الموقع الرسمي للشيخ الدكتور خالد الحايك

رَفعُ الإيهام ودفع الاتهام بانتقاء أقوال ابن مَعينٍ الإمام!

رَفعُ الإيهام ودفع الاتهام بانتقاء أقوال ابن مَعينٍ الإمام!

شُبهة حول الأخذ بقول ناقد في مكان وردّه في مكان آخر! هل هذا يُعدّ من الاضطراب في المنهج، ومخالفة الأصول؟!

 

قبل الحديث عن الشبهة المعنون لها أحبّ أن أقول: إن اعتراضات بعض المحبين أو المخالفين أو استشكالاتهم يكون فيها الخير من جهة أن يُحرر المرء فيما يُعترض عليه به شيئاً جديداً - وإن كان مفهوماً عنده من قبل لترسخ الفكرة وينشرها ويستفيد ويفيد غيره - وبحمد الله ما اُعترض عليّ في شيء إلا بيّنته بإسهاب وأصّلته حتى يرتفع الإشكال والاعتراض.

ولكن مما يُغضب المرء أحياناً أن بعض هذه الاعتراضات تخرج من متخصصين من حملة شهادات الدكتوراه في الحديث! فإذا قرأتها تعجبت وقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا إليه راجعون! إذا كان هؤلاء لا يفهمونك وهم من أهل الاختصاص! فما بالك بمن هم ليسوا من أهله؟! وحسبنا الله ونعم الوكيل.

اعترض بعض المتخصصين هدانا الله وإياهم - من باب تتبع أخطاء العبد الفقير- عليّ بهذا الاعتراض:

"في حديث: (يا عبادي إني حرمت الظلم) رد الدكتور خالد الحايك سماع أبي إدريس من أبي ذر مع أنه في مسلم، وابن معين صرح بسماعه منه!

وفي حديث: (عائشة في الطاعون) رد سماع يحيى بن يعمر من عائشة، مع أنه في البخاري وفيه تصريح بالسماع، واستدل بأن ابن معين نفى السماع!

يعني: لم يقبل كلام ابن معين في إثبات سماع الأول، وقبله في نفي سماع الثاني، من أين تأتي الثقة بعد!!" انتهى.

ولرد هذا الاعتراض أقول مستعينا بالله الكريم:

أولاً: لا يجوز قطع النصوص واجتزاؤها من أماكنها وسياقاتها التي كتبت فيها، فكلّ نصّ يجب أن يبقى في مكانه المتعلق به أو تبيين ذلك عند نقله وحكايته، ثم النظر هناك لم قُبِل إثباتُه في مكان، ونفي في آخر.

وللأسف من يقرأ هذا الاعتراض سيظن بنا الظنون وأن المسألة قائمة على التشهي والهوى؟ وخاصة ممن لا يعرفون التخصص! ولكن عند الله تجتمع الخصوم.

ثانياً: نعم، القائل واحد، وهو الإمام الناقد ابن معين، نقبل إثباته هنا، ونرده هناك أو العكس، لكن ليس بالهوى، وإلا للزم أن يكون في أقوال الأئمة تناقض عجيب، ولفتحنا باباً لن يُغلق يدخله أهل الهوى وأعداء السنة.

فابن معين ينفي سماع راو من آخر يخالفه ناقد آخر بإثباته أو العكس، وهذا كله في موضع الاجتهاد، قد نخالف هذا في موضع ونخالفه في آخر، والعكس.

ثانياً: نعم، القائل واحد، وهو الإمام الناقد ابن معين، نقبل إثباته هنا، ونرده هناك أو العكس، لكن ليس بالهوى، وإلا للزم أن يكون في أقوال الأئمة تناقض عجيب، ولفتحنا باباً لن يُغلق يدخله أهل الهوى وأعداء السنة.

فابن معين ينفي سماع راو من آخر يخالفه ناقد آخر بإثباته أو العكس، وهذا كله في موضع الاجتهاد، قد نخالف هذا في موضع ونخالفه في آخر، والعكس.

وها هو ابن معين يَقُولُ: "لَمْ يَسْمَعْ مُجَاهِدٌ مِنْ عَائِشَة".

ونفى سماعه منها أيضاً: شعبة، ويحيى القطان، وأبو حاتم الرازي.

وحديثه عنها في «الصحيحين»، وقد صرح في غير حديث بسماعه منها.

فهل إذا أخذنا بنفي ابن معين هنا كنا قد خالفنا منهجنا برد قوله في حديث آخر أو العكس؟

وها هو شعبة يُنكر سماع أبي عبدالرَّحْمَن السلمي من عُثْمَان، وأثبت غَيره سَمَاعه مِنْهُ، وقال البُخَارِيّ فِي «التَّارِيخ الكَبِير»: "سمع من عُثْمَان".

فهل إذا رجحنا قولاً على آخر كنا قد خالفنا واضطربنا!

ثالثاً: معيار قبول قول أحد الأئمة هنا ورده هناك أو العكس إنما نعامله مع مجموعة قرائن تحتف بالراوي الذي نُفي أو أثبت سماعه من آخر والنظر في حديثه عنه.

ونبحث في إثباته السماع كيف أثبته إن استطعنا، وهل خالفه غيره، ونفيه للسماع لم نفاه وما هي القرائن التي اعتمدها في ذلك، ومن وافقه على النفي.

فالمسألة مرتبطة بجملة من الأمور، ولا يمكن أن نضعها في قالب مُعين، ولا يجوز الاعتراض بمثل هذه الاعتراضات الواهية التي تنّم عن عدم الخبرة في أقوال أئمة النقد - رحمهم الله تعالى-.

وسنبيّن الآن لم رددنا إثبات ابن معين للسماع بين راويين، وأخذنا بنفيه في آخرين.

ففي بحثي: «الضّياءُ الشَّمسِي» في عِلّة الحَديث القُدسي: «يا عِبادي، إِنّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي»!

الحديث رواه أَبو إِدْرِيسَ الخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.

وهذا الحديث لا يوجد فيه تصريح بسماع أبي إدريس من أبي ذر!

ولهذا قال العلائي عن رواية أبي إدريس: "وروايته عن أبي ذر في صحيح مسلم؛ وكأن ذلك على قاعدته".

وبعد تتبع ما رُوي عن أبي إدريس عن أبي ذر تبيّن أنها كلها معلولة على قلتها، وبقي هذا الحديث لأن رواته من أهل الصدق.

وقول يحيى بن معين يقول: "أبو إدريس الخولاني قد سمع من أبي ذر". [تاريخ دمشق: (26/159)]، لا شك أنه نابع من اعتماده على هذا الحديث!

وهذا مما يستغرب من ابن معين حيث لا يوجد أصلاً أي سماع في طرق هذا الحديث.

فعلى أي شيء اعتمد ابن معين في إثبات السماع؟ ولا يوجد من أهل النقد مَن أثبت سماعه منه ولا مَن نفاه.

فحديث رُوي عن أبي إدريس عن أبي ذر لا يوجد فيه السماع الذي غالباً ما يعتمده العلماء في إثباته، فبأي شيء أثبت ابن معين السماع؟

وحديث أبي إدريس عن أبي ذر قليل جداً، وما رُوي عنه عن أبي ذر لا يكاد يتجاوز أصابع اليد الواحدة، ولا يصح منه شيء!

والبزار على سعة ما عنده من حديث لم يذكر في ترجمة "أبو إدريس الخولاني عن أبي ذر" إلا هذا الحديث الواحد!!

وأهل العلم عندما يتكلمون عمن لقي أبو إدريس من الصحابة لا يذكرون "أبا ذر" غالباً!!

وأبو إدريس الخولاني ولد - على ما قيل - في حياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سنة حُنين (8هـ)، ومات سنة (80هـ).

وعليه كان عمره لما توفي أبو ذر = 24 سنة. فلا شك أنه أدركه، لكن هل سمع منه؟!

وهو نفسه قد قال: "أدركت عبادة بن الصامت ووعيت عنه، وأدركت أبا الدرداء ووعيت عنه، وأدركت شداد بن أوس ووعيت عنه، وفاتني معاذ بن جبل".

فلم يذكر أبا ذر في هؤلاء.

وأين سمع منه؟ وكيف؟

وقد بينت في أصل البحث أن هذا الإسناد أصلا لم يصح لتفرد سعيد بن عبدالعزيز التنوخي، وكان قد اختلط، ولم يُتابع عليه! ولا يعرف هذا الحديث عند أصحاب أبي إدريس الثقات في الشام!

والحديث معروف في الشام من المراسيل قبل أن يروي سعيد هذا الحديث ويُخطئ فيه! وبينت بعض ما أنكر عليه أيضاً.

فهذه كلها دلائل وقرائن رددنا فيها إثبات ابن معين سماع أبي إدريس من أبي ذر.

وكوني رددت اجتهاده هذا هنا، لا يعني أن لا أقبل اجتهاده في نفي السماع أو إثباته في مكان آخر! فهذا لا يقوله عاقل بله مشتغل بالعلم! إلا هؤلاء المتصيدون العثرات والأخطاء - زعموا- فهؤلاء الله حسيبهم على نياتهم.

وأما قبول قول ابن معين في نفي سماع يحيى بن يعمر من عائشة، مع أنه في البخاري وفيه تصريح بالسماع في بحثي: «لَطائفُ الإِشارات في تعليل أَحاديث دَاوُدَ بنِ أَبِي الفُرَات» فهذا أيضاً لم يكن بالتشهي والهوى، وإنما بالأدلة والقرائن.

فهنا نفى أبو داود السجستاني أيضاً سماع يحيى بن يعمر من عائشة، فهذان اثنان من الأئمة النقاد اتفقا على نفي السماع بقرائن تقضي على ما جاء من التصريح بالسمع في الحديث الذي تفرد به راو قد أثبتنا أنه لا يُحتمل تفرده، وهو ليس بذاك!

واتفاق ابن معين وأبي داود على النفي لا يُرد في مقابل عدم مخالفتهما من نقاد آخرين.

وحتى لو لم يكن هناك قول لابن معين في نفي السماع لبقي كلام أبي داود، ومن أثبت فعليه أن يرد كلامهما بالدليل والقرائن.

وكان ينبغي على المعترض - هداه الله وأصلح نيته - أن يُبيّن في اعتراضه أني أيدت نفي السماع بسبعة أدلة وقرائن، وهي:

أولاً: نفي ابن معين وأبي داود سماع يحيى بن يعمر من عائشة. ومال إلى هذا الذهبي فإنه أورد قول أبي داود، ولم يتعقبه، بل اعتمد عليه في أنه إذا لم يسمع من عائشة فكيف يسمع من أبي ذر وعمار!

ثانياً: لا يوجد ما يثبت أنه لقيها أو سمع منها إلا ما جاء في بعض روايات الحديث، وهذا غير كاف في إثبات السماع؛ إذ يكون هذا من باب السماع الذي لا يصح في الأسانيد، ولا عاضد يعضده! فلو سمع منها فمن غير الممكن أن لا نجد له عنها إلا هذا الحديث، وكيف لم ينتشر خبر لقيه بها وسماعه منها! وكذلك عدم وجود هذا الحديث عند من أكثر عنها من أهل بيتها وكبار التابعين!

وغالب روايات الحديث فيها ذكر «الإخبار» وهذا من داود بن أبي الفرات نفسه! ولا يمكن الاعتماد عليه في ذلك لتفرده بالحديث، ولأنه ليس في مرتبة الثقة الذي يضبط هذه الأخبار. فضلا عن كون داود بن أبي الفرات ليس من المكثرين في الحديث والرواية أصلا!

ثالثاً: لا يوجد ليحيى عن عائشة إلا ثلاثة أحاديث، هذا، وآخران عند أحمد لا يصحان.

رابعاً: يحيى بن يعمر تابعيّ بصريّ، عاش هناك، ثم انتقل إلى خراسان وكان قاضيها، وكان كثير الرواية عن التابعين، ولم يكثر عن الصحابة؛ لأنه لم يلق إلا نفراً منهم كابن عمر، وابن عباس.

قال أبو عبدالله الحاكم في «تاريخ نيسابور»: "يحيى بن يعمر: فقيه، أديب، نحوي، مبرز، تابعي، كثير الرواية عن التابعين". [إكمال تهذيب الكمال (12/390)].

ولهذا قال ابن حجر في «التقريب» (ص: 1070): "وكان يُرسل".

خامساً: أنه لم يلق أي صحابي من أهل المدينة ممن مات مع عائشة أو قبلها أو بعدها بقليل كأبي هريرة.

سادساً: لم يذكر البخاري نفسه أنه سمع من عائشة كعادته في «التاريخ الكبير» (8/312)! بل قال في ترجمته: "سَمِعَ ابْن عَبَّاس (ت68هـ)، وعبداللَّه بْن عُمَر (73هـ)، وأبا الأسود الدؤلي (69هـ)".

فهنا حدد البخاري طبقة سماعه من الصحابة وغيرهم، فطبقة سماعه من الصحابة الذين توفوا بعد سنة (67هـ)، وعليه يكون البخاري خالف ما قرره في تاريخه! وهذا غريب!!!

سابعاً: أنه اختلف في وفاة يحيى بن يعمر:

فقَالَ خَلِيْفَةُ بنُ خَيَّاطٍ: "تُوُفِّيَ يَحْيَى بنُ يَعْمَرَ قَبْلَ التِّسْعِيْنَ".

وقال أبو الفرج ابن الجوزي في «التاريخ المنتظم»: "أنه توفي سنة تسع وثمانين".

وذكره البخاري في فصل من مات ما بين التسعين إلى المائة.

وذكره مسلم في الطبقة الثانية من البصريين.

وقال مغلطاي: ورأيت بخط بعض الشيوخ ذكر ابن معشر في «تاريخ النحاة» أن يحيى بن يعمر توفي بعد العشرين ومائة.

وقال ابن الأثير الجزري وياقوت الحموي: توفي سنة تسع وعشرين ومائة بخراسان.

وذكر ابن حجر قول ابن الأثير في «تهذيب التهذيب» مستبعداً إياه فقال: "كذا قال! وفيه نظر! وقال غيره: مات في حدود العشرين، وقال أبو الفرج ابن الجوزي: مات سنة تسع وثمانين".

ولم يُرجّح ابن حجر بين الأقوال!

فإن كانت وفاته قد تأخرت بعد المائة، فهذا يؤيد أنه لم يلق عائشة، ولم يسمع منها.

فبعد كل ذلك يتبين للناظر العلة الحاملة على قبول قول ابن معين مرة ورده أخرى، وهذا الأمر موجود في كل العلوم ولا تكاد تجد كتابا في باب من أبواب العلم يسلم من قبول قول العالم ورد قول آخر للعالم نفسه لدليل أقوى وأرجح! فكيف بعلم الحديث القائم على التحليل الدقيق والترجيح بين القرائن.

وقد قال الدارقطني في «المؤتلف والمختلف» (4/1896): "وذكر يَحْيى بن مَعِين: أن مالكا، رَوَى عن عبدالملك بن قريب الأَصْمَعِيّ، ووهم في نسبه، والوهم من ابن معين لا من مَالِك".

وقال سبط ابن الجوزي في «مرآة الزمان في تواريخ الأعيان» (14/36): "روى الهيثمُ عن مجالدِ بن سعيد عن الشعبيِّ، عن ابن عباسٍ قال: أوَّلُ الناس إسلامًا أبو بكر، قال ابنُ مَعين: مَن روى هذا؟ قال: الهيثم، قال: كذب.

قلت: وهم ابن مَعين؛ فإنَّ أوَّلَ مَن أسلم من الرِّجال أبو بكر".

والأمثلة غير هذه كثيرة لمن تتبع مطولات كتب الجرح والتعديل، وأختم كلامي بسؤال المعترض: إن كنت تدعي تعظيم ابن معين ووجوب الاطراد مع قوله وآرائه وعدم مخالفته! فأخبرنا كيف تستحل أن تقرأ القرآن برواية حفص بن سليمان عن عاصم بن أبي النجود وقد قال ابن معين في عاصم: كذاب!!

 

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

وكتب: خالد الحايك.

شاركنا تعليقك