الموقع الرسمي للشيخ الدكتور خالد الحايك

ظُهور زُهور المَرْج بعد ذَوبان الثَّلْج، ودفع اعتراضات وجَهالات مَن تَمادى في ردِّ تَضعيف حَديث «مَنْ عَادى»!

ظُهور زُهور المَرْج بعد ذَوبان الثَّلْج، ودفع اعتراضات وجَهالات مَن تَمادى في ردِّ تَضعيف حَديث «مَنْ عَادى»!

الحمد لله الذي أنعم علينا بأن جعلنا من أهل الحديث، والصلاة والسلام على نبينا صاحب الحديث، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين، وبعد:

فكلّ إنسان يؤخذ من قوله ويُرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ننشره في هذا العلم الشريف إنما هو اجتهادات ضمن منهج أهل النقد، وقد يُخطئ الإنسان في شيء ما، أو يستدرك عليه مُستدرك، وهذه طبيعة كل العلوم.

والأصل في الإنسان أنه إذا تبيّن له الخطأ أن يرجع عنه، لكن ليس كلّ مستدرك يلزم من استدراكه الإصابة! بل لعل مَن يستدرك على غيره لو تعقل لما دخل في هذا المعترك! فمسألة الردود مسألة خطيرة، ومن يتصدى لها لا بدّ أن يكون خبيراً بها!

وقد كتب أحدهم - هداه الله - بعض الاعتراضات على جزئية صغيرة من كتاب لي حول حديث «الولي»، ولم أكن لأرد عليه وأبيّن جهله فيما كتب لولا أنه لمَّا مدحه بعض خصومنا من ذوي الحقد والحسد والضغائن!  ثم صار يرد على غيرنا أيضاً ممن يعلم هو علم يقين أنه لا يبلغ في علم الحديث ولا يقاربها، نسأل الله له الهداية والرشاد!

وفي البداية أنبّه إلى أننا نتعامل في هذه المذاكرة مع آثار وأقوال وليس مع مسندات مرفوعة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن تعمّق في كلام أهل العلم وتصرفاتهم عرف الفرق بين الأمرين.

والمعترِض الذي يهمه بيان الحق في مسألة ما يستوجب ذلك الهم عليه أن يكون مُنصفاً متجرداً، وكذا أن يكون أميناً في نقده ونقله، ومن لم يكن همّه بيان الحق في المسألة اجتهد في التشغيب بالخروج عن مقصد المسألة الأساس والتهويل بأخطاء لا تمت لأصل المسألة والله المستعان!

وملخص المسألة قبل الدخول في بيان ما أريد ردّه عليه: أني ضعفت حديث «من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب...» الحديث المشهور المعروف الذي رواه البخاري في «صحيحه».

وهذا رابط البحث في موقعي:

http://addyaiya.com/content.php?page-id=485&v=01f7743c

وهذا الحديث قد تفرد به مُحَمَّدُ بنُ عُثْمَانَ بنِ كَرَامَةَ، قال: حَدَّثَنَا خَالِدُ بنُ مَخْلَدٍ، قال: حَدَّثَنا سُلَيْمَانُ بنُ بِلالٍ، قالَ: حَدَّثَنِي شَرِيكُ بنُ عَبْدِاللَّهِ بنِ أَبِي نَمِرٍ، عَن عَطَاءٍ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله تعالى قال... الحديث.

وبينت مذاهب أهل العلم وأن غالبهم حكموا بصحته لتخريج البخاري له في «صحيحه»، وهناك من ضعف إسناده لكن صححه بمجموع طرقه كالألباني، وتبع في ذلك الحافظ ابن حجر، وهناك من أقر بنكارته إلا أن هيبة الصحيح منعته من القول بذلك كالإمام الذهبي.

وقد ألف الشوكاني فيه مصنفا مصححا إياه ورد قول من يضعفه.

وقال الحافظ ابن رجب إنه من غرائب الصحيح، تفرد بروايته البخاري دون بقية أصحاب الكتب، وقال: "وليس في مسند أحمد مع أن خالد بن مخلد القطواني تكلَّم فيه الإمام أحمد وغيره، وقالوا: (له مناكير)".

وهذا يدل على أن الحديث لم يكن منتشراً ومشهورا ومعروفا زمن أحمد ومن قبله من طريق صحيح! ولا من رواية أبي هريرة، ولا عطاء، ولا شريك، ولا سليمان بن بلال!!!

وقد تكلم الإمام المعلمي اليماني كلاما دقيقا في هذا الحديث وفي راويه، وكان مما قال: وحاصل القول فيه: "أنه صدوق يَهم ويُخطئ، ويأتي بالمناكير، ولا سيما في التشيع، فإنه كان غالياً فيهومثل هذا يتوقف عما انفرد به، ويُرد ما انفرد به بما فيه تهمة تأييد لمذهبه. وقد تفرد بهذا الحديث كما ذكره الذهبي وكذا الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح، وفي هذا الحديث تهمة تأييد مذهب غلاة الرافضة في الاتحاد والحلول، وإن لم يُنقل مثل ذلك عن خالد، وقد أسندت إلى هذا الحديث بدع وضلالات تصطك منها المسامع، والله المستعان".

ثم قال في تعقبه لابن حجر في أن للحديث أصل بمجموع طرقه: "وبالجملة، فاقتصار الحافظ على قوله: إن تلك الطرق يدل مجموعها على أن له أصلاً، ظاهر في أنه ليس في شيء منها ما يصلح للحجة، ودلالة مجموعها على أن له أصلاً لا يكفي إثبات هذه الألفاظ المنكرة".

ثم أنهى كلامه قائلا: "وبالجملة فمن أراد الاحتجاج بالحديث لا يستغني عن النظر في إسناده، بعد أن يكون له من المعرفة ما يؤهله لهذا الأمر، وإلا أوشك أن يَضل أو يُضل. والله الموفق".

وأفضت في الكلام على الحديث وشواهده، وأهمها ما رواه أحمد وغيره من حديث عَبْدالْوَاحِدِ مَوْلَى عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلّ.. الحديث.

وعبدالواحد منكر الحديث!

وتكلمت عن خالد بن مخلد ومنكراته، وكذلك ما أخرجه البخاري له من حديث، فخرّج له اثنين وثلاثين حديثاً في «صحيحه»، ثلاثون منها عن خالد عن سليمان بن بلال، واثنان معلقان، واثنان بواسطة محمد بن عثمان بن كرامة، واثنان عن خالد عن غير سليمان، وهذه الأحاديث قد أخرج البخاري في مواضع من كتابه متابعات لخالد عن سليمان، أو متابعات لسليمان نفسه، وكل هذه الأحاديث معروفة عند أهل المدينة باستثناء حديث رجم اليهوديين عند البلاط وحديث الولي، فقد رواهما البخاري عن خالد بن مخلد بواسطة محمد بن عثمان بن كرامة! وقد تفرد بهما ابن كرامة! وكلاهما غريب!!

فتعليل الحديث عندي هو تفرد خالد بن مخلد به، وهو يهم وله منكرات، ولا يحتج بما انفرد به كما هو حاصل كلام أهل النقد.

ثم أرجعت حديثه هذا إلى أن أصله هو الروايات الإسرائيلية التي رُويت عن بعض التابعين.

ففرق بين أصل التعليل، وبين محاولة إرجاع الحديث المعلّ إلى أصل ما، فهناك من لا يفرق بينهما!

فمن أراد الرد على البحث فليرد عليه كاملاً ولا يبتره وينتقي منه ما يريد! فبحث تقارب صفحاته - دون هوامش ونفخ- مائة وخمسين صفحة بُحِثَت فيه عشرات المسائل والقضايا ليس من المنطق الرد عليه في مقطع فيديو في نحو عشر دقائق!

وقد يجد أي متخصص في العلم أخطاء لغيره، وهذا من الأمور الطبيعية، فمن ذا الذي لا يُخطئ؟!

لكن هناك من يبتر ويُدلّس للطعن في بعض الناس من خلال هذا العمل المشين! ومن كان همّه الدفاع عن السنة فسيظهره الله، ومن كانت نيته خبث طوية، فسيفضحه الله، والله خير الحاكمين.

وقد ذكرت في الكتاب أربعة آثار عن بعض التابعين ممن يروون هذا الحديث من كتب أهل الكتاب، وقد بدأ المعترض - هداه الله - الرد عليّ في تضعيف الحديث بهذه الآثار مدلسا على الناس أني ضعفت الحديث بهذه الآثار!!

فهو بين أمرين أحلاهما مر! إما تدليس على السامع أو سوء فهم منه، ومن كانت مصيبته في الفهم فماذا نفعل معه؟!

وكان بعض الفضلاء أرسل لي تضعيفه لأثر معمر عن الحسن في هذا، وأن معمراً لم يسمع من الحسن، وصدق في هذا، وعليه أهل العلم فكتبت جوابا عن ذلك في مسألة قبول أهل العلم لما يرويه أمثال معمر عن شيخ مثل الحسن وقد أخذ علمه عن تلاميذه، وأننا نتعامل مع آثار وأقوال وليس مرفوعات! لكن هو وغيره يعملون سيف الجرح في خط مستقيم، وعندها لن يسلم لنا أي أثر ولا قول!

فمن أراد الاستفادة في هذه المنهجية فليرجع لذلك الجواب المنشور في «دار الحديث الضيائية» بعنوان: «كشفُ التَّوهم والظن في بيان قبول ما رواهُ مَعمر عن الحَسن» على هذا الرابط:

http://addyaiya.com/content.php?page-id=590&v=01f7743c

وإن أبى المعترض - هداه الله - قلنا له: إذن عليك أن تصرح بأن أكثر من (200) أثر وقول رواها معمر عن الحسن منقطعة ضعيفة، لا يجوز الاحتجاج بها، وقد أخطأ أهل العلم في الاحتجاج بها في كتبهم كالطبري في تفسيره، وابن حجر في شرحه، وغيرهم!

لكنه أغمض عينيه، وأصم أذنيه عن ذلك ومشى، والله المستعان...!

وأذكّر هنا بمسألة مهمة تأصيلية، وهي ما أردت بيانه في إرجاعي حديث خالد القطواني إلى هذه الآثار:

وهي أنه على فرض أن هذه الآثار ضعيفة - تنزلاً - عمّن رُويت عنهم من التابعين، إلا أنها رُويت من ثقات ماتوا قبل خالد بن مخلد القطواني بعشرات السنين، فخالد توفي سنة (213هـ)، فعلى كل الأحوال هذه الروايات - وعلى فرض ضعفها - موجودة قبل رواية خالد بن مخلد، وعليه فيجوز أن نقول بأن هذه هي أصل حديث خالد، فالإرجاع إلى أصل ما لا يُشترط فيه أن تكون الرواية صحيحة أو ضعيفة، فتنبه.

وهذا أوان الكلام على اعتراضاته بالتفصيل:

قال المعترض - هداه الله -:

"بيان مدى صحة الأثر الوارد عن وهب بن منبه.

هذا الأثر له طريقان، وقد صححه الدكتور بتعاضد طريقيه.

الطريق الأولى: عمار الدهني، عن وهب بن منبه.

في الزهد لأبي داود (ص: 33) 4 - حدثنا أبو داود قال: نا الهيثم بن خالد الجهني، أن محمدا العنقزي، حدثهم قال: أنا يونس بن أبي إسحاق، عن عمار الدهني، عن وهب بن منبه، قال: "إني أجد في كتاب الله: من عادى لي وليا فهو كمن نصب لي الحرب".

مناقشة الحكم بالتصحيح:

1) أولا: هذا الحكم خطأ لأنه لا يوجد - بحسب تتبعي-  راو اسمه محمد العنقزي، يروي عن يونس بن أبي إسحاق، والذي يترجح لي أن في الاسناد سقط والصواب (عمرو بن محمد العنقزي) فهذا الراوي هو الذي يروي عن يونس بن أبي إسحاق، كما ذكر ذلك اصحاب التراجم.

أ‌-  قال الدارقطني: "أما عنقز فهو الذي ينسب إليه عمرو بن محمد العنقزي، وابنه الحسين بن عمرو".

ب‌- قال أبو عبيد الآجري في «سؤالات أبي عبيد الآجري لأبي داود: 444»: سألت أبا داود عن حسين بن عمرو العنقزي - يعني: أخا القاسم - فقال: (كتبت عنه ولا أحدث عنه، وأخوه القاسم بن عمرو أثبت منه ومن أبيه عمرو بن محمد).

ت‌- قلت: والذي بتحصل من كلام الائمة لا سيما هذين الإمامين أن الذين عرفوا بالرواية ممن نسبوا للعنقزي هم: عمرو بن محمد وابناه حسين والقاسم، وأما محمد العنقزي فليس له رواية، فلعل سقطا وقع في الإسناد فحذف منه اسم (عمرو).

وعلى كل فقد يكون الدكتور قد اطلع على ما لم نطلع عليه، فلعله يبين لنا مشكورا كيفية تصحيحه رواية محمد العنقزي عن يونس بن أبي إسحاق، دون حل الاشكال الذي بيناه له.

الطريق الثاني: الحكم، عن وهب بن منبه:

روى أبو نُعيم في «الحلية» (4/32) من طريق إبراهيم بن الحكم، قال: حدثني أبي، قال: حدثني وهب بن منبه قال: «إني لأجد في بعض كتب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: إن الله تعالى يقول: ما ترددت عن شيء قط ترددي عن قبض روح المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه».

قال د. الحايك: وهذه الآثار كلها صحيحة إلى هؤلاء التابعين الأربعة الثقات.

قال الحايك في موطن آخر: أثر إبراهيم صحيح وإن كان هو ضعيف؛ لأن هذا مما لا يتشدد فيه أهل النقد لعدم كونه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد توبع عليه - كما بينت سابقاً- رواه عمار الدهني عن وهب بن منبه.

قلت: إبراهيم بن الحكم بن أبان، العدني ليس هو بضعيف وحسب بل الأكثرون على أنه متروك.

قال الذهبي في ميزان الاعتدال (1/27) مختصرا أقوال النقاد فيه: "تركوه وقل من مشاه".

وقال البخاري في التاريخ الكبير (1/284) 915- في ترجمته، سكتوا عنه.

قلت: فمن كان هذا حاله من حيث التخليط وشدة الضعف فإنه لا يقبل ما تفرد به من أثر أو خبر.

أما قول د. الحايك حفظه الله تعالى: وقد توبع عليه - كما بينت سابقاً- رواه عمار الدهني عن وهب بن منبه.

ففيه نظر لأمور أهمها أن شرط المتابعة غير متحقق بين الروايتين لاختلاف اللفظين.

أ‌- فأما إبراهيم بن الحكم، فلفظه: «إني لأجد في بعض كتب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: إن الله تعالى يقول: ما ترددت عن شيء قط ترددي عن قبض روح المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه».

ب‌-  أما أثر عمار الدهني، فلفظه "إني أجد في كتاب الله: من عادى لي وليا فهو كمن نصب لي الحرب".

فلا أدري كيف حكم على الطريقين بالصحة بالمتابعات، بل كيف غابت أبسط قواعد النقد عمن يتكلم في أحاديث الصحيحين" انتهى اعتراضه.

أقول مُستعيناً بالله في رد اعتراضات المُعترّض - هداه الله-:

أولاً: اعتراضه على أثر الهيثم بن خالد الجهني: أن محمدا العنقزي، حدثهم قال: أنا يونس بن أبي إسحاق... وأنه حصل سقط في الإسناد والذي يروي عن يونس هو "عمرو بن محمد العنقري"...

فهو كما قال المعترض، هو: عمرو العنقزي، لكن لم يحصل هناك سقط، وإنما تحرّف، والصواب: "أن عَمْرًا...".

ثم عمِد المعترض - هداه الله- إلى ما لا يمكن وصفه إلا بالتدليس والتلبيس للهروب من تصحيح الأثر؛ لأنه يرى أنه عمرو العنقزي - وأوافقه على ذلك - فترك ترجمته في كل كتب أهل العلم، وأهمها «تهذيب الكمال» الذي لا تجد طالب علم حديث لا يرجع إليه، وذهب إلى سؤالات الآجري لأبي داود ونقل عنه: "سألت أبا داود عن حسين بن عمرو العنقزي - يعني: أخا القاسم - فقال: (كتبت عنه ولا أحدث عنه، وأخوه القاسم بن عمرو أثبت منه ومن أبيه عمرو بن محمد)".

وإنما أراد بهذا بيان أن عمروا العنقزي هذا ليس بذاك لقول أبي داود أن القاسم أثبت من أبيه!

وهذا ما نقل المزي في ترجمته من «التهذيب» (22/222):

قال عَبداللَّه بن أحمد بْن حنبل عَن أبيه: "ثقة".

وعن يحيى بْن مَعِين: "ليس بِهِ بأس".

وَقَال النَّسَائي: "ثقة".

وذكره ابنُ حِبَّان في كتاب «الثقات».

فكان ينبغي للمعترض أن يأتي بأقوال أهل العلم في عمرو لا أن يأتي بإشارة أبي داود في المقارنة بينه وبين ابنه، ففرق بين المقارنة بين اثنين وبين الأقوال المجردة، وقد تكون المقارنة بين اثنين من الثقات، فأبو داود لم يتكلم فيه، وإنما كتب عن ابنه حسين ولم يحدث عنه، وقال بأن أخاه القاسم أثبت منه، ثم زاد على أن القاسم أثبت من أبيه عمرو، ولا يلزم من ذلك أن يكون ضعيفاً.

وعليه فهذا الأثر صحيح إن شاء الله. فما جواب المعترض عنه؟!

ثانياً: لم يعجب المُعترض - هداه الله - المنهج الذي أسير عليه وقد تعلمته بفضل الله من أهل العلم والنقد في كتبهم بتصحيحي لما يرويه الضعيف من الآثار والأقوال لا المسندات والمرفوعات.

فإبراهيم بن الحكم يقول: حدثني أبي، قال: حدثني وهب بن منبه.

فقال: إن إبراهيم "ليس هو بضعيف وحسب بل الاكثرون على أنه متروك".

ثم نقل كلام الذهبي: "تركوه وقل من مشاه".

وقول البخاري: "سكتوا عنه".

ثم قال: "فمن كان هذا حاله من حيث التخليط وشدة الضعف فإنه لا يقبل ما تفرد به من أثر أو خبر".

وهذا خلط عجيب منه لا أحسبه يصدر ممن يقرأ تراجم أهل العلم قراءة متعمقة ويعرف مخارج أقوالهم في الرواة!!

ثم قال: "الأكثرون" = يعني هناك من لم يتركه! وهو نفسه نقل قول الذهبي: "وقلّ من مشّاه" = يعني هناك من مشاه.

والكلام هنا على حديثه المرفوع والمسند، لا على ما يرويه من أقوال وآثار. فأهل العلم بالتجريح والتعديل هدفهم الأول هو المسندات والمرفوعات وعليها يبنون أقوالهم، لكن هذا لا يعني رد ما يرويه أمثال إبراهيم من حِكَم ومواعظ وأقوال عن شيوخه بله عن أبيه خاصة.

فهذا لا يقول به أحد، وإن مشينا على ذلك وأعملنا سيف الجرح مطلقاً على كل ما يرويه الراوي فلن يسلم لنا شيئٌ من حكمٍ أو آراء أهل العلم وأقوالهم.

فهذا أحمد قال في إبراهيم: "ليس بثقة، ليس بشيء"!

وقال المروذي: سَأَلته عَن إِبْرَاهِيم بن الحكم بن أبان، فَقَالَ: "لَيْسَ بِذَاكَ، قد كتبت عَنهُ، وأقمت عَلَيْهِ أَيَّامًا".

وقال الأثرم: وسمعت أبا عبدالله يقول: "في سبيل الله دراهم أنفقناها في الذهاب إلى عدن" - يعني إلى إبراهيم بن الحكم.

وقال عنه لما سأله عبدالله: "وقتَما رَأَيناه لَم يَكُن به بَأس"، ثُم قال: "أَظُنُّه كان حَديثه يَزيد بعدنا، ولَم يَرضَهُ".

يعني كان حديثه مستقيماً، ثم بعد ذلك اختلط، فلا يحتج بما انفرد به من أحاديث مسندة مرفوعة.

قال أَحمد بن عَلي الأَبارُ: قُلت لمُحَمد بن رافِعٍ: إِبراهيم بن الحَكم؟ قال: "بِعَهدِنا لَم يَكُن به بَأس، ولَكِن خلط بَعدُ".

وقال عَباس الدوري: سمعتُ يَحيَى بن مَعِين يقول: "إِبراهيم بن الحَكم بن أَبَان: ضَعيفٌ".

وعن إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين قال: إبراهيم بن الحكم بن أبان لا شيء".

وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عن إبراهيم بن الحكم بن أبان، فقال: "ليس بقوي ضعيف".

وقال النسائي: "متروك الحديث".

وقال الآجري: سألت أبا داود عنه، فقال: "لا أحدث عنه".

وقال ابن حبان في «الثقات» (6/186) في ترجمة والده: "وَإِبْرَاهِيم ضَعِيف".

وقال في «المجروحين» (1/114): "وَكَانَ يخطىء لَا يُعجبنِي الِاحْتِجَاج بِخَبَرِهِ إِذا انْفَرد".

وقال الجوزجاني والازدي: "ساقط".

وَقَال مُحَمَّد بْن أسد الخشني: "أملى علينا إِبْرَاهِيم بْن الحكم بْن أبان من كتابه الذي لم نشك أنه سمعه من أبيه عشية الخميس السابع من رجب سنة ثلاث وتسعين ومئة، وهو ضعيف عند أصحابنا - فذكر عنه حديثا".

وقَال عبدان الأهوازي: سمعت عباس بن عَبْدالعظيم يقول - وذكرنا له أو ذكر له إِبْرَاهِيم بْن الحكم بْن أبان - فَقَالَ: "كانت هذه الأحاديث في كتبه مرسلة ليس فيها ابن عباس ولا أبو هُرَيْرة، يعني أحاديث أبيه عَن عكرمة".

وقال ابن عدي: "وبلاؤه ما ذكروه أنه كان يوصل المراسيل عن أبيه وعامة ما يرويه لا يتابع عليه".

وقال الدارقطني: "ضعيف".

وذكره الفسوي في باب من يرغب عن الرواية عنهم، وقال أيضا: "لا يختلفون في ضعفه".

وقال الحاكم أبو أحمد: "ليس بالقوي عندهم".

قلت: فنحن لا نخالف هؤلاء الأئمة في أنه يروي أحاديث منكرة، وهو ضعيف جداً، تركه بعض أهل العلم، لكن هذا ليس مجمعاً عليه، فلا يحتج بما انفرد به من المرفوعات، وقد علمنا أن مشكلته كانت في وصل المرسلات، وما قبلناه منه هنا ليس من ذلك في شيء، وإنما في أثر رواه عن أبيه عن وهب بن منبه، وإبراهيم وأبوه من اليمن، ووهب كان مشهوراً في اليمن برواية الإسرائيليات، بل كان عنده مدرسة في ذلك كما بينته في مكان آخر. وقد أورد أبو نُعيم الأصبهاني هذا الأثر في ترجمة وهب.

وهذه أقوال أحمد في إبراهيم ومع ذلك لم يمنعه ذلك من تصحيح أثر له كما فعلنا.

قال المَرُّوْذِيُّ: وَقَرَأْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِاللَّهِ - يعني أحمد-: إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَكَمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ: هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ؟ قَالَ: "نَعَمْ، دُونَهُ سِتْرٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ".

وَقَرَأْتُهُ عَلَيْهِ بِطُولِهِ، فَصَحَّحَهُ. [المنتخب من العلل للخلال (221)].

فمن يعيب علينا تصحيح أثر لإبراهيم فليعب ذلك على الإمام أحمد!

ولما نشرت كلاماً حول هذا النص المنقول عن أحمد خرج علينا هذا المعترض - هداه الله- بالرد عليه في بعض التعليقات في "مجموعة واتسابية"، فقال:

"واضح أن الإمام أحمد يعرف حديثه جيدا، لأنه حكم على حديثه بالاستقامة وقت لقيه له، وأن الرجل تغير بعد ذلك. فالإمام أحمد انتقى من حديث شيخه أثرا فصححه، لعلمه باستقامة حديثه وقت لقيه، وهذا سائغ ومعروف لدى المحدثين، لكن الغير - كذا قال المعترض! - سائغ أن نحكم على آثار أخرى له بالصحة، ونحن لا نعلم هل حدث بها وقت استقامته أم بعد تغيره ووقوع المنكرات في أحاديثه وآثاره.

وأخيرا فإننا إذا أردنا أن نحاكم الإمام البخاري ونبين خطأه في تصحيح هذا الحديث، فينبغي أن نحاكمه برواة ثقات عنده لا برواة حكم عليهم بالترك إذ قد حكم البخاري على هذا الراوي أنه مسكوت عنه وهي من أنواع الجرح الشديد عنده.

هذه إشكالية كبيرة.

يريد أن يصحح روايات المجاهيل والمدلسين والمتروكين بحجة أنها آثار، والمشكلة الأكبر أنهم تفردوا بها ولم يتابعهم عليها أحد، والغاية تخطئة الإمام البخاري وتضعيف حديث اتفقت الأمة على قبوله.

إن كان استند لهذا النص، فهذا تدليس لأن أحمد صححه بالمجموع لا منفردا كما أوهم الدكتور، وهذا ما ذكره الشيخ هنا، لكنه لم يفصل.

لكن تصحيح الإمام أحمد ينبغي أن لا يؤخذ من مكان واحد، بل لا بد من جمع جميع أقواله، فهو يختصر في مكان ويفصل في آخر، وحكمه يؤخذ من مجموع كلامه.

وهو في النص الذي نقلتموه بين أن تصحيح الأثر كان بمجموع رواياته، إذ لو تفرد به إبراهيم بن الحكم ولم يتابع عليه لكان معدودا في منكراته" انتهى كلام المعترض.

قلت: رحم الله أهل الأمثال حين قالوا: "عنزة ولو طارت".!

هكذا اضطرب المعترِض - هداه الله- بقوله لما صدمناه بهذا النص عن الإمام أحمد! فقال أولاً بأنه انتقى له ما رآه صحيحاً! ثم تناقض في آخره فقال بأنه حكم بصحته بمجموع رواياته!!

ومن قال بأن أحمد يختصر في مكان، ويفصّل في آخر؟ وكيف عرف المعترض أنه صححه بمجموع رواياته؟

وأنا لم أهم في هذا! بل النص منطوقه صريح، يذكر إسناد إبراهيم بن الحكم عن أبيه، ثم يصرح المروذي أنه قرأه على أحمد بطوله، ثم نقل تصحيح أحمد له! فمنطوقه ومفهومه أنه صحح هذا الإسناد المُشار إليه.

وأما مسألة الاختصار والتفصيل فلا أحسبها إلا أُمليت عليه ممن يؤزه للرد علينا أزّا! = فهذه تبع لمن ينقل عنه - رحمه الله - فبعض العلماء ينقل عنه أشياء مختصرة، قد نجدها عند آخرين مفصلة، فهل ثبت ذلك في هذه الرواية؟!

فيجب إثبات ذلك قبل الإتيان بالتخيلات التي تنسجها الأوهام والمنامات! فانظر رحمك الله كيف يتجرأ على وصفنا بالتدليس؛ لأنه يتخيل أشياء في عقله بلا حجة ولا أثارة من علم؟!

إن أثبت لنا أن أحمد حكم عليه بمجموع رواياته كما ادّعى فَبِها ونعمت، وأنا تَبِعتُ النص ومنطوقه، وهو قد بيّن لنا خلاف ذلك، ونرجع لقوله دون ثبوت التدليس المدّعى!

فالمروذي هنا يذكر إسناد إبراهيم، ويقرأه على أحمد، ثم ينقل تصحيحه له.

وأما أن أحمد صححه بما روي من طريق آخر فهذا دونه خرط القتاد!

والذي جعل المعترض - هداه الله- يناقض نفسه في هذا أن بعض من يؤزه أزّا في تلكم "المجموعة الواتسابية" نقل له هذا الكلام من «طبقات الحنابلة» (1/242) عن أحمد في اعتقاد أهل السنة: "...وأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد رأى ربه فإنه مأثور عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم صحيح، قد رواه قَتَادَة عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ورواه الحكم بن أبان عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ورواه عَلِيّ بْن زَيْدٍ عَنْ يوسف بْن مهران عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، والحديث عندنا عَلَى ظاهره كما جاء عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والكلام فيه بدعة، ولكن نؤمن به كما جاء عَلَى ظاهره ولا نناظر فيه أحدًا...".

فلما رأى المسكين - هداه الله - هذا النقل سارع إلى قوله الأخير بأن أحمد إنما صحح الأثر بمجموع طرقه!!

فهنا كما في النقل أن أحمد ذكر ثلاث روايات في مسألة أصل الرؤية، وادعى هؤلاء أن أحمد صحح المسألة بمجموع الروايات! = وهذا فيه نسبة أن أحمد يصحح الضعيف بمجموع الطرق = وهذا يعني أن أحمد على منهج المتأخرين والمعاصرين في تصحيح الضعيف بمجموع الطرق!! = وهذا اكتشاف عظيم من هؤلاء، فلم إذن نلوم من يصحح الضعيف من المتأخرين والمعاصرين بمجموع الطرق، والإمام أحمد قد فعله؟!!

سبحانك ربنا هذا بهتان عظيم!

فهذه الروايات الثلاثة التي نقلت عن أحمد كلها في الرؤية عموماً، ولا دليل على أنه صححها بمجموع الطرق مع اختلاف في متونها كما سأبين.

فقد نقل الخلال في «المنتخب من العلل» (220) عن المَرُّوْذِيُّ، قَالَ: قِيلَ لأَبِي عَبْدِاللَّهِ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: "مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ". فَبِأَيِّ شَيْءٍ يُدْفَعُ حَدِيثُ عَائِشَةَ؟ قَالَ: بِقَوْلِ الْنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رَأَيْتُ رَبِّيَ"، وَقَوْلُ الْنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُ مِنْ قَوْلِهَا.

ثم ذكر أثر إِبْرَاهِيم بن الحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سُئِلَ: هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، رَآهُ كَأَنَّ قَدَمَيْهِ عَلَى خُضْرَةٍ، دُونَهُ سِتْرٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ. فَقُلْتُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] قَالَ: يَا لَا أُمَّ لَكَ، ذَاكَ نُورُهُ الَّذِي هُوَ نُورُهُ، إِذَا تَجَلَّى بِنُورِهِ لَا يُدْرِكَهُ شَيْءٌ.

ثم نقل عن الأَثْرَم، قال: قِيلَ لأَبِي عَبْدِاللَّهِ: حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ: "نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ"؟ قَالَ: "مَا أَدْرِي مَا وَجْهُهُ".

فظاهر هذا أن أحمد يذهب هنا إلى الرؤية الحقيقية في مقابل إنكاره قول عائشة - رضي الله عنها - في عدم رؤية النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك كله يوم المعراج، ولما سئل عن قول أبي ذر - رضي الله عنه -، صرح بأنه لم يدر ما وجهه.

فحديث إبراهيم بن الحكم ساقه أحمد مقابل ما رُوي عن عائشة، ولهذا نقل المروذي عنه تصحيحه.

وأما حديث قتادة عن عكرمة، فقد ذكره الخلال بعد عن أَبي بَكْرٍ المَرْوَذِيّ، قال: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِاللَّهِ: حَدَّثَكُمْ شَاذَانُ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم: «رَأَيْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ شَابٌّ أَمْرَدٌ جَعْدٌ قَطَطٌ عَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ».

قَالَ الْمَرْوَذِيُّ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِاللَّهِ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا رَوَاهُ إِلا شَاذَانُ فَغَضَبَ! وَقَالَ: مَنْ قَالَ هَذَا؟ ثُمَّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَفَّانُ: حَدَّثَنَا عَبْدُالصَّمَدِ بْنُ كَيْسَانَ، قال: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَأَيْتُ: «رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ».

قَالَ الْمَرْوَذِيُّ: فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِاللَّهِ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: مَا رَوَى قَتَادَةُ عَنْ عِكْرِمَةَ شَيْئًا! فَقَالَ: مَنْ قَالَ هَذَا؟ أَخْرَجَ خَمْسَةَ سِتَّةَ أَحَادِيثَ أَوْ سَبْعَةً عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ.

وهذه الرواية إنما هي في المنام.

ورواية علي بن زيد بن جدعان في الرؤية بالقلب.

فقد رواه الطبراني في «المعجم الكبير» عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11]، قَالَ: «رَأَى رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِفُؤَادِهِ».

وهذا رواه مسلم في «صحيحه» من حديث أَبِي العَالِيَة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: {مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى} {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}، قَالَ: "رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ".

فأحمد لم يصحح رواية إبراهيم بغيرها من الروايات، وهذا افتراء عليه - رحمه الله -.

وأثر إبراهيم الذي صححه أحمد إنما نقلته إلزاماً للخصم لا احتجاجاً به بأنه صحيح أو غير ذلك! فهذه مسألة أخرى ليس هذا محلّ بحثها.

وقد صححه الحاكم في «المستدرك»، وردّه الذهبي. وضعّفه البيهقي.

وقال الترمذي: "حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ". وأورده الضياء في «المختارة».

وأما غمزه في ما يرويه إبراهيم بن الحكم أننا لا نعرف أن هذا مما رواه قبل اختلاطه أم بعده فهذا نابعٌ من عدم خبرة المعترض - هداه الله- في هذا العلم الدقيق! فإبراهيم اختلط بأخرة، وقد أشار أهل العلم أن مشكلته أن ما كان في كتابه مرسلاً عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطئ فيه فيصله، ولم يتكلموا أبداً على ما يرويه من آثار وأقوال ليست مسندة، فهذه لا إشكال فيها، ولهذا يروونها ويقبلونها، فالرجل من أهل العلم، ولا يُرمى كل ما يرويه، مع تأكيدنا مرة أخرى أننا لا نقبل ما ينفرد به من المرفوعات؛ لأن هذا المعترض - هداه الله - عنده مشكلة في فهم الفرق بين الموقوفات والآثار والمرفوعات! فهو يحاول أن يبيّن للقارئ أننا نصحح كل ذلك!

وانظر لفعل إسحاق بن راهويه إذ ينقل عنه محمد بن نصر المروزي الحافظ في مسألة نواقض الإسلام إذ قال المروزي في «تعظيم قدر الصلاة» (2/930): "أَلَا تَرَى إِلَى مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَعْطَى الْأَعْرَابِيَّ ثُمَّ قَالَ لَهُ: «أَحْسَنْتُ» قَالَ: وَلَا أَجْمَلْتَ فَغَضِبَ أَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حَتَّى هَمُّوا بِقَتْلِهِ فَأَشَارَ إِلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكَفِّ، وَقَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ: «تَأْتِينَا» فَجَاءَهُ فِي بَيْتِهِ فَأَعْطَاهُ وَزَادَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَحْسَنْتَ قَالَ أَيْ وَاللَّهِ، وَأَجْمَلْتَ فَجَزَاكَ اللَّهُ مِنْ أَهْلٍ وَعَشِيرَةٍ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: " إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ هَذَا وَمَثَلَكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ نَاقَةٌ فَشَرَدَتْ عَلَيْهِ فَأَتْبَعَهَا النَّاسَ فَلَمْ يَزِيدُوهَا إِلَّا نُفُورًا، فَقَالَ صَاحِبُ النَّاقَةِ: خَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ نَاقَتِي فَأَنَا أَعْلَمُ بِهَا وَأَرْفَقُ، فَأَخَذَ مِنْ ثُمَامِ الْأَرْضِ شَيْئًا، ثُمَّ جَاءَهَا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهَا فَجَعَلَ يَقُولُ لَهَا: هَوَى هَوَى فَجَاءَتْ فَاسْتَنَاخَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ فَشَدَّ عَلَيْهَا رَحْلَهَا وَاسْتَوَى عَلَيْهَا، وَإِنِّي لَوْ أَطَعْتُكُمْ حِينَ قَالَ هَذَا مَا قَالَ فَقَتَلْتُهُ دَخَلَ النَّارَ".

قَالَ إِسْحَاقُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَخْبَرَنِي بِذَلِكَ عِدَّةٌ مِنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبَى هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: فَفِي هَذَا تَصْدِيقُ مَا وَصَفْنَا أَنَّهُ يَكْفُرُ بِالرَّدِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ كُلُّ مَنْ كَانَ كُفْرُهُ مِنْ جِهَةِ الْجَهْلِ وَغَيْرِ الِاسْتِهَانَةِ رُفِقَ بِهِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى مَا أَنْكَرَهُ كَمَا رَفَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَعْرَابِيِّ" فهذا إسحاق على جلالته يبدأ بذكر إبراهيم بن الحكم عن أبيه في حديث تعددت رواياته يتعلق بأصول العقائد.

وأما الإشكالية المتوهمة في ذهن المعترض - هداه الله - فهذا مما يندى له الجبين! فالرجل لا يفرّق بين العلّة الحقيقية، وبين تشخيص وقوعها المفترض!

فنحن لا نضعف إسناد البخاري بمثل هذه الآثار! فالضعف هو بسبب تفرد الراوي بها، وهذا الراوي له ما يُنكر، ولا يُحتمل تفرده في تلك الطبقة ولا يقبله أهل النقد، فهذه هي العلة!

وأما تشخيص وقوع العلة فهذا أمر آخر، فبعد التعليل نريد أن نجتهد فنبين كيف وهم الراوي ورواه بهذا الإسناد الذي لا يُحتمل في هذه الطبقة!

فهو يروي عن شيخه المعروف سليمان بن بلال، عن شَريك بن أبي نَمِر، عن عطاء، عن أبي هريرة.

ولم يُتابع على هذا الحديث وتفرد به! وقد روى أحاديث كثيرة عن سليمان بن بلال وأخرجها البخاري لكنه قد تُوبع فيها كلها، لكن هذا الحديث لم يُتابع عليه، بل لم يكن معروفا عند أهل العلم، ومات أهل النقد كلهم كشعبة، ويحيى القطان، وابن معين، وابن مهدي، وأحمد، وهم لا يعرفون هذا الإسناد، بل لا يوجد عند أحمد في مسنده الكبير، ورواه من طرق أخرى واهية.

ومن هنا لما تكلم الإمام المعلمي اليماني - رحمه الله - عن هذا الحديث وتفرد خالد القطواني به، حاول تشخيص كيفية وقوع الخطأ والوهم له، فأشار إلى الطرق الأخرى الضعيفة التي رُوي بها هذا الحديث، وهي كلها رُويت قبل حديث خالد، فقال ربما كان الحديث عنده بأحد هذه الأسانيد الضعيفة، فأخطأ وروى الحديث بهذا الإسناد المشهور الذي يروي به أحاديث.

فالمسألة هنا ليست كما يتوهم المعترض - هداه الله- ومن وراءه ممن يأزونه أزا! بأننا أعللنا الحديث بهذا الأثر أو الآثار الأخرى، ولا يهمنا هنا صحة هذه الآثار أو ضعفها - التي يحاول المعترض التمحل لتضعيفها بأي شكل - فسواء صحت أم ضعفت فبعضها قد رُوي قبل حديث خالد بسنوات كثيرة، فيجوز إرجاع هذا الحديث إلى أن أصله هذه الأحاديث للرابط بينها وهي أنها من روايات أهل الكتاب.

ثالثاً: وأما قوله إن شرط المتابعة ليس متحققا في الروايتين لاختلاف المتن! وغمزنا "كيف غابت أبسط قواعد النقد عمن يتكلم في أحاديث الصحيحين"!! فهذه - والله هي الحالقة-!!!

فلفظ أثر إبراهيم: «إني لأجد في بعض كتب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: إن الله تعالى يقول: ما ترددت عن شيء قط ترددي عن قبض روح المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه».

ولفظ أثر عمار الدهني: «إني أجد في كتاب الله: من عادى لي وليا فهو كمن نصب لي الحرب».

فالمسكين نظر في المتنين ووجد ألفاظهما مختلفة فنفى المتابعة!

وهل كلا اللفظين أيها المسكين إلا من الحديث نفسه؟! ارجع للحديث كاملاً تجد هذين اللفظين في الحديث نفسه.

وهذا حجة عليك؛ فهو يدلّ على أن وهباً كان يرويه كاملاً، وكان بعض الرواة يروي عنه ببعضه مختصراً هكذا وهكذا.

فأردت الطعن فينا بأنا لا نعرف أبسط القواعد في المتابعة لاختلاف اللفظين! فوقعت على أمّ رأسك، وأبنت عمّا فيه! وأنك أنت من لا يعرف هذه القواعد البسيطة!

والغريب العجيب أنه تكلّم عن أثرين من أربعة! وقفز عن أثري عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعيّ، ومحمد بن كثير المصيصي، كلاهما عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية!

فلو أراد تضعيف محمد بن كثير وهو كاتب الأوزاعي لأن بعض أهل العلم تكلموا فيه، فماذا يفعل بمتابعة عيسى بن يونس؟!!

وكما قلت من قبل: لو كانت كل هذه الآثار ضعيفة، فيصحّ قولنا إنها أصل الرواية المرفوعة؛ لأن الرواية المرفوعة متأخرة عن هذه الروايات المتقدمة، فلا يشترط أن تكون الرواية صحيحة حتى نرجع رواية معلولة لها، فقد أشار المعلمي أن أصل الرواية المرفوعة المتأخرة قد يكون الرواية الضعيفة المتقدمة التي رواها أحمد وغيره.

والأصل فيمن يتصدر للرد أن يرد على البحث بأكمله لا أن يختار ما يريد تشهيا وانتقاء بالهوى، ثم يُدلّس على من يسمع كلامه أنه أتى على كل شيء! وللأسف فكثير من طلبة العلم لا يقرؤون كل شيء! وإنما يكتفون فقط بمثل ما نشره المعترض - هداه الله- دون الرجوع للأصل! والله المستعان.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

وكتب: خالد الحايك

7 رمضان 1441هـ.

 

·       المُعترض يرد بعض الآثار بالانقطاع، ثمّ يصحح بعضها دون ضوابط!

كنت قد أنهيت الإجابة عن اعتراضات المعترض - هداه الله - بحسب ما أرّخته أعلاه إلا أنني لم أنشره؛ لأن المعترض ذكر أنه سيتكلم عن الأثرين اللذين لم يتعرض لهما ربما في تسجيل قادم! فقلت ننتظر ما عنده، لكنه لم يتكلم عليهما.

ثم تفاجأت بنشره تسجيلاً له يرد فيه على من ضعّف أثر طاوس، قال: قال معاذ - رضي الله عنه - لأهل اليمن: «ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم، وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة»!

وقال: "والذي يترجح لي أنه خبر صحيح رغم إرساله، وذلك لأسباب وقرائن محتفة بالرواية والراوي"!

قلت: سبحان الله! رد ما صححناه من أثر معمر عن الحسن بأنه منقطع، وهو هنا يصحح أثراً منقطعا!

فإذا كنت تُصحح الأثر المنقطع بقرائن بحسب زعمك، فلم لا تقبل - أو تعذر- قبولنا للأثر المنقطع بالقرائن بحسب زعمنا؟!

فقد رد المعترض - هداه الله - تصحيحنا لما رواه معمر عن الحسن مرسلاً، فبيّنت له صحة ما ذهبت إليه في: «كشفُ التَّوهم والظن في بيان قبول ما رواهُ مَعمر عن الحَسن»، وأنه بردّه ذلك فقد رد أكثر من مئتي أثر وقول للحسن البصري رواها عنه معمر! واحتج بها أهل العلم، وهذا مما يُتسامح فيه من أقوال، وليس في عقيدة، ولا فقه يُبنى عليه بعض الأحكام!

فالأثر الذي قبلتُه أرجعتُ إليه علة الحديث، وكيف قد يكون الراوي وهم في حديثه، ولا يشترط صحة الأثر لذلك، لكن لثقة معمر وجلالته، وملازمته لأصحاب الحسن، وأخذ علم الحسن عنهم قبلنا هذه الآثار والأقوال التي يرويها عن الحسن، ونحن نعلم أنه لم يدركه.

لكن المعترض - هداه الله- لم يعجبه ذلك! بل ها هو يناقض منهجه، فيصحح المنقطع؟

ثم إن الأثر الذي صححناه إلى الحسن ضعيف لأنه من روايات أهل الكتاب، ولم ينبنِ عليه حكم لا عقدي ولا فقهي، وأقصى ما في ذلك أننا جعلناه هو أصل رواية مرفوعة وهم فيها الراوي مع روايات أخرى تعضده = يعني ليس وحده كما أوهم كلامه!

وأما المعترض فصحح أثراً منقطعاً وبنى عليه حكماً فقهياً! وصوّر المسألة على أن هناك من العلماء من صحح الأثر وهناك من ضعفه، وهو قد رجّح التصحيح! مع أنه لم يذكر من صححه! وذكر مُضعِّفَاً واحداً له من المعاصرين! وهو في مقاطعه التي بدأ بنشرها مؤخراً يختار بعض المشهورين بدعوى الرد عليهم في باب العلل بدعوى أن هناك من يسأله عن هذه الأحاديث! والله المستعان.

فما هي الضوابط التي تبعها في تصحيح مثل هذا الأثر؟

آلقرائن؟ وهل هذه القرائن معتبرة؟ وما قوتها؟

أم هو الهوى والتشهي وحبّ الرد والاعتراض؟!

فهذه القرائن التي صححت بها هذا الأثر لا عبرة بها!

ولنناقشك فيها:

أولاً: قال المعترض: "القرائن المحتفة بالراوي - وهو طاوس:

أ- أن طاوسا كان من أعلم الناس بقضايا معاذ وأحكامه كما ذكر نحو ذلك الشافعي في الأم، ولهذا قبل الشافعي مرسلاته عن معاذ، بل قد نقل بعضهم عن الشافعي الاتفاق على قبول مرسلاته عنه، وممن قواها أيضاً البيهقي، وابن الملقن والسخاوي، وغيرهم".

قلت: أما أن طاوساً كان من أعلم الناس بقضايا معاذ وأحكامه فهذا فيه نظر! ولو أنه استقرأ ما رواه طاوس عن معاذ من أقضية وهي قليلة لوجد أن المسألة لا تتعلق بأنه كان من أعلم الناس بذلك، وإنما ورث تلك الأقضية من أهل اليمن حيث نقلوا تلك الأقضية عنه، بل كان بعضهم عنده بعض الكتب في ذلك، على خلاف بين أهل العلم في قبولها أو ردها.

ومن قبلها واحتج بها من أهل العلم لم يطلق عليها التصحيح، وإنما قبلوا الاحتجاج بها لبعض القرائن كما ذكر المعترض، وهناك من ردها بالانقطاع.

وأما كلام الشافعي في ذلك قال: "وطَاوُسٌ عَالِمٌ بِأَمْرِ مُعَاذٍ"، فالشافعي عضد قوله هذا بما رُوي عن معاذ من غير طريق طاوس.

فقد روى في كتابه «الأم»، بَاب صَدَقَةِ البَقَرِ، (2/9) قالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ: «أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أُتِيَ بِوَقَصِ البَقَرِ، فَقَالَ: لَمْ يَأْمُرْنِي فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ» - وَالوَقَصُ: مَا لَمْ يَبْلُغْ الفَرِيضَةَ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مُعَاذٌ إنَّمَا أَخَذَ الصَّدَقَةَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ أُتِيَ بِمَا دُونَ ثَلَاثِينَ فَقَالَ: لَمْ أَسْمَعْ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا شَيْئًا".

ثم قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ حُمَيْدِ بنِ قَيْسٍ، عَنْ طَاوُسٍ اليَمَانِيِّ «أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أَخَذَ مِنْ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً تَبِيعًا، وَمِنْ أَرْبَعِينَ بَقَرَةً مُسِنَّةً، وأتي بِمَا دُونَ ذَلِكَ فَأَبَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، وقَالَ: لَمْ أَسْمَعْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ شَيْئًا حَتَّى أَلْقَاهُ فَأَسْأَلُهُ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَقْدُمَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ».

قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَطَاوُسٌ عَالِمٌ بِأَمْرِ مُعَاذٍ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَلْقَهُ عَلَى كَثْرَةِ مَنْ لَقِيَ مِمَّنْ أَدْرَكَ مُعَاذًا مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ فِيمَا عَلِمْت".

وقال: "وَأَخْبَرَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ عَنْ عَدَدٍ مَضَوْا مِنْهُمْ أَنَّ مُعَاذًا أَخَذَ مِنْهُمْ صَدَقَةَ الْبَقَرِ عَلَى مَا رَوَى طَاوُسٌ".

قَالَ: أَخْبَرَنَا بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ وَالْأَمَانَةِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ سَلَامَةَ: «أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِالعَزِيزِ دَعَا بِصَحِيفَةٍ فَزَعَمُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ بِهَا إلَى مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ، فَإِذَا فِيهَا فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ».

قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَهُوَ مَا لَا أَعْلَمُ فِيهِ بَيْنَ أَحَدٍ لَقِيته مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا، وَبِهِ نَأْخُذُ".

قلت: ما رواه طاوس عن معاذ أنه أخذ في ثلاثين بقرة تبيعاً، ولم يأخذ شيئاً فيما دون ذلك أمر مشتهر ومعروف ومروي بأسانيد أخرى صحيحة.

ومثل هذه الأقضية عن معاذ يقبلها العلماء ما لم تكن فيها نكارة أو مخالفة لما هو أصح منها. ولا يُنكر أن طاوس - وهو من هو في العلم والفقه - سمع بأقضية معاذ من أهل بلده، وسمع أيضاً غير الأقضية، لكن قبول ما يرويه عن معاذ يحتاج لقرائن قوية لقبوله، وليس الأمر على إطلاقه كما قد يوهم كلام المعترض.

وأما قوله: "بل قد نقل بعضهم عن الشافعي الاتفاق على قبول مرسلاته عنه"! فهذا ليس بصحيح! وكان الأولى به وهو في مقام الاحتجاج أن ينصّ عليهم تقوية لرأيه!

بل إن البيهقي روى هذا في «السنن الكبرى» (4/166) من كتاب الشافعي، ولم ينقل قول الشافعي فيما يرويه طاوس عن معاذ! فلو كان يرى صحة ذلك لنقله، وأفاض في الكلام عن ذلك في الخلافيات والظاهر من صنيعه رد حديث طاوس عن معاذ، والله أعلم.

قال ابن عبدالبر في «التمهيد» (2/276): وذَكَرَ عَبْدُالرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْحٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: أَنَّ طَاوُسًا أَخْبَرَهُ: أَنَّ مُعَاذًا قَالَ: «لَسْتُ آخُذُ فِي أَوَقَاصِ الْبَقْرِ شَيْئًا حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْنِي فِيهَا بِشَيْءٍ». قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَالَ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ: إِنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ لَمْ يَزَلْ بِالجَنَدِ مُنْذُ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ حَتَّى مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ فَرَدَّهُ عَلَى مَا كَانَ فِيهِ عَلَيْهِ.

قالَ ابن عبدالبر: "الجَنَدُ مِنَ اليَمَنِ هُوَ بَلَدُ طَاوُسٍ، وَتُوُفِّيَ طَاوُسٌ سَنَةَ سِتٍّ وَمِائَةٍ وَتُوُفِّيَ مُعَاذٌ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ أَوْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ فِي طاعون عمواس".

قلت: فكأن ابن عبدالبر ذكر ذلك تقوية لقبول هذا القضاء عن معاذ؛ لأنه قال قبل ذلك عن هذا الأثر: "وحَدِيثُ طَاوُسٍ عِنْدَهُمْ عَنْ مُعَاذٍ غَيْرُ مُتَّصِلٍ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ طَاوُسًا لَمْ يَسْمَعْ مِنْ مُعَاذٍ شَيْئًا". - يقصد الشافعية.

وأما قوله: "وممن قواها أيضاً البيهقي، وابن الملقن والسخاوي، وغيرهم"، فقد نقل ابن حجر في «التلخيص الحبير» (2/345) قال: "وقَالَ البَيْهَقِيُّ: طَاوُسٌ وَإِنْ لَمْ يَلْقَ مُعَاذًا إلَّا أَنَّهُ يَمَانِيٌّ وَسِيرَةُ مُعَاذٍ بَيْنَهُمْ مَشْهُورَةٌ"!

وهذا النقل لم أجده في كتب البيهقي، وهي معروفة، ومشتهرة ومنتشرة، ولم ينقله عنه سوى ابن حجر! وفي نقله عنه نظر! لأن البيهقي رد هذا الأثر الذي يتكلم عنه المعترض في «سننه»، وفي «الخلافيات»! والعجيب أنه لم يتعرض له أبداً! والأصل فيمن يتكلم في العلل أن يجمع كل قول لأهل العلم في ذلك! بل إن ابن حجر أيضاً مال لرأي البيهقي فيه، وكذا ابن الملقن الذي ادّعى المعترض أنه قوّى قول الشافعي في قبول ما يرويه طاوس عن معاذ!

روى البيهقي في «السنن الكبرى»، بَاب مَنْ أَجَازَ أَخْذَ الْقِيَمِ فِي الزَّكَوَاتِ، (4/189) (7372) من طريق يَحْيَى بن آدَمَ، قال: حدثنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ طَاوُسٍ، قَالَ: قَالَ مُعَاذٌ - يَعْنِي ابْنَ جَبَلٍ - بِاليَمَنِ: «ائْتُونِي بِخَمِيسٍ أَوْ لَبِيسٍ آخُذُهُ مِنْكُمْ مَكَانَ الصَّدَقَةِ فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ وَخَيْرٌ لِلْمُهَاجِرِينَ بِالْمَدِينَةِ». [وهو في كتاب «الخراج» ليحيى بن آدم الكوفي (ص: 147) (526)].

قال البيهقي: "كَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ! وخَالَفَهُ عَمْرُو بنُ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُسٍ، فَقَالَ: قَالَ مُعَاذٌ بِالْيَمَنِ: «ائْتُونِي بِعَرَضِ ثِيَابٍ آخُذُهُ مِنْكُمْ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ».

ثم ساقه من طريق يَحْيَى بن آدَمَ بنِ سُلَيْمَانَ، قال: حدثنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بنِ دِينَارٍ فَذَكَرَهُ. [وهو في كتاب «الخراج» ليحيى بن آدم الكوفي (ص: 147) (525)].

ثم قال: قالَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِيمَا أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو الْأَدِيبُ عَنْهُ: "حَدِيثَ طَاوُسٍ عَنِ مُعَاذٍ إِذَا كَانَ مُرْسَلًا فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، وَقَدْ قَالَ فِيهِ بَعْضُهُمْ: «مِنَ الجِزْيَةِ» بَدَلَ «الصَّدَقَةِ»".

قَالَ البيهقي: "هَذَا هُوَ الْأَلْيَقُ بِمُعَاذٍ، وَالْأَشْبَهُ بِمَا أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ مِنْ أَخْذِ الجِنْسِ فِي الصَّدَقَاتِ، وَأَخْذِ الدِّينَارِ أَوْ عَدَّلَهُ مَعَافِرَ ثِيَابٍ بِاليَمَنِ فِي الجِزْيَةِ، وَأَنْ تُرَدَّ الصَّدَقَاتُ عَلَى فُقَرَائِهِمْ لَا أَنْ يَنْقُلَهَا إِلَى الْمُهَاجِرِينَ بِالْمَدِينَةِ الَّذِينَ أَكْثَرُهُمْ أَهْلُ فَيْءٍ لَا أَهْلُ صَدَقَةٍ، وَاللهُ أَعْلَمُ".

قلت: فهنا أيّد البيهقيُّ الإسماعيليَّ في رد هذا الأثر للانقطاع بين طاوس ومعاذ، وأنه لا حجة فيه! ثم حمل ذلك على أخذ ذلك في الجزية لا في الصدقات! وهذا ينسف مذهب المعترض!

وقد علّق البخاري في «صحيحه»، بَاب العَرْضِ فِي الزَّكَاةِ، (2/116) لفظ رواية عمرو بن دينار: «ائْتُونِي بِعَرَضِ ثِيَابٍ آخُذُهُ مِنْكُمْ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ».

والبخاري إنما استفاد من تبويب عبدالرزاق الصنعاني في «مصنفه»: "بَاب أَخْذِ العُرُوضِ فِي الزَّكَاةِ"، (4/105) ثم روى (7133) عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: «أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ فِي زَكَاتِهِمُ العُرُوضَ».

قال ابن حجر في «الفتح» (3/324) فيما علّقه البخاري: "وَطَاوُسٌ عَنْ مُعَاذٍ مُنْقَطِعٌ".

وقال أيضاً (3/312): "(قَوْلُهُ بَابُ الْعَرْضِ فِي الزَّكَاةِ) أَيْ جَوَازُ أَخْذِ العَرْضِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ، وَالمُرَادُ بِهِ: مَا عَدَا النَّقْدَيْنِ. قَالَ ابن رُشيدٍ: وَافَقَ الْبُخَارِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْحَنَفِيَّةَ مَعَ كَثْرَةِ مُخَالَفَتِهِ لَهُمْ لَكِنْ قَادَهُ إِلَى ذَلِكَ الدَّلِيلُ، وَقَدْ أَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْ قِصَّةِ مُعَاذٍ وَعَنِ الْأَحَادِيثِ كَمَا سَيَأْتِي عَقِبَ كُلٍّ مِنْهَا. (قَوْلُهُ: وَقَالَ طَاوُسٌ: قَالَ مُعَاذٌ لِأَهْلِ الْيَمَنِ): هَذَا التَّعْلِيقُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ إِلَى طَاوُسٍ، لَكِن طَاوس لَمْ يَسْمَعْ مِنْ مُعَاذٍ، فَهُوَ مُنْقَطِعٌ، فَلَا يُغْتَرُّ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ: ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ بِالتَّعْلِيقِ الْجَازِمِ، فَهُوَ صَحِيحٌ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ إِلَّا الصِّحَّةَ إِلَى مَنْ عُلِّقَ عَنْهُ، وَأَمَّا بَاقِي الْإِسْنَادِ فَلَا إِلَّا أَنَّ إِيرَادَهُ لَهُ فِي مَعْرِضِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ يَقْتَضِي قُوَّتَهُ عِنْدَهُ، وَكَأَنَّهُ عَضَّدَهُ عِنْدَهُ الْأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي البَابِ".

وقال في «النكت» (1/331): "ومثال التعليق الجازم الذي يضعف بسبب الانقطاع: قوله في كتاب الزكاة، وقال طاووس: قال معاذ (يعني ابن جبل - رضي الله عنه-) لأهل اليمن: "ائتوني بعرض ثياب خميص... والإسناد صحيح إلى طاووس، قد رويناه في كتاب الخراج ليحيى بن آدم، لكنه منقطع؛ لأن طاووس لم يسمع من معاذ".

ونقل ابن الملقن في «التوضيح لشرح الجامع الصحيح» (10/363)، وفي «البدر المنير» (7/402) قول البيهقي في رد هذا الأثر! فكيف يزعم المعترض أن ابن الملقن قوّى ما يرويه طاوس عن معاذ؟!

بل إن ابن الملقن قال في «البدر المنير» (5/516) - وذكر حديث: معَاذ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «أَنه لم يَأْخُذ زَكَاة الْعَسَل، وَقَالَ: لم يَأْمُرنِي فِيهِ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم بِشَيْء» -: "هذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي «مراسيله»، وَالبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه»، من حَدِيث طَاوس عَن معَاذ أَنه أُتِي بوقص البَقر (وَالعَسَل)، فَقَالَ معَاذ: كِلَاهُمَا لم يَأْمُرنِي فِيهِ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم بِشَيْء». قلت: وَهَذَا مُرْسل؛ طَاوس لم يدْرك معَاذًا كَمَا سلف فِي الحَدِيث السَّادِس من بَاب زَكَاة النعم".

وحديث وقص البقر والعسل هذا رده الذهبي بالانقطاع في «المهذب في اختصار السنن الكبير» (3/1483) (6573) ذكره في مختصره لكتاب البيهقي، ثم قال: "قلت: وهذا منقطع".

ولعل المعترض استفاد أيضاً من كلمة للشيخ الطريفي في لقاء معه مع «شبكة الفوائد» حيث تكلم عن مثل هذه المنقطعات، فقال عن: "حديث إبراهيم عن ابن مسعود، ولم يسمع منه بالاتفاق إلا أن حديثه عنه صحيح؛ لأنه حكى عن نفسه أنه إن حدث عن ابن مسعود بواسطة فهو عمن سمى، وإن لم يسم فهو عن أكثر من واحد من أصحابه".

ثم قال: "ومثله رواية طاوس عن معاذ، فطاوس من أعلم الناس بفقه معاذ فقبل بالجملة حديثه. ومثله حديث علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وغير ذلك".

قلت: وفي هذه الإطلاقات نظر! ولا بدّ من دراسة كل أثر وحده وفق ما تحيطه القرائن وغير ذلك.

وأثر طاوس عن معاذ هذا ضعفه البيهقي؛ لإرساله، وإن احتج به فحمله على أخذ ذلك من أهل الجزية، قد أوّله الشافعي، ولم يتعرض البيهقي لذلك!

قَالَ الشَّافِعِيُّ في كتاب «الأم» (2/99) - وهو يتحدث عن نقل الصدقة من بلد إلى آخر- : "فَاحْتَجَّ مُحْتَجٌّ فِي نَقْلِ الصَّدَقَاتِ بِأَنْ قَالَ: إنَّ بَعْضَ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ قَالَ: إنْ جُعِلَتْ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ أَجْزَأَ، وَاَلَّذِي قَالَ هَذَا القَوْلَ لَا يَكُونُ قَوْلُهُ حُجَّةً تُلْزِمُ وَهُوَ لَوْ قَالَ هَذَا لَمْ يَكُنْ قَالَ إنْ جُعِلَتْ فِي صِنْفٍ وَأَصْنَافٍ مَوْجُودَةٍ، وَنَحْنُ نَقُولُ كَمَا قَالَ إذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْأَصْنَافِ إلَّا صِنْفٌ أَجْزَأَ أَنْ تُوضَعَ فِيهِ، وَاحْتَجَّ بِأَنْ قَالَ: إنَّ طَاوُسًا رَوَى: «أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ لِبَعْضِ أَهْلِ الْيَمَنِ: ائْتُونِي بِعُرْضِ ثِيَابٍ آخُذُهَا مِنْكُمْ مَكَانَ الشَّعِيرِ وَالْحِنْطَةِ فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ وَخَيْرٌ لِلْمُهَاجِرِينَ بِالْمَدِينَةِ».

صَالَحَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ ذِمَّةِ اليَمَنِ عَلَى دِينَارٍ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ كُلَّ سَنَةٍ، فَكَانَ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ الرَّجُلِ دِينَارٌ أَوْ قِيمَتُهُ مِنْ الْمَعَافِرِ، كَانَ ذَلِكَ إذَا لَمْ يُوجَدْ الدِّينَارُ، فَلَعَلَّ مُعَاذًا لَوْ أَعَسَرُوا بِالدِّينَارِ أَخَذَ مِنْهُمْ الشَّعِيرَ وَالْحِنْطَةَ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا عِنْدَهُمْ، وَإِذَا جَازَ أَنْ يَتْرُكَ الدِّينَارَ لِغَرَضٍ فَلَعَلَّهُ جَازَ عِنْدَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ طَعَامًا وَغَيْرَهُ مِنْ العَرَضِ بِقِيمَةِ الدَّنَانِيرِ، فَأَسْرَعُوا إلَى أَنْ يُعْطُوهُ مِنْ الطَّعَامِ لِكَثْرَتِهِ عِنْدَهُمْ يَقُولُ: «الثِّيَابُ خَيْرٌ لِلْمُهَاجِرِينَ بِالمَدِينَةِ وَأَهْوَنُ عَلَيْكُمْ»؛ لِأَنَّهُ لَا مُؤْنَةً كَثِيرَةً فِي الْمَحْمَلِ لِلثِّيَابِ إلَى الْمَدِينَةِ وَالثِّيَابُ بِهَا أَغْلَى ثَمَنًا.

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَذَا تَأْوِيلٌ لَا يُقْبَلُ إلَّا بِدَلَالَةٍ عَمَّنْ رُوي عَنْهُ، فَإِنَّمَا قُلْنَاهُ بِالدَّلَائِلِ عَنْ مُعَاذٍ وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ هَذَا.

أَخْبَرَنَا مُطَرِّفُ بْنُ مَازِنٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ مُعَاذًا قَضَى: «أَيُّمَا رَجُلٍ انْتَقَلَ مِنْ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ إلَى غَيْرِ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ فَعُشْرُهُ وَصَدَقَتُهُ إلَى مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ».

فَبَيَّنَ فِي قِصَّةِ مُعَاذٍ أَنَّ هَذَا فِي المُسْلِمِينَ خَاصَّةً، وَذَلِكَ أَنَّ العُشْرَ وَالصَّدَقَةَ لَا تَكُونُ إلَّا لِلْمُسْلِمِينَ.

وَإِذَا رَأَى مُعَاذٌ فِي الرَّجُلِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ الصَّدَقَةَ يَنْتَقِلُ بِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ عَنْ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ أَنْ تَكُونَ صَدَقَتُهُ وَعُشْرُهُ إلَى مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ وَذَلِكَ يَنْتَقِلُ بِصَدَقَةِ مَالِهِ النَّاضِّ وَالْمَاشِيَةِ، فَيَجْعَلُ مُعَاذٌ صَدَقَتَهُ وَعُشْرَهُ لِأَهْلِ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ لَا لِمَنْ يَنْتَقِلُ إلَيْهِ بِقَرَابَتِهِ دُونَ أَهْلِ الْمِخْلَافِ الَّذِي انْتَقَلَ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ أَنَّ مِخْلَافَ عَشِيرَتِهِ لِعَشِيرَتِهِ، وَإِنَّمَا خَلَطَهُمْ غَيْرُهُمْ وَكَانَتْ الْعَشِيرَةُ أَكْثَرَ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ رَأَى أَنَّ الصَّدَقَةَ إذَا ثَبَتَتْ لِأَهْلِ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ لَمْ تُحَوَّلْ عَنْهُمْ صَدَقَتُهُ وَعُشْرُهُ بِتَحَوُّلِهِ وَكَانَتْ لَهُمْ كَمَا تَثْبُتُ بَدْءًا. وهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عُشْرُهُ وَصَدَقَتُهُ الَّتِي هِيَ بَيْنَ ظَهَرَانِي مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ لَا تَتَحَوَّلُ عَنْهُمْ دُونَ النَّاضِّ الَّذِي يَتَحَوَّلُ، وَمُعَاذٌ إذْ حَكَمَ بِهَذَا كَانَ مِنْ أَنْ يَنْقُلَ صَدَقَةَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الصَّدَقَةِ إلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ أَكْثَرُهُمْ أَهْلُ الْفَيْءِ أَبْعَدَ، وَفِيمَا رَوَيْنَا مِنْ هَذَا عَنْ مُعَاذٍ مَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا: لَا تُنْقَلُ الصَّدَقَةُ مِنْ جِيرَانِ الْمَالِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ الصَّدَقَةُ إلَى غَيْرِهِمْ.

وَطَاوُسٌ لَوْ ثَبَتَ عَنْ مُعَاذٍ شَيْءٌ لَمْ يُخَالِفْهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَطَاوُسٌ يَحْلِفُ مَا يَحِلُّ بَيْعُ الصَّدَقَاتِ قَبْلَ أَنْ تُقْبَضَ وَلَا بَعْدَ أَنْ تُقْبَضَ، وَلَوْ كَانَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَنْ احْتَجَّ عَلَيْنَا بِأَنَّ مُعَاذًا بَاعَ الْحِنْطَةَ وَالشَّعِيرَ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِالثِّيَابِ كَانَ بَيْعُ الصَّدَقَةِ قَبْلَ أَنْ تُقْبَضَ، وَلَكِنَّهُ عِنْدَنَا إنَّمَا قَالَ: «ائْتُونِي بِعُرْضٍ مِنْ الثِّيَابِ»..." إلخ كلامه.

وروى الشافعي في «الأم» (3/198) قال: أَخْبَرَنَا مُطَرِّفُ بْنُ مَازِنٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ: «أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَضَى فِيمَنْ ارْتَهَنَ نَخْلًا مُثْمِرًا فَلْيَحْسِبْ الْمُرْتَهِنُ ثَمَرَهَا مِنْ رَأْسِ المَالِ».

قال الشافعي: وَذَكَرَ سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ شَبِيهًا بِهِ.

قَال الشافعي: وَأَحْسَبُ مُطَرِّفًا قَالَهُ فِي الحَدِيثِ مِنْ عَامِ حَجِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وقَالَ الشَّافِعِيّ: "وهَذَا كَلَامٌ يَحْتَمِلُ مَعَانِيَ، فَأَظْهَرُ مَعَانِيهِ أَنْ يَكُونَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ تَرَاضَيَا أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ رَهْنًا أَوْ يَكُونَ الدَّيْنُ حَالًّا وَيَكُونَ الرَّاهِنُ سَلَّطَ الْمُرْتَهِنَ عَلَى بَيْعِ الثَّمَرَةِ وَاقْتِضَائِهَا مِنْ رَأْسِ مَالِهِ أَوْ أَذِنَ لَهُ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ إلَى أَجَلٍ، وَيُحْتَمَلُ غَيْرُ هَذَا الْمَعْنَى فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَا تَرَاضَيَا أَنَّ الثَّمَرَةَ لِلْمُرْتَهِنِ فَتَأَدَّاهَا عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ هِيَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ لَا لِلْمُرْتَهِنِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا صَنَعُوا هَذَا مُتَقَدِّمًا فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهَا لَا تَكُونُ لِلْمُرْتَهِنِ وَيُشْبِهُ هَذَا لِقَوْلِهِ مِنْ عَامِ حَجِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّهُمْ كَانُوا يَقْضُونَ بِأَنَّ الثَّمَرَةَ لِلْمُرْتَهِنِ قَبْلَ حَجِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَظُهُورِ حُكْمِهِ فَرَدَّهُمْ إلَى أَنْ لَا تَكُونَ لِلْمُرْتَهِنِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ ظَاهِرٌ مُقْتَصَرًا عَلَيْهِ وَصَارَ إلَى التَّأْوِيلِ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ فِيهِ شَيْءٌ إلَّا جَازَ عَلَيْهِ، وَكُلٌّ يَحْتَمِلُ مَعْنًى لَا يُخَالِفُ مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ لَا تَكُونُ الثَّمَرَةُ رَهْنًا مَعَ الْحَائِطِ إذَا لَمْ يُشْتَرَطْ".

ثم قال: "وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ إلَّا أَنْ يَتَشَارَطَا عِنْدَ الرَّهْنِ أَنْ يَكُونَ الوَلَدُ وَالنِّتَاجُ وَالثَّمَرُ رَهْنًا فَيُشْبِهُ أَنْ يَجُوزَ عِنْدِي، وَإِنَّمَا أَجْزَتْهُ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ أَنَّهُ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ مَا لَا يَكُونُ، وَهَذَا يُشْبِهُ مَعْنَى حَدِيثِ مُعَاذٍ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالْبَيِّنِ جِدًّا كَانَ مَذْهَبًا، وَلَوْلَا حَدِيثُ مُعَاذٍ مَا رَأَيْته يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ أَحَدٍ جَائِزًا".

قلت: فهذا أيضاً من أقضية معاذ رواه طاوس عنه، لكن يحتمل عدة معان، ولم يجزم الشافعي بشيء!

وعموماً: فمن قبل ما يرويه طاوس عن معاذ مما يتعلق بالزكاة والصدقات والأقضية فقد آوى إلى ركن شديد، ومن هنا قال الشافعي قولته بأن طاوساً كان عالماً بأمر معاذ.

وقد وقع اختلاف بين أهل العلم في بعض ما يرويه طاوس عن معاذ كهذا الأثر الذي نحن نتكلم عليه، فمع قبول الشافعي له إلا أنه أوّله وحمله على الجزية! وردّ ذلك جمهور أهل العلم. وقالوا كذلك هو مخالف لما رُوي عن معاذ في أقضيته أنه كان لا يرى نقل الزكاة إلى بلد آخر!

وقد جمعت كل ما رُوي عن طاوس عن معاذ من آثار وأقوال وأقضية وأحاديث وحققتها في بحث خاص سأنشره قريباً بإذن الله.

ثانياً: قال المعترض: "ب- أن مرسلات طاوس بشكل عام أقوى من مرسلات غيره، وذلك أنه لم يكن يأخذ عن كل أحد، ولهذا نقل ابن المديني عن شيخه القطان أنه قال: «مرسلات مجاهد أحب إلى من مرسلات عطاء بن أبي رباح بكثير، كان عطاء يأخذ عن كل ضرب... قال عليٌّ ليحيى: مرسلات مجاهد أحب إليك أم مرسلات طاوس؟ قال: ما أقربهما». قلت: فهنا رفع القطان من شأن مرسلات مجاهد وقدمها على مرسلات عطاء؛ لأنه لم يكن يأخذ عن كل ضرب، ثم قارب بين مرسلات مجاهد وطاوس في القوة، ولو كان طاوس مثل عطاء يأخذ عن كل ضرب لما قارب القطان بين مرسلاته ومرسلات مجاهد، هذا بالنسبة لمرسلات طاوس بشكل عام، فكيف بمرسلاته عمن اختص به وبعلمه وهو معاذ.

وقد تبين لي أن أئمة النقد المتقدمين كأحمد وابن المديني والبخاري وغيرهم يكتفون بمثل هاتين القرينتين لتصحيح بعض مرسلات التابعين الكبار".

قلت: هذه ليست قرينة! بل هذه مصيبة مبينة!!

أما قوله: "مرسلات طاوس بشكل عام" = يعني به المعنى المعروف في المصطلح: ما يرسله التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أورد هذه القرينة بعد القرينة الأولى وهي رواية طاوس عن معاذ، وهي مرسلة أيضاً، فلو أنه قصد عموم الإرسال = أي انقطاع في الإسناد لدخلت القرينة الأولى في الثانية!

وظاهر الكلام عندما نقول: "مرسلات فلان" أي ما يرسله عن النبي صلى الله عليه وسلم كمرسلات سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير.

قَال علي بن المديني: سمعت يحيى يقول: "مُرْسلاًت سَعِيد بن جبير أحبّ إلي من مُرْسلاًت عطاء". قلت: مُرْسلاًت مجاهد أحب إليك أو مُرْسلاًت طاووس؟ قال: "ما أقربهما".

وَقَال علي: قال يحيى: "أما مجاهد عن عليّ فليس به بأس، قد أسند عن ابن أَبي ليلى عن علي".

وقال علي بن المديني: سمعت يحيى قال: "كان شعبة يوهن مرسلات معاوية بن قرة، - يرى أنها عن شهر".

فهنا يتبيّن معنى قول القطان في تقديم بعض مرسلات مجاهد وغيره، ولا يقصد المرسلات المطلقة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم إن ضرب هذه الأقوال بعضها ببعض والخلوص إلى هذه النتيجة التي ذكرها المعترض طريقة ليست سليمة! فكلّ سؤال يجب أن يوضع في مكانه.

قَالَ عليّ بن المديني: قال يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ القطان: "مُرْسَلَاتُ مُجَاهِدٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مُرْسَلَاتِ عَطَاءٍ بِكَثِيرٍ، كَانَ عَطَاءٌ يَأْخُذُ عَنْ كُلِّ ضَرْبٍ".

وَقَالَ يَحْيَى: "مُرْسَلَاتُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مُرْسَلَاتِ عَطَاءٍ".

قُلْتُ لِيَحْيَى: فَمُرْسَلَاتُ مُجَاهِدٍ؟ قَالَ: "سَعِيدٌ أَحَبُّ إِلَيَّ".

قُلْتُ لِيَحْيَى: فَمُرْسَلَاتُ مُجَاهِدٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمْ مُرْسَلَاتُ طَاوُسٍ؟ قَالَ: "مَا أَقْرَبَهُمَا". [الكفاية للخطيب (ص: 387)].

فهنا قال القطان بأن مرسلات مجاهد، ومرسلات سعيد بن جبير أحب إليه من مرسلات عطاء.

فعلى طريقة المعترض تكون مرسلات سعيد قريبة من مرسلات مجاهد، لكن ابن المديني سأل القطان عن مرسلات مجاهد وسعيد، فقدّم مرسلات سعيد.

وهذا يعني أن الطريقة التي تبعها المعترض فيما ذهب إليه طريقة غير سليمة. فكل مقارنة بين مرسلات هؤلاء تبقى في سياقها، ولا يُقاس عليها، وإلا نسبنا ليحيى أقوالاً متضاربة!

وبِمَ يرد المعترض على ما جاء في «تاريخ ابن أبي خيثمة»: "رأيت في كتاب علي: قال يحيى: مرسلات سعيد بن جبير أحب إليّ من مرسلات عطاء ومجاهد". [إكمال تهذيب الكمال (5/ 270)، تهذيب التهذيب (4/14)]".

فهنا ساوى يحيى القطان بين مرسلات عطاء ومجاهد، وجعلهما في مستوى واحد!

فمرسلات عطاء ومجاهد وكذا طاوس كلها ضعيفة. وأيضاً ما يُروى عن طاوس من أقوال تتعلق بأمور لا تكون إلا بوحي! فهذه في عداد المراسيل التي لا تقبل إن لم يُسندها، وهي مردودة.

روى عِمْرَان بن خَالِدٍ الخُزَاعِيُّ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَطَاءٍ جَالِسًا فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، إِنَّ طَاوُسًا يَزْعُمُ أَنَّ: «مَنْ صَلَّى العِشَاءَ ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ يَقْرَأُ فِي الْأُولَى تَنْزِيلُ السَّجْدَةَ وَفِي الثَّانِيَةِ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ وُقُوفِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ». فَقَالَ عَطَاءٌ: "صَدَقَ طَاوُسٌ، مَا تَرَكْتُهَا".

فهنا صدّق عطاء طاوساً! وهذا فيه بعض الآثار أن صلاة أربع ركعات بعد العشاء يَعْدِلْنَ بِقَدْرِهنَّ مِنْ لَيْلَةِ القَدْر، لا ثنتين كما هنا، ولم تُحدد فيها القراءة، وقد بينت في موضع آخر أن أثر «صلاة أربع ركعات بعد العشاء كَعِدْلِهِنَّ مِنْ لَيْلَةِ القَدْرِ» لا يصح، لا مرفوعاً ولا موقوفاً! وإنما يُروى من قول كعب الأحبار (35هـ)! وصحّ من قول عبدالرحمن بن الأسود النخعيّ (99هـ)، ومُجاهد بن جبر (104هـ)، وأصل قولهما يرجع لقول كعب الأحبار.

فالأفضلية في كلام القطان وغيره إنما هو في تفاوت هؤلاء في المراتب، وكلها مراتب ضعف.

يقول الحافظ ابن رجب في «شرح علل الترمذي» (1/532 - 535): "ومضمون ما ذكر عنه تضعيف مرسلات عطاء، وأبي إسحاق، والأعمش، والتيمي، ويحيى بن أبي كثير والثوري، وابن عيينة، وأن مرسلات مجاهد وطاوس وسعيد بن المسيب ومالك أحب إليه منها، وقد أشار إلى علّة ذلك بأن عطاء كان يأخذ عن كل ضرب، يعني أنه كان يأخذ عن الضعفاء ولا ينتقي الرجال، وهذه العلة مطردة في أبي إسحاق، والأعمش والتيمي ويحيى بن أبي كثير، والثوري، وابن عيينة، فإنه عرف عنهم الرواية عن الضعفاء أيضاً. وأما مجاهد وطاوس وسعيد بن المسيب ومالك فأكثر تحرياً في رواياتهم وانتقاءا لمن يروون عنه، مع أن يحيى بن سعيد صرح بأن الكل ضعيف".

ثم قال: "وكلام يحيى بن سعيد في تفاوت مراتب المرسلات بعضها على بعض يدور على أربعة أسباب:

أحدهما: ما سبق من أن من عرف روايته عن الضعفاء ضعف مرسله بخلاف غيره.

والثاني: أن من عرف له إسناد صحيح إلى من أرسل عنه، فإرساله خير ممن لم يعرف له ذلك. وهذا معنى قوله: مجاهد عن علي ليس به بأس، قد أسند عن ابن أبي ليلى عن علي.

والثالث: أن من قوي حفظه يحفظ كل ما يسمعه ويثبت في قلبه، ويكون فيه ما لا يجوز الاعتماد عليه بخلاف من لم يكن له قوة الحفظ. ولهذا كان سفيان إذا مر بأحد يتغنى يَسدّ أذنيه حتى لا يدخل إلى قلبه ما يسمعه منه فيقر فيه.

وقد أنكر مرة يحيى بن معين على علي بن عاصم حديث، وقال: ليس هو من حديثك، إنما ذوكرت به فوقع في قلبك، فظننت أنك سمعته، ولم تسمعه، وليس هو من حديثك.

وقال الحسين بن حريث: سمعت وكيعاً يقول: لا ينظر الرجل في كتاب لم يسمعه، لا يأمن أن يعلق قلبه منه.

وقال الحسين بن الحسن المروزي: سمعت عبدالرحمن بن مهدي يقول: كنت عند أبي عوانة فحدث بحديث عن الأعمش: فقلت: ليس هذا من حديثك. قال: بلى. قلت: لا. قال: بلى. قلت: لا. قال: يا سلاّمة هات الدرج فأخرجت فنظرت فيه، فإذا ليس الحديث فيه، فقال: صدقت يا أبا سعيد، فمن أين أتيت؟ قلت: ذوكرت به وأنت شاب فظننت أنك سمعته.

والرابع: إن الحافظ إذا روى عن ثقة لا يكاد يترك اسمه بل يسميه، فإذا ترك اسم الراوي دل إبهامه على أنه غير مرضي، وقد كان يفعل ذلك الثوري وغيره كثيراً، يُكنّون عن الضعيف ولا يسمونه، بل يقولون: عن رجل، وهذا معنى قول القطان: لو كان فيه إسناد صاح به، يعني لو كان أخذه عن ثقة لسماه وأعلن باسمه" انتهى كلامه.

قلت: فمسألة أن مرسلات فلان أحبّ إليّ من فلان لا تعني تصحيح مرسلات من يُفضّل على غيره، وإنما هي أخف ضعفاً.

قال ابن أبي حاتم في «المراسيل» (ص: 7) - بعد أن نقل أقوال القطان وغيره في تفضيل بعض المرسلات على بعض -: سَمِعْتُ أَبِي وَأَبَا زُرْعَةَ يَقُولَانِ: "لا يُحْتَجُّ بِالمَرَاسِيلِ، ولَا تَقُومُ الحُجَّةُ إِلَّا بِالْأَسَانِيدِ الصِّحَاحِ الْمُتَّصِلَةِ". قال: "وكَذَا أَقُولُ أَنَا".

وهذا كله يهدم قول المعترض: "وقد تبين لي أن أئمة النقد المتقدمين كأحمد وابن المديني والبخاري وغيرهم يكتفون بمثل هاتين القرينتين لتصحيح بعض مرسلات التابعين الكبار".

فمن تكلّم على مرسلات كبار التابعين لم يطلق التصحيح فيها، وإنما لفظ الأصحية جاء عند مقارنة مرسلات بعضهم بغيرهم.

كما قال يَحْيَى بن معين: "مُرْسَلاَتُ إِبْرَاهِيْم أصحُّ من مُرْسَلاَتِ سَعِيْد بن الْمُسَيَّبِ، والحَسَن".

مع أن هناك من أطلق القول في تقديم مرسلات سعيد بن المسيب.

قال أحمد: "مرسلات سعيد بن المسيب أصح المرسلات، ومرسلات إبراهيم النخعي لا بأس بها".

قال يعقوب بن سفيان في «المعرفة والتاريخ» (3/239) بعد أن نقل قول أحمد: "كَانَ عَلِيٌّ يخالف أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فِي هَذَا".

وقال عَلِيُّ بنُ المَدِينِيِّ: قُلْتُ لِيَحْيَى بنِ سَعِيدٍ: سَعِيدُ بنُ المُسَيِّبِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ؟ قالَ: "ذَاكَ شِبْهُ الرِّيِحِ".

فالمعترض مُطالب بإثبات ما نسبه لأحمد وابن المديني والبخاري في أنهم كانوا يكتفون بمثل هاتين القرينتين لتصحيح بعض مرسلات التابعين الكبار؟! لا أن ينسب لهم أشياء لم يقولوها!

وأما قوله: "فكيف بمرسلاته عمن اختص به وبعلمه وهو معاذ"، فأي اختصاص هذا الذي كان بين طاوس ومعاذ؟ وما هو مقدار العلم الذي اختص به عنه؟!

بل أحاديث طاوس عن معاذ عموماً معدودة لا تكاد تجد فيها حديثاً مسنداً، والموجود منها معدود لا يجاوز أصابع اليدين وربما اليد الواحدة!

فهذه الإطلاقات التي يطلقها المعترض - هداه الله- تدلّ على بضاعته في هذا العلم، وعدم تعمقه فيه، ونصيحتنا له بأن يُدقق ويُحقق قبل التصدر للاعتراض على غيره! لأن غالب ما يقوله ويرد به على غيره مردود عليه - هداه الله -.

ولو قلنا بقوة مرسلات طاوس لكان لزاماً على المعترض قبولها! فهل سيقبل هذه المرسلات له:

روى الشَّافِعِيُّ في كتاب «الأم» (7/302) قال: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ بِإِسْنَادِهِ - يَعْنِي عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «لَا يُمْسِكَنَّ النَّاسُ عَلَيَّ بِشَيْءٍ فَإِنِّي لَا أُحِلُّ لَهُمْ إلَّا مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَلَا أُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ إلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ».

قالَ الشَّافِعِيُّ: "هَذَا مُنْقَطِعٌ وَنَحْنُ نَعْرِفُ فِقْهَ طَاوُسٍ، وَلَوْ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَيَّنَ فِيهِ أَنَّهُ عَلَى مَا وَصَفْت إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ «لَا يُمْسِكَنَّ النَّاسُ عَلَيَّ بِشَيْءٍ» وَلَمْ يَقُلْ لَا تُمْسِكُوا عَنِّي بَلْ قَدْ أَمَرَ أَنْ يُمْسَكَ عَنْهُ وَأَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِذَلِكَ".

ونقله البيهقي في «السنن الكبرى» (7/120) (13440) لكن لم ينقل قوله: "ونحن نعرف فقه طاوس".

- روى البيهقي في «السنن الكبرى» (7/124) (13452) من طريق ابنِ جُرَيْجٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا رَأَيْتُ لِلْمُتَحَابَّيْنِ مِثْلَ النِّكَاحِ».

قال البيهقي: "وهَذَا مُرْسَلٌ".

ورواه عبدالرزاق في «مصنفه» (6/151) (10319) عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ قَالَ: خَطَبَ رَجُلٌ شَابٌّ امْرَأَةً قَدْ أَحَبَّتْهُ، فَأَبَوْا أَنْ يُزَوِّجُوهَا إِيَّاهُ، فَسَأَلْتُ طَاوُسًا، فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمْ يُرَ لِلْمُتَحَابِّينَ مِثْلُ النِّكَاحِ»، وَأَمَرَنِي أَنْ أُزَوِّجَ.

قلت: قد رُوي موصولاً بذكر ابن عباس، والأصح عن طاوس مرسلاً، ورجّحه العقيلي، وهو حديث منكر!

- روى البيهقي في «السنن الكبرى» (8/115) (16103) من طريق إِسْمَاعِيل المَكِّيّ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ طَاوُسٍ، ذَكَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا طَلَاقَ قَبْلَ مِلْكٍ، وَلَا قِصَاصَ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ مِنَ الْجِرَاحَاتِ».

قال البيهقي: "هَذَا مُنْقَطِعٌ".

ثالثاً: قال المعترض: "قرائن تتعلق بالمروي وهي:

أ- أنه لم ينقل كلاما أو قولا يمكن أن يقع الوهم فيه، وإنما نقل حكما عمليا تناقله أهل اليمن ضمن نقلهم لسيرة معاذ وأحكامه وقضاياه يوم كان واليا عليهم. قال الماوردي في مرسل آخر نحوه رواه طاوس عن معاذ قال: أن هذا وإن كان مرسلا فطريقه السيرة والقضية، وهذه قضية مشهورة في اليمن خصوصا، وفي سائر الناس عموما، وطاوس يماني، فكان الأخذ به من طريق اشتهاره لا من طريق إرساله".

قلت:

هو نقل قولاً وإن كان حكماً عملياً، فلو كان هو من حضر حكم تلك القضية لاعتبرنا هذه القرينة، لكن لا فرق هنا بين القول وبين نقل الفعل، فكلاهما واحد.

وقول الماوردي في «الحاوي» (3/107): "وَرَوَى طَاوُسٌ الْيَمَانِيُّ: أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً تَبِيعًا، وَمِنْ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً، وَأُتِيَ بِدُونِ ذَلِكَ فَأَبَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا...

فَإِنْ قِيلَ: حَدِيثُ طَاوُسٍ عَنْ مُعَاذٍ مُرْسَلٌ؛ لِأَنَّ طَاوُسًا وُلِدَ فِي زَمَانِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَكَانَ لَهُ سَنَةً حِينَ مَاتَ مُعَاذٌ، وَالشَّافِعِيُّ لَا يَقُولُ بِالمَرَاسِيلِ، فَكَيْفَ يَحْتَجُّ بِهَا؟ قِيلَ: الجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا - وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا- فَطَرِيقُهُ السِّيرَةُ والقَضِيَّةُ، وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ مَشْهُورَةٌ فِي اليَمَنِ خُصُوصًا، وَفِي سَائِرِ النَّاسِ عُمُومًا، وَطَاوُسٌ يَمَانِيٌّ، فَكَانَ الْأَخْذُ بِهِ مِنْ طَرِيقِ اشْتِهَارِهِ لَا مِنْ طَرِيقِ إِرْسَالِهِ. والْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَمْنَعُ مِنَ الْأَخْذِ بِالْمَرَاسِيلِ إِذَا كَانَ هُنَاكَ مُسْنَدٌ يُعَارِضُهُ، وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا لَا يُعَارِضُهُ مُسْنَدٌ فَالْأَخْذُ بِهِ وَاجِبٌ. وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَإِنْ أَرْسَلَهُ الشَّافِعِيُّ فَقَدْ أُسْنِدَ لَهُ غَيْرُهُ، فَكَانَ الْأَخْذُ بِهِ مِنْ طَرِيقِ الْإِسْنَادِ".

قلت: فالماوردي بيّن أن الأخذ بهذه القضية لاشتهارها في الأمصار عموماً، وفي اليمن خصوصاً، ولم يؤخذ من الطريق المرسل، وقد أسند الشافعي غيره، فالاعتبار ليس على مرسل طاوس فقط.

وقد أوّل الماوردي حديث طاوس عن معاذ في مسألة الزكاة، وحملها على الجزية، وهذا يناقض رأي المعترض في تصحيحه للأثر وجعله في الزكاة!

قال الماوردي في «الحاوي» (3/179): "مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «وَلَا يُجْزِئُهُ ذَهَبٌ عَنْ وَرِقٍ، وَلَا وَرِقٌ عَنْ ذَهَبٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ»".

قالَ الْمَاوَرْدِيُّ: "وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِخْرَاجُ الْقِيَمِ فِي الزَّكَوَاتِ لَا يَجُوزُ، وَكَذَا فِي الْكَفَّارَاتِ حَتَّى يُخْرِجَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ بَدَلًا أَوْ مُبْدَلًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْقِيَمِ فِي الزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارِاتِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ عِتْقًا...".

ثم قال في الرد على من احتج بأثر طاوس عن معاذ في جواز إخراج القيمة: "وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِحَدِيثِ مُعَاذٍ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ وَارِدٌ فِي الجِزْيَةِ لَا فِي الزَّكَاةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ فِي الزَّكَاةِ مِنَ الْحَبِّ حَبًّا، ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِالجِزْيَةِ فَقَالَ: خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ عَدْلَهُ مِنْ مَعَافِرِ الْيَمَنِ، فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ مُعَاذٌ «آخُذُهُ مِنْكُمْ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ»، وَذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الجِزْيَةِ، قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُعَاذٌ عَقَدَ مَعَهُمُ الجِزْيَةَ عَلَى أَخْذِ الشَّعِيرِ مِنْ زُرُوعِهِمْ، يُوَضِّحُ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْجِزْيَةِ لَا مِنَ الزَّكَاةِ أَنَّ مُعَاذًا قَالَ: «فَإِنَّهُ أَنْفَعُ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ»، وَالزَّكَاةُ لَا يَجُوزُ نَقْلُهَا مِنْ جِيرَانِ الْمَالِ إِلَى غَيْرِهِمْ، سِيَّمَا عِنْدَ مُعَاذٍ الَّذِي يَقُولُ: «أَيُّمَا رَجُلٍ انْتَقَلَ مِنْ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ إِلَى غَيْرِ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ فَعُشْرُهُ وَصَدَقَتُهُ فِي مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ». فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ فِي الْجِزْيَةِ الَّتِي يَجُوزُ نَقْلُهَا".

قلت: يعني حمله على الجزية؛ لأنَّ مذهب معاذ لا يجوز نقل الزَّكاة من بلدٍ إلى بلدٍ، وإنَّما سمَّاها صدقة تجوُّزًا.

وقال في موضع آخر (8/483): "وَأَمَّا قَوْلُ مُعَاذٍ «ائْتُونِي بِخَمِيسٍ أَوْ لَبِيسٍ»، فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَالِ الجِزْيَةِ؛ لِأَنَّ المُهَاجِرِينَ بِالمَدِينَةِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ يُصْرَفُ إِلَيْهِمُ الجِزْيَةُ، وَلَا تُصْرَفُ إِلَيْهِمُ الزَّكَاةُ"، فالمعترض - هداه الله- يأخذ من كلام الماوردي ما يعجبه، ولو تتبع كلام الماوردي لوجده ينقض احتجاجه بالكلام الآخر نقضاً صريحاً ويرد ما يحاول الاستدلال به عليه.

وغالب أهل العلم على أن ما رواه طاوس عن معاذ في الزكاة لا في الجزية، وهذا واضح في تبويب الإمام البخاري.

وهو رأي الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه.

قال إسحاق الكوسج في «مسائله لأحمد وإسحاق» (3/1149) قلت: تؤخذ العروض في الزكاة؟

قال - أي أحمد -: "قد رُوي هذا عن معاذ - رضي الله عنه -، وأما أنا فلا يعجبني".

قال إسحاق: "هو جائز إذا كان على وجه النظر للمساكين".

قلت: فهنا ذكروا هذا في عروض الزكاة، ولم يأخذ أحمد بما رُوي عن معاذ، وكره ذلك، وجوّزه إسحاق لمصلحة المساكين والضرورة.

قال الكوسج في موضع آخر (3/1006): قلت: قال سفيان الثوري: "لأن يعطيها على وجهها أحب إليَّ، وإن أعطى العروض أجزأه".

قال أحمد: "ما يعجبني أن يعطي العروض".

قال إسحاق: "كما قال أحمد، إلا أن يكون في موضع ضرورة".

وقال أبو عبدالله المروزي في «اختلاف الفقهاء» (ص: 449) (241): "وقالَ سُفْيَانُ: والعروض تجزئ أن تعطيها عَن زكاة مَالك إِذَا كانت قيمته ذَلِكَ، وإن تعطيها على وجهها أحبّ إليّ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَهُوَ قَوْل أَحْمَد وأبي عُبَيْد وإِسْحَاقَ.

وقَالَ مَالِكٌ وَأَهْلُ المَدِيْنَةِ والشَّافِعِيُّ: لَا تجزيه أن يعطي القيمة، وعَلَيْهِ أن يخرج ماوجب عَلَيْهِ بعينه".

قَالَ أَبُوْ عَبْدِاللهِ المروزي: "والقياس الصحيح هَذَا".

رابعاً: قال المعترض: "ب- أن هذا المرسل عن طاوس عن معاذ لم يأت ما يخالفه أو يعارضه رغم اشتهاره في دواوين السنة الكثيرة".

قلت: عدم وجود ما يخالفه أو يعارضه لا يعني أن جميع العلماء قبلوه! فكيف إذا صرّح بعضهم برده بالانقطاع بين طاوس ومعاذ؟! كما قال الدارقطني: "هَذَا مُرْسَلٌ؛ طَاوُسٌ لَمْ يُدْرِكْ مُعَاذًا"، وكذا البيهقي، وابن حجر، وغيرهم.

فتعليل هؤلاء له بالانقطاع هو مخالف له! وتأويله أنه في الجزية أيضاً يعارض من ذهب إلى أنه في الزكاة!

بل صرّح البيهقي في «الخلافيات» (4/318) بوجود ما يعارضه، فقال: "ثُمَّ يُعَارِضُهُ مَا أخبرنا أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى: حدثنا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ: حدثنا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ: قُرِئَ عَلَى ابْنِ وَهْبٍ قَالَ: وَكَتَبَ إِلَيَّ كَثِيرُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الْمُزَنِيُّ يُخْبِرُ عَنْ رُبَيْحِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: جَاءَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا أُولُو أَمْوَالٍ، فَهَلْ يَجُوزُ عَنَّا مِنْ زَكَاةِ الْفِطْرِ؟ قَالَ: لا، فَأَدُّوهَا عَنِ الصَّغِيرِ والكَبِيرِ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ".

خامساً: قال المعترض: "ج- أن البخاري عضده بروايات أخرى في الباب تدل على قوته وصحته كما ذكر نحو ذلك ابن حجر، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «تصدقن ولو من حليكن»، قال البخاري: «فلم يستثن صدقة الفرض من غيرها، فجعلت المرأة تلقي خرصها وسخابها، ولم يخص الذهب والفضة من العروض». وقد اتفق المحدثون على قبول المرسلات والاحتجاج بها إذا احتفت بها شواهد تقويها وتعضدها، فكيف بهذا الحديث وقد احتفت به أيضا قرائن وملابسات أخرى تؤكد قوته وصحته" انتهى.

قلت:

أخذ المعترض كلام ابن حجر، ثم قال: "كما ذكر نحو ذلك ابن حجر"!! وكأن الكلام كلامه، وابن حجر ذكر نحو كلامه!

قال ابن حجر في «الفتح» (3/312): "(قَوْلُهُ: وَقَالَ طَاوُسٌ قَالَ مُعَاذٌ لِأَهْلِ الْيَمَنِ): هَذَا التَّعْلِيقُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ إِلَى طَاوُسٍ، لَكِن طَاوس لَمْ يَسْمَعْ مِنْ مُعَاذٍ فَهُوَ مُنْقَطِعٌ، فَلَا يُغْتَرُّ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ: ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ بِالتَّعْلِيقِ الْجَازِمِ فَهُوَ صَحِيحٌ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ إِلَّا الصِّحَّةَ إِلَى مَنْ عُلِّقَ عَنْهُ، وَأَمَّا بَاقِي الْإِسْنَادِ فَلَا إِلَّا أَنَّ إِيرَادَهُ لَهُ فِي مَعْرِضِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ يَقْتَضِي قُوَّتَهُ عِنْدَهُ وَكَأَنَّهُ عَضَّدَهُ عِنْدَهُ الْأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الْبَابِ".

وابن حجر لم يذكر صحته! فهذه من كيس المعترض!

ثم إن المعترض نقل قول ابن حجر بأنه عضده بالأحاديث التي ذكرها في الباب، أي الأحاديث التي ساقها مسندة بعد التبويب، لكن المعترض ذكر أن منها: "قوله عليه الصلاة والسلام: «تصدقن ولو من حليكن»"، ثم أتى بقول البخاري، وهذا كله في التبويب، لا في أحاديث الباب.

والحديث الذي ذكره في الباب هو حديث ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قال: أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَصَلَّى قَبْلَ الخُطْبَةِ، فَرَأَى أَنَّهُ لَمْ يُسْمِعِ النِّسَاءَ، فَأَتَاهُنَّ وَمَعَهُ بِلاَلٌ نَاشِرَ ثَوْبِهِ، فَوَعَظَهُنَّ، وَأَمَرَهُنَّ أَنْ يَتَصَدَّقْنَ»، فَجَعَلَتِ المَرْأَةُ تُلْقِي وَأَشَارَ أَيُّوبُ إِلَى أُذُنِهِ وَإِلَى حَلْقِهِ.

وأما حديث «تصدقن ولو من حليكن»، فأخرجه البخاري في "بَاب الزَّكَاةِ عَلَى الزَّوْجِ وَالأَيْتَامِ فِي الحَجْرِ"، (2/121) من حديث عَمْرِو بْنِ الحَارِثِ، عَنْ زَيْنَبَ - امْرَأَةِ عَبْدِاللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَتْ: كُنْتُ فِي المَسْجِدِ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ» وَكَانَتْ زَيْنَبُ تُنْفِقُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، وَأَيْتَامٍ فِي حَجْرِهَا، قَالَ: فَقَالَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ: سَلْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْكَ وَعَلَى أَيْتَامٍ فِي حَجْرِي مِنَ الصَّدَقَةِ؟ فَقَالَ: سَلِي أَنْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَانْطَلَقْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدْتُ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ عَلَى البَابِ، حَاجَتُهَا مِثْلُ حَاجَتِي، فَمَرَّ عَلَيْنَا بِلاَلٌ، فَقُلْنَا: سَلِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَجْزِي عَنِّي أَنْ أُنْفِقَ عَلَى زَوْجِي، وَأَيْتَامٍ لِي فِي حَجْرِي؟ وَقُلْنَا: لاَ تُخْبِرْ بِنَا، فَدَخَلَ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: «مَنْ هُمَا؟» قَالَ: زَيْنَبُ، قَالَ: «أَيُّ الزَّيَانِبِ؟» قَالَ: امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «نَعَمْ، لَهَا أَجْرَانِ، أَجْرُ القَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ».

وهناك مسائل وردود تتعلق بهذا الحديث لا ينبغي أن يُغفل عنها ذكرها ابن حجر في «الفتح» (3/312)، والعيني الحنفي في «عمدة القاري» (9/4).

وأما قوله: "وقد اتفق المحدثون على قبول المرسلات والاحتجاج بها إذا احتفت بها شواهد تقويها وتعضدها، فكيف بهذا الحديث، وقد احتفت به أيضا قرائن وملابسات أخرى تؤكد قوته وصحته"، فأين هذا الاتفاق المزعوم؟!! والمسألة في أصلها فيها خلاف طويل بين أهل العلم؟!!

ثم ما هي القرائن والملابسات الأخرى التي تؤكد قوة وصحة هذا الأثر؟!! إن كان عندك قرائن أخرى فلم لم تذكرها وأنت في موضع البيان، والقاعدة الأصولية تقول: "لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة"؟!!

هذه تعليقات سريعة كان الهدف منها إثبات تناقض المعترض في رده لبعض الآثار المنقطعة المحتفة بالقرائن، وقبوله لآثار منقطعة مستنداً فيها إلى القرائن - بزعمه -!! ومما يحسن التنبيه عليه أن المعترض قصد بكلامه عن أثر معاذ الرد على "مشهور حسن سلمان النجار"، وليس فيما كتبناه أعلاه دفاع عن مشهور، بل لقد بيَّنا سرقاته العلمية في عدة بحوث وكتب، ولكن القصد بيان تناقض المعترض فحسب.

والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وكتب: د. خالد الحايك.

1 شوال 1441هـ.

 

شاركنا تعليقك