الموقع الرسمي للشيخ الدكتور خالد الحايك

«القولُ السَّمْح» في بيان نكارة قول عُمر للمَجْذُوم: «اجْلِسْ مِنِّي قِيدَ رُمْح»!

«القولُ السَّمْح» في بيان نكارة قول عُمر للمَجْذُوم: «اجْلِسْ مِنِّي قِيدَ رُمْح»!

 

سُئلت عن الأثر الذي رواه الطبري في «تهذيب الآثار» من طريق مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، قَالَ لِلْمُعَيْقِيبِ: «اجْلِسْ مِنِّي قِيدَ رُمْحٍ»، قَالَ: «وَكَانَ بِهِ ذَاكَ الدَّاءُ، وَكَانَ بَدْرِيًّا».

هل صح؟ لأنه انتشر بين الناس انتشار النار في الهشيم للدلالة على أن عمر بن الخطاب سبق المنظمات الطبية في التباعد الطبي لتفادي العدوى بين الناس! لأن الرمح = متر ونصف؟!

فأجبت:

من نقل هذا الأثر من كتاب الطبري كان ينبغي عليه أن يأتي بالحكم عليه أولاً، ثم الإتيان بالأثر الذي بعده وهو في الموضوع نفسه.

فقد ساق الطبري بعده بإسناده إلى ابْن أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ إِذَا أُتِيَ بِالطَّعَامِ وَعِنْدَهُ مُعَيْقِيبُ بْنُ أَبِي فَاطِمَةَ الدَّوْسِيُّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مَجْذُومًا، قَالَ لَهُ: يَا مُعَيْقِيبُ «كُلْ مِمَّا يَلِيكَ، فَايْمُ اللَّهِ، أَنْ لَوْ غَيْرُكَ بِهِ مَا بِكَ، مَا جَلَسَ مِنِّي عَلَى أَدْنَى مِنْ قِيد رُمْحٍ».

فمعيقيب رضي الله عنه كَانَ قد نزل به داء الجذام، وقيل: البرص، والأثر الثاني يناقض الأول، فعمر يقول له: "لو غيرك به ما بك ما جلس مني على أدنى من قيد رمح" = وهذا يعني أنه لم يبعده عنه مسافة قيد رمح!

على أن هذه الآثار قد ضعفها الحافظ ابن حجر في «الفتح» (10/159) فقال: "الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ فِي نَفْيِ الْعَدْوَى كَثِيرَةٌ شَهِيرَةٌ بِخِلَافِ الْأَخْبَارِ الْمُرَخِّصَةِ فِي ذَلِكَ، وَمِثْلُ حَدِيثِ: «لَا تديموا النّظر إِلَى المجذومين»، وَقد أخرجه ابن مَاجَهْ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَمِثْلُ حَدِيثِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رَفَعَهُ: «كَلِّمِ الْمَجْذُومَ وَبَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَيْدُ رُمْحَيْنِ»، أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ بِسَنَدٍ وَاهٍ، وَمِثْلُ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِمُعَيْقِيبٍ: اجْلِسْ مِنِّي قَيْدَ رُمْحٍ، وَمِنْ طَرِيقِ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ: كَانَ عُمَرُ يَقُولُ نَحْوَهُ، وَهُمَا أَثَرَانِ مُنْقَطِعَانِ".

قلت: الأول الذي اشتهر وانتشر هذه الأيام من مراسيل الزهري، ومراسيل الزهري واهية لا يُحتج بها.

والأثر الثاني منقطع كذلك، وهو يخالف الأثر الأول كما بينته.

على أن الأثر الثاني أقرب من ناحية الاحتجاج بالمراسيل التي في مثل هذه الأخبار؛ لأن مرسلها لم يتكلموا فيه، ولا في مراسيله، وأما الزهري - وهو وإن كان إماما حجة - إلا أن أهل العلم حذروا من مراسيله، فهي كالرياح.

والخبر الثاني يبين ضعف مراسيل الزهري حيث خالفه في القصة أصلاً مع اختصارها، وهذا الاختصار سبّب هذا الخلل فيها! فبانت نكارتها!!

والأثر الثاني رواه ابن سعد في «الطبقات» (4/88) قال: أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ: قَالَ أَبُو زِيَادٍ: حَدَّثَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ: «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ دَعَاهُمْ لِغَدَائِهِ فهابوا، وكان فيهم معيقيب، وكان به جُذَامٌ. فَأَكَلَ مُعَيْقِيبٌ مَعَهُمْ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: خُذْ مِمَّا يَلِيكَ وَمِنْ شِقِّكَ فَلَوْ كَانَ غَيْرُكَ مَا آكَلَنِي فِي صَحْفَةٍ وَلَكَانَ بَيْنِي وبينه قيد رمح».

وقول خارجة: "أن عمر دعاهم.." يقصد قوما من أصحاب عمر لا يقصد أنه كان هو معهم! فهو لم يدرك عمر أصلاً.

ثم روى ابن سعد قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ - هو: الواقدي- قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ: «أَنَّ عُمَرَ وُضِعَ لَهُ الْعَشَاءُ مَعَ النَّاسِ يَتَعَشَّوْنَ فَخَرَجَ، فَقَالَ لِمُعَيْقِيبِ بْنِ أَبِي فَاطِمَةَ الدَّوْسِيِّ - وَكَانَ لَهُ صُحْبَةٌ وَكَانَ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْحَبَشَةِ-: ادْنُ فَاجْلِسْ. وَايْمُ اللَّهِ لَوْ كَانَ غَيْرُكَ بِهِ الَّذِي بِكَ لَمَا أُجْلِسَ مِنِّي أَدْنَى مِنْ قِيدِ رُمْحٍ».

فعمر يقول له: "ادن فاجلس"، فأين أنه أجلسه على بعد متر أو مترين ونصف؟!!

وكان عمر - رضي الله عنه - اجتهد في البحث عن علاج لمعيقيب حتى عالجه بعض الناس بالحنظل، فتوقف المرض.

وقد أورد ابن بطّال هذين الأثرين عن الإمام الطبري في «شرحه للبخاري» (9/411) ثم نقل قول الطبري: "والصواب عندنا ما صحّ به الخبر عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «لا عدوى»، وأنه لا يصيب نفسًا إلا ما كتب عليها، فأما دنو عليل من صحيح، فإنه غير موجب للصحيح علّة وسقمًا غير أنه لا ينبغي لذي صحة الدنو من الجذام والعاهة التي يكرها الناس لا أن ذلك حرام، ولكن حذار من أن يظن الصحيح إن نزل ذلك الداء يومًا أن ما أصابه لدنوه منه، فيوجب له ذلك الدخول فيما نهى عنه عليه الصلاة والسلام وأبطله من أمر الجاهلية في العدوى".

وكلام الطبري في كتابه «تهذيب الآثار - مسند علي» (3/33).

بل قد روى ابن سعد والطبري ما يدلّ على أن عمرَ - رضي الله عنه - كان يشرب من مكان الإناء الذي يشرب منه معيقيب لنفي العدوى من الجذام التي يعتقدها بعض الناس!

فرويا عن مُحَمَّد بن إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ: أَمَّرَنِي يَحْيَى بْنُ الْحَكَمِ عَلَى جُرَشٍ فَقَدِمْتُهَا فحدثوني أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ حَدَّثَهُمْ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: لِصَاحِبِ هَذَا الْوَجَعِ الْجُذَامِ اتَّقُوهُ كَمَا يُتَّقَى السَّبْعُ. إِذَا هَبَطَ وَادِيًا فَاهْبِطُوا غَيْرَهُ. فَقُلْتُ لَهُمْ: وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ ابْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَكُمْ هَذَا مَا كَذَبَكُمْ. فَلَمَّا عَزَلَنِي عَنْ جُرَشٍ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَلَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ فَقُلْتُ: يَا أَبَا جَعْفَرٍ مَا حَدِيثٌ حَدَّثَنِي بِهِ عَنْكَ أَهْلُ جُرَشٍ؟ قَالَ فَقَالَ: كَذَبُوا وَاللَّهِ مَا حَدَّثَتْهُمْ هَذَا!! وَلَقَدْ رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يُؤْتَى بِالإِنَاءِ فِيهِ الْمَاءُ فَيُعْطِيهِ مُعَيْقِيبًا وَكَانَ رَجُلا قَدْ أَسْرَعَ فِيهِ ذَلِكَ الْوَجَعُ فَيَشْرَبُ مِنْهُ ثُمَّ يَتَنَاوَلُهُ عُمَرُ مِنْ يَدِهِ فَيَضَعُ فَمَهُ مَوْضِعَ فَمِهِ حَتَّى يَشْرَبَ مِنْهُ. فَعَرَفْتُ أَنَّمَا يَصْنَعُ عُمَرُ ذَلِكَ فِرَارًا مِنْ أَنْ يَدْخُلَهُ شَيْءٌ مِنَ الْعَدَوَى.

وهذا إسناد جيد مقبول مما يُقبل من أخبار السيرة التي يرويها ابن إسحاق - رحمه الله-.

وقد اختلف الناس في مقدار «قيد الرمح»، فقال الدكتور الزحيلي في كتابه «الفقه الإسلامي وأدلته» (1/676): "وطول الرمح:2.5م أو سبعة أذرع في رأي العين تقريباً، وقال المالكية: اثنا عشر شبراً".

فهل التباعد الطبي أو الصحي متر ونصف أم (2.5) أم أربعة أمتار عند من يقول إن الذراع 60سم؟!

وكتب: د. خالد الحايك.

شاركنا تعليقك