرفوه، وهو حقيقة معروف، ولم يخف ذلك على أهل العلم المتقدمين.

وأما التناقض الذي نسبه أبو سمحة لابن معين فهو ناتج من قصور فهمه!

قال أبو سمحة: "ما وقع ليحيى بن معين، قال الدوري: (سَمِعت يحيى يَقُول: قد حدث مَرْوَان عَن مُحَمَّد بن أبي قيس، قلت ليحيى: مُحَمَّد بن أبي قيس هَذَا هُوَ مُحَمَّد بن سعيد، فقالَ: لا؛ أَخْبرنِي رجل من أهل الشَّام أَن مُحَمَّد بن أبي قيس لَيْسَ هُوَ مُحَمَّد بن سعيد هُوَ رجل آخر). قلت: وهذا يناقض ما نقل عن ابن معين من جزمه أنه المصلوب، ويظهر ذلك في مسألة أبي شيبة ابن عمي [كذا!! والصواب: في مسائلة ابن ابي شيبة لابن معين] قال: (يا أبا زكريا، كيف كان مَروَان في الحديث؟ فقال: كان ثِقَةً فيما يَروي عَمَّن يُعرف، وقال: إنه يَروي عن أقوامٍ لا يروي عنهم، ويُغَيِّر أسماءهم. وكان يُحَدِّث عن مُحمد بن سَعيد الذي كان صلب، وهو يكني اسمه، فكان يقول: حَدثنا مُحمد بن أبي قَيس، لكيلا يُعرف). فلعل قول الدوري قبل أن يتحقق ابن معين من حاله" انتهى.

قلت: النص الذي ذكره الدوري عن ابن معين مرتبط بالنص الذي قبله، ولا يجوز فصلهما!

قال الدوري في «تاريخ ابن معين» (4/426) (5110): سَمِعت يحيى يَقُول: "مُحَمَّد بن سعيد الشَّامي مُنكر الحَدِيث، وَلَيْسَ هُوَ كَمَا قَالُوا: صُلب فِي الزندقة، وَلكنه مُنكر الحَدِيث، وَله أَخ يُقَال لَهُ: عبدالرَّحِيم بن سعيد الأبرص، وَقد سمعنَا مِنْهُ بِبَغْدَاد، وَكَانَ يرْوي عَن الزُّهْرِيّ. قَالَ يحيى: وَقد سمع مَرْوَان بن مُعَاوِيَة من مُحَمَّد بن سعيد هذَا".

ثم ساق النص الذي أتى به الدكتور.

وقد نقله ابن عدي في «الكامل» (9/104) (14746) قال: حَدثنا ابن حماد، قال: حَدثنا العباس، قال: سمعت يَحيى، يقول: "مُحمد بن سعيد الشامي، منكر الحديث، وليس كما قالوا صلب في الزندقة، ولكنه منكر الحديث، وله أخ يقال له: عَبدالرحيم بن سعيد الأبرص، وقد سمعنا منه ببغداد، وكان يروي عن الزُّهْري. قال يَحيى: وقد سمع مروان بن معاوية من مُحمد بن سعيد هذا، وقد حدث مَرْوان عن مُحمد بن أبي قيس. قلت ليحيى: من مُحمد بن أبي قيس هذا، هو مُحمد بن سعيد هذا؟ قال: لاَ، أخبرني رجل من أهل الشام أن مُحمد بن أبي قيس ليس هو مُحمد بن سعيد، هو رجل آخر".

قلت: فابن معين كان يرى أن محمد بن سعيد الشامي لم يصلب في الزندقة، وقد سمع منه مروان بن معاوية، وقد حدث مروان عن محمد بن أبي قيس، فلما سمع الدوري هذا من ابن معين سأله: هل محمد بن أبي قيس هذا هو محمد بن سعيد الشامي، فقال: لا، واعتمد في ذلك على ما أخبره به رجل لم يسمه من أهل الشام أنه غيره.

فابن معين يرى أن مروان بن معاوية حدث عن محمد بن سعيد الشامي، وحدث أيضاً عن رجل آخر اسمه: محمد بن أبي قيس.

وكأنه ذهب بعد ذلك إلى أنه هو كما قال مُحمد بن عُثمان بن أَبي شَيبة: سُئل يَحيى بن مَعين، وأنا أَسمع: كيف كان مَروَان بن مُعاوية في الحديث؟ فقال: "كان ثِقَةً فيما يَروي عَمَّن يُعرف، وذاك أَنه كان يَروي عن أقوامٍ لا يُدرى مَن هم، ويُغَيِّر أسماءهم، وكان يُحَدِّث عن مُحمد بن سَعيد المَصلُوب، وكان يُغَيِّر اسمه يقول: حَدثنا مُحمد بن قَيس، لأَنه لا يُعرف".

وقال أَحمد بن زُهَير بن أَبي خَيثمة، عن يَحيى بن مَعين: حَدثنا مُحمد بن سَعيد، الذي صَلَبَه أَبو جعفر، هو مُحمد بن أَبي قَيس". [«المجروحون»: 2/257].

والخلاصة أن ابن معين لم يتناقض، وإنما اعتمد على قول لرجل من أهل الشام، ثم تبين له أنه هو، والله أعلم.

وانظر ما نقله الدكتور اللحيدان في بحثه عن حال محمد بن سعيد المصلوب (ص47 - ص51) فقد استوعب كل أقوال أهل العلم فيه.

·       المثال الثاني: أبو هند الصدّيق:

قال أبو سمحة: "ويمكن أن نتبين حاله من خلال الآتي:

أولاً: اعتباره مجهولاً، ووقع ذلك من المزي والذهبي حيث قال: (عن نافع، وعنه أبو خالد الدالاني، مجهول). وابن حجر بيد أن قال: (أبو هند الصديق، مجهول، قيل اسمه: إبراهيم بن ميمون الصائغ، وإلا فهو مجهول).

ثانياً: خالفهم الخطيب البغدادي حين قال: (قال لنا القاضي قال أبو علي الحافظ هو إبراهيم الصائغ يعني أبا هند، وهذا القول صحيح بين ذلك أبو غسان مالك بن إسماعيل). قلت: ثم ذكر رواية أبي خالد الدالاني عن أبي هند؛ ليكشف في إثرها رواية أبي غسان لذات الحديث عن الدالاني يرويها عن إبراهيم الصايغ. وقال الخطيب: (إبراهيم الصائغ مروزي وكنيته المشهورة أبو إسحاق، ولا أعلمهُ كُني بِأبي هِنْد إِلَّا فِي هَذَا الحَدِيث الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وأما تَعْرِيفه بِالصديقِ فنرى أَن الرَّاوِي نسبه إِلَى ذَاك لما كَانَ عَلَيْهِ من الصّلاح وَالْفضل والورع والزهد مَعَ مَا ختم لَهُ بِهِ من الشَّهَادَة فَإِن أَبَا مُسلم صَاحب الدولة قَتله بمرو فِي الْأَمر بِالمَعْرُوفِ). وهذا ما ذهب إليه ابن ماكولا من أن أبا هند هو الصايغ. فإذا عرف أن الدالاني مدلس بما ذكره الكرابيسي وابن حجر عنه في المدلسين. يتبين لنا أن الخطيب كشف عن وقوع تدليس شيوخ في تكنية الصايغ بأبي هند، مما أدى لجهالته عند بعض العلماء. ومما يذكر هنا أن المزي والذهبي ذكرا للصائغ ترجمة منفصلة وهذا دليل ترسخ جهالة أبي هند عندهم. فالمجهول هنا ليس الصائغ إنما أبا هند.

ثالثاً: أوقع هذا التدليس ابن عدي في الوهم فيه؛ فبعد إخراجه الحديث عن أبي هند في ترجمة الدالاني قال: (هكذا روى علي بن عبدالعزيز وإبراهيم بن الحسين بن ديزيل بن هند الحديث عن إبراهيم عن عبدالسلام عن يزيد عن أبي هند الصديق عن نافع عن ابن عمر فصحفا في قولهما عن أبي هند الصديق، ولا أدري التصحيف ممن وإنما هو إبراهيم الصائغ). قلت: ليس في الأمر تصحيف، ذلك أن التصحيف يكون من وجه مقارب رسماً أو لفظاً، أم أن يصحف الاسم بالكنية فهذا مما لم أقف عليه" انتهى كلامه.

قلت: ما قاله ابن عدي هو الصواب، وقد بينت ذلك بالأدلة في موضع آخر في موقعي تحت الرابط:

http://www.addyaiya.com/uin/arb/Viewdataitems.aspx?ProductId=527

وها أنا أنقل ما ذكرته هناك:

روى ابن ماجه «سننه» [ت الأرنؤوط] (3/25) (1807) قال: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ عُثْمَانَ بنِ حَكِيمٍ الْأَوْدِي، قال: حَدّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قال: حَدّثَنَا عَبْدُالسَّلَامِ بنُ حَرْبٍ، عَنْ يَزِيدَ بنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ، إِلَى عِشْرِينَ ومائة، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا شَاتَانِ، إِلَى مِائَتَيْنِ، فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ، إِلَى ثَلَاث مئة، فَإِنْ زَادَتْ فَفِي كُلِّ مئةٍ شَاةٌ، لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مفترق، خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، وَكُلُّ خَلِيطَيْنِ يَتَرَاجَعَانِ بِالسَّوِيَّةِ، وَلَيْسَ لِلْمُصَدِّقِ هَرِمَةٌ وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ، وَلَا تَيْسٌ، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الْمُصَّدِّقُ».

·       الترجمة لأبي هند!

كذا جاء في مطبوعات «سنن ابن ماجه»، وكذا في النسخ القديمة: «عن أبي هند».

قال المزي في «التحفة» (6/255): "أبو هند الصديق - أحد المجاهيل -، عن نافع، عن ابن عمر".

وقال الزيلعي في «نصب الراية» (2/355): "ورَوَى ابنُ مَاجَهْ فِي «سننه» مِنْ حَدِيثِ أَبِي هِنْدٍ الصِّدِّيقِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ..".

وأبو هند الصديق هذا لم يُشر إليه أي واحد من أهل النقد المتقدمين. وأول من ذكره الدارقطني.

قال في «المؤتلف والمختلف» (3/1438): "أبو هند الصِّدِّيق، عن نَافِع، عن ابن عُمَر، روى حديثه أبو نُعَيْم، عن عبدالسَّلام بن حرب، عن أبي خَالِد الدالاني، عن أبي هِنْد الصديق".

وذكره ابن ماكولا في «الإكمال» (5/176) فقال: "أما صِدّيق بكسر الصاد وتشديد الدال فهو... وأبو هند الصديق، عن نافع عن ابن عمر، روى حديثه أبو نعيم عن عبدالسلام بن حرب عن أبي خالد الدالاني عنه، واسمه: إبراهيم بن ميمون الصائغ".

وقال المزي في «تهذيب الكمال» (34/381) (7683): "ق: أَبُو هند الصديق، أحد المجاهيل. رَوَى عَن: نافع (ق) مولى ابن عُمَر. رَوَى عَنه: أَبُو خالد الدالاني (ق). قال أَبُو نصر بْن ماكولا: اسمه إِبْرَاهِيم بن ميمون الصائغ.

وقَال أَبُو عَبْداللَّهِ بن منده في كتاب «الكنى»: روى عنه عبدالسلام بن حرب وهو وهم، إنما روى عَن أَبِي خالد الدالاني عَنْهُ. روى له ابن ماجه حديث ابن عُمَر فِي أربعين شاة... الحديث".

وتبعه على ذلك تلميذه ابن كثير، فقال في «التكميل في الجرح والتعديل ومعرفة الثقات والضعفاء والمجاهيل» (4/18) (2506): "(ق) أبو هِنْد الصِّدِّيق، أحدُ المجاهيل".

وقال الذهبي في «ميزان الاعتدال» (4/583)، وفي «المغني في الضعفاء» (2/813): "أبو هند الصديق [ق]. عن نافع مولى ابن عمر. لا يُدرى من هو. وعنه أبو خالد الدالاني".

وقال في «الكاشف» (2/469): "أبو هند الصديق عن نافع، وعنه أبو خالد الدالاني. مجهول".

وقال ابن حجر في «التقريب» (8428): "أبو هند الصديق مجهول. قيل: اسمه إبراهيم بن ميمون الصائغ، وإلا فهو مجهول".

قلت: هكذا سلّم أهل العلم المتأخرين بما في سنن ابن ماجه "عن أبي هند"!

·       رأي الخطيب:

وقد أقر الخطيب هذه الكنية واللقب، فقال لما ذكر «إبراهيم الصائغ» في «موضح أوهام الجمع والتفريق» (1/374): "وهُوَ أَبُو هِنْد الصّديق، كنّاه وَنسبه كَذَلِك أَبُو خَالِد الدالاني فِي حَدِيث يرويهِ أَبُو نعيم الفضل بن دُكَيْن عَن عبدالسَّلَام بن حَرْب عَنهُ.

أَخْبَرَنَاهُ القَاضِي أَبُو بَكْرٍ الحِيرِيُّ، قال: حَدَّثَنَا أَبُو العَبَّاسِ مُحَمَّدُ بنُ يَعْقُوبَ الْأَصَم، قال: حَدَّثَنَا أَحْمَد بن حَازِم، قال: حَدَّثَنَا أَبُو نعيم، عَن عبدالسَّلَام، عَن يزِيد بن عبدالرَّحْمَن، عَن أبي هِنْد الصّديق. [ح]

وأَخْبَرَنَاهُ الحَسَنُ بنُ أَبِي بكر، قال: أَخْبَرَنَا حَامِد بن مُحَمَّد الْهَرَوِيُّ، قال: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بنُ عَبْدِالعَزِيز، قال: حَدَّثَنَا أَبُو نعيم، قال: حَدَّثَنَا عبدالسَّلَام، عَن يزِيد بن عبدالرَّحْمَن، عَن أبي هِنْد، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مثل حَدِيث قبله".

قال الخطيب: "قالَ لَنَا القَاضِي: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الحَافِظُ: هُوَ إِبْرَاهِيمُ الصَّائِغُ - يَعْنِي أَبَا هِنْدٍ".

قال الخطيب: "وهَذَا القَوْل صَحِيح. بَيّن ذَلِك أَبُو غَسَّان مَالك بن إِسْمَاعِيل فِي رِوَايَة هَذَا الحَدِيث عَن عبدالسَّلَام بن حَرْب".

قال: أَخْبَرَنَاهُ الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ الْقَاسِمُ بنُ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْهَاشِمِيُّ، قال: حَدَّثَنَا أَبُو العَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الأَثْرَمُ فِي سَنَةِ ثَلاثِينَ وَثَلاثِ مِائَةٍ، قال: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بنُ الرَّبِيعِ، قال: حَدَّثَنَا مَالِكُ بنُ إِسْمَاعِيلَ، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُالسَّلامِ بْنُ حَرْبٍ، عَن يزِيد بن عبدالرَّحْمَن، عَنْ إِبْرَاهِيمَ الصَّائِغِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النِّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ.

قال: أَخْبَرَنَاهُ القَاضِي أَبُو بَكْرٍ الحِيرِيُّ، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْأَصَم، قال: حَدَّثَنَا الْعَبَّاس بن مُحَمَّد الدُّورِيُّ، قال: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُالسَّلامِ بْنُ حَرْبٍ، عَن يزِيد بن عبدالرَّحْمَن أَبِي خَالِدٍ الدَّالانِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ الصَّائِغ. [ح]

وأخبرناه عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِالله الْمعدل، قال: أَخْبَرَنَا عُثْمَان بن أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِاللَّهِ الدَّقَّاقُ، قال: حَدَّثَنَا الحَسَنُ بْنُ سَلامٍ السَّوَّاقُ، قال: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُالسَّلَام، عَن يزِيد بن عبدالرَّحْمَنِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ الصَّائِغِ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الحديث.

وفِي آخِرِ الحَدِيثِ: "قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ هَكَذَا أَمْلاهُ عَلَيْنَا مِنْ كِتَابِهِ".

قال الخطيب: "إِبْرَاهِيم الصَّائِغ مروزي، وكنيته المَشْهُورَة: أَبُو إِسْحَاق، ولا أعلمهُ كُني بِأبي هِنْد إِلَّا فِي هَذَا الحَدِيث الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وأما تَعْرِيفه بِالصديقِ فنرى أَن الرَّاوِي نسبه إِلَى ذَاك لما كَانَ عَلَيْهِ من الصّلاح وَالْفضل والورع والزهد مَعَ مَا ختم لَهُ بِهِ من الشَّهَادَة فَإِن أَبَا مُسلم صَاحب الدولة قَتله بمرو فِي الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ".

قلت: هذه محاولة من الخطيب تفسيره كيف لُقّب بالصديق! وفيه نظر! إذ لو كان كذلك لاشتهر بين أهل العلم مع التسليم بصحة إنزال اللقب عليه وقد قتل مظلوماً - رحمه الله -.

لكن هل قصد الراوي تلقيبه بهذا؟ ومن أين جاءت كنية أبي هند مع قول الخطيب أن الكنية المشهور بها أبا إسحاق! ولا يوجد ذكر بتكنيته بأبي هند إلا في هذا الحديث كما قال الخطيب!

وأراد الخطيب أن يُبيّن أن أبا هند الصديق الوارد في هذا الحديث هو: إبراهيم الصائغ لئلا يظن بعضهم أنه آخر فيفرّق بينهما.

·       رأي ابن عدي:

لكن ابن عدي له رأي آخر، فإنه ذكر هذا الحديث في ترجمة «يزيد بن عبدالرحمن الدالاني» من «الكامل» (9/167) قال: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ عَبدالرَّحْمَنِ البَزَّازُ، قال: حَدَّثَنا عَلِيُّ بنُ عَبدالعَزِيزِ. [ح]

وسَمِعْتُ إِسْحَاقَ بنَ إِبْرَاهِيمَ الهَجَرِيَّ يَقُولُ: حَدَّثَنا إِبْرَاهِيمُ بنُ الحُسَيْنِ الهَمْدَانِيُّ، قالا: حَدَّثَنا أبو نعيم، قال: حَدَّثَنا عَبدالسلام - هو: ابن حَرْبٍ -، عَنْ يَزِيدَ بنِ عَبدالرَّحْمَنِ - هُوَ: أَبُو خَالِدٍ الدَّالانِيُّ-، عَن أَبِي هِنْدٍ الصِّدِّيقِ، عَنْ نَافِعٍ، عنِ ابْنِ عُمَر، عَنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسلَّمَ فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الإِبِلِ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ فَذُكِرَ الْحَدِيثُ بِطُولِهِ فِي الصَّدَقَاتِ فِي زَكَاةِ الإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ.

قال ابن عدي: "هكَذَا رَوَى عَلِيُّ بنُ عَبدالعَزِيزِ وإِبْرَاهِيمُ بنُ الحُسَيْنِ بن ديزيل هذا الحَدِيثَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبدالسَّلامِ عَنْ يَزِيدَ، عَن أَبِي هِنْدٍ الصِّدِّيقِ، عَنْ نَافِعٍ، عنِ ابْنِ عُمَر فَصَحَّفَا فِي قَوْلِهِمَا: «عَن أَبِي هِنْدٍ الصِّدِّيقِ»، ولاَ أَدْرِي التَّصْحِيفَ مِمَّنْ، وإِنَّما هُوَ إِبْرَاهِيمُ الصَّائِغُ، رَواه عَن أَبِي نُعَيْمٍ غَيْرُهُمَا فقالُوا: عَنْ إِبْرَاهِيمَ الصَّائِغِ، وهَكَذا رَوَاهُ أَبُو غَسَّانَ عَنْ عَبدالسَّلامِ.

حَدَّثَنَاهُ ابنُ صاعد، قَال: حَدَّثَنا أَحْمَدُ بنُ عُثْمَانَ بنُ حكيم، حَدَّثَنا أَبُو غَسَّانَ، حَدَّثَنا عَبدالسَّلامِ بْنُ حَرْبٍ، عَن أَبِي خَالِدٍ الدَّالانِيِّ يَزِيدَ بْنِ عَبدالرَّحْمَنِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ الصَّائِغِ، عَنْ نَافِعٍ، عنِ ابنِ عُمَر، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسلَّمَ فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الإِبِلِ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ فَذَكَرَهُ بِطُولِهِ فِي الصَّدَقَاتِ".

قلت: وهذا تنبيه عجيب من الحافظ ابن عدي! فلله درّه عرف من أين أُتيت هذه الكنية وهذا اللقب.

وهو كما قال، فإن الكلمات قريبة جداً في الرسم ولهذا حصل التصحيف فيها.

أبو هند = إبراهيم

قرأوا الراء "ر": واوا "و"، والألف "ا" لم يكونوا يكتبونها قديماً مثل "إسحق" هكذا تُكتب. والياء "ي" قرأت نوناً "ن" لعدم وجود النقط الكثير أو تكون النقطة ليست واضحة، وصارت الميم "م" دالا "د".

وأما الصديق = الصائغ

فالألف لا تكتب "الصيغ" أو أحيانا يضعون ألفا صغيرة فوق الكلمة، و"ئـ" تكتب وتقرأ ياء، والغين "غ" قرأت قافا "ق" ورسمهما قريب جداً.

فقد أصاب ابن عدي في قوله.

لكن لا نعرف كيف حصل التصحيف، ولهذا صرح ابن عدي بأنه لا يدري ممن حصل التصحيف!

لكن، هل يمكن أن يحصل التصحيف لأكثر من راو؟

فالبنظر إلى روايات الحديث السابق عن أبي نعيم، نجد أنه رواه عنه:

أَحْمَدُ بنُ عُثْمَانَ بنِ حَكِيمٍ الْأَوْدِي، وأَحْمَد بن حَازِم، وعَلِيُّ بنُ عَبدالعَزِيزِ البغوي، وإِبْرَاهِيمُ بنُ الحُسَيْنِ بن ديزيل، كلهم قالوا: "عن أبي هند الصديق"!

ورواه الحَسَنُ بنُ سَلامٍ السَّوَّاقُ، عن أَبي نُعَيْمٍ، فقال: "عَنْ إِبْرَاهِيمَ الصَّائِغِ".

وقد قال ابن عدي: "رَواه عَن أَبِي نُعَيْمٍ غَيْرُهُمَا - يعني: علي بن عبدالعزيز وابن ديزيل- فقالُوا: عَنْ إِبْرَاهِيمَ الصَّائِغِ".

فالاختلاف هنا على أبي نُعيم! وعليه لا يمكن أن يكون التصحيف من هؤلاء الرواة، ولا يمكن أن يكون الدالاني رواه مرة عن إبراهيم الصائغ، ومرة كنّاه ولقّبه كما قال الخطيب!!

فالحديث معروف عن عَبدالسَّلامِ بن حَرْبٍ، عَن أَبِي خَالِدٍ الدَّالانِيِّ يَزِيدَ بنِ عَبدالرَّحْمَنِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ الصَّائِغِ.

كذا رواه عنه أَبُو غَسَّانَ النّهدي مالك بن إسماعيل، وأبو نُعيم في روايات عنه.

وأبو نُعيم كان شَرِيك عبدالسلام بن حرب الملائي في دكان واحد يبيعان الملاء وكان من الرواة عنه وله عنه ألوف.

فالتصحيف جاء في بعض الروايات عن أبي نُعيم، فيستحيل أن يكون الوهم من كل هؤلاء، والذي أراه أن التصحيف من أبي نُعيم على جلالته ومكانته وحفظه وضبطه، فيُحتمل أنه عندما حدّث به من حفظه ضبطه فقال: "عن إبراهيم الصائغ"، ولما قُرئ عليه من كتابه كان التصحيف فيه، فربما تصحّف على القارئ ولم يتنبه الشيخ، والله أعلم.

فالدكتور الضعيف في علم الحديث أُتي من جهله بهذا العلم:

أولاً: علّق هذا المسكين العهدة في هذا الأمر برقبة أبي خالد الدالاني! وأنه دلّس شيخه "إبراهيم الصائغ" وسماه: "أبا هند الصديق"!

وأيّد ذلك بوصف الكرابيسي وابن حجر له بالتدليس! وكذلك تفسير الخطيب وصفه بالصديق! وهذا كله فهم أعوج!

فلا علاقة لأبي خالد الدالاني بهذا كلّه، وهو لم يُدلسه! ووصف الكرابيسي له بالتدليس مردود، ولا دليل عليه! وإنما هو كان يُخطئ.

وقد بينت فيما سبق أن الاختلاف في الاسم على أبي نُعيم، فكيف نعلّق ذلك برقبة أبي خالد؟

وأما تفسير الخطيب وصفه بالصديق فلأنه سلّم بصحة ما جاء في الإسناد، فحاول معرفة كيف لُقّب بهذا فقال ما قال.

على أن الخطيب لم يُشر إلى ما توهمه الدكتور من كشفه لتدليس الشيوخ هنا! ولا يوجد أدنى إشارة إلى ذلك! وإنما هو يُبيّن أن أبا هند هذا هو إبراهيم الصائغ مُنبهاً غيره لئلا يجعلهما اثنين وهما واحد.

ثانياً: جهّله بعض أهل العلم لأنهم لم يُحرروا ترجمته، وإنما اعتمدوا على الإسناد فجهّلوه، لا أنهم جهلوه بسبب تدليس شيخه له كما زعم الدكتور!

ثالثاً: الجزم بوهم ابن عدي بسبب هذا التدليس يدلّ على جهل هذا الدكتور!! فاثبت العرش ثم انقش = أثبت تدليس الشيوخ ثم تكلّم على قول ابن عدي!

بل قول ابن عدي هو الصواب، فلله درّه كيف كشف هذا التصحيف العجيب الغريب!

ورد الدكتور قول ابن عدي بالتصحيف بزعمه "أن التصحيف إنما يكون من وجه مقارب رسما أو لفظا، أما أن يصحف الاسم بالكنية فهذا ما لم أقف عليه"! فهذا مردود عليه!

فالرسم مقارب جداً كما بينته آنفاً، لكن أنّى لمثل هذا الدكتور استيعابه! وقوله إنه لم يقف على تصحيف الاسم بالكنية فهل هناك قواعد معروفة في التصحيف حتى يقول الدكتور هذا القول؟!!

تصحّف الاسم فصار كنية، فما الضّير في ذلك؟

ابر هيم = أبو هند [أغمض عينيك قليلاً يا دكتور وتخيّل الاسم كيف يصبح كنية].

وحجة ابن عدي قوية في التصحيف وهي أن غير واحد رووه عن أبي نعيم فقالوا: "عن إبراهيم الصائغ"، ومن ذكرهم رووه عن أبي نعيم فقالوا: "عن أبي هند الصديق"، فلا يمكن أن يكون الدالاني حدّث به مرة هكذا ومرة هكذا! لأن مخرج هذا الإسناد هو أبو نُعيم، فالاختلاف عليه فيه، ولا علاقة للدالاني به حتى نقول بأن الدالاني دلّسه كما توهم الدكتور، ووجب القول بالتصحيف؛ لأن الحديث يرويه غير أبي نعيم عن عبدالسلام بن حرب عن أبي خالد الدالاني عن إبراهيم الصائغ. فافهم.

رابعاً: هذا الدكتور وكثير مثله ينقلون من الموسوعات الحاسوبية بما فيها من تحريفات وتصحيفات دون التنبّه!

فها هو ينقل من قول ابن عدي: "... وإبراهيم بن الحسين بن ديزيل بن هند الحديث"! وهو محرّف ومصحف!

فهل إبراهيم هذا جده الأعلى "هند"؟

وصواب العبارة: "... وإبراهيم بن الحسين بن ديزيل هذا الحديث..".

فأي دكاترة حديث هؤلاء! يتكلمون على التصحيف وهم ينقلون ما تصحف وما تحرّف!!

والله المستعان.

·       المثال الثالث: أبو عبدالجليل:

قال أبو سمحة: "ونقف عليه من خلال الآتي:

أولاً: جهله أبو حاتم الرازي، قال ابنه: (أبو عبدالجليل روى عن عبدالله بن فروخ عن عائشة قالت: يؤم القوم اقرأهم لكتاب الله. سمعت أبي يقول ذلك، ويقول: هو مجهول). ذكر البخاري وابن حبان هذا الحديث في ترجمة أبي عبدالجليل من رواية هشيم دون ذكر حال أبي عبدالجليل.

ثانياً: بين ابن معين أنه عبدالله بن ميسرة دلسه هشيم، قال: (وقد روى عنه وكيع وَرُبمَا قَالَ هشيم حَدثنَا أَبُو عبدالجَلِيل وَهُوَ عبدالله بن ميسرَة كَانَ يدلسه بكنية أُخْرَى لَا أحفظها). وقال ابن عدي: (وهشيم يكنيه مرة بأبي إسحاق، ومرة يكنيه أبا ليلي، ومرة يكنيه أبا جرير، ومرة يكنيه أبا عَبد الجليل). وكذا قال ابن حبان فيه: (وهُوَ الَّذِي يروي عَنهُ هشيم وَيَقُول حَدثنَا أَبُو عبدالجَلِيل وَحدثنَا أَبُو ليلى وَحدثنَا أَبُو إِسْحَاق الكُوفِي).

ثالثاً: عبدالله بن ميسرة ضعيف، قال فيه أبو حاتم: (لين)، فلو كان على دراية لتدليس هشيم لأبي عبدالجليل لما حكم هناك بالجهالة وهنا باللين. وضعفه أحمد وأبو زرعة وأبو داود والنسائي والدارقطني وابن حبان والحاكم أبو أحمد. قلت: فتدليس هشيم له أوقع أبا حاتم في تجهيله، فلا نستطيع القول أن أبا حاتم لا خبرة له بالرجال" انتهى.

قلت: بنى أبو سمحة مثاله هنا على عدّه أن أبا عبدالجليل الذي جهّله أبو حاتم هو نفسه "عبدالله بن ميسرة"! وإنما وقع في تجهيله بسبب تدليس هشيم له! فهو لم يعرفه لتدليس هشيم له!

فهل يُعقل أن أبا حاتم لا خبرة له بالرجال كما قال الدكتور؟!

أبو حاتم يرى أن أبا عبدالجليل هذا الذي روى عنه هشيم غير عبدالله بن ميسرة الذي يُدلسه هشيم، وأبو حاتم إنما تبع في ذلك الإمام البخاري.

قال البخاري في «التاريخ الكبير» (9/53) (466): "أَبُو عَبْدالجليل عَنْ عَبْداللَّه بن فروخ عَنْ عَائِشَة قَالَت: يؤم القوم اقرأهم لكتاب الله وأقدمهم هجرة، فان كانو سواء فليؤمهم أحسنهم وجهاً. قَالَهُ جندل بن والق، عَنْ هشيم بن بشير، عَنْ أَبِي عَبْدالجليل".

فأفرد له البخاري ترجمة، وكان قد ترجم لعبدالله بن ميسرة قبله، ولم يذكر أن كنيته "أبا عبدالجليل"!

قال (5/207) (656): "عَبْداللَّه بن ميسرة أَبُو ليلى الحارثي، سَمِعَ إِبْرَاهِيم بن أَبِي حرة. سَمِعَ منه: مُسْلِم بن إبراهيم، ووكيع، وعبيدالله بْن مُوسَى، وأَبُو محصن حصين، ويروي أيضا عَنْ مزيدة، وقَالَ مسدد: عَنْ أَبِي محصن، عن أبي ليلى إبراهيم، عن مزيدة، وقَالَ هشيم: عَنْ أَبِي إِسْحَاق الكوفي، كناه بابْن لَهُ يُقَالُ لَهُ إِسْحَاق".

ففرق البخاري بينهما، وتبعه أبو حاتم.

قال ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (5/137) (638): "عبدالله بن فروخ مولى عائشة. روى عن عائشة. روى عنه: أبو عبد الجليل. سمعت أبي يقول ذلك. سألت أبي عنه فقال: هو مجهول".

وقال أيضاً (9/406) (1956): "أبو عبدالجليل: روى عن عبدالله بن فروخ عن عائشة قالت: يؤم القوم اقرأهم لكتاب الله. سمعت أبي يقول ذلك ويقول: هو مجهول".

قلت: فأبو حاتم تبع البخاري، وزاد عليه أنه جهله، وهو كذلك بحسب ترجمة البخاري له، والمعروف أن البخاري قلما يتكلم في الرواة الذين يترجم له في كتابه، وقول أبو سمحة أن البخاري لم يذكر حال أبي عبدالجليل؛ لأنه لا يعرف منهج البخاري في «تاريخه»، وذكره أن البخاري ذكر الحديث في ترجمة أبي عبدالجليل حجة عليه أن البخاري يرى ما يراه أبو حاتم في أبي عبدالجليل هذا، فإن كان أبو حاتم رأى أنه ليس بعبدالله بن ميسرة الذي يدلسه هشيم، فكذا يرى البخاري أيضاً.

والعجيب أن الدكتور قال أيضاً: "ذكر ابن حبان هذا الحديث في ترجمة أبي عبدالجليل من رواية هشيم دون ذكر حال أبي عبدالجليل"!!

فابن حبان ذكره في «الثقات» (7/665) (11997) قال: "أَبُو عبدالجَلِيل يروي عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ فروخ عَنْ عَائِشَة. روى عَنْهُ هشيم بْن بشير".

فحاله عنده أنه ثقة لإيراده له في «الثقات»، وهو قد تبع البخاري أيضاً في الترجمة له، إلا أنه أورده في «ثقاته» بناء على قاعدته فيه أنه يورد فيه من حكم العلماء عليه بالثقة، ومن لا يوجد فيه جرح أو تعديل مثل أبي عبدالجليل هذا.

فأبو عبدالجليل عند البخاري، وأبي حاتم، وابن حبان ليس هو عبدالله بن ميسرة الذي يدلسه هشيم.

ولهذا قال ابن عساكر في ترجمة «عبدالله بن فروخ» في «تاريخه» (31/400) (3455): "عبدالله بن فروخ: سمع أبا هريرة، وعائشة. روى عنه: أبو سلام الأسود، وشداد أبو عمار، وزيد بن سلّام، وأبو عبدالجليل".

فذكر من الرواة عنه: "أبو عبدالجليل" ولم يقل أنه عبدالله بن ميسرة.

وجاء في «سؤالات أبي داود للإمام أحمد» (74) قَالَ: قُلْتُ لأَحْمَد: أبو عَبْدالجَلِيْل بن فَرُّوخ، حَدَّثَ عنه هُشَيْم، قالَ: "لا نَدْرِي من هو، قَالَ هُشَيْم مرة: فَرُّوح إلا أن الذي سمعنا نحن منه فَرُّوخ، وكان يُحَدِّث عن أَبِي مُحَمَّد القُرَشِيّ، لا يُدْرَى من هو".

قلت: فهذا أحمد أيضاً يحكم بجهالته، ولم يقل إنه هو عبدالله بن ميسرة!

وهكذا جاء في الكتاب "أبو عبدالجليل بن فروخ"!! فكأن في النسخة سقط! والصواب: "أبو عبدالجليل عن ابن فروخ"! وأراد أحمد أن يبين الاختلاف في اسم "فروخ" بالمهملة أو المعجمة، وكتبها المحقق في كل المواضع بالمعجمة! وليس بصحيح.

والخلاصة أن أبا حاتم يرى أن أبا عبدالجليل الذي يروي عن عبدالله بن فروخ ليس هو عبدالله بن ميسرة الذي يدلسه هشيم، وقد تبع البخاري في ذلك، وتبعه أيضاً: ابن حبان، وابن عساكر، وقد جهله أحمد أيضاً.

لكن يرى ابن معين أن أبا عبدالجليل الذي يروي عنه هشيم هو: عبدالله بن ميسرة، يُدلّسه لضعفه.

فالأمر محتمل، فقد يكون هو "عبدالله بن ميسرة"، وقد يكون غيره! فإن كان هو، فهو ضعيف، وإن كان غيره فهو مجهول.

وعليه فلا يستقيم قول أبو سمحة أن تدليس هشيم له أوقع أبا حاتم في تجهيله! فلا يوجد دليل على ذلك إلا ما ذهب إليه ابن معين فقط! ولم أقف على مستند ابن معين في ذلك، فالله أعلم.

·       المثال الرابع: الحكم أبو خالد:

قال أبو سمحة: "قال الذهبي: (الحكم أبو خالد عن الحسن، وعنه مروان بن معاوية، لا يعرف، وأظنه الحكم بن أبي خالد).

قال ابن معين: (كان مَروَان بن معاوية يُغَيِّر الأسماء، يُعمي على النَّاس، كان يُحَدِّثنا عن الحكم بن أَبي خالد، وهو الحكم بن ظُهَير، ويَروي عن علي بن أَبي الوليد، وهو علي بن غُرَاب). وقال: (كان مروان يروي عن الحكم بن ظُهَير يقول: الحكم بن أَبي لَيلَى).

قلت: فمن تدليسات مروان في الحكم بن ظهير: (الحكم أبو خالد) ويؤكد صواب ذلك أن الحسن من شيوخ الحكم بن ظهير، فقد ذكر له البخاري حديثاً عن الحسن عن جابر: إذا دخل أهل الجنة الجنة.

والحكم بن ظهير مجمع على تركه كما بينه الهيثمي، وممن نص على ذلك بعبارات متفاوتة تجمع على الترك: أحمد وابن معين والبخاري وأبو زرعة وأبو حاتم وابن أبي شيبة وأبو داود وابن نمير وصالح جزرة والجوزجاني والنسائي والحاكم وابن حبان" انتهى.

قلت: هذا المثال ليس من شرط البحث! فالحكم أبو خالد هو الحكم بن أبي خالد كما مال إليه الذهبي، وصرّح بذلك ابن معين كما نقل الدكتور.

نعم قال الذهبي: "لا يعرف"، لكنه استدرك بقوله: "وأظنه الحكم بن أبي خالد".

فرأي ابن معين وغيره أن الحكم بن أبي خالد هو الحكم بن ظهير، وكان هشيم يُدلسه لضعفه.

وجاء في بعض نسخ «تاريخ البخاري» ترجمة منفردة للحكم بن أبي خالد.

قال في «التاريخ الكبير» (2/338) (2669): "الحكم بن أَبِي خَالِد، روى عَنْهُ: مروان بن معاوية".

وقد أشار الإمام المعلمي محقق التاريخ أن هذا يوجد في نسخة من الكتاب ولا يوجد في نسخ أخرى، وكأن البخاري - رحمه الله - ترجم له أولاً، ثم تبيّن له أن هو: الحكم بن ظهير، فلم يضمنه النسخ الأخرى، والله أعلم.

وترجم أيضاً في «تاريخه» (2/342) (2683): "الحكم المَكِّيّ عَنْ عُمَر بن أَبِي ليلى. سَمِعَ منه: ابن المبارك، ومُحَمَّد بن مقاتل.

وروى مروان عَنِ الحكم بن أَبِي خَالِد مولى بني فزارة، عَنْ عُمَر بن أَبِي ليلى، قالَ الحَسَن بن علي.

وعَنِ الحكم بن أَبِي خَالِد عَنِ الحَسَن، عَنْ جَابِر - فِي الجنة.

فلا أدري ما هذا من ذاك".

وترجم أيضاً (2/345) (2694): "الحكم بن ظهير أَبُو مُحَمَّد الفزاري الكوفي: عن السدّي، وعاصم، تركوه منكر الحديث.

قَالَ يَحْيَى: كَانَ مروان يَقُولُ: الحكم بن أَبِي ليلى، وهو: ابن ظهير.

حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن عَبْدالعزيز قَالَ: حدثنا مروان، عَنِ الحكم بن أَبِي خَالِد مولى بني فزارة، عَنْ عُمَر بن أَبِي ليلى النّميري، قَالَ الحَسَن بن علي لرجل من قريش.

وعَنِ الحكم بن أَبِي خَالِد، عَنِ الحَسَن، عَنْ جَابِر: «إذا دخل أهل الجنة الجنة».

وروى ابن المبارك وابن مقاتل، عَنِ الحكم المَكِّيّ، عَنْ عُمَر بن أَبِي ليلى.

فلا أدري ما هذا من ذاك".

قلت: يظهر أن البخاري متردد في أن الحكم المكي = الحكم بن أبي خالد هو الحكم بن ظهير!

فقد ذكر في كلا الترجمتين رواية مروان عنه، وروايته عن الحسن، ثم صرّح بتردده في أنهما واحد في نهاية كل ترجمة!

وتبعه على ذلك أبو حاتم.

قال ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (3/131) (596): "الحكم المكي: روى عن [عُمَر بن أَبِي ليلى]. روى عنه: ابن المبارك، ومحمد بن مقاتل المروزي. سمعت أبي يقول ذلك، ويقول: هو مجهول".

وكذا ابن حبان، فإنه قال في «الثقات» (6/188) (7300): "الحكم بن أبي خَالِد المَكِّيّ مولى فَزَارَة: يروي عَن عمر بن أبي ليلى عَن الحسن بن عَليّ. روى عَنهُ: عبدالله بن المُبَارك.

قلت: يروي ابن المبارك (ت181هـ)، وابن مقاتل (ت226هـ) عن الحكم المَكِّيّ، عَنْ عُمَر بن أَبِي ليلى.

ويروي مروان بن معاوية (ت193هـ) عَنِ الحكم بن أَبِي خَالِد مولى بني فزارة، عَنْ عُمَر بن أَبِي ليلى.

فابن المبارك، وابن مقاتل، ومروان من طبقة واحدة، والحكم المكي هو نفسه الحكم بن أبي خالد الفزاري الذي يروي عنه مروان بن معاوية.

لكن هل هو نفسه الحكم بن ظهير الذي توفي سنة (180هـ)؟!

فالحكم بن ظهير كوفي، وليس بمكيّ!

ولا تعرف لابن المبارك، ولا لابن مقاتل رواية عن الحكم بن ظهير، ولو كانا رويا عنه لنسباه! وهذا ما جعل البخاري يتردد فيه ولا يجزم فيه بشيء!

والحكم بن ظهير تقريباً من طبقة مروان، وابن المبارك! وعندما حدّث ابن المبارك وابن مقاتل قالا: "الحكم المكي"، وسماه مروان: "الحكم بن أبي خالد"!

ولم يجزم أحد من المتقدمين بأن الحكم بن أبي خالد هو الحكم بن ظهير إلا ابن معين، وذلك لأن مروان بن معاوية يروي عن ابن ظهير ويُغير اسمه ويدلسه.

لكن رواية ابن المبارك وابن مقاتل عن الحكم المكي تُبعد أن يكون هو ابن ظهير! وهما لا يرويان عن الحكم بن ظهير بخلاف مروان فإنه يروي عمّن هو في سنّه أو من دون سنّه ويدلسهم! والحكم بن ظهير من أقرانه.

قال الدارقطني عن مروان: "ويروي عن نظرائه في السن، ومن دون سنه، فيذكرهم بكنى آبائهم".

فالذي أميل إليه أن الحكم المكي هو الحكم بن أبي خالد، وليس هو الحكم بن ظهير.

ولهذا قال المزي في ترجمته من «تهذيب الكمال» (7/94): "يقال: إنه الحكم بن ظهير الفرازي"، وقال في ترجمة الحكم بن ظهير من «تهذيب الكمال» (7/100): "وَقَال بعضهم: الحكم بن أَبي خالد".

فتعقبه مغلطاي في «الإكمال» [التراجم الساقطة من كتاب إكمال تهذيب الكمال لمغلطاي (ص: 265) (164) فقال: "الحكم بن أبي خالد: يقال: إنه الحكم بن ظهير الفزاري، كذا ذكره المزي، وما أظن له سلفا في ذلك إلا عبدالغني بن سعيد، والذين ذكروا الحكم بن ظهير كنوا أباه: أبا ليلى، ثم لم أر من كناه أبا خالد والمزي نفسه كناه كذلك، ولكنه غفل عنه هنا، ولم أر أحداً جمع بينهما كما قاله، وكل من رأيت فرق بينهما، هذا ابن حبان الذي ينقل توثيقه من عنده فرق بينهما، وكذلك البخاري، ومن يكثر تعدادهم، والله أعلم".

قلت: المزي لم يجزم بأنه هو، بل ذكر ذلك على الاحتمال، وسلفه ليس عبدالغني بن سعيد، بل يحيى بن معين.

قال ابن أبي خيثمة، عن يَحيى قال: "الحكم بن أبي خالد يروي عنه مروان، وهو ابن ظهير". [الكامل (3/240)].

وكذا قال ابن حبان الذي استشهد به مغلطاي في التفريق بينهما، قال في «المجروحين» (1/250) في ترجمة «الحكم بن ظهير الفَزارِيّ الكُوفِي»: "وَهُوَ الَّذِي يَرْوِي عَنْهُ مَرْوَان الفَزارِيّ وَيَقُول: حَدَّثَنَا الحَكَمُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، والحَكَمُ بْنُ أَبِي لَيْلَى، وهُوَ الحَكَمُ بْنُ ظُهَيْرٍ".

وقال الدارقطني في «موضح أوهام الجمع والتفريق» (2/491) عن مروان: "يروي أَحَادِيث عَن عَلِيّ بن غراب فَيَقُول: حَدَّثَنِي عَلِيّ بن أَبِي الْوَلِيد، ويروي عَن الحكم بن ظهير فَيَقُول: حَدَّثَنِي الحكم بن أَبِي خَالِد، ويروي عَن نظرائه فِي السن، وَمن دون سنه فيذكرهم بكنى آبَائِهِم".

وأما البخاري فهو متردد في ذلك، ولم يجزم بشيء.

وإلى الجمع بينهما ذهب بعض المتأخرين.

قال الذهبي في «تاريخ الإسلام» (4/604): "الحَكَمُ بنُ ظُهَيْرٍ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْكُوفِيُّ، وهُوَ الحَكَمُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ".

والذي أميل إليه أن الحكم بن أبي خالد غير الحكم بن ظهير. والحكم بن أبي خالد يروي عن الحسن البصري (ت110هـ)، والحكم بن ظهير طبقة شيوخه ممن ماتوا بعد سنة (125هـ).

فقد رَوَى عَن: إسماعيل بن عبد الرحمن السدي (127هـ)، وحمزة بن حبيب الزيات (156هـ)، والربيع بن أنس الخراساني (140هـ)، وزيد بن رفيع (136هـ)، وعاصم بن أَبي النجود (128هـ)، وليث بن أَبي سليم (148هـ)، ومُحَمَّد بن السائب الكلبي (146هـ)، ومحمد بن عَبْدِالرَّحْمَنِ بن أَبي ليلى (148هـ)، ومِسعر بن كِدام (153هـ).

روى الحُسَيْنُ بنُ الحَسَنِ المَرْوَزِيُّ في «زياداته على الزهد» (1/534) (1523) قَالَ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بنُ مُعَاوِيَةَ قَالَ: حدثنا الحَكَمُ بنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الحَسَنِ، عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِاللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «ِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأُدِيمَتْ عَلَيْهِمُ الْكَرَامَةُ، جَاءَتْهُمْ خُيُولٌ مِنْ يَاقُوتٍ أَحْمَرَ لَهَا أَجْنِحَةٌ لَا تَبُولُ وَلَا تَرُوثُ، فَيَقْعُدُونَ عَلَيْهَا، ثُمَّ يَأْتُونَ الجَبَّارَ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِذَا تَجَلَّى لَهُمْ خَرُّوا لَهُ سُجَّدًا، فَيَقُولُ الجَبَّارُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ ارْفَعُوا رُءُوسَكُمْ فَقَدْ رَضِيتُ عَنْكُمْ رِضًا لَا سَخَطَ بَعْدَهُ، يَا أَهْلَ الجَنَّةِ ارْفَعُوا رُءُوسَكُمْ فَإِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ بِدَارِ عَمَلٍ إِنَّمَا هِيَ دَارُ مَقَامٍ وَدَارُ نُعَيْمٍ، قَالَ: فَيَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ؛ فَيُمْطِرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمْ طِيبًا، فَيَرْجِعُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ فَيَمُرُّونَ بِكُثْبَانِ المِسْكِ فَيَبْعَثُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رِيحًا عَلَى تِلْكَ الكُثْبَانِ فَتُهَيِّجُهَا فِي وُجُوهِهِمْ، حَتَّى إِنَّهُمْ لَيَرْجِعُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ وَإِنَّهُمْ وَخُيُولُهُمْ، ذَكَرَ كَلِمَةً - لَشِبَاعٌ مِنَ المِسْكِ».

ورواه الآجري في «الشريعة» (2/1028) (616) عن أَبي القَاسِمِ البغوي. وأبو نُعيم الأصبهاني في «صفة الجنة» (2/267) (429) من طريق القَاسِم بن زَكَرِيَّا. كلاهما عن سُوَيْد بن سَعِيدٍ، عن مَرْوَان بن مُعَاوِيَةَ، عَنِ الحَكَمِ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ، عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِاللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، بنحوه، مرفوعاً. وفي آخره: «حَتَّى إِنَّهُمْ لَيَرْجِعُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ، وَإِنَّهُمْ لَشُعْثٌ غُبْرٌ».

كذا رفعه سويد بن سعيد، ووقفه الحسين المروزي، وسويد فيه كلام، وقد وهم في رفعه، والصواب الوقف.

وروى أبو نُعيم الأصبهاني في «معرفة الصحابة» (6/3170) (7296) من طريق دُحَيْم، قال: حدثنا مَرْوَانُ، قال: حدثنا الحَكَمُ بنُ أَبِي خَالِدٍ الفَزَارِيُّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ مَعْبَدٍ الجُهَنِيِّ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «العِلْمُ أَفْضَلُ مِنَ الْعَمَلِ، وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا، وَدِينُ اللهِ بَيْنَ الْفَاتِنِ وَالْغَالِي، وَالْحَسَنَةُ بَيْنَ السَّيِّئَتَيْنِ لَا يَنَالُهَا إِلَّا بِاللهِ، وَشَرُّ السَّيْرِ الْحَقْحَقَةُ».

قلت: زيد بن رفيع يروي عنه أيضاً: الحكم بن ظهير، فهذه قرينة على أن الحكم بن أبي خالد هو الحكم بن ظهير، لكن لا يمنع أن يروي كلاهما عنه، والله أعلم.

والخلاصة أن الجزم بأن الحكم بن أبي خالد هو الحكم بن ظهير فيه نظر! والأقرب أنهما اثنان، والحكم بن أبي خالد مجهول الحال، والله أعلم وأحكم.

·       المثال الخامس: معاوية بن أبي العباس:

قال أبو سمحة: "اختلف العلماء في تشخيصهم له:

أولاً: اعتباره معاوية بن هشام القصار، وممن ذهب هذا المذهب:

- الحافظ أبو طالب والدارقطني: قال الدارقطني: (قال لي أبو طالب أحمد بن نصر بن طالب الحافظ: معاوية بن أبي العباس هو عندي معاوية بن هشام دلّسه مروان الفزاري، وأسقط الثوري في أحاديثه كلها. فذكر من بعد الثوري منها حديث عَلِيّ بن ربيعة. ومنها حديث أسماء بن الحكم. ومنها حديث أيوب عن أبي قلابة عن أنس في العرنيين. ومنها حديث ابن عقيل عن جابر يطلع عليكم رجل من أهل الجنة. ومنها حديث زياد بن إسماعيل عن محمد بن عباد بن جعفر. وغير ذلك تفاسير ومقاطيع عن منصور عن مجاهد وعن سالم الأفطس وعن إسماعيل بن أبي خالد، وهذه الأحاديث عن معاوية بن هشام عن الثوري).

ثم قال الدارقطني: (قول أبي طالب عندي أولى وأليق بمروان بن معاوية الفزاري أنه يروي أَحَادِيث عَن عَلِيّ بن غراب فَيَقُول: حَدَّثَنِي عَلِيّ بْن أَبِي الْوَلِيد، ويروي عَن الحكم بْن ظهير فَيَقُول: حَدَّثَنِي الحكم بْن أَبِي خَالِد، ويروي عَن نظرائه فِي السن وَمن دون سنه فيذكرهم بكنى آبَائِهِم).

- قال ابن الجوزي: (معاوية بن هشام القصار، وقيل: هو معاوية بن أبي العباس روى ما ليس بسماعه فتركوه). وقال ابن حجر: (يقال له معاوية بن أبي العباس صدوق له أوهام).

ثانياً: الرد على اعتباره معاوية بن هشام دون الكشف عنه:

- قال ابن نُمير في معاوية بن أبي العباس: (كان هذا جاراً للثوري أخذ كتب الثوري فرواها عن شيوخه). وقال: (هذا جَار للثوري كَانَ يرى النَّاس ولزومهم للثوري فَلَمَّا مَاتَ الثَّوْريّ أَخذ كتبه وَجعل يَرْوِيهَا عَن شُيُوخ الثَّوْريّ فَوقف النَّاس على ذَلِك فَتَرَكُوهُ وَافْتَضَحَ نسْأَل الله الْعَافِيَة فَقلت فمروان كَانَ وقف على هَذَا فَقَالَ لَو وقف عَلَيْهِ مَا حدث عَنهُ).

- قال الذهبي راداً على ابن الجوزي: (ما ذكرته لشيء فيه إلا أن أبا الفرج قال قيل هو معاوية بن أبي العباس روى ما ليس من سماعه فتركوه. قلت: هذا خطأ منك ما تركه أحد).

- المعلمي اليماني: والذي اعترض على قول أبي طالب باعتبار معاوية بن أبي العباس هو معاوية بن هشام، واعتمد على قول ابن نمير في حق ابن أبي العباس، وهو مشهود له بمعرفة شيوخ الكوفيين، وما ناله من ثقة أحمد وابن معين له. ثم بين أن أحداً لم يذكر مروان الفزاري بتدليس التسوية ولم يوصف به. ثم بين عدم تخريجهم أحاديث ابن أبي العباس من طريق تدلل على أنه معاوية بن هشام.

ثالثاً: تجهيل معاوية بن أبي العباس: وهذا ما ذهب إليه الهيثمي بقوله: (معاوية بن أبي العباس لم أعرفه).

رابعاً: تخليطه بغيره. وهذا ما ذكره الألباني على سبيل الاحتمال إذ قال: (معاوية بن أبي العباس قال الهيثمي في "مجمع الزوائد": (ولم أعرفه). وتبعه المناوي في "الجامع الأزهر". قلت: ويحتمل عندي أنه معاوية بن أبي عياش الزرقي الأنصاري فتصحف على بعض الرواة (عياش) إلى (العباس). ويحتمل أن ذلك من تدليس مروان الفزاري، فإنه مع كونه ثقة حافظا، فقد كان يدلس أسماء الشيوخ كما في "التقريب" وغيره).

والذي يرجحه الباحث ما ذهب إليه الدارقطني وذلك للاعتبارات الآتية:

- لم يرو عنه سوى الفزاري المعروف بتدليس الشيوخ، وهذه أمارة قوية على التدليس.

- ما أثبته الدارقطني من أن الأحاديث التي رواها ابن أبي العباس رواها معاوية بن هشام عن الثوري.

- وأما ما ذكره اليماني فالإجابة عنه من وجوه: فلمَ لم يرو عن ابن أبي العباس سوى مروان الفزاري، ثم إن الدارقطني بين أن هذه الأحاديث إنما هي أحاديث معاوية بن هشام وهو من هو في الحفظ والثبت.

- ثم أخيراً يكفي في حق الفزاري شهادة الدارقطني عليه بتدليس التسوية ليثبت الأمر في حقه. أما ما قيل في حق ابن نمير فلا يمنع أن يعترضه ناقد في وزن الدارقطني" انتهى كلامه.

قلت:

هذا المثال أيضاً خارج موضوع البحث!

فأهل العلم المتقدمين لا خلاف بينهم أن معاوية بن هشام القصار صاحب الثوري ليس هو معاوية بن أبي العباس الذي يروي عنه مروان بن معاوية.

فلو فرضنا أن مروان بن معاوية سمع من معاوية بن هشام، فلم يُدلّسه؟ فالمدلس يُدلّس من أجل ضعف من يسمع منه، ومعاوية بن هشام ليس ضعيفاً، وقد وثقه كثير من أهل العلم، وله أخطاء وأوهام، وهو من أهل الصدق.

ثم إن مروان بن معاوية توفي سنة (193هـ)، ومعاوية بن هشام توفي سنة (205هـ) = يعني أن معاوية بن هشام عاش سنوات بعد موت مروان، ولم يكتشف أحد من أهل العلم حينها أنه دلّس عن معاوية وهو حيّ؟!

فمعاوية بن هشام القصتر الكوفي من كبار أصحاب سفيان الثوري، وله عنه آلاف الأحاديث.

قال الساجي: وحدثني الحسن بن معاوية بن هشام قال: سمعت قبيصة - وذكر له أبي - فقال: أين أقع منه! قال الحسن: "كان عند أبي عن الثوري ثلاثة عشر ألفاً، وعند قبيصة سبعة آلاف". [تهذيب التهذيب (10/218)].

فمثل معاوية هذا لا يحتاج مروان أن يُدلّس اسمه وهو معروف بروايته عن الثوري حتى يروي عنه ويدلسه ويسقط الثوري من حديثه!!

فمروان وإن كان مشهوراً في تدليس الشيوخ إلا أنه لا يدلس مثل هذا التدليس = تدليس التسوية!

وكلام الدارقطني في حقه في فعل هذا مردود!

والدارقطني إنما رجّح كلام أبي طالب الحافظ أن معاوية بن أبي العباس هو معاوية بن هشام لأن مروان معروف بتدليس الشيوخ، فقوله: "ابن أبي العباس" يعني تدليسه لاسمه! لكن لا يعرف أن هشاما والد معاوية كنيته "أبو العباس" أو أي جد من أجداده!

وكلام ابن نُمير في معاوية بن أبي العباس يعني أنه يعرفه حقّ المعرفة، ولو كان هو ابن هشام نفسه لقال ذلك، ومعاوية بن هشام شيخه.

وترجيح أبو سمحة لرأي الدارقطني مرجوح، وهو مبني على عاطفة خدمة بحثه؛ لأنه يحتاجه فيه! وإلا فهو عند التحقيق العلمي لم يأت بأي دليل علمي يدحض قول ابن نمير أو المعلمي اليماني!

وابن نُمير من حفاظ أهل الكوفة، وهو أعرف برجالها من غيره، وكان الأئمة النقاد يأخذون برأيه.

قالَ عَلِيُّ بنُ الحُسَيْنِ بنِ الجُنَيْدِ الحَافِظُ: "كَانَ أَحْمَدُ وابنُ مَعِيْنٍ يَقُوْلاَنِ فِي شُيُوْخٍ مَا يَقُوْلُ ابنُ نُمَيْرٍ فِيْهِم" - يَعْنِي: يَقْتَدِيَانِ بِقَوْلِهِ فِي أَهْلِ بَلَدِهِ -. [سير أعلام النبلاء].

فإذا كان أحمد وابن معين يأخذان برأي ابن نُمير في أهل بلده، فكيف لا نقبل رأيه في معاوية بن أبي العباس!

ولندقق فيما نُقل عن ابن نُمير في هذا:

قال البرذعي في «سؤالاته لأبي زُرعة» (2/365): وسألت أبا زرعة، عن معاوية بن أبي العباس؟ فقال: "نظرت بدمشق في كتاب لمروان بن معاوية، عن معاوية هذا، فرأيت أحاديث، عن شيوخ الثوري، وأحاديث يعرف بها الثوري، وأبواباً للثوري، فاستربته وتركته".

قال أبو زرعة: "فذكرت ذلك لابن نُمير. فقال: كان هذا جار الثوري أخذ كتب الثوري فرواها عن شيوخه".

قلت: منطوق النص واضح في أن معاوية بن أبي العباس هذا معروف لابن نمير، وكان جاراً للثوري، وهذا اسمه، ثم بيّن كيفية روايته لهذه الأحاديث، وهو أنه لما مات الثوري أخذ كتبه ورواها عن شيوخ الثوري.

 

وهذا ما وضّحه عَبْدُاللَّهِ بنُ إِبْرَاهِيمَ بن قُتَيْبَة قَالَ: سَأَلت ابن نمير: مَرْوَان عَن مُعَاوِيَةَ بنِ أَبِي العَبَّاسِ عَنْ أَبِي إِسْحَاق، وَالْأَعْمَش، وَمَنْصُور، وَأبي الزِّنَاد، وَهِشَام بن عُرْوَة، والكوفيين والبصريين؟ فقَالَ: "هَذَا جَار للثوري كَانَ يرى النَّاس ولزومهم للثوري، فَلَمَّا مَاتَ الثَّوْريّ أَخذ كتبه وَجعل يَرْوِيهَا عَن شُيُوخ الثَّوْريّ، فَوقف النَّاس على ذَلِك فَتَرَكُوهُ وَافْتَضَحَ، نسْأَل الله العَافِيَة. فَقلت: فمروان كَانَ وقف على هَذَا؟ فَقَالَ: لَو وقف عَلَيْهِ مَا حدّث عَنهُ". [موضح أوهام الجمع والتفريق (2/491)].

فهذا نص آخر وقد ذكر بعضه الدكتور في بحثه ولم يستفد منه إلا ما يخدم رأيه!

فهنا سئل ابن نمير عن ما يرويه مروان بن معاوية عن معاوية بن أبي العباس عن شيوخ الثوري، فيقول بأنه كان جاراً للثوري، وكان يرى الناس يلزمون الثوري، فلما مات أخذ كتبه فرواها عن شيوخ الثوري.

ولم يقف الأمر عند هذا، بل عرف الناس ما فعله فتركوه وافتضح أمره، فلو كان مروان سمع هذه الأحاديث من معاوية بن هشام ودلّسه، فهل كان ذلك ليخفى عن ابن نمير وأهل الكوفة؟

فما ذكره ابن نمير واضح أن معاوية بن أبي العباس هذا رجل كان جاراً للثوري، وليس هو معاوية بن هشام صاحب الثوري المعروف.

وها هو عَبْدُاللَّهِ بنُ إِبْرَاهِيمَ بن قُتَيْبَة يستوضح من ابن نمير: هل وقف مروان بن معاوية على ما فعله معاوية هذا؟ فأجابه بجواب يُبعد تماماً أنه كان يدلسه، فقال: "لَو وقف عَلَيْهِ مَا حدّث عَنهُ".

وهذا من حُسن الظنّ بمروان، فهو وإن كان يدلس الشيوخ إلا أنه لا يرضى بهذا الفعل الذي فعله معاوية بن أبي العباس هذا.

فابن نُمير يعرف الرجل ويعرف اسمه وهذه المعرفة تنفي أن مروان بن معاوية دلّس اسمه، وإلصاق تهمة تدليس التسوية بمروان مردودة.

ثم ها هو الحافظ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بن مُحَمَّد بن سعيد بن عقدَة الكُوفِي يؤيد قول ابن نُمير في معرفته لهذا الرجل، وأنه كان جاراً للثوري، وكان يسرق الحديث.

قال عبدالغَنِيّ بن سعيد الْأَزْدِيّ: حَدَّثَنَا أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ عُمَرَ - هو: الدارقطني-، قَالَ: قَالَ لي أَحْمَد بن مُحَمَّد بن سَعِيد: "مُعَاوِيَة بن أَبِي العَبَّاس جَار الثَّوْريّ، كَانَ يسرق أَحَادِيث الثَّوْريّ فَيحدّث بهَا عَن شُيُوخه". [موضح أوهام الجمع والتفريق (2/491)].

والدَّارَقُطْنِيّ نفسه يَقُوْلُ في ابن عقدة: "أَجْمَعَ أَهْلُ الكُوْفَة أَنَّهُ لَمْ يُرَ مِنْ زَمَنِ عَبْدِاللهِ بنِ مَسْعُوْد إِلَى زَمَنِ أَبِي العَبَّاسِ بنِ عُقْدَةَ أَحفظُ مِنْهُ".

وقال فيه الخطيب: "وكَانَ أعرف النَّاس بأخبار الكُوفَة وَمن قدمهَا من العلمَاء وَحدث بهَا من الغرباء".

وقد جاء في حديث رواه مروان عن معاوية بن أبي العباس أنه نسبه بالقيسي.

روى أبو بكر الإسماعيلي في «معجم شيوخه» (2/697) (322) قال: حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْأَشْعَثِ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ، قال: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الوَزَّانُ، قال: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ، قال: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بنُ أَبِي العَبَّاسِ القَيْسِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بنِ رَبِيعَةَ الثَّقَفِيِّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بنِ الحَكَمِ الفَزَارِيِّ، قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا حَدَّثَنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَدِيثٍ اسْتَحْلَفْتُهُ، فَإِنْ حَلَفَ لِي صَدَّقْتُهُ، فَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ، وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ، أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ مِنْهُ إِلَّا غُفِرَ لَهُ».

فمعاوية هذا قيسي نسبة إلى بني قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، وغالب من ينتسبون لقيس بن ثعلبة عدادهم في أهل البصرة.

ومعاوية بن هشام القصار مولى لبني أسد.

وأما مرجحات الدكتور التي أيد فيها رأي الدارقطني فهي واهية، والرد عليها:

- قوله: "لم يرو عنه سوى الفزاري المعروف بتدليس الشيوخ، وهذه أمارة قوية على التدليس".

قلت: لم يرو عنه سوى الفزاري فيما وصل إلينا، ثم إن ابن نمير قال بأن الناس تركوه وافتضح أمره؛ لأنه كان يُحدث عن شيوخ الثوري من كتب الثوري ويسقط الثوري، وهو لم يسمع أصلاً منه.

وقد قال ابن نُمير لو علم مروان بما كان يفعل لما حدث عنه، وكون مروان معروف بتدليس الشيوخ لا يعني أنه يدلس تدليس التسوية القبيح! فهذا افتراء عليه، وشهرته بتدليس الشيوخ قرينة على أنه لا يدلس تدليس التسوية، فافهم.

- قوله: "ما أثبته الدارقطني من أن الأحاديث التي رواها ابن أبي العباس رواها معاوية بن هشام عن الثوري".

قلت: الدارقطني نقل ذلك عن أبي طالب الحافظ، فهو من قال: "وَهَذِه الْأَحَادِيث عَن مُعَاوِيَة بن هِشَام عَن الثَّوْريّ".

وهذا أمر طبيعي، فمعاوية بن هشام من كبار أصحاب الثوري، وعنده عنه آلاف الأحاديث، فلا شك أن هذه الأحاديث عنده عن الثوري، ورواية معاوية بن أبي العباس لها؛ لأنه أخذها من كتب الثوري، فهي أحاديث الثوري.

وإنما ذهب أبو طالب إلى هذا كونه يرى أن معاوية بن أبي العباس هذا هو معاوية بن هشام صاحب سفيان، وهذا ليس بصحيح، فالأحاديث عن معاوية بن هشام عن الثوري؛ لأنه سمعها من الثوري، وسرقها معاوية بن أبي العباس من كتب الثوري.

- قوله: "وأما ما ذكره اليماني فالإجابة عنه من وجوه: فلمَ لم يرو عن ابن أبي العباس سوى مروان الفزاري، ثم إن الدارقطني بين أن هذه الأحاديث إنما هي أحاديث معاوية بن هشام وهو من هو في الحفظ والثبت".

قلت: هذا رد ركيك لكلام الإمام المعلمي اليماني! ويا ليت الدكتور نقله بحروفه كي يعلم القارئ أنه حاطب ليل في هذا العلم!!

وها أنا أسوق كلام المعلمي بحروفه:

قال في تعليقه على كلام أبي طالب وموافقة الدارقطني له في تحقيقه لكتاب الخطيب «الموضح» (2/426): "حاصل هذا القيل الذي تظناه أبو طالب، ورآه الدارقطني أولى من قول ابن نُمير الذي ارتضاه أبو زرعة وغيره، هو أن مروان سمع تلك الأحاديث من معاوية بن هشام عن الثوري عن حبيب بن أبي ثابت، ومنصور، وغيرهما، فرواها مروان مُدلساً لاسم شيخه، ومُدلساً التسوية بإسقاطه الثوري وروايتها عن معاوية عن حبيب ومنصور وغيرهما، وأن ابن نُمير لم يفطن لذلك فقال ما قال تظنيا، ورضي ذلك أبو زرعة وغيره كابن عُقدة، ولم يفطنوا للواقع، ويرد على هذا أمور:

منها: أن مروان - وإن عرف بتغيير أسماء بعض شيوخه – فلم يعرف بتدليس التسوية، ولم يوصغ به.

ومنها: أن ابن نُمير ثبت متقن فاضل إليه المنتهى في معرفة شيوخ الكوفيين حتى كان أحمد ويحيى بن معين يقولان فيهم ما يقوله، والثوري كوفي وجاره - إن كان - كوفي، ومعاوية بن هشام كوفي، وقد صحب ابن نُمير جماعة من أصحاب الثوري، وروى عنهم، وكان معاوية بن هشام معه في البلد، وعرف مروان وروى عنه، وقد جزم بأن معاوية بن أبي العباس كان جاراً للثوري، وجرى له كيت وكيت.

ومنها: أن الحديث عن معاوية بن هشام منتشر مشتهر، فلو كان مروان إنما روى تلك الأحاديث عنه لظفر الحفّاظ بعدد منها قد رواه غير مروان عن معاوية بن هشام على الوجه كما رواه مروان عن معاوية بن أبي العباس مسوى، فأين ابن نُمير ومعرفته بحديث الكوفة؟ أو أين أبو زرعة وسعة حفظه؟ وأين ابن عقدة وما وصفه به الخطيب في أوائل الموضح من العلم البالغ بأهل الكوفة مع تبحر حفظه، وكذلك أين أبو طالب والدارقطني وعبدالغني والخطيب؟ فالظاهر أنهم لو وجدوا شيئاً من ذلك لشدوا به ذاك القيل.

وفي هذا وما دونه ما يكفي لتوهين تظني أبي طالب، وإن قوّاه الدارقطني، والله الموفق" انتهى كلامه.

أقول: ليس بعد هذا التحرير النفيس كلام، فلله درّ المعلمي من إمام.

- قوله: "ثم أخيراً يكفي في حق الفزاري شهادة الدارقطني عليه بتدليس التسوية ليثبت الأمر في حقه. أما ما قيل في حق ابن نمير فلا يمنع أن يعترضه ناقد في وزن الدارقطني"!

قلت: بل لا يكفي ما قاله الدارقطني! وهو إنما قال ذلك؛ لأنه تبع أبا طالب في أن معاوية بن أبي العباس هو معاوية بن هشام، ولهذا قال ما قال! لأنه لا يستقيم ذلك إلا بوصف مروان بتدليس التسوية! وكلام أبي طالب لا يصح كما بينه المعلمي فيما سبق.

فلا يوجد إثبات على أن مروان يدلس تدليس التسوية، فكيف نقبل ما بناه الدارقطني على ظن في حقّه؟!!

وأما معارضة ابن نمير بالدارقطني فهذا مما لا ينقضي منه العجب!!

نعم، الدارقطني له وزنه في النقد، لكن هذا لا يعني قبول كل ما يقوله! فالمرجحات والأدلة مع ابن نمير، ولا يقارن كلامه الذي بناه على رأي أبي طالب بما عرفه ابن نمير وشاهده! فهو يعرف معاوية بن أبي العباس وأنه كان جارا للثوري، ولما مات الثوري سرق كتبه وحدث منها عن شيوخ الثوري، وعرف الناس ذلك وافتضح عندهم.

أبعد هذا نقول: "فلا يمنع أن يعترضه ناقد في وزن الدارقطني"!

بأي شيء يعترضه؟ وهو إنما يخبرنا بحقائق عن هذا الرجل؟!!

فمروان لم يسمع من معاوية بن هشام ولم يدلسه.

ومن هنا نقم بعض أهل العلم على ابن الجَوْزِيّ لقوله في معاوية بن هشام: "قيل هُوَ مُعَاوِيَة بن أبي العَبَّاس: روى مَا لَيْسَ من سَمَاعه فَتَرَكُوهُ".

ولم يتَركه أحد كما قال الذهبي، وإنما تركوا معاوية بن أبي العباس، لكن ابن الجوزي قال ذلك بناء على من قال بأن مروان سمع منه ودلسه!

وقال مغلطاي في «إكمال تهذيب الكمال» (11/277): "وقال أبو الفرج البغدادي قولاً لم أر له فيه سلفاً، فينظر، وهو: معاوية بن هشام القصار، وقيل: هو معاوية بن أبي العباس، روى ما ليس بسماعه فتركوه، انتهى. وخرج أبو عوانة الإسفرائيني حديثه في صحيحه، وكذا ابن حبان والحاكم".

وقد أخطأ ابن حجر بقوله في «التقريب»: "معاوية بن هشام القصار أبو الحسن الكوفي مولى بني أسد، ويقال له: معاوية بن أبي العباس. صدوق له أوهام، من صغار التاسعة. مات سنة أربع ومائتين".

فمعاوية بن هشام لا يقال له معاوية بن أبي العباس.

·       المثال السادس: محمد بن أبي زكريا:

قال أبو سمحة: "جهله أبو حاتم إذ قال: مجهول. وبين العقيلي والخطيب والذهبي أنه محمد بن سعيد المصلوب.

ومن التخليط نجد أن الذهبي أفرد له ترجمتين قال في الأولى: (محمد بن زكريا التميمي. ذكره ابن أبي حاتم مجهولاً. وقيل ابن أبي زكريا. روى عنه مروان بن معاوية الفزاري). والحق أن الذي ذُكر في الجرح والتعديل هو ابن أبي زكريا.

وأما النوضع الثاني فقد ذكره ضمن جملة من الرواة قال: (محمد بن أبي زينب، ومحمد بن زكريا، ومحمد بن أبي الحسن. قال العقيلي: الكل واحد، وهو محمد بن سعيد المصلوب)" انتهى كلامه.

قلت:

وهذا أيضاً لا يصلح كمثال على هذا البحث!

نعم رأى العقيلي أن "محمد بن أبي زكريا" هو: محمد بن سعيد المصلوب، فإنه قال في ترجمته من «الضعفاء» (4/71): "فَمَرْوَانُ الفَزَارِيُّ يَقُولُ: مُحَمَّدُ بنُ حَسَّانَ، ويَقُولُ أَيْضًا: وَمُحَمَّدُ بنُ أَبِي قَيْسٍ، وَيَقُولُ: مُحَمَّدُ بنُ أَبِي زَيْنَبَ، وَيَقُولُ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي زَكَرِيَّا، وَيَقُولُ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي الحَسَنِ... وهَذَا كُلُّهُ مُحَمَّدُ بنُ سَعِيدٍ المَصْلُوبُ".

وتبعه على ذلك الخطيب في «الكفاية» (ص: 366) فساق ذلك بإسناده إلى العُقَيْلِيّ.

وقال في «موضح أوهام الجمع والتفريق» (2/398) في ترجمة المصلوب: "وهُوَ مُحَمَّد بن أَبِي زَكَرِيَّا الَّذِي روى عَنهُ مَرْوَان أَيْضاً".

ثم ساق حديث مَرْوَان بن مُعَاوِيَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ أَبِي زَكَرِيَّا، عَنْ عمار بن أبي عمار، قَالَ: مر عَليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى قَوْمٍ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: «أَمَا وَاللَّهِ لِغَيْرِ هَذَا خُلِقْتُمْ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْلا أَنْ تَكُونَ سُنَّةً لَضَرَبْتُ وُجُوهَكُمْ. قَالَ: وَخَرَجَ عَلَيْهِ رجلَانِ من الحمام مزلفين فَدَعَاهُمَا فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمَا؟ فَقَالا: مِنَ المُهَاجِرِينَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: بَلْ أَنْتُمَا مِنَ المُفَاجِرِينَ، إِنَّمَا المُهَاجِرُ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ".

قَالَ أَبُو بَكْرِ بنُ شَيْبَةَ: قَالَ جَدِّي: "أَحسب أَن الرجلَيْن ليسَا من الصَّحَابَة، وَلَو كَانَا من الصَّحَابَة عرفهما، وَإِنَّمَا يعنيان من المُهَاجِرين مِمَّن جَاءَ فقاتل مَعَه".

ولما ذكر الذهبي هذا الحديث في «المهذب في اختصار السنن الكبير» (8/4224) قال: "قلت: محمد بن أبي زكريا إِن كان المصلوب فهو متهم".

فهو لم يجزم هنا بأنه المصلوب، وإنما ذكره على الاحتمال.

وكان ذكر في ترجمة المصلوب من «الميزان» (3/561) ما قاله العقيلي في أنه محمد بن أبي زكريا!

وقال أيضاً فيه (3/554): "محمد بن أبي زينب، ومحمد بن زكريا، ومحمد بن أبي الحسن، ومحمد بن حسان. قال العقيلي: الكل واحد، وهو محمد بن سعيد المصلوب".

فهو نقل كلام العقيلي في ذلك، لكنه في موضع آخر ذكره على الاحتمال كما سبق.

ودعوى أبو سمحة أنه خلط لذكره الترجمة الأخرى التي ذكرها أبو حاتم فهي دعوى مردودة!

والمشكلة أن الدكتور يقرر الشيء ويجزم بصحته ثم يبدأ بتوهيم العلماء الذين لم يفهم هو كلامهم!

فمحمد بن أبي زكريا هذا ليس المصلوب عند أبي حاتم.

قال ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (7/261) (1426): "محمد بن أبي زكريا التميمي. روى عن عمار شيخ له عن أنس. روى عنه: مروان بن معاوية"، قال: سألت أبي عنه؟ فقال: "مجهول، أرى أن عمّاراً هو وهم، وإنما هو: أبو عمار زياد بن ميمون".

ولهذا أورده الذهبي في «الميزان» (3/550) (7538) فقال: "محمد بن زكريا التميمي. ذكره ابن أبي حاتم مجهولاً. وقيل ابن أبي زكريا. روى عنه: مروان بن معاوية الفزاري".

فهذا رأي أبي حاتم، فلا نلزمه بقول العقيلي! فكيف إذا أخبرنا الدكتور أن أبا حاتم تبع الإمام البخاري في هذا؟

قال البخاري في «التاريخ الكبير» (1/87) (241): "مُحَمَّد بن أَبِي زكريا التميمي عَنْ عمّار شيخ لَهُ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي البْناء. روى عَنْهُ: مروان بن مُعَاوية.

وقَالَ لِي ابنُ أَبِي عَتَّابٍ: حَدَّثَنَا شَاذَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ عَبْدِالمَلِكِ بنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ بِنَاءٍ وبال إلا إواء» - يعنى ما لا بدّ مِنْهُ.

ورَوَاهُ أَبُو نُعيم عَنْ زهير، عَنْ عثمان بن حكيم، عَنْ إِبْرَاهِيم بن حاطب، عَنْ أَبِي طلحة الأسدي، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحوه.

وقال بعضهم: عَنْ مروان، عَنْ مُحَمَّد بن جرير بن أبي زكريا".

قلت: فالبخاري سمّاه ثم ساق حديثه والاختلاف فيه، ونسبه تميمياً، وأن بعضهم قال فيه: محمد بن جرير بن أبي زكريا.

وكل هذا ينفي أنه هو المصلوب.

قال ابن أبي حاتم في «العلل» (5/55) (1798): وسمعتُ أَبِي - وَذَكَرَ حَدِيثًا رَوَاهُ مَرْوَانُ بنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ أَبِي زكريَّا، عَنْ عمَّار، عَنْ أَنَسٍ؛ قَالَ: مرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فِي جانبِ دُوْرِ الأَنْصَارِ، فأبصَرَ قُبَّةً مبنيَّةً، فَقَالَ: يَا أَنَسُ، لِمَنْ هَذِهِ القُبَّةُ؟ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ بِنَاءٍ وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ إِلاَّ بِنَاءَ كَفٍّ - يَعْنِي: يَسْتُرُ -... وذكر الحديثَ».

قالَ أَبِي: "أَرَى أنَّ هَذَا خطأٌ، وَأَنَّهُ أَبُو عمَّارٍ زيادُ بنُ مَيْمون، وابنُ أَبِي زكريَّا مجهولٌ".

وبناء على ما جاء في الإسناد ترجم البخاري لشيخه، فقال في «التاريخ الكبير» (7/27) (115): "عمار المَدَنِيّ عَنْ أَنَسٍ. روى عَنْهُ: مُحَمَّد بن أَبِي زكريا. فِيهِ نظر".

والحديث رواه ابنُ أَبِي عُمَرَ العدني في «مسنده» [كما في «المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية» (13/600) (3269)] قال: حدثنا مَرْوَانُ بنُ مُعَاوِيَةَ، قال: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي زَكَرِيَّا، عَنْ عَمَّارٍ، عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فِي جَانِبٍ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَرَفَعَ رَاسَهُ فَأَبْصَرَ قُبَّةً مَبْنِيَّةً، فَقَالَ: يَا أَنَسُ، لِمَنْ هَذِهِ الْقُبَّةُ؟ فَقُلْتُ: لِفُلَانٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «كُلُّ بِنَاءٍ وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلَّا بِنَاءً كِفَافٍ»، فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ الْأَنْصَارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَكَسَرَهَا، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ مَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَمْ يَرَهَا، فَقَالَ: «يَا أَنَسُ، مَا فَعَلَتِ القُبَّةُ؟»، قُلْتُ: بَلَغَ صَاحِبَهَا قَوْلُكَ، فَكَسَرَهَا، قَالَ: «غَفَرَ اللَّهُ لَهُ».

وذكره البوصيري في «الإتحاف» ثم قال: "رواه محمَّد بن يحيى بن أبي عمر بسند ضعيف لجهالة محمَّد بن أبي زكريا".

وقول أبي حاتم المتقدم أَنَّهُ أَبُو عمَّارٍ زيادُ بنُ مَيْمون لا يصح! وزياد هذا بصري كذاب، لم يسمع من أنس، وكان يكذب عليه!

وقد جاء في أحاديث محمد بن أبي زكريا عنه أنه: «عَمَّار بن أَبِي عَمَّارٍ»، كما في الحديث الذي رواه البيهقي في «السنن الكبرى» (10/358) (20932) من طريق القَعْنَبِيّ، قال: حدثنا مَرْوَانُ بنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ أَبِي زَكَرِيَّا، عَنْ عَمَّارِ بنِ أَبِي عَمَّارٍ، قَالَ: مَرَّ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بِمَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ تَيْمِ اللهِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ، فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: «أَمَا وَاللهِ لِغَيْرِ هَذَا خُلِقْتُمْ، أَمَا وَاللهِ لَوْلَا أَنْ تَكُونَ سُنَّةً لَضَرَبْتُ بِهَا وُجُوهَكُمْ».

فالظاهر أن عمار هذا كوفي أو بصري، وليس هو: عَمَّار بن أَبِي عَمَّارِ المَكِّيّ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، والله أعلم.

والخلاصة أن محمد بن أبي زكريا هذا ليس هو المصلوب، ولم يدلّسه مروان بن معاوية.

·       المثال السابع: محمد بن حسان:

قال أبو سمحة: "وهو الذي أخرج له أبو داود من رواية مروان عنه بسنده حديث أم عطية وكانَت امرأة تَخْتُنُ بالمدينةِ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تَنْهَكِي، فإنَّ ذلكَ أحْظَى لِلمرأةِ، وأحَبُّ إلى البَعْلِ).

أقوال العلماء فيه:

أولاً: التجهيل: وذهب إلى هذا المذهب أبو داود وابن عدي والذهبي في أحد أقواله وابن حجر، وإليكم تفصيل أقوالهم:

- قال أبو داود: (ومحمد بن حسان مجهولٌ).

- قال ابن عدي وقد أخرج له حديثين: (محمد بن حسان يروي عنه مروان الفزاري أحاديثه لا يوافق عليها)، وقال: (وهذان الحديثان لمحمد بن حسان هذا، وليس بمعروف، ومروان الفزاري يروي عن مشايخ غير معروفين، منهم هذا مُحمد بن حسان).

- قال الذهبي: (محمد بن حسان عن عبدالملك بن عمير، وعنه مروان بن معاوية: لا يعرف).

وقال: (محمد بن حسان شيخ لمروان بن معاوية، لا يدرى من هو، وقيل: هو المصلوب).

- قال ابن حجر: (محمد بن حسان شيخ لمروان بن معاوية مجهول، من السادسة، وقيل هو ابن سعيد المصلوب). وقال: (محمد بن حسان قيل هو ابن سعيد المصلوب شيخ لمروان بن معاوية عن عبدالملك بن عمير: مجهول). قلت: فنجد أنه اعتمده التجهيل.

ثانياً: أنه محمد بن سعيد المصلوب، وممن ذهب هذا المذهب:

- البخاري، قال الترمذي: (سمعت محمد بن إسماعيل يقول: محمد القرشي هو محمد بن سعيد الشامي، وهو ابن أبي قيس، وهو محمد بن حسان، وقد ترك حديثه).

- أبو زرعة، قال: (محمد بن حسان، ويقال: محمد بن أبي قيس، ويقال: محمد الأردني، والشامي، وهو من أهل الأردن متروك الحديث).

- أبو حاتم، قال: (إن محمدأ هذا صلب في الزندقة، والناس يموهون في الرواية عنه، فيقلبون اسمه حتى لا يفطن له، مروان بن معاوية يسميه: محمد بن أبي قيس، وعبدالسلام بن حرب يقول: محمد بن حسان، ومنهم من يقول: أبو عبدالله الشامي، ومنهم من يقول: أبو عبدالرحمن الأردني).

- الخطيب البغدادي، قال في ذكر محمد بن سعيد المصلوب: (وهو محمد بن حسان الذي روى عنه عبدالرحيم بن سليمان ومروان بن معاوية). قلت: وذكر حديث أم عطية من رواية مروان عنه.

- قول الذهبي الآخر: (محمد بن أبي زينب، ومحمد بن زكريا، ومحمد بن أبي الحسن، ومحمد بن حسان، قال العقيلي: الكل واحد وهو محمد بن سعيد المصلوب).

- العظيم أبادي في تعليقه على قول أبي داود ومن أيده: (خالفهم الحافظ عبدالغني بن سعيد فقال: هو محمد بن سعيد المصلوب على الزندقة أحد الضعفاء والمتروكين)" انتهى كلامه.

قلت:

وهذا المثال أيضًا خارج موضوع البحث!

أراد الباحث أن يُبين خطأ أبي داود وابن عدي ومن تبعهما في تجهيل "محمد بن حسان" الذي يروي عنه مروان، وأنه ليس بمجهول! وإنما هو: "محمد بن سعيد المصلوب" دلّسه مروان! فغاب ذلك عن هؤلاء الأئمة فجهّلوه، وغيرهم يقولون بأنه المصلوب!

وقد خلط الدكتور كعادته! ولم يأت بدليل على خطأ أبي داود وابن عدي ومن تبعهما في تجهيل محمد بن حسان!

والأقوال التي أتى بها عن الأئمة: البخاري، وأبي زرعة، وأبي حاتم، حجة عليه لا له!

فأين قال هؤلاء الأئمة أن الراوي "محمد بن حسان" الوارد في الحديث الذي رواه عنه مروان أنه محمد بن سعيد المصلوب؟

وأين إثبات أن مروان بن معاوية دلّسه؟

ألم ينقل لنا قول أبي حاتم: "إن محمدأ هذا صلب في الزندقة، والناس يموهون في الرواية عنه، فيقلبون اسمه حتى لا يفطن له، مروان بن معاوية يسميه: محمد بن أبي قيس، وعبدالسلام بن حرب يقول: محمد بن حسان، ومنهم من يقول: أبو عبدالله الشامي، ومنهم من يقول: أبو عبدالرحمن الأردني".

فهذا النص أمامه يقول فيه أبو حاتم أن مروان بن معاوية كان إذا دلّس محمد بن سعيد المصلوب قال: "محمد بن أبي قيس"، وهذه عادة مروان في تدليس الشيوخ فهو يكني والد الراوي دائماً، وهذه فائدة لا يعرفها الدكتور، فليلتقطها ويعض عليه بالنواجذ.

والذي كان يدلس المصلوب ويقول: "محمد بن حسان" هو: عبدالسلام بن حرب.

فنحن لا ننفي أن يكون محمد بن المصلوب هو محمد بن حسان، لكن هذا إذا جاء في رواية عبدالسلام بن حرب عنه، وحينها تصح الأقوال التي نقها عن البخاري، وأبي زرعة، وأبي حاتم، والعقيلي، وغيرهم.

لكن مروان بن معاوية لا يدلس المصلوب بقوله: "محمد بن حسان"، وإنما يدلسه بقوله: "محمد بن أبي قيس"، وعليه فلا يصح أن نقول بأن "محمد بن حسان" الوارد في حديث أبي داود هو: المصلوب!!

وما كان ذلك ليخفى على أبي داود، وابن عدي، فهو رجل مجهول. وهو كذلك كوفي كما صرّح بذلك بعض الرواة في إسناد حديث أبي داود، ولم يتنبه الدكتور لذلك.

قال أبو داود: حدَّثنا سليمانُ بنُ عبدِالرحمن الدمشقيُّ وعَبدُالوهاب بنُ عبدِالرحيم الأشجعيُّ، قالا: حدَّثنا مروانُ، قال: حدَّثنا محمدُ بنُ حسّانَ - قال عبدُالوهَّاب: الكوفيُّ- عن عبدِالملك بنِ عُمْير، عن أمِّ عطيةَ الأنصارية: أن امرأةَ كانَت تَخْتُنُ بالمدينةِ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تَنْهَكِي، فإنَّ ذلكَ أحْظَى لِلمرأةِ، وأحَبُّ إلى البَعْلِ».

قال أبو داود: "رُوِيَ، عن عُبيدالله بنِ عَمرو، عن عَبدِالملك، بمعناه وإسناده. وليس هو بالقوي، وقد رُوي مرسلاً".

قال أبو داود: "ومحمد بن حسان مجهولٌ، وهذا الحديثُ ضعيفٌ".

قلت: عبدالوهاب الأشجعي نسبه كوفياً = "محمد بن حسان الكوفي"، فهو من شيوخ مروان الكوفيين المجاهيل، والمصلوب شامي.

وقد تنبّه لهذا المزي فلما ذكر الحديث في «التحفة» (12/502) قال: "عن محمد بن حسان الكوفي".

وهذا الحديث حدّث به مروان في دمشق، وهو كوفي الأصل، وكان نزل دمشق وسكنها، فلو كان الحديث عند محمد بن سعيد المصلوب لعرفه أهل الشام، وهذا يعني أن راويه ليس شاميا وإنما كوفيا.

وقد رواه عن مروان: سليمانُ بنُ عبدِالرحمن الدمشقيُّ، وعَبدُالوهاب بنُ عبدِالرحيم الأشجعيُّ الدمشقي، كما عند أبي داود في «سننه». وهشام بن خالد الشاميّ، كما عند ابن عدي في «كامله» (9/273) (15301)، وهِشَامُ بنُ عَمَّارٍ الدمشقيّ، كما عند البيهقي في «السنن الكبرى» (8/561) (17559).

فالحديث رواه مروان عن محمد بن حسان الكوفي وهو رجل مجهول، وليس هو: محمد بن سعيد المصلوب، وقد وهم الخطيب في ذكر هذا الحديث في «موضحه» على أنه له!

وقد ترجم المزي في «تهذيب الكمال» (25/55) (5143) له، فقال: "مُحَمَّد بن حسان. رَوَى عَن: عَبدالمَلِك بن عُمَير، وعَمْرو بن دينار. رَوَى عَنه: مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ. روى له أَبُو داود حديثاً واحِدًا عَنْ عَبدالمَلِك، عَنْ أم عطية في الختان، وَقَال: هو مجهول، والحديث الذي رواه ضعيف. وَقَال غيره: هو مُحَمَّد بن سَعِيد بن حسان الشامي، فالله أعلم".

وقال ابن الملقن في «البدر المنير» (8/746) بعد أن ذكر الحديث، وكلام أبي داود فيه: "قلت: أما جَهَالَة مُحَمَّد بن حسان فَلَا نسلمها لَهُ؛ لِأَنَّهُ الشَّامي المصلوب فِي الزندقة التَّالِف، وَقد اسْتَفَدْت ذَلِك من كتاب «إِيضَاح الْإِشْكَال» لِلْحَافِظِ عبدالغَنِيّ حَيْثُ قَالَ: بَاب مُحَمَّد بن سعيد الشَّامي المصلوب فِي الزندقة، ثمَّ ذكر لَهُ حَدِيثاً، ثمَّ قَالَ: وَهُوَ مُحَمَّد بن أبي قيس، وَذكر لَهُ حَدِيثاً، ثمَّ قَالَ: وَهُوَ مُحَمَّد بن الطَّبَرِيّ، وَذكر لَهُ حَدِيثا ثمَّ قَالَ: وَهُوَ مُحَمَّد بن حسان وَرَوَى لَهُ هَذَا الحَدِيث وَذكر لَهُ حَدِيثا آخر، وَهَذَا نَفِيس يتَعَيَّن عَلَى طَالب الحَدِيث الْوُقُوف عَلَيْهِ، وَقد تبع أَبُو دَاوُد فِي ذَلِك ابن عدي فَقَالَ فِي «كَامِله»: مُحَمَّد بن حسان لَهُ أَحَادِيث لَا يُوَافق عَلَيْهَا، ثمَّ أورد هَذَا الحَدِيث، ثمَّ قَالَ: مُحَمَّد هَذَا لَيْسَ بِمَعْرُوف وَلَا يعرف إِلَّا من هَذَا الطَّرِيق قَالَ: وَلم أر لمُحَمد غير هَذَا الحَدِيث وَحَدِيث آخر، وَكَذَا الْبَيْهَقِيّ فِي الْمعرفَة فَقَالَ: رَوَاهُ أَيْضا مَرْوَان بْن مُحَمَّد عَن مُحَمَّد بن حسان، ثمَّ ادَّعَى جهالته وَقد عرفت عَيبه وَأَنه كَذَّاب وَضاع".

قلت: وهم عبدالغني بن سعيد في ذكر هذا الحديث في ترجمة المصلوب! فقد تبيّن لك أيها القارئ أن أبا داود أصاب في ذلك، وكذا ابن عدي، وأن مروان لم يدلسه، ولله الحمد.

·       المثال الثامن: أبو الحجاج المهري:

قال أبو سمحة: "جهلَه الزيلعي في تعليقه على حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا يملك العبد والمكاتب شيئاً إلَّا الطَّلَاقَ". قال: "أَخْرجه الدارقطُني في "سننه" عن بقية عن أبي الحجاج المهري، وبقية غالب شيوخه مجاهيل وهذا منهم". والصواب أن أبا الحجاج المهري إنما هو رشدين بن سعد، قال أبو يوسف الرقي مبيناً ذلك: "إذا سمعت بقية يقول: حدثنا أبو الحجاج المهري فاعلم أنه رشدين ابن سعد". ورشدين هذا ضعفه أبو حاتم والنسائي وابن حبان، قال أبو حاتم: لا يحتج به. وقال الزيلعي فيه: "أكثر الناس ضعفاً"، وهذا يدل على أنه لم يعرف أن أبا الحجاج هي كنية رشدين، وذلك بسبب تدليس بقية له".

قلت:

ذكر أبو سمحة هذا المثال في بحثه السابق الذي يتعلق بتدليس بقية بن الوليد في المطلب الخامس، وسبق الكلام عليه هناك.

وفي هذا المثال نعم جهله الزيلعي بسبب تكنية بقية له، لكن الأئمة يعرفون أن أبا الحجاج المهري الذي يروي عنه بقية هو: رِشدين بن سعد المصري الضعيف، وهذا مشهور عندهم، ولهذا لم يقعوا فيما وقع فيه الزيلعي.

قال ابن عدي في ترجمته من «الكامل» (4/68): "رشدين بْن سعد، وَهو ابن أبي رشدين، وأَبُو رشدين اسمه سعد، يُكَنَّى أبا الحجاج المِهْري مصري.

سمعت مُحَمد بْن سَعِيد الْحَرَّانِيُّ يَقُولُ: سَمعتُ هِلالَ بْنَ الْعَلاءِ يَقُولُ: سَمعتُ أَبَا يُوسُفَ الرقي يقول: إذا سمعت بقية يقول: حَدَّثَنا أبو الحجاج المهري فاعلم أنه يريد به رشدين بن سعد، وَإذا سمعته يقول: حَدَّثَنا أبو مسكين الرقي فاعلم أنه يريد به طلحة بْن زيد".

وقال ابن حجر في «تهذيب التهذيب» (12/68): "أبو الحجاج المهري هو: رشيدين بن سعد، كذا يقول بقية إذا روى عنه".

فالأئمة عرفوا تدليس بقية له بهذا فلم يقعوا في الخطأ، ووقع فيه الزيلعي، وغاب عنه ذلك، فكان ماذا؟

·       المثال التاسع: نافع بن أبي نافع:

نقل أبو سمحة كلام أهل العلم فيه واختلافهم، ثم رجّح أن نافع بن أبي نافع هذا هو نُفيع الأعمي الهالك، وقد دلّسه خالد بن طهمان!!

وقد ناقشت كل ما قاله في هذا المثال في مقالة خاصة في موقعي تحت عنوان:

"تدليس الشيوخ وأثره على الجهالة، ومناقشة د. عبدالسلام أبو سمحة فيما كتبه حول هذا الموضوع".

تحت هذا الرابط:

http://www.addyaiya.com/uin/arb/Viewdataitems.aspx?ProductId=464

وبينت فيها الخلط الذي حصل له، والأخطاء والأوهام كذلك.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

وكتب: د. خالد الحايك.

وكانت هذه المناقشة في أوقات مختلفة كان آخرها وبها انتهيت في الحادي عشر من شهر الله المحرّم 1442هـ.

شاركنا تعليقك