الموقع الرسمي للشيخ الدكتور خالد الحايك

بحثٌ في سماعُ أبي عُبيدة بن عبدالله بن مسعود من أبيه! والحكم على أحاديثه بين المتقدمين والمتأخرين!

بحثٌ في سماعُ أبي عُبيدة بن عبدالله بن مسعود من أبيه! والحكم على أحاديثه بين المتقدمين والمتأخرين.

 

بقلم: خالد الحايك.

 

روى أبو عُبيدة بن عبدالله بن مسعود أحاديث كثيرة عن أبيه، وقال أئمة النقد أنه لم يسمع من أبيه شيئاً!

ومع اتفاق أهل العلم على ذلك إلا ما شذ، فإنه حصل خلاف بين الأئمة المتقدمين والمتأخرين في الحكم على أحاديث أبي عبيدة عن أبيه! فالمتقدمون قبلوا رواياته عن أبيه؛ لأنه يعرف أحاديثه. والمتأخرون أعلّوها بالانقطاع، وهذه مسألة مهمة في التباين بين منهج المتقدمين والمتأخرين!

 

· أولاد عبدالله بن مسعود:

قال الإمام أحمد في ((الأسامي والكنى)) (ص105): "ولد عبدالله بن مسعود: أبو عبيدة بن عبدالله، وعبدالرحمن بن عبدالله، وعبيدالله بن عبدالله".

· تحريف لم يتنبه له يوسف الجديع:

قلت: كذا في مطبوع الأسامي والكنى: "عبيدالله بن عبدالله"! قال المحقق يوسف الجديع: "لم أجده في الرواة"!

قلت: تحرّف في الأصل، والصواب: "عتبة بن عبدالله". قال عبدالله بن أحمد في ((العلل ومعرفة الرجال)) (1/134): سمعت أبي يقول: "هؤلاء ولد عبدالله بن مسعود: أبو عبيدة، وعبدالرحمن بن عبدالله، وعتبة بن عبدالله".

وقال النووي في ((تهذيب الأسماء)) (1/271): "كان لابن مسعود ثلاثة بنين: عبدالرحمن وبه كان يكنى، وعتبة، وأبو عبيدة، واسم أبي عبيدة: عامر، وقيل اسمه كنيته".

· اسم أبي عبيدة بن عبدالله بن مسعود:

أكثر أهل العلم على أن أبا عبيدة لا اسم له، بل كنيته اسمه. قال الترمذي في ((العلل الكبير)) (طبعة صبحي السامرائي) (ص101) (كتاب الزكاة، باب ما جاء في زكاة البقر): حدثنا محمد بن عبيد المحاربي وأبو سعيد الأشج، قالا: حدثنا عبدالسلام بن حرب، عن خصيف، عن أبي عبيدة، عن عبدالله عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: ((في ثلاثين من البقر تبيع، وفي أربعين مسنة)).

قال الترمذي: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث؟ فقال: "رواه شريك عن خصيف عن أبي عبيدة عن أمه عن عبدالله". قال: قلت له أبو عبيدة، ما اسمه؟ فلم يعرف اسمه. وقال: "هو كثير الغلط".

قلت: ونقل هذا الكلام الحافظ ابن حجر في ((تهذيب التهذيب)) (5/65) في ترجمة أبي عبيدة بن عبدالله، فقال: "وقال الترمذي في العلل الكبير: قلت لمحمد: أبو عبيدة، ما اسمه؟ فلم يعرف اسمه. وقال: هو كثير الغلط".

· تعقب د. بشار معروف لابن حجر، وهو تعقب صحيح:

وقد تعقبه الدكتور بشار معروف محقق تهذيب الكمال (14/63) (حاشية) فقال: "قلت: كذا قال، وهو وهم من الحافظ ابن حجر في فهم النص. فقول البخاري ((هو كثير الغلط)) إنما يعود على شريك بن عبدالله النخعي، وأصل هذا الكلام في العلل الكبير للترمذي: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث؟ فقال: رواه شريك، عن خُصيف عن أبي عبيدة [تحرفت في المطبوع: عن خصيف بن أبي عبيدة، وهو خطأ]، عن أمه، عن عبدالله. قلت له: أبو عبيدة ما اسمه؟ فلم يعرف اسمه، وقال: هو كثير الغلط. ومما يقوي ما ذهبنا إليه أن عبارة ((كثير الغلط)) قالها الترمذي في شريك في مكان آخر من كتابه عند كلامه على حديث وائل بن حجر في وضع الركبتين قبل اليدين في السجود. كما نبّه غير واحد من أئمة الجرح والتعديل إلى كثرة أغاليط شريك كما في ترجمته، فضلاً عن أن أبا عبيدة هذا لم ينسبه أحد إلى الغلط، والله أعلم". انتهى كلام الدكتور بشار.

قلت: ما قاله الدكتور صحيح، ووهم ابن حجر في هذا؛ وكأن هذا حصل له لاختصاره للكلام؛ فهو يريد أن ينقل كلام البخاري فيما يتعلق بأبي عبيدة، فنقله بسرعة ونقل معه العبارة الأخيرة التي قالها البخاري في شريك كما حققه الدكتور بشار.

· تحريف وخطأ لحمزة ديب مصطفى:

ومما يتعلق بهذا أيضاً أنه جاء في طبعة حمزة ديب مصطفى لعلل الترمذي (1/310) تحريف وخطأ في تعليق المحقق! جاء فيه: "فقال: رواه شريك عن خصيف عن أبي عبيدة عن أبيه عن عبدالله"! وأشار المحقق في الهامش إلى أنه وقع في رواية البيهقي: "عن أمه" بدل أبيه. قال المحقق: "قلت: سواء كانت أباه أم أمه كله سواء، وهي زيادة لا تصح، والمحفوظ رواية عبدالسلام بن حرب. فأين شريك من عبدالسلام بن حرب. أيضاً رواية عبدالسلام بن حرب منقطعة؛ لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه".

قلت: لا، ليس كلّه سواء كما تزعم أيها المحقق! فالبخاري أراد أن يبين أن شريكاً زاد في الإسناد: "عن أمه"، فكيف يروي أبو عبيدة عن أبيه عن عبدالله؟ وأبوه هو عبدالله؟!

قال عبدالرحمن ابن أبي حاتم في ((الجرح والتعديل)) (9/403): سئل أبو زرعة عن اسم أبي عبيدة؟ فقال: "اسمه وكنيته واحد". قال عبدالرحمن: سمعت أبي يقول: "أبو عبيدة ابن عبدالله بن مسعود لا يسمى".

قلت: سمّاه الإمام مسلم وأبو أحمد الحاكم والدارقطني باسم ((عامر)). قال الإمام مسلم في ((الكنى والأسماء)) (1/588): "أبو عبيدة عامر بن عبدالله بن مسعود عن أبيه. روى عنه أبو إسحاق وعمرو بن مرة".

وقال الدارقطني في ((ذكر أسماء التابعين ومن بعدهم)) (2/185): "عامر أبو عبيدة ابن عبدالله بن مسعود عن أبي موسى".

وقال الذهبي في ((المقتنى في سرد الكنى)) (1/382): "عامر بن عبدالله بن مسعود الهذلي. وقيل اسمه كنيته".

قلت: وأصل كتاب الذهبي هو كتاب أبي أحمد الحاكم في الكنى.

وذكره المزي في ((تهذيب الكمال)) (14/61) في باب ((عامر)). وتبعه على ذلك الذهبي وابن حجر وغيرهما.

وقال ابن حجر في ((التقريب)) (ص656): "أبو عبيدة بن عبدالله بن مسعود: مشهورٌ بكنيته، والأشهر أنه لا اسم له غيرها. ويقال: اسمه عامر. كوفيّ ثقة من كبار الثالثة. والراجح أنه لا يصح سماعه من أبيه. مات بعد سنة ثمانين".

قلت: لا أعلم أحداً سماه عامراً قبل الإمام مسلم! ولم أقف على تسمينه في أي رواية! وأميل إلى أن اسمه وكنيته واحد، والله أعلم.

· نفي سماع أبي عبيدة من أبيه:

قال عباس الدوري في زياداته على تاريخ ابن معين (3/354): حدثنا قراد أبو نوح، قال: حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سألت أبا عبيدة، تحفظ عن أبيك شيئاً؟ قال: "لا".

ورواه ابن أبي حاتم في ((المراسيل)) (طبعة شكر الله قوجاني) (ص256) عن علي بن الحسن الهسنجاني، عن أحمد بن حنبل، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، مثله.

وقال ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (6/210): "أبو عبيدة بن عبدالله بن مسعود الهذلي: روى عن أبيه رواية كثيرة. وذكروا أنه لم يسمع منه شيئاً، وقد سمع من أبي موسى وسعيد بن زيد الأنصاري، وكان ثقة كثير الحديث. أخبرنا أبو داود سليمان الطيالسي قال: أخبرنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: قلت لأبي عبيدة: أتذكر من عبدالله شيئاً؟ فقال: لا".

قلت: ورواه وكيع أيضاً عن شعبة، وهو إسنادٌ صحيح، وعليه اعتمد أئمة النقد في نفي سماع أبي عبيدة من أبيه؛ فهو نفسه نفى ذلك.

وقال يعقوب بن سفيان في ((المعرفة والتاريخ)) (2/320): حدثني محمد بن فضيل، قال: حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سألت أبا عبيدة، هل رأيت أباك؟ قال: "لا".

· مخالفة محمد بن فضيل للجماعة:

قلت: خالف محمد بن فضيل جماعة في هذا (قراد وغندر والطيالسي ووكيع) في سؤال عمرو لأبي عبيدة! فظاهر ما رواه الجماعة أن السؤال ليس في رؤيته لأبيه، وإنما هل حفظ منه شيئاً! ورواية فضيل في رؤينه! ورواية الجماعة أولى.

وقال يحيى بن معين في ((تاريخه)) (رواية الدوري) (3/354): "عبدالرحمن بن عبدالله ابن مسعود وأبو عبيدة بن عبدالله لم يسمعا من أبيهما".

وقال إبراهيم بن الجنيد: قال رجل ليحيى بن معين -وأنا أسمع-: أبو عبيدة بن عبدالله سمع من أبيه شيئاً؟ قال يحيى: "قالوا: لا، ولا عبدالرحمن بن عبدالله". (تاريخ دمشق: 35/70).

وقال النسائي في ((السنن الكبرى)) (1/311): "أبو عبيدة لم يسمع من أبيه".

وقال ابن حبان في ((الثقات)) (5/561): "أبو عبيدة بن عبدالله بن مسعود: يروي عن أبيه، ولم يسمع منه شيئاً. روى عنه أهل الكوفة".

· ما جاء في أنّ أبا عبيدة سمع من أبيه عبدالله بن مسعود:

1- قال ابن أبي حاتم في ((المراسيل)) (ص196): قال أبي: "أبو عبيدة بن عبدالله بن مسعود لم يسمع من عبدالله بن مسعود".

وقال ابن أبي حاتم في ((المراسيل)) (ص256) (طبعة شكر الله): سألت أبي عن أبي عبيدة بن عبدالله بن مسعود، هل سمع من أبيه عبدالله؟ قال: فقال أبي: "لم يسمع". قلت: فإنّ عبدالواحد بن زياد روى عن أبي مالك الأشجعي عن عبدالله بن أبي هند عن أبي عبيدة قال: خرجت مع أبي لصلاة الصبح؟ قال أبي: "ما أدري ما هذا؟! [وما أدري] عبدالله بن أبي هند من هو؟". (نقله ابن حجر في تهذيب التهذيب: 5/65 من المراسيل. ولا يوجد في طبعة المراسيل لأحمد عصام الكتاب!).

قلت: قال ابن أبي حاتم في ((الجرح والتعديل)) (5/196): "عبدالله بن أبي هند أخو نعيم بن أبي هند. روى عن أبي عبيدة بن عبدالله بن مسعود. روى عنه أبو مالك الأشجعي. سمعت أبي يقول ذلك".

قلت: لم أجد أحداً ذكر أن عبدالله هذا هو أخو نعيم إلا أبا حاتم! وقد ترجم ابن أبي حاتم لنعيم في ((الجرح والتعديل)) (8/460) وساق ترجمته عن أبيه، ولم يذكر أنه أخو عبدالله! فالله أعلم.

ونعيم بن أبي هند اسمه: النعمان بن أشيم الأشجعي الكوفي، وأبوه له صحبة، وهو ابن عمّ أبي مالك الأشجعي سعد بن طارق بن أشيم.

قال الإمام البخاري في ((التاريخ الكبير)) (5/223)، وفي ((التاريخ الصغير)) (ص68): "عبدالله بن أبي هند عن أبي عبيدة. روى عنه أبو مالك الأشجعي. لا يصح حديثه".

· وهم لابن حبان:

وقال ابن حبان في ((الثقات)) (5/54): "عبدالله بن أبي هند: يروي عن أبي عبيدة ابن الجراح. روى عنه أبو مالك الأشجعي".

قلت: وهم ابن حبان في هذا! فإن أبا عبيدة هذا ليس بابن الجراح الصحابي! وإنما هو ابن عبدالله بن مسعود. ولهذا تعقبه ابن حجر في ((اللسان)) (3/374) فقال: "وذكره بن حبان في الثقات، وقال: يروي عن أبي عبيدة بن الجراح. قلت: ذا قديم".

وقال الذهبي في ((الميزان)) (4/219): "عبدالله بن أبي هند عن أبي عبيدة. روى عنه أبو مالك الأشجعي. قال البخاري في حديثه: منكر. وقال مرة: لا يصح حديثه".

2- قال يعقوب بن سفيان في ((المعرفة والتاريخ)) (2/89): قال عليّ بن المديني: قال أبو قتيبة، قلت لشعبة: إنّ البري يقول: حدثنا أبو إسحاق قال: سمعت أبا عبيدة: سمعت عبدالله؟ قال: "أوه كان ابن ست سنين".

ورواه ابن أبي حاتم في ((المراسيل)) (طبعة شكر الله: ص256، وطبعة الكاتب: ص196)، وفي ((الجرح والتعديل)) (1/147) عن صالح بن أحمد بن حنبل، قال: حدثنا علي بن المديني، قال: سمعت سلم بن قتيبة، قال: قلت لشعبة: إن البري يحدثنا عن أبي إسحق أنه سمع أبا عبيدة يحدّث أنه سمع ابن مسعود؟ قال: "أوه! كان أبو عبيدة ابن سبع سنين"، وجعل يضرب جبهته.

وروى هذه القصة ابن عدي في ((الكامل في ضعفاء الرجال)) (5/156) عن ابن حماد عن صالح، في ترجمة ((عثمان بن مقسم البري)). والعقيلي في ((الضعفاء)) (3/219) ((ترجمة عثمان البري)) عن أحمد بن علي عن يعقوب بن إبراهيم بن جبير الواسطي، قال: حدثنا أبو قتيبة قال: قلت لشعبة.

ونقلها ابن حجر في ((تهذيب التهذيب)) (5/65) ثُمَّ قال: "هذا الاستدلال بكونه ابن سبع سنين على أنه لم يسمع من أبيه ليس بقائم! ولكن راوي الحديث عثمان ضعيف، والله أعلم".

ونقل المزي في ((تهذيب الكمال)) (14/62) عن أبي داود أنه قال في حديث ذكره: "كان أبو عبيدة يوم مات أبوه ابن سبع سنين". وقال الكلاباذي في ((رجال صحيح البخاري)) (2/832): "ذكر أبو داود حديثاً فيه: أن شعبة قال: كان أبو عبيدة يوم مات أبوه ابن سبع سنين".

وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (1/257) معلقاً على رواية أبي إسحاق السبيعي: ليس أبو عبيدة ذكره، في الستنجاء بالحجارة: "وإنما عدل أبو إسحاق عن الرواية عن أبي عبيدة إلى الرواية عن عبدالرحمن مع أن رواية أبي عبيدة أعلى له لكون أبي عبيدة لم يسمع من أبيه على الصحيح، فتكون منقطعه، بخلاف رواية عبدالرحمن فإنها موصولة، ورواية أبي إسحاق لهذا الحديث عن أبي عبيدة عن أبيه عبدالله بن مسعود عند الترمذي وغيره من طريق إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق، فمراد أبي إسحاق هنا بقوله: ليس أبو عبيدة ذكره، أي لست أرويه الآن عن أبي عبيدة، وإنما أرويه عن عبدالرحمن".

· تعريض العيني بابن حجر:

وقد عرّض العيني بابن حجر، وتعقبه في ((عمدة القاري)) (2/302) فقال: "وقال بعضهم..."، فذكر كلام ابن حجر، ثُمّ قال: "وأما قول هذا القائل لكون أبي عبيدة لم يسمع من أبيه فمردودٌ بما ذكر في ((المعجم الأوسط)) للطبراني من حديث زياد بن سعد عن أبي الزبير قال: حدثني يونس بن خباب الكوفي: سمعت أبا عبيدة بن عبدالله يذكر أنه سمع أباه، يقول: كنت مع النبيّ عليه الصلاة والسلام في سفر، الحديث. وبما أخرج الحاكم في ((مستدركه)) حديث أبي إسحق عن أبي عبيدة عن أبيه في ذكر يوسف عليه السلام، وصحح إسناده. وربما حسّن الترمذي عدة أحاديث رواها عن أبيه منها: لما كان يوم بدر وجيء بالأسرى، ومنها: كان في الركعتين الأوليين كأنه على الرصف، ومنها: قوله {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله}، ومن شرط الحديث الحسن أن يكون متصل الإسناد عند المحدثين".

ثُمّ قال: "وقد أجبنا عن قول من يقول أبو عبيدة لم يسمع من أبيه، وكيف ما سمع، وقد كان عمره سبع سنين حين مات أبوه عبدالله! قاله غير واحد من أهل النقل، وابن سبع سنين لا ينكر سماعه من الغرباء عند المحدثين، فكيف من الآباء القاطنين".

وقال في (6/256): "وقال أبو داود: كان أبو عبيدة يوم مات أبوه ابن سبع سنين، مميزاً. وابن سبع سنين يحتمل السماع والحفظ، ولهذا يؤمر الصبي ابن سبع سنين بالصلاة تخلقاً وتأدباً".

وقد تعقّب العيني: المباركفوري في ((تحفة الأحوذي)) (1/73) فقال: "قلت: لا بدّ للعيني أن يثبت أولاً صحة رواية المعجم الأوسط، ثم بعد ذلك يستدل بها على صحة سماع أبي عبيدة، ودونه خرط القتاد. وأما استدلاله على سماعه من أبيه بما أخرجه الحاكم وتصحيحه فعجيب جداً!! فإن تساهله مشهورٌ. وقد ثبت بسند صحيح عن أبي عبيدة نفسه عدم سماعه من أبيه كما عرفت. وأما استدلاله على ذلك بما حسن الترمذي عدة أحاديث رواها عن أبيه فمبني على أنه لم يقف على أن الترمذي قد يحسن الحديث مع الاعتراف بانقطاعه".

قلت:

1- أما استدلاله بحديث الطبراني فلا يصح! والحديث رواه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (9/80) عن مفضل بن محمد الجندي، قال: حدثنا علي بن زياد اللحجي، قال: حدثنا أبو قرة موسى بن طارق، قال: ذكر زمعة، عن زياد بن سعد، عن أبي الزبير، قال: حدثني يونس بن خباب الكوفي، قال: سمعت أبا عبيدة بن عبدالله بن مسعود يذكر أنه سمع عبدالله بن مسعود يقول: إنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر إلى مكة، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج إلى الغائط أبعد حتى لا يراه أحد. قال: فبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بشجرتين متباعدتين، فقال: يا ابن مسعود اذهب إلى هاتين الشجرتين، فقل لهما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركما أن تجتمعا له ليتوارى بكما، فمشت إحداهما إلى الأخرى فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته، ثم رجعتا إلى مكانهما، فمضى حتى أتينا أزقة المدينة فجاء بعير يشتد حتى سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قام بين يديه تذرف عيناه، فذكر الحديث بطوله.

قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن زياد بن سعد إلا زمعة. تفرد به أبو قرة".

· السماع الخطأ!

قلت: المسألة ليست في إثبات صحة الحديث كما ذكر المباركفوري! بل إن صيغة السماع خطأ في إسناد الطبراني. والحديث رواه أبو حيان في ((أحاديث أبي الزبير)) ولم يذكر فيه السماع. رواه في (ص128) عن محمد بن صالح الطبري، قال: حدثنا أبو حمة، قال: حدثنا أبو قرة موسى ابن طارق قال: ذكر زمعة بن صالح، عن زياد بن سعد، عن أبي الزبير، عن يونس بن خباب الكوفي: أنه سمع أبا عبيدة بن عبدالله بن مسعود يحدِّث عن عبدالله بن مسعود في حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في سفر إلى مكة، فذكر الحديث.

2- وأما استدلاله بتصحيح الحاكم لحديث أبي عبيدة عن أبيه ففيه نظر! والحاكم –بالإضافة إلى تساهله- مترددٌ في سماع أبي عبيدة من أبيه! فإنه أخرج له حديثاً في ((المستدرك)) (1/681) ثُمّ قال: "هذا إسنادٌ صحيحٌ إن كان أبو عبيدة بن عبدالله بن مسعود سمع من أبيه! ولم يخرجاه".

3- وأما استدلاله بتحسين الترمذي لروايته عن أبيه، فلا يعني أنه يثبت سماعه منه! كيف، والترمذي يقول بعد كلّ حديث يرويه لأبي عبيدة عن أبيه: "وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه".

فتحسين الترمذي لحديثه عن أبيه لا يتعلق بمسألة السماع، وإنما يتعلق بمنهج المتقدمين في التعامل مع أمثال أبي عبيدة وحديثه، وسيأتي الكلام على هذا إن شاء الله.

4- وأما استدلاله بقولهم إن عمره كان سبع سنين عندما توفي أبوه، ولا ينكر لمثله السماع من أبيه، ففيه نظرٌ شديد! لأنه ليس بلازم أن يكون عمره سبع سنين ويسمع من أبيه في تلك السنّ! وهو نفسه قد سئل إذا كان يتذكر شيئاً من أبيه، فنفى ذلك. فكيف نثبت له سماعه من أبيه وهو ينفيه؟!

ثُمّ إن بعض أهل النقد قالوا عن أخيه عبدالرحمن بأن أباه عندما توفي كان عمره ست أو سبع سنين، وعبدالرحمن أكبر من أبي عبيدة، فيحتمل أنه حصل خلط لبعض أهل العلم بينهما، والراجح أن الذي كان عمره سبع سنين حينما توفي ابن مسعود هو ابنه الأكبر عبدالرحمن. فيكون سنّ أبي عبيدة أصغر من ذلك، ولهذا لم يذكر شيئاً عن أبيه عندما سئل عن ذلك.

· تعقّب الزيلعي لشيخه علاء الدين في قوله: إنّ أبا عبيدة لم يدرك أباه!

نقل الزيلعي في ((نصب الراية)) (2/164) حديثاً لأبي عبيدة عن أبيه، ثم نقل كلام الترمذي فيه: "حديثٌ ليس بإسناده بأس، إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه".

قال الزيلعي: "ووهم شيخنا علاء الدين مقلداً لغيره! فينقل كلام الترمذي إلا أن أبا عبيدة لم يدرك أباه! والترمذي لم يقل ذلك في جميع كتابه، وإنما قال: لم يسمع منه. ذكره في خمس مواضع من كتابه: أولها في الطهارة في باب الاستنجاء، وثانيها في الصلاة في باب الرجل تفوته الصلوات بأيتهن يبدأ، ثم في باب ما جاء في مقدار القعود في الركعتين الأوليين، ثم في الزكاة في باب ما جاء في زكاة البقر، ثم في التفسير في سورة الأنفال ولفظه في الجميع: "وأبو عبيدة لم يسمع من عبدالله". وقد ذكر في باب الاستنجاء بحجرين وفي باب زكاة البقر سنده عمرو بن مرة قال: سألت أبا عبيدة هل تذكر من عبدالله شيئاً. انتهى. وهذا دليلٌ على أنه أدركه على صغر، وكذلك قال النسائي في ((سننه الكبرى)) في باب صف القدمين: وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه. انتهى. ولم أجد فيما رأيته من كلام العلماء من قال: إنه لم يدرك أباه. فقال أبو داود: توفي عبدالله بن مسعود ولولده أبي عبيدة سبع سنين. وقال يحيى القطان: توفي عبدالله بن مسعود ولولده عبدالرحمن ست سنين. وسئل أحمد عن عبدالرحمن؟ فقال: أما الثوري وشريك فإنهما يقولان: إنه سمع من أبيه. وقال ابن المديني: لقي أباه. واختلف قول بن معين، فقال مرة: إنهما لم يسمعا من أبيهما. وروي عن معاوية بن صالح: أن عبدالرحمن سمع من أبيه ومن علي. وجزم ابن عساكر في ((الأطراف)) بسماع عبدالرحمن دون أبي عبيدة. وأبو عبيدة اسمه عامر، والله أعلم. ثُمّ وجدت الشيخ محي الدين في ((الخلاصة)) قال في هذا الحديث بعينه: إنه منقطع؛ فإن أبا عبيدة لم يدرك أباه. انتهى. وقال في باب إخفاء التشهد: أبا عبيدة لم يسمع أباه ولم يدركه باتفاقهم، وقيل: ولد بعد موته. وقال في باب الوتر: أبا عبيدة لم يدرك أباه، وكذلك قال في باب سجود السهو، وكذلك في باب صلاة الخوف، وكذلك في باب الجنائز". انتهى كلامه.

قلت: بل أدرك أبو عبيدة أباه، ومما يدل على ذلك أنه عندما سئل إذا كان يذكر شيئاً عن أبيه، أي مما سمعه منه، فأجاب بالنفي، فلو أنه لم يدركه، لقال ذلك، وإنما نفى أن يكون متذكراً لشيء سمعه من أبيه. وأكثر أهل العلم مختلفون في سماعه من أبيه، والأكثر على أنه لم يسمع منه، وثبت له لقاؤه وسماع كلامه.

وكأن بعض المتأخرين يتساهلون في إطلاق العبارات، فيطلقون عدم الإدراك على عدم السماع.

ثُمّ وجدت عند ابن عساكر في ((تاريخه)) (35/67) بإسناده إلى محمد بن أحمد بن البراء، قال: قال علي بن المديني: "عبدالرحمن بن عبدالله: سمع من أبيه. وكان شعبة يقول: لم يسمع من أبيه. وهو عندي قد أدركه". قلت: فأبو عبيدة؟ قال: "لا، لم يدركه".

قلت: نفى عليّ بن المديني أن يكون أبا عبيدة أدرك أباه؛ وكأنه قصد هنا أنه لم يسمع منه. والعلماء على أنه أدركه، ومات أبوه وهو صغير، والله أعلم.

3- قال الإمام البخاري في ((الكنى)) (ص51): "أبو عبيدة بن عبدالله بن مسعود الهذلي. قال عثمان بن محمد: حدّثنا جرير، عن الأعمش، عن تميم بن سلمة: ((كان أبو عبيدة أشبه صلاة بعبدالله، فرأيته يصلي وما يحرك شيئاً وما يطرف)). قال مسلم: حدثنا أبان، عن قتادة، عن أبي عبيدة أنه فيما سأل أباه عن بيض الحمام؟ فقال: صوم يوم".

قلت: أتى الإمام البخاري –رحمه الله- في ترجمة أبي عبيدة بأشياء لا يتنبه لها إلا عبقريّ مثله. فساق أولاً خبر تميم بن سلمة ليثبت أن أبا عبيدة أدرك أباه وتعلّم منه الصلاة. ثُم أتى بفتوى عن أبيه فيما يتعلق بما يصيبه المحْرِم من الصيد.

· تنبيهان مهمان:

وجاء في المطبوع: "فيما سأل" وهذا يعني أن السائل هو أبا عبيدة، وليس كذلك، وكأنه تحرّف، والصواب: "فيما سُئِل". وقد يكون ما جاء في الأصل هكذا "فيما سأل"، فأراد البخاري أن ينبه على خطأ ذلك، والله أعلم.

وكذلك جاء السؤال عن بيض الحمام، والصواب: بيض النّعام.

ذكر ابن حزم في ((المحلى)) (7/234) من طريق وكيع، عن خصيف، عن أبي عبيدة ابن عبدالله بن مسعود، عن أبيه قال في بيض النعام: ((قيمته أو ثمنه)).

قال ابن حزم: "وهو قول إبراهيم النخعي، والشعبي، والزهري، والشافعي".

وذكر أيضاً في ((المحلى)) (7/235) قال: "في بيضة النعامة صوم يوم أو إطعام مسكين. فيه خبرٌ مسندٌ. وهو قول أبي موسى الأشعري وابن مسعود وابنيه أبي عبيدة وعبدالرحمن وابن سيرين".

وذكر ابن حزم أقوال أهل العلم في بيض الحمام، ولم يذكر فيه شيئاً عن أبي عبيدة ولا عن أبيه.

· قبول الأئمة المتقدمين لأحاديث أبي عبيدة عن أبيه:

قال ابن المديني في حديث يرويه أبو عبيدة بن عبدالله بن مسعود عن أبيه: "هو منقطعٌ، وهو حديثٌ ثبتٌ".

وقال يعقوب بن شيبة: "إنما استجاز أصحابنا أن يدخلوا حديث أبي عبيدة عن أبيه في المسند - يعني في الحديث المتصل - لمعرفة أبي عبيدة بحديث أبيه وصحتها، وأنه لم يأت فيها بحديثٍ منكرٍ". (شرح علل الترمذي لابن رجب: 1/544).

قلت: حديث أبي عبيدة عن أبيه صحيح إذا صحّ الإسناد إليه؛ لأن أبا عبيدة إنما أخذ علم أبيه من أصحاب أبيه.

روى ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (23/167) من طريق أبي معمر، عن أبي أسامة، عن مِسْعَر، عن عمرو بن مرة، قال: قلت لأبي عبيدة، مَنْ أعلم أهل الكوفة بحديث عبدالله؟ قال: "أبو وائل".

وقد روى غُندر عن شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: قلت لأبي عبيدة، أكان عبدالله ابن مسعود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجنّ؟ فقال: "لا".

قال الطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (1/95): "فلما انتفى عند أبي عبيدة أن أباه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلتئذ، وهذا أمرٌ لا يخفي مثله على مِثْلِه بَطل بذلك ما رواه غيره مما يخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ليلتئذ إذ كان معه. فإن قال قائلٌ: الآثار الأولى أولى من هذا؛ لأنها متصلة، وهذا منقطعٌ؛ لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه شيئاً؟ قيل له: ليس من هذه الجهة احتججنا بكلام أبي عبيدة، إنما احتججنا به؛ لأن مثله على تقدمه في العلم، وموضعه من عبدالله وخلطته لخاصته من بعده، لا يخفى عليه مثل هذا من أموره، فجعلنا قوله ذلك حجة فيما ذكرناه، لا من الطريق الذي وضعت. وقد روينا عن عبدالله بن مسعود من كلامه بالإسناد المتصل ما قد وافق ما قال أبو عبيدة. حدثنا ابن أبي داود قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: حدثنا خالد بن عبدالله، عن خالد الحذاء، عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبدالله قال: لم أكن مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ولوددت أني كنت معه".

وساق الدارقطني في ((السنن)) (3/173) حديث خشف بن مالك عن عبدالله بن مسعود قال: ((قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دية الخطأ مئة من الإبل، منها عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنات لبون، وعشرون بنات مخاض، وعشرون بني مخاض)).

قال الدارقطنيّ: "هذا حديثٌ ضعيفٌ غير ثابت عند أهل المعرفة بالحديث من وجوه عدة، أحدها: أنه مخالفٌ لما رواه أبو عبيدة بن عبدالله بن مسعود عن أبيه بالسند الصحيح عنه الذي لا مطعن فيه ولا تأويل عليه، وأبو عبيدة أعلم بحديث أبيه وبمذهبه وفتياه من خشف بن مالك ونظرائه".

· الأحاديث التي أخرجها أصحاب السنن لأبي عبيدة عن أبيه:

أخرج أصحاب السنن الأربعة (32) حديثاً لأبي عبيدة عن أبيه، وفي بعضها ضعف إلى أبي عبيدة، فإذا صحّ الإسناد إلى أبي عبيدة فهو مما يقبله العلماء لما تقدم من أن أبا عبيدة أخذ حديث أبيه من أصحابه وأتقنه.

وقد ذكر هذه الأحاديث الحافظ المزي في ((تحفة الأشراف)) (7/157-167).

قال النسائي في ((السنن الكبرى)) (1/311) بعد أن أخرج حديثاً له: "أبو عبيدة لم يسمع من أبيه. والحديث جيد".

وأخرج حديثاً في ((السنن الكبرى)) (3/488) من طريق عن زيد بن أبي أنيسة، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون الأودي، عن ابن مسعود.

قال أبو عبدالرحمن: "خالفه سفيان الثوري، فرواه عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبدالله. وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه، ورواية سفيان هو الصواب".

وأخرج الترمذي في ((جامعه)) في (1/337) حديثاً ثم قال: "حديث عبدالله ليس بإسناده بأس، إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من عبدالله، وهو الذي اختاره بعض أهل العلم في الفوائت أن يقيم الرجل لكل صلاة إذا قضاها، وإن لم يقم أجزأه، وهو قول الشافعي".

وأخرج أيضاً في ((جامعه)) (2/202) وفي (4/213) وفي (5/271)، وقال بعد كلّ منها: "هذا حديث حسن، إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه".

وأما المتأخرون فإنهم يمشون مع القواعد الجامدة في كتب المصطلح فإذا ما مرّ بهم إسناد لأبي عبيدة عن أبيه؛ فإنهم يعلّوه بالانقطاع؛ لأنه لم يسمع من أبيه! ومشى على درب هؤلاء كثير من المشتغلين بعلم الحديث من المعاصرين!

والصحيح أن حديثه مقبول إذا صح الإسناد إليه، وإن لم يسمع من أبيه؛ لأن استوعب حديث أبيه وفتاويه من أصحاب عبدالله كما بينت، والحمد لله.

· ذِكرُ ابن حجر لأبي عبيدة في المدلسين!!

قال ابن حجر في ((طبقات المدلسين)) (ص48): "أبو عبيدة بن عبدالله بن مسعود: ثقةٌ مشهورٌ. حديثه عن أبيه في السنن، وعن غير أبيه في الصحيح. واختلف في سماعه من أبيه، والأكثر على أنه لم يسمع منه، وثبت له لقاؤه وسماع كلامه، فروايته عنه داخلة في التدليس، وهو أولى بالذكر من أخيه عبدالرحمن، والله أعلم".

قلت: نعم، هو لم يسمع من أبيه، ولكنه أخذ حديث أبيه من أصحاب أبيه الثقات المعروفين، فانتفت شبهة أخذ الحديث من ضعيف وإسقاطه، فلا ينبغي ذكره في المدلسين؛ لأن وضعه مختلف تماماً عن الذين اشتهروا بالتدليس، والله أعلم.

 

وكتب: خالد الحايك.

13 محرّم 1429هـ.

شاركنا تعليقك