الموقع الرسمي للشيخ الدكتور خالد الحايك

«هَدِيَّة المُشتاق» في الذبِّ عن الإِمامين ابن أَبِي شَيْبَة وعَبْدالرَّزَّاق.

«هَدِيَّة المُشتاق» في الذبِّ عن الإِمامين ابن أَبِي شَيْبَة وعَبْدالرَّزَّاق.

 

هل كان ابن أبي شيبة وعبدالرزاق يختصران الروايات فيخلّان بالمعنى؟!

سُئلت عمّن يقول: "انتبه لاختصارات ابن أبي شيبة وعبدالرزاق في مصنفيهما للأحاديث، فهما يختصران فيخلان بالمعنى، أو يختصران الرواية بالمعنى.. كرواية الصحيحين من حديث أبي هريرة (أن نبي الله سليمان حلف ليطوفن الليلة على نسائه...) الحديث، ولم يقل: (إن شاء الله). اختصره عبدالرزاق فروى (من حلف على يمين فقال إن شاء الله لم يحنث)، وهذا الحديث بهذه الكيفية ضعيف. قال البخاري: (اختصره عبدالرزاق). وهو موقوف أيضاً" انتهى.

فأجبت:

قائل ها الكلام فتح باباً عظيماً على هذين الإمامين وكتابيهما! ودعواه هذه مردودة جملة وتفصيلاً!

فلا شك أن الاختصار الذي يؤدي إلى فساد المعنى مردود، وقد حصل هذا في بعض الأحاديث التي رواها بعض أهل العلم، لكن أن نعمم الأمر على ابن أبي شيبة وعبدالرزاق في كتابين كبيرين فيهما آلاف الروايات والآثار! ونقول: "انتبه لاختصاراتهما"!! فهذا منكر من القول وزورا!

وحتى لو ثبت المثال الذي ذكره - وسنناقشه لاحقاً - فهل هذا يؤدي إلى مثل هذا القول؟

نعم، نُنبه على هذا بعد عملية استقرائية واسعة لغالب أحاديثهما وثبوت ذلك ببيان الأحاديث التي اختصراها وأخلّا فيها بالمعنى!!

وهيهات... هيهات!!

وقد ذكر بعض أهل العلم اختصار ابن أبي شيبة، وعبدالرزاق لحديثين أخلّا فيهما بالمعنى! ولعل مُطلق هذا التحذير اعتمد على ذلك! مع أنه كان ينبغي عليه التدقيق والتحقيق فيما نسب لهذين الإمامين الكبيرين، والتدليل على قوله بالحجّة والبيان.

·       ما نُسب لأبي بكر بن أبي شَيبة!

روى ابن أبي شيبة في «مصنفه»، باب «في المرأة كَيْفَ تُؤْمَرُ أَنْ تَغْتَسِلَ» (1/498) (870) قال: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا فِي الحَيْضِ: انْقُضِي شَعَرَكِ وَاغْتَسِلِي».

قال ابن هانئ في «مسائل أحمد بن حنبل - روايته» (2331): وسئل عن حديث وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قصة الحيض؟

قال: "هذا باطل".

وقال ابن رجب الحنبلي في «شرح علل الترمذي» (1/427) - عند كلامه على أمثلة للرواية بالمعنى أحالت الحديث عن أصله-: "وقد روى كثير من الناس الحديث بمعنى فهموه منه فغيروا المعنى: مثل ما اختصره بعضهم من حديث عائشة في حيضها في الحج: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها وكانت حائضاً: انقضي رأسك وامتشطي». وأدخله في «باب غسل الحيض»، وقد أنكر ذلك على من فعله؛ لأنه يُخلّ بالمعنى، فإن هذا لم يؤمر به في الغسل من الحيض عند انقطاعه، بل في غسل الحائض إذا أرادت الإحرام، وهي حائض".

وقال في «فتح الباري» (2/105): "وقد ذُكر هَذا الحديث المختصر للإمام أحمد، عن وكيع، فأنكره! قيل لَهُ: كأنه اختصره مِن حديث الحج؟ قالَ: ويحل لَهُ أن يختصر؟! - نقله عَنهُ المروذي.

ونقل عَنهُ إسحاق بن هانئ: أنَّهُ قالَ: هَذا باطل.

قَالَ أبو بكر الخلال: إنما أنكر أحمد مثل هذا الاختصار الذي يُخلّ بالمعنى، لا أصل اختصار الحديث. قَالَ: وابن أبي شيبة في مصنفاته يختصر مثل هذا الاختصار المخلّ بالمعنى- هذا معنى ما قاله الخلاّل".

قلت: الإمام أحمد أنكر على وكيع اختصاره هذا الحديث لا على ابن أبي شيبة، ونقل الخلال عنه هنا أن ابن أبي شيبة يختصر مثل هذا الاختصار المخل بالمعنى لا يستقيم لأن المُختصِر له هنا إنما هو وكيع لا ابن أبي شيبة!

ثم لا ندري عمّن نقل الخلال هذا عن أحمد! فالخلال - رحمه الله - جمع ما تيسر له من علوم أحمد من طرق كثيرة، وعن أُناس غير معروفين بالرواية عن أحمد، فلعله حصل خطأ في نقله أو أنه قصد مطلق الاختصار لا الاختصار المُفضي إلى الخلل في المعنى أو غير ذلك!

وعموماً فلو صح ما نقله الخلال عن أحمد في ابن أبي شيبة أنه يختصر مثل هذا الاختصار المُخلّ بالمعنى في مصنفاته فلا يعني أنه دائم الفعل لذلك، فقد يحصل منه أحياناً سيما وأن كتابه قد بناه على الآثار في غالبه، ولعله كان يكتب من حفظه أحياناً، وتبقى المسألة في إثبات المواضع التي اختصرها وأخلّت بالمعنى! ومع حبّي لمصنّفه العظيم، وإدماني بالنظر فيه إلا أنني لم أقف على شيء من ذلك، وهذا لا يعني النفي المطلق، فلو ثبت ذلك فلا يجوز أن نفتح الباب بهذه الدعوى الكبيرة التي حذر منها ذلك الكاتب - هداه الله-.

فابن أبي شيبة لا علاقة له باختصار هذا الحديث؛ لأنه قد تُوبع في روايته.

روى ابن ماجه في «سننه»، باب: «الحائض كيف تغتسل»، (1/210) (641) قال: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ - هو الطنافسيّ-، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا، وَكَانَتْ حَائِضًا: «انْقُضِي شَعْرَكِ، وَاغْتَسِلِي» قَالَ: عَلِيٌّ فِي حَدِيثِهِ: «انْقُضِي رَأْسَكِ».

وكان الحافظ ابن رجب في «فتح الباري» (2/103) وهو يشرح حديث البخاري: - عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: خَرَجْنَا مُوَافِينَ لِهِلاَلِ ذِي الحِجَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهْلِلْ، فَإِنِّي لَوْلاَ أَنِّي أَهْدَيْتُ لَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ» فَأَهَلَّ بَعْضُهُمْ بِعُمْرَةٍ، وَأَهَلَّ بَعْضُهُمْ بِحَجٍّ، وَكُنْتُ أَنَا مِمَّنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، فَأَدْرَكَنِي يَوْمُ عَرَفَةَ وَأَنَا حَائِضٌ، فَشَكَوْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «دَعِي عُمْرَتَكِ، وَانْقُضِي رَأْسَكِ، وَامْتَشِطِي وَأَهِلِّي بِحَجٍّ»، فَفَعَلْتُ حَتَّى إِذَا كَانَ لَيْلَةُ الحَصْبَةِ، أَرْسَلَ مَعِي أَخِي عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ فَخَرَجْتُ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ مَكَانَ عُمْرَتِي قَالَ هِشَامٌ: «وَلَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ هَدْيٌ، وَلاَ صَوْمٌ وَلاَ صَدَقَةٌ» -

قال: "هَذا الحديث قَد استنبط البخاري - رحمه الله - منهُ حكمين، عقد لهما بابين:

أحدهما: امتشاط المرأة عند غسلها مِن المحيض.

والثاني: نقضها شعرها عند غسلها مِن المحيض.

وهذا الحديث لا دلالة فيهِ على واحد مِن الأمرين؛ فإن غسل عائشة الذِي أمرها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهِ لَم يكن مِن الحيض، بل كانت حائضاً، وحيضها حينئذ موجود، فإنه لو كانَ قَد انقطع حيضها لطافت للعمرة، ولم تحتج إلى هَذا السؤال، ولكن أمرها أن تغتسل في حال حيضها وتهل بالحج، فَهوَ غسل للإحرام في حال الحيض، كَما أمر أسماء بن عُمَيس لما نفست بذي الحليفة أن تغتسل وتهل".

ثم ذكر حديث ابن ماجه، وقال: "وهذا - أيضاً - يوهم أنَّهُ قالَ لها ذَلِكَ في غسلها مِن الحيض، وهذا مختصر مِن حديث عائشة الذِي خرجه البخاري".

ثم ساق كلام أحمد المتقدم، ثم قال: "وقد تبيّن برواية ابن ماجه أن الطنافسي رواه عن وكيع، كما رواه ابن أبي شيبة عنه، ورواه - أيضاً - إبراهيم بن مسلم الخوارزمي في «كتاب الطهور» له عن وكيع - أيضاً -، فلعل وكيعا اختصره. والله أعلم.

وقد يحمل مراد البخاري - رحمه الله - على وجه صحيح، وهو أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما أمر عائشة بنقض شعرها وامتشاطها عند الغسل للإحرام؛ لأن غَسَلَ الإحرام لا يتكرر، فلا يشق نقض الشعر فيه، وغسل الحيض والنفاس يوجد فيه هذا المعنى، بخلاف غسل الجنابة، فإنه يتكرر فيشق النقض فيه، فلذلك لم يؤمر فيه بنقض الشعر".

قلت: فتبيّن من ذلك أن وكيعاً هو من اختصر هذا الحديث من حديث عائشة الطويل، ولا علاقة لابن أبي شيبة فيه؛ لأنه قد توبع في روايته عن وكيع، وثبت عن وكيع من طريق آخر، فثبت أنه هو من اختصره، وأخلّ بمعناه.

·       التمسك بما رُوي عن أحمد في ابن أبي شيبة دون تحرير!!

وقد اطلعت على بحث في «اختصار الحديث وأثره في الرواة والمرويات»، للدكتور سليمان السعود، منشور في مجلة الجامعة الإسلامية، ملحق العدد (183)، الجزء التاسع، وهو بحث ليس بذاك! وقد نقل ما ذكره الخلال عن أحمد في ابن أبي شيبة تحت عنوان: "أشهر الرواة الموصوفين بالخطأ عند الاختصار" (ص236) وأشار في الصفحة التي بعدها في الحاشية (2) إلى أمثلة على الاختصار المخلّ لابن أبي شيبة! فقال: "وانظر للاختصار المخل في مصنف ابن أبي شيبة (4/50 ح 17676 - 6/283)، وقد أكثر من اختصار المتون، انظر مثلا (183 – 870، 346 – 347 – 390 – 391 – 416 – 439 – 577 – 583 – 610 – 814 – 815 – 832 – 852 – 865 – 4690 – 914 – 990 – 991)" انتهى!!

قلت: أحال الدكتور إلى الاختصار المخل في مصنف ابن أبي شيبة، ثم أحال إلى اختصار المتون عنده! فهل قصد في الإحالة الثانية إلى مطلق الاختصار أو أن ذلك تابع للاختصار المخلّ عنده؟!

فهذا غير مفهوم! وإحالاته أصلاً غير مفهومة إلا في الإحالة الأولى حيث ذكر رقم المجلد والصفحة ورقم الحديث، وما بعدها إحالاته غامضة! وقد رجعت للطبعة التي أحال إليها، وهي طبعة مكتبة الرشد بتحقيق كمال الحوت، ورجعت لهذه الأرقام التي ظاهرها أنها أرقام الأحاديث فما وجدت إلا آثاراً يرويها ابن أبي شيبة بأسانيده، وغالبها ليست من المرفوعات للنبيّ صلى الله عليه وسلم.

وكان الأصل أن يُبيّن الدكتور - وهو في معرّض التأصيل في هذا البحث - بالأمثلة على أن ابن أبي شيبة يختصر فيخلّ بالمعنى لا أن يُحيل على أشياء مجهولة!! وأستغرب ممن حكّم له هذا البحث كيف يُمضي هذا الأمر دون بيان وتوضيح!

والمثال الأول الذي أحال إليه الدكتور هو ما رواه ابن أبي شيبة في «مصنفة» (ط. عوامة) (9/488) (17972) قال: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ عَبْدِالعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ التَّزَعْفُرِ».

فهذا عند الدكتور من اختصار ابن أبي شيبة المخلّ بالمعنى! ولم يُبيّن كيف اختصره ابن أبي شيبة!

والمتبادر إلى ذهن طالب الحديث في هذا الباب هو ما قيل عن شعبة أنه روى حديثاً عن ابن عُلية في هذا الباب واختصره، وأنكروا على شعبة ذلك.

وقد ذكر الدكتور هذا في بحثه هذا أثناء تقسيمه لأثر الاختصار في المروي، فقال (ص249): "اختصار مؤثر، يقدح في صحة الحديث، وهو ما يُحيل معنى الحديث بسبب اختصار الراوي للفظ الحديث، وقد يكون فيه نوع من الخفاء في المعنى؛ فيرويه بالمعنى الذي فهمه فيُحيل معناه، وبالتالي يكون الاختصار المخل سبباً لإعلال الحديث. وقد أنكر إسماعيل بن علية على شعبة اختصاره للحديث الذي رواه عنه، حيث قال: «روى عني شعبة حديثاً واحداً؛ فأوهم فيه، حدثته عن عبدالعزيز بن صهيب، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتزعفر الرجل، فقال شعبة: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التزعفر». فشعبة لما اختصر الحديث أوهم أن النهي فيه عام، والصحيح أنه خاص بالرجال، ووقع في هذا الوهم بسبب اختصاره للحديث، قال البزار: «وإنما نهى أن يتزعفر الرجل فأخطأ فيه شعبة، وهذا الحديث لا نعلم رواه إلا إسماعيل بن إبراهيم»، وقال الطحاوي: «ولأن شعبة مع جلالته إنما كان يُحدّث من حفظه، وكان يُحدِّث بالشيء على ما يظن أنه معناه، وليس في الحقيقة معناه، فيحول معناه عما عليه حقيقة الحديث إلى ضده، من ذلك..»، ثم ذكر الحديث، وقال: «وقد رواه سائر أصحاب عبدالعزيز، عن عبدالعزيز بالنهي أن يتزعفر الرجل»، قال الخطيب: «أفلا ترى إنكار إسماعيل على شعبة روايته هذا الحديث عنه على لفظ العموم في النهي عن التزعفر، وإنما نهي عن ذلك للرجال خاصة، وكأن شعبة قصد المعنى، ولم يفطن لما فطن له إسماعيل، فلهذا قلنا: إن رواية الحديث على اللفظ أسلم من روايته على المعنى». وقال ابن حجر: «ورواه شعبة عن ابن علية عند النسائي مطلقاً، فقال: نهى عن التزعفر، وكأنه اختصره، وإلا فقد رواه عن إسماعيل فوق العشرة من الحفاظ مقيداً بالرجل»" انتهى.

ثم ذكر في «ضوابط الإعلال بالاختصار» (ص258): "الخامس: ويُنبّه إلى أنه لا بد من التأني والتحقق قبل نسبة الاختصار المخل لأحد الرواة، فقد يقع الوهم في تعيين الراوي المُختصِر، ومن ذلك أن شعبة اختصر الحديث، لكنه ذكر احتمالاً أن يكون ابن علية اختصره لما حدّثه به، فقال: «ورواه شعبة عن ابن علية عند النسائي مطلقاً، فقال: «نهى عن التزعفر»، وكأنه اختصره، وإلا فقد رواه عن إسماعيل فوق العشرة من الحفاظ مقيداً بالرجل، ويحتمل أن يكون إسماعيل اختصره لما حدث به شعبة، وكما سبق فإن ابن علية أنكره على شعبة، وهو ينفي هذا الاحتمال الذي ذكره ابن حجر" انتهى.

قلت: فكان ينبغي للدكتور هنا أن يربط بين ما رواه ابن أبي شيبة عن ابن علية، وما ذكره ورجّحه أن شعبة لما روى الحديث عن ابن علية اختصره فأخلّ بمعناه! ثم وضع في الضوابط رد أي احتمال أمام تصريح أحد الأئمة بأي اختصار مُخلّ بالمعنى، فرد قول ابن حجر في احتمالية أن ابن علية هو من اختصر الحديث لا شعبة!

وحقيقة ما رواه ابن أبي شيبة عن ابن علية يؤيد رواية شعبة فيما رواه عن ابن علية حيث وافقه في اللفظ: «نهى عن التزعفر»، فهل ابن أبي شيبة اختصره أيضاً عن ابن علية؟!!

وأستبعد أن يكون شعبة اختصره! فما الداعي الذي دفع شعبة لاختصاره؟ كل الذي اختصر كلمة واحدة: «يتزعفر الرجل»! فعل يُعقل أن شعبة فهم غير هذا الفهم وهو من هو في الحفظ والعلم؟!

لو كان الحديث طويلاً، ويحتاج لفهم عندها يمكن القول بأنه اختصره! لكن هذا لا يحتاج لاختصار ولا لفهم آخر كما قال بعض أهل العلم عندما قالوا بأن شعبة اختصره! فقد «نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزعفر الرجل»، وتقييده ادّعى للحفظ، ولا يحتاج لأن يُفهم فهماً عاماً بحيث يُخطئ فيه حافظ مثل شعبة.

نعم، صرّح ابن علية بأن شعبة أخطأ عليه!

روى الطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (12/509) (4982) قال: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عِمْرَانَ، وَابْنُ أَبِي دَاوُدَ جَمِيعًا قَالَا: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ قَالَ: حَدَّثَنِي شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمُ، عَنْ عَبْدِالْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ التَّزَعْفُرِ».

قَالَ ابْنُ أَبِي عِمْرَانَ فِي حَدِيثِهِ: قَالَ عَلِيٌّ: ثُمَّ لَقِيتُ إِسْمَاعِيلَ فَسَأَلْتُهُ عَنْهُ، وَحَدَّثْتُهُ أَنَّ شُعْبَةَ حَدَّثَنَا بِهِ عَنْهُ، فَقَالَ: "لَيْسَ هَكَذَا حَدَّثْتُهُ، وَإِنَّمَا حَدَّثْتُهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ".

قَالَ ابْنُ أَبِي عِمْرَانَ: "وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ، فَإِنَّمَا دَخَلَ فِي نَهْيِهِ الرِّجَالَ دُونَ النِّسَاءِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: نَهَى عَنِ التَّزَعْفُرِ، فَأَدْخَلَ فِيهِ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ".

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: "وَقَدْ رَوَاهُ سَائِرُ أَصْحَابِ عَبْدِالْعَزِيزِ، عَنْ عَبْدِالْعَزِيزِ بِالنَّهْيِ أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ".

قلت: مع تصريح ابن علية بأنه حدث شعبة بخلاف ما حدث به شعبة، إلا أن شعبة قد توبع عليه عن ابن علية كما رواه ابن أبي شيبة، وكذلك ابن جُريج.

رواه أبو نُعيم في «تاريخ أصبهان» (2/212) من طريق ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ عَبْدِالْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ التَّزَعْفُرِ».

فالظاهر أن ابن عُلية كان يرويه هكذا، ويقصد الرجال، وأحياناً يصرّح بذكر: «الرجل»، وكأنه كان ينسى أنه يُحدّث به هكذا.

فقد سمع منه ابن جريج (150هـ) - وقد جاز السبعين، فولادته تقريبا ما بين سنة (75 - 78هـ)-، وشعبة (160هـ)، وهما أصغر منه، وهما في مقام شيوخه = وهذا يعني أنه حدثهما بالحديث في شبابه، وكان يُحدِّث به هكذا.

وسمع منه ابن أبي شيبة (235هـ) وهو من تلاميذه، وهذا يعني أنه كان يُحدِّث به أيضاً هكذا في أواخر عمره ربما لأنه عُمّر، فهو - إسماعيل ابن علية - قد توفي (193هـ) وهو ابن ثلاث وثمانين، وولادته كانت سنة (110هـ).

بل إن عبدالعزيز بن صهيب نفسه شيخ ابن عُليّة كان يُحدث به أحياناً كما حدّث به شعبة، وغيره عن ابن عُليّة.

فقد رواه مسلم في «صحيحه» (3/1662) (2101) قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو الرَّبِيعِ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، وقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَبْدِالْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ التَّزَعْفُرِ». قَالَ قُتَيْبَةُ: قَالَ حَمَّادٌ: «يَعْنِي لِلرِّجَالِ».

فحماد رواه عن عبدالعزيز باللفظ نفسه الذي رواه شعبة عن ابن علية، فوضح حماد بعد روايته أنه يعني: للرجال.

وشعبة من أقران ابن عُلية ولم يرو عنه إلا هذا الحديث، وقد أداه كما سمعه منه، ولم يختصره، وقول ابن حجر بأن ابن علية يحتمل أنه هو من اختصره نابع من معرفة ابن حجر لشعبة وحفظه، وأنه يُستبعد أن لا يضبط هذا الحديث القصير ويفهمه بعكس ما سمعه!

فما قاله ابن حجر هو الصواب، والضابط الذي ذكره الدكتور حول هذا الحديث مردود! فلعل ابن علية نسي أنه حدّث به هكذا؛ لأنه كان يُحدّث به بعد باللفظ الآخر فاستنكر اللفظ الذي حدث به شعبة عنه، والله أعلم.

والخلاصة أن ابن أبي شيبة لم يختصره، وإنما رواه كما سمعه.

·       هل يختصر ابن أبي شيبة الأحاديث؟

وما حررناه فيما سبق لا يعني أننا نُنكر أن ابن أبي شيبة لا يختصر الأحاديث مطلقاً! بل هو كغيره ممن صنّف على الأبواب الفقهية - رحمه الله تعالى -، يختصر الأحاديث، وهذا النوع من التصنيف يدعوهم أحياناً للاقتصار على موطن الشاهد من الأحاديث كما فعل الإمام البخاري وغيره، والبخاري إنما تعلّم ممن قبله - رحم الله الجميع-.

ولكن المسألة في أنه عندما يختصر هل يُخلّ بمعنى الحديث أم لا؟ فهذا مما لم نجده له رحمه الله.

ومن الأمثلة التي اختصر فيها بعض الأحاديث:

روى ابن أبي شيبة في «مصنفه»، في الرجل يكتب: أمّا بعد، (13/229) (26377) قال: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، قَالَ: حدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِالمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنِ الطُّفَيْلِ بْنِ سَخْبَرَةَ أَخٍ لعَائِشَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ».

فهذا اختصره ابن أبي شيبة من حديث طويل، واقتصر على موطن الشاهد الذي يخدم الباب الذي ذكره: "في الرجل يكتب: «أما بعد»".

والحديث بطوله رواه ابن أبي شيبة في «مسنده» «مسند طُفَيْل بن سَخْبَرَةَ» (2/165) (652) قال: حدثنا عَفَّانُ، قَالَ: حدثنا ابْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حدثنا عَبْدُالْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ طُفَيْلِ بْنِ سَخْبَرَةَ، أَخِي عَائِشَةَ لِأُمِّهَا أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنِّي أَتَيْتُ عَلَى رَهْطٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتُمْ؟، فَقَالُوا: نَحْنُ الْيَهُودُ، فَقُلْتُ: إِنَّكُمْ لَأَنْتُمُ الْقَوْمُ لَوْلَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، قَالُوا: وَأَنْتُمُ الْقَوْمُ لَوْلَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ، ثُمَّ أَتَيْتُ عَلَى رَهْطٍ مِنَ النَّصَارَى فَقُلْتُ: مَا أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ النَّصَارَى، فَقُلْتُ: إِنَّكُمْ لَأَنْتُمُ الْقَوْمُ لَوْلَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، قَالُوا: وَأَنْتُمُ الْقَوْمُ لَوْلَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَخْبَرَ بِهَا مَنْ أَخْبَرَ ثُمَّ أَخْبَرَ بِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «هَلْ أَخْبَرْتَ بِهَا أَحَدًا؟» فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ طُفَيْلًا رَأَى رُؤْيَا وَأَخْبَرَ بِهَا مَنْ أَخْبَرَ مِنْكُمْ، وَإِنَّكُمْ تَقُولُونَ كَلِمَةً كَانَ يَمْنَعُنِي الحَيَاءُ مِنْكُمْ أَنْ أَنْهَاكُمْ عَنْهَا، فَلَا تَقُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ».

·       ما نٌسب لعبدالرزاق!

روى عبدالرزاق الصنعاني في «مصنفه» (8/517) (16118) عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ».

ورواه أحمد في «مسنده» (13/450) (8088) عن عَبْدالرَّزَّاقِ.

قال أحمد: "قَالَ عَبْدُالرَّزَّاقِ: وَهُوَ اخْتَصَرَهُ، يَعْنِي مَعْمَرًا".

ورواه ابن أبي خيثمة في «تاريخه» (1/330) (1223) عن يَحْيَى بن معين، عن عَبْدالرَّزَّاق، به.

قال: قِيلَ ليَحْيَى: رُوِيّ عَنْ عَبْدالرَّزَّاق أَنَّهُ قَالَ: "اخْتَصَرَ هَذَا الْكَلامُ مَعْمَرٌ مِنْ حديثٍ فِيهِ طُولٌ

فَقَالَ يَحْيَى: "إِنْ كَانَ اخْتَصَرَهُ مِنْ ذَلِكَ الحَدِيْث فَمَا يُسَاوِي هَذَا شَيْئًا، وَمَا أَرَاهُ اخْتَصَرَهُ إِلا عَبْدالرَّزَّاق".

ورواه الترمذي في «العلل» (456) عن مَحْمُود بْن غَيْلَانَ. وفي «الجامع» (3/160) (1532) عن يَحْيَى بْن مُوسَى، كلاهما عن عَبْدالرَّزَّاقِ، به.

ثم قال: سَأَلْتُ مُحَمَّدًا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ؟ فَقَالَ: "جَاءَ مِثْلُ هَذَا مِنْ قِبَلِ عَبْدِالرَّزَّاقِ وَهُوَ غَلَطٌ. إِنَّمَا اخْتَصَرَهُ عَبْدُالرَّزَّاقِ مِنْ حَدِيثِ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ حَيْثُ قَالَ: «لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً»".

ورواه الطبراني في «المعجم الأوسط» (3/228) (3000) عن إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيمَ الدبري، عَنْ عَبْدِالرَّزَّاقِ، به.

قال الطبراني: "لَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ إِلَّا مَعْمَرٌ".

ورواه البزار في «مسنده» (16/200) (9333) عن سَلَمَة بْن شَبِيبٍ وَزُهَيْر بْن مُحَمَّد، عن عبدالرزاق، به.

قال البزار: "وهذا الحديثُ أحسب أن معمراً اختصره من حديث سليمان بن داود قال: «لأطوفن الليلة على مئة امرأة تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو قال، إن شاء الله ولم يكن ثم حلف»، فأظن شُبّه على معمر إذ اختصره، والله أعلم".

ورواه أبو عوانة في «مستخرجه» (4/52) (5997) عن السُّلَمِيّ، وأَبي الْأَزْهَرِ، عن عَبْدالرَّزَّاقِ، به.

قَالَ أَبُو عَوَانَةَ: "يُقَالُ غَلَطَ فِيهِ عَبْدُالرَّزَّاقِ، إِنَّمَا هُوَ مُخْتَصَرٌ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ، وَفِي حَدِيثِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ مَرْفُوعٌ فِيهِ نَظَرٌ".

قلت: فابن معين، والبخاري ذهبوا إلى الذي اختصره عبدالرزاق، مع أنه قيل لابن معين إن عبدالرزاق يقول بأن معمرا هو الذي اختصره، وهذا ما صرّح به فيما نقله عنه أحمد.

وذهب البزار إلى أن معمراً هو الذي اختصره. وكلام البزار في أن معمراً هو من تفرد به عن ابن طاوس فيه دلالة على أنه إذا كان ثمة خطأ فمن معمر.

والأصل أن نأخذ بتصريح عبدالرزاق، فهو قد قال بأن معمراً اختصره، فلم القول بأنه هو من اختصره؟!

وقد أيّد الشيخ أحمد شاكر هذا في تعليقه على «المسند» (8/161) وصحح إسناد الحديث، ورد القول بأن الحديث مختصر! فقال: "وقد أخطأ عبدالرزاق، وأخطأ البخاري تبعًا له - في تعليل هذا الحديث، والزعم بأنه اختصار من قصة سليمان! لأن الحديثين مختلفا المعنى تمامًا، وإن تشابهت بعض الألفاظ فيهما؛ لأن قول سليمان «لأطوفنّ» - فيه معنى القسم، ولكنه يقسم على شيئين: أن يطوف بهن، وقد فعل. والآخر: أن تلد كل منهن غلامًا، وهذا ليس من فعله، بل من قدر الله وبمشيئته. فالاستثناء بقول «إن شاء الله» - إذا قاله - يحله من قسمه إذا لم يطف بهن، ويكون للتمني، وبمعنى الإقرار لله بالمشيئة والتسليم لحكمه والتفريض إليه فيما ليس من صنع العبد ولا يدخل في مقدوره. فهو داخل في أمر الله للعبد أن يقول ذلك، في قوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا لَّا أَنْ يَشَاءَ الله}. فالحديثان في معنيين، وإن تقاربا في بعض المعنى. ولفظ الحديث الذي هنا لا يمكن أن يكون اختصاراً من الحديث الآخر في قصة سليمان. بل لو صنع ذلك معمر أو عبد الرزاق لكان صنعه تزيدًا في الرواية، وجرأة على نسبة حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقله. وكلاهما أجل عن أهل العلم من أن يفعلا ذلك. ولكن ظن عبدالرزاق أن يكون معمر اختصره، فأخطأ في هذا الظن. ثم ظنّ البخاري أن عبدالرزاق هو الذي فعل، فأخطأ فيما ظن - رحمهما الله-. ثم إن معنى الحديث ثابت عن ابن عمر أيضاً، مضى في «المسند» مرارًا بألفاظ متقاربة، أولها: (4510) «من حلف فاستثنى فهو بالخيار، إن شاء أن يقضي على يمينه، وإن شاء أن يرجع غير حنث». و(4581): «من حلف على يمين فقال: إن شاء الله، فقد استثنى». وآخرها (6414): «من حلف فاستثنى، فإن شاء مضى، وإن شاء رجع غير حنث». وقد حقق الحافظ في «الفتح» (11: 523 - 524) هذا الموضع، على شيء من التردد منه. وإن كان في مجموع كلامه يميل إلى إبطال هذا التعليل، وإلى صحة الحديثين جميعًا" انتهى.

قلت:

قال ابن حجر في «الفتح» (11/605): "وَقد اعْترض ابن العَرَبِيِّ بِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ عَبْدُالرَّزَّاقِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يُنَاقِضُ غَيْرَهَا؛ لِأَنَّ أَلْفَاظَ الْحَدِيثِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَقْوَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّعْبِيرِ عَنْهَا لِتُبَيِّنَ الْأَحْكَامَ بِأَلْفَاظٍ أَيْ فَيُخَاطِبُ كُلَّ قَوْمٍ بِمَا يَكُونُ أَوْصَلَ لِأَفْهَامِهِمْ، وَإِمَّا بِنَقْلِ الحَدِيثِ عَلَى المَعْنَى عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَأَجَابَ شَيْخُنَا - هو: العراقي- فِي «شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ» بِأَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ عَبْدُالرَّزَّاقِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَيْسَ وَافِيًا بِالمَعْنَى الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الرِّوَايَةُ الَّتِي اخْتَصَرَهُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ قَالَ سُلَيْمَانُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ» أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ غَيْرِ سُلَيْمَانَ، وَشَرْطُ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى عَدَمُ التَّخَالُفِ، وَهُنَا تَخَالُفٌ بِالخُصُوصِ وَالعُمُومِ. قُلْتُ: وَإِذَا كَانَ مَخْرَجُ الحَدِيثِ وَاحِدًا فَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّعَدُّدِ، لَكِنْ قَدْ جَاءَ لِرِوَايَةِ عَبْدِالرَّزَّاق المختصرة شَاهد من حَدِيث ابن عُمَرَ، أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِالوَارِثِ، عَنْ أَيُّوب - وَهُوَ: السّخْتِيَانِيّ-، عَن نَافِع، عَن ابن عُمَرَ مَرْفُوعًا: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ»، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ نَافِعٍ مَوْقُوفًا. وَكَذَا رَوَاهُ سَالِمِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَفَعَهُ غَيْرَ أَيُّوبَ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: كَانَ أَيُّوبُ أَحْيَانًا يَرْفَعُهُ وَأَحْيَانًا لَا يَرْفَعُهُ، وَذَكَرَ فِي «العِلَلِ» أَنَّهُ سَأَلَ مُحَمَّدًا عَنْهُ، فَقَالَ: أَصْحَابُ نَافِعٍ رَوَوْهُ مَوْقُوفًا إِلَّا أَيُّوبَ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ أَيُّوبَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ وَقَفَهُ. وَأَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: كَانَ أَيُّوبُ يَرْفَعُهُ، ثُمَّ تَرَكَهُ...".

·       لم يختصره عبدالرزاق ولا مَعمر! وإنما وهم معمر في إسناده، وهو من قول طاوس!

قلت: لم يحصل هناك أي اختصار للحديث، لا من معمر، ولا من عبدالرزاق.

والذي حصل أن معمراً أخطأ فيه.

فقد روى عَبْدُالرَّزَّاقِ، قال: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ بِمِائَةِ امْرَأَةٍ، تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ غُلاَمًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ المَلَكُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ وَنَسِيَ، فَأَطَافَ بِهِنَّ، وَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ نِصْفَ إِنْسَانٍ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ أَرْجَى لِحَاجَتِهِ».

وروى عبدالرزاق عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ».

فهذا الأخير ليس مختصراً من الأول، فهما حديثان مختلفان، لكن الذي حدث أن معمراً أخطأ في إسناد الثاني، وإنما هو عن ابن طاوس، عن أبيه، من قوله، فرواه معمر عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة، فسلك فيه الجادة؛ لأنه يروي الحديث الأول بهذه الجادة. والأخير يحفظ من قول طاوس.

رواه عبدالرزاق في «مصنفه» (8/517) (16119) قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «مَنِ اسْتَثْنَى لَمْ يَحْنَثْ، وَلَهُ الثُّنْيَا مَا لَمْ يَقُمْ مِنْ مَجْلِسِهِ».

فهذا الحديث صحيح عن طاوس من قوله، فلما رواه معمر عن ابن طاوس، عن أبيه، وهم في إسناده، فجعله عن أبي هريرة! ورواه بالمعنى، وروايته هنا بالمعنى لا تضر.

وبهذا ثبت لدينا أن ما نُسب لابن أبي شيبة وعبدالرزاق من اختصارهما للحديث وأنهما أخلا بمعناه لم يثبت.

·       الرد على د. السعود في الضابط الذي وضعه على هذا الحديث!

وقد قال الدكتور السعود المُشار إليه آنفاً في بحثه «اختصار الحديث وأثره في الرواة والمرويات» تحت عنوان: «ضوابط الإعلال بالاختصار» (257): "الرابع: أن النقاد إذا حكموا باختصار حديث فقولهم حجة، ولا يُقبل ممن دونهم التعقب عليهم باحتمالات وتجويزات عقلية، ومن ذلك أن عبدالرزاق روى عن معمر عن عبدالله بن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن سليمان بن داود قال: لأطوفن الليلة...». وقد أعلّ النقاد هذا الحديث مع ثقة رجاله بسبب الاختصار، وإن اختلفت أنظارهم فيمن يتحمل عهدة الاختصار: عبدالرزاق أم معمر..." انتهى.

قلت: نعم، قد أعلّ بعض النقاد الحديث وأن عبدالرزاق أو معمر قد اختصره على اختلاف بينهم في ذلك، والأصل أن لا نخالفهم فيه، ونسلّم لهم، لكن إن وجدنا ما يدلّ على عدم صحة ما ذهبوا إليه، فنذهب إليه، فالحكم لمن معه الدليل، فهم رحمهم الله ورضي عنهم عللوا الحديث لغرابته وتفرد عبدالرزاق أو معمر به، فلما كان معمر يروي حديث نبي الله سليمان ورواه عنه عبدالرزاق وفيه مسألة الحنث هذه بنوا علة ذلك أن أحدهم اختصره فوقع الخلل فيه!

لكن وجدت أنه لا اختصار فيه؛ لأن الأثر محفوظ عن طاوس، رواه عنه ابنه، وقد وهم معمر في إسناده، ودخل عليه الوهم لأنه يروي حديث سليمان بذات الإسناد، فوهم وسلك فيه الجادة!

فلم يكن هناك أي اختصار، ولله الحمد.

·       هل اختصر عبدالرزاق حديث «أمر أبي بكر الصلاة بالناس» فأخلّ بالمعنى؟

قال ابن أبي حاتم في «علل الحديث» (2/379) (453): وسمعتُ أَبِي يذكُرُ حديثَ عَبْدِالرَّزَّاقِ، عن مَعْمَر، عَنِ الزُّهْري، عَنْ أَنَسٍ: «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَشَارَ فِي الصَّلاة بإصْبَعِهِ».

قَالَ أبي: "اختَصَرَ عبدُالرزَّاقِ هَذِهِ الكلمةَ مِنْ حَدِيثِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ ضَعُفَ، فقدَّم أَبَا بَكْر يصلِّي بالناس، فجاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم... فذكَرَ الحديثَ".

قَالَ أَبِي: "أَخْطَأَ عبدُالرزاق فِي اختصارِهِ هَذِهِ الكلمةَ؛ لأنَّ عبدالرزاق اختَصَرَ هَذِهِ الكلمةَ، وأدخلَهُ فِي بابِ مَنْ كَانَ يشيرُ بإصْبَعِه فِي التشهُّد، وأوهَمَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا أشارَ بيدِه فِي التشهُّد، وليس كذلك هو".

قلتُ لأبي: فإشارةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَبِي بَكْرٍ كَانَ فِي الصَّلاة، أَوْ قبلَ دُخُولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلاة؟

فَقَالَ: "أمَّا فِي حديثِ شُعَيْبٍ عَنِ الزُّهْري، لا يَدُلُّ عَلَى شيءٍ مِنْ هَذَا" انتهى.

قلت: هذا الذي ذكره ابن أبي حاتم عن أبيه غريبٌ جداً!

فالحديث رواه عَبْدُالرَّزَّاقِ في «مصنفه»، بَابُ الْإِشَارَةِ فِي الصَّلَاةِ، (2/258) (3276) قال: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُشِيرُ فِي الصَّلَاةِ».

فلم يذكر عبدالرزاق الإشارة بالإصبع! ولا يوجد عنده «باب مَنْ كَانَ يشيرُ بإصْبَعِه فِي التشهُّد»!! وإنما عنده «باب الإشارة في الصلاة».

وكلّ من روى عن عبدالرزاق رواه هكذا.

رواه أحمد في «مسنده» (19/398) (12407).

وعبد بن حُميد في «مسنده» [كما في «المنتخب» منه، (2/213) (1159).

وأبو يعلى الموصلي في «مسنده» (6/266) (3569) عن يَحْيَى بن مَعِينٍ، و(6/278) (3588) عن إِسْحَاق بْن أَبِي إِسْرَائِيلَ.

وأبو داود في «سننه»، باب الإشارة في الصلاة (2/203) (943) عن أحمد بن محمد بن شَبويه، ومحمد بن رافع.

وابن خزيمة في «صحيحه»، بَاب الرُّخْصَةِ فِي الْإِشَارَةِ فِي الصَّلَاةِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، (1/445) (885) عن مُحَمَّد بْنِ رَافِعٍ.

والدارقطني في «سننه»، بَاب الإِشَارَةِ فِي الصَّلَاةِ، (2/456) (1868) من طريق سَلَمَة بْن شَبِيبٍ، وَمُحَمَّد بْن مَسْعُودٍ العَجَمِيّ، وخُشَيْش بْن أَصْرَمَ.

كلهم (أحمد، وعبد بن حميد، وابن معين، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وابن شبوية، وابن رافع، وابن شبيب، والعجمي، وخُشيش) عن عَبْدِالرَّزَّاقِ، به.

وقد خرّج الضياء المقدسي هذه الطرق في «المختارة» (7/175)، ثم نقل قول أَبي حَاتِمٍ الرَّازِيّ، ثم قال: "قُلْتُ: فَقَدْ رَوَى هَذَا الحَدِيثَ غَيْرُ عَبْدِالرَّزَّاق فِي إِسْنَاده من لم أعرفهُ"، وساق رواية الطبراني من طريق أَبي كُلْثُمٍ سَلَامَةَ بْنِ بِشْرِ بْنِ بُدَيْلٍ، عن يَزِيد بْن السِّمْطِ، عن الأَوْزَاعِيّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُشِيرُ فِي الصَّلاةِ».

قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: "لَمْ يَرْوِهِ عَنِ الأَوْزَاعِيِّ إِلا يزِيد! تفرد بِهِ سَلامَة".

قلت: سلامة صدوق صاحب غرائب، وهذا منها! والأوزاعي لا يتحمل هذا الحديث.

·       وهم أبي حاتم الرازي!

فالحديث رواه عبدالرزاق عن معمر كما سبق دون ذكر الإشارة بالأصبع، ولا يوجد عنده ذاك الباب الذي ذكره أبو حاتم الرازي! وعليه فهذا من أوهام أبي حاتم - رحمه الله-.

وقد ذهب الدكتور السعود في بحثه المذكور آنفاً (ص241) إلى أن هذا "لعله في بعض النسخ التي وقف عليها أبو حاتم" لمصنف عبدالرزاق!

أقول: هذا بعيد جداً، فلا يمكن أن يكون هناك نسخة أخرى يكون فيها هذا التغيير الجذري بين النسختين! وحتى الخطأ في النسخ ونحوه بعيد أيضاً!

والذي أميل إليه إلى أن هذا ربما مما رآه أبو حاتم في بعض كتب شيوخه أو أصحابه، وجد الحديث هكذا والإشارة إليه في كتاب عبدالرزاق فتكلّم عليه بما نقله ابنه عنه. فيكون أخذه من أصل مُحرّف نقل من كتاب عبدالرزاق أو فهم منه هذا، لا أن هناك نسخة أخرى لكتاب عبدالرزاق فيها هذا، والله أعلم.

·       وهمٌ آخر لأبي حاتم تابعه عليه الدكتور السعود، وفريق الباحثين بإشراف د. سعيد الحميد، ود. خالد الجريسي!!

ذهب أبو حاتم الرازي - رحمه الله - إلى أن حديث عبدالرزاق الذي نقله عنه مختصر من حديث تقديم النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي بكر للصلاة بالناس لما مرض في آخر عمره بأبي هو وأمي.

وبناء على هذا، قال د. السعود في بحثه عن الاختصار (ص240) هامش (3): "وهذا الحديث مختصر من اللفظ الأتم كما سيأتي، وقوله «بأصبعه» ليس في رواية عبدالرزاق في المصنف، ولا في رواية من رواه من طريقه، وقد رواه مسلم (419) من طريق عبدالرزاق به، وأحال على لفظ تام ذكره قبله، ولم يسق لفظه" انتهى.

وقال فريق الباحثين بإشراف الحميد والجريسي أثناء تحقيقهم لعلل ابن أبي حاتم (2/379): "ورواه مسلم في «صحيحه» (419) من طريق عبدالرزاق، به، بطوله دون اختصار" انتهى.

قلت: كيف يرويه مسلم من طريق عبدالرزاق ويحيل على لفظ تام ذكره قبله كما قال د. السعود؟

وكيف يرويه مسلم من طريق عبدالرزاق بطوله دون اختصار كما قال فريق الباحثين؟

مع أنهم خرجوا الرواية من عند عبدالرزاق في «مصنفه» وهي مختصرة؟ = يعني كيف يرويه عبدالرزاق مختصراً، ومن يروي من طريقه يرويه مطولاً؟!!

وهذه إحالة الإمام مسلم في «صحيحه» (1/315) (419) قال: وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، جَمِيعًا عَنْ عَبْدِالرَّزَّاقِ، قال: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ بِنَحْوِ حَدِيثِهِمَا.

فمسلم يحيل فعلاً على رواية تقديم أبي بكر للصلاة بالناس لما ضعف صلى الله عليه وسلم، وهي الرواية التي قال أبو حاتم إن رواية عبدالرزاق مختصرة منها! لكن كيف تكوم مختصرة عند عبدالرزاق، ومسلم يسوقها بطولها؟!

والجواب: لأنه وهم في ذلك! فالاختصار ليس من هذه الرواية، وقد تبعه هؤلاء على هذا الوهم مع أنهم ذكروا أن مسلماً أحال على رواية طويلة! فكيف لم يتنبهوا لذلك والروايات أمامهم؟!

والرواية التي أحال عليها مسلم هي عند عبدالرزاق في «مصنفه» (5/433) عن مَعمر، قال: قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ كَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتْرَ الْحُجْرَةِ فَرَأَى أَبَا بَكْرٍ وَهُوَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَى وَجْهِهِ كَأَنَّهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ، وَهُوَ يَبْتَسِمُ قَالَ: وَكِدْنَا أَنْ نَفْتَتِنَ فِي صَلَاتِنَا فَرَحًا بِرُؤْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ دَارَ يَنْكُصُ فَأَشَارَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْ كَمَا أَنْتَ»، ثُمَّ أَرْخَى السِّتْرَ فَقُبِضَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ، وَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: "إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَمُتْ، وَلَكِنْ رَبَّهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِ كَمَا أَرْسَلَ إِلَى مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً عَنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةٍ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَعِيشَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَقْطَعَ أَيْدِي رِجَالٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَأَلْسِنَتَهُمْ يَزْعُمُونَ أَوْ قَالَ يَقُولُونَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَاتَ".

والإشارة التي في هذه الرواية من النبي صلى الله عليه وسلم ليست في الصلاة! ومع وهم د. السعود إلا أنه تنبه لهذا، فقال في (ص241) هامش (1): "علماً أن الحديث بتمامه لا يدل أيضاً على ما بوّب عليه عبدالرزاق ومن تبعه من العلماء، إذ إشارة النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن في الصلاة"!

فالدكتور تنبه لهذا ومع ذلك أصرّ على أن الرواية مختصرة منها! وهذا عجيب! بل زاد على ذلك فأشار إلى خطأ عبدالرزاق ومن تبعه من العلماء بأن الإشارة هنا ليست في الصلاة كما بوّب عليه عبدالرزاق وكذا من تبعه ممن أخرج الحديث من طريقه = يعني كل هؤلاء وهموا في ذلك تبعاً لعبدالرزاق!! وهذا افتراء على عبدالرزاق ومن تبعه؛ لأن الرواية أصلاً ليست مختصرة من هذه الرواية المطولة، ومن هنا أُتي الدكتور وغيره!

فرواية عبدالرزاق مختصرة من حديث الزُّهْرِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: «سَقَطَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ فَرَسٍ فَجُحِشَ شِقُّهُ الْأَيْمَنُ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ نَعُودُهُ، فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَصَلَّى بِنَا قَاعِدًا، فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُودًا، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قَالَ: إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا، فَصَلُّوا قُعُودًا أَجْمَعُونَ».

رواه مسلم من عدة طرق، ثم قال (1/308) (411): حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قال: أَخْبَرَنَا عَبْدُالرَّزَّاقِ، قال: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَنَسٌ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَقَطَ مِنْ فَرَسِهِ فَجُحِشَ شِقُّهُ الْأَيْمَنُ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ وَلَيْسَ فِيهِ زِيَادَةُ يُونُسَ، وَمَالِكٍ.

ورواه البخاري في «صحيحه» في عدة مواضع من حديث الزهري عن أنس.

فهذه هي الرواية التي اختصرها عبدالرزاق، وهي عنده تامة وعنه رواها مسلم.

قال عبدالرزاق الصنعاني في «مصنفه»، بَاب هَلْ يَؤُمُّ الرَّجُلُ جَالِسًا، (2/460) (4078): أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَقَطَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فَرَسٍ فَجُحِشَ شِقُّهُ الْأَيْمَنُ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَصَلَّى بِهِمْ قَاعِدًا، وَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنِ اقْعُدُوا، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: «إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، فَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، قُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعِينَ».

فهذه هي الرواية التي فيها الإشارة في الصلاة «وأشار إليهم أن اقعدوا».

فرواها عبدالرزاق تامة في باب «هل يؤم الرجل جالساً»، واختصرها في باب «الإشارة في الصلاة».

وكان عبدالرزاق ساق بعد الرواية المختصرة في باب «الإشارة في الصلاة» (3277) عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، مِثْلَهُ.

وهذه الرواية أيضاً مختصرة من الحديث الطويل لهشام بن عروة في هذا الباب.

رواه البخاري ومسلم من طرق عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ، أَنَّهَا قَالَتْ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ وَهُوَ شَاكٍ، فَصَلَّى جَالِسًا وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنِ اجْلِسُوا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: «إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا رَكَعَ، فَارْكَعُوا وَإِذَا رَفَعَ، فَارْفَعُوا، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا».

وعليه فلا علاقة لحديث أبي بكر عندما قدّمه النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة لما ضَعف من مرضه بالحديث المختصر عند عبدالرزاق.

ولما سئل الدارقطني في «العلل» (12/165) (2579) عن حديث الزهري، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم؛ أنه سقط عن فرس، فجحش شقه الأيمن؟

قال: "هو حديث صحيح من حديث الزهري، حدّث به عنه أيوب السختياني، ومالك بن أنس، وابن عيينة، ويونس بن يزيد، وغيرهم....

ورواه معمر، عن الزهري، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كان يُشير في الصلاة، مختصراً.

قاله عبدالرزاق، عن معمر...".

قلت: قصد الدارقطني بالرواية المختصرة التي في باب «الإشارة في الصلاة»، وكأنه - رحمه الله - لم يتنبّه إلى أن عبدالرزاق رواه أيضاً بتمامه في باب «هل يؤم الرجل جالساً» كما بينته آنفاً.

لكن المهم هنا أن الدارقطني قال بأن رواية عبدالرزاق المختصرة هي من حادثة وقوع النبي صلى الله عليه وسلم عن الفرس، لا من قصة صلاة أبي بكر بالناس لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم.

·       وهمٌ على وهم!

ولما سمع عبدالرحمن ابن أبي حاتم من أبيه أن رواية عبدالرزاق مختصرة من حديث صلاة أبي بكر سأل أباه سؤالاً ذكياً: أراد معرفة متى كانت إشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: أكانت في الصلاة أم قبل دخوله الصلاة؟

قال: "قلتُ لأبي: فإشارةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَبِي بَكْرٍ كَانَ فِي الصَّلاة، أَوْ قبلَ دُخُولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلاة؟

فَقَالَ: أمَّا فِي حديثِ شُعَيْبٍ عَنِ الزُّهْري، لا يَدُلُّ عَلَى شيءٍ مِنْ هَذَا".

قلت: وهم أبو حاتم في هذا أيضاً، وتبعه عليه من أشرنا إليهم آنفاً!

قال فريق الباحثين بإشراف د. الحميد والجريسي (2/381) هامش (1): "شعيب هو: ابن أبي حمزة. وحديثه أخرجه البخاري في «صحيحه» (680) فقال: حدثنا أبو اليمان؛ قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري؛ قال: أخبرني أنس بن مالك الأنصاري - وكان تَبِعَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وخدمه، وصحبه-: أن أبا بكر كان يصلي لهم في وجع النبيِّ صلى الله عليه وسلم الذي توفِّي فيه، حتى إذا كان يوم الإثنين وهم صفوف في الصَّلاة، فكشف النبي صلى الله عليه وسلم سِتْرَ الحُجْرة ينظر إلينا وهو قائم، كأن وجهه ورقة مصحف، ثم تبسَّم يضحك، فهممنا أن نَفْتَتِن من الفرح برؤية النبي صلى الله عليه وسلم، فنَكَصَ أبو بكر على عقِبَيه لِيَصِلَ الصفَّ، وظن أن النبي صلى الله عليه وسلم خارج إلى الصلاة، فأشار إلينا النبي صلى الله عليه وسلم: «أن أتمُّوا صلاتكم»، وأرخى السِّتر فتوفِّي من يومه".

وقال د. السعود في بحثه (ص241) هامش (2): "وحديثه أخرجه البخاري (680) عن أبي اليمان، قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني أنس بن مالك: أن أبا بكر كان يصلي لهم...".

قلت: فهذه رواية شعيب عن الزهري فيها ما يدلّ على أن الإشارة منه صلى الله عليه وسلم كانت خارج الصلاة، وكان هو على باب حجرته، ولم يخرج للصلاة، وأشار إليهم أن أتموا صلاتكم، وأرخى ستر حجرته ولم يخرج.

فلا أدري كيف يقول أبو حاتم إن رواية شعيب عن الزهري لا يوجد فيها ما يدل على شيء من ذلك!

وقد تبعه على ذلك من نقل هذه الرواية ولم يتعقبه بشيء كما أشرت آنفاً.

وهذه الأوهام من أبي حاتم رحمه الله لأنه ظنّ أن اختصار رواية عبدالرزاق من حديث صلاة أبي بكر بالناس! مع العلم أن أبا بكر صلى بالناس عدة أيام، وقبل هذا اليوم الذي توفي فيه صلى الله عليه وسلم خرج وصلّى معهم كما في حديث هِشَام بن عروة، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ فِي مَرَضِهِ فَكَانَ يُصَلِّي بِهِمْ» قَالَ عُرْوَةُ: «فَوَجَدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً فَخَرَجَ وَإِذَا أَبُو بَكْرٍ يَؤُمُّ النَّاسَ فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ اسْتَأْخَرَ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ كَمَا أَنْتَ فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِذَاءَ أَبِي بَكْرٍ إِلَى جَنْبِهِ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلَاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ».

فكأن عبدالرحمن ابن أبي حاتم استحضر هذه الرواية لما سأل أباه.

ففي هذه الرواية أشار قبل أن يدخل في الصلاة، وفي رواية شعيب عن الزهري كانت في يوم آخر، ولم يخرج للصلاة أصلاً.

فكأن أبا حاتم لم يستحضر الروايات حينها، فوقع في هذه الأوهام، رحمه الله رحمة واسعة.

·       وهم للزيلعي!

نقل الحافظ الزيلعي كلام أبي حاتم الرازي حول اختصار عبدالرزاق للرواية في «نصب الراية» (2/91) فقال: "قَالَ ابنُ حِبَّانَ: اخْتَصَرَ عَبْدُالرَّزَّاقِ مِنْ الحَدِيثِ... وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ حِبَّانَ: إنَّمَا كَانَتْ إشَارَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ...".

قلت: وهم الزيلعي في نسبة هذا الكلام لابن حبان! وقد دخل عليه الوهم بسبب أنّ ابن حبان كنيته «أبو حاتم» فتوهّم أن الكلام له، وإنما هو لأبي حاتم الرازي.

ووهم أيضاً في نسبته القول لأبي حاتم أنه كان يرى أن إشارة النبي صلى الله عليه وسلم كانت في الصلاة لقوله: "وقال غير ابن حبان"! = يعني الرازي - وإن وهم في ذلك-! والرازي لم سأله ابنه لم يقل لا في الصلاة ولا قبل دخول الصلاة لذكره رواية شعيب عن الزهري وأنه ليس فيها ما يدل على أن ذلك كان في الصلاة أو قبل الدخول فيها!

·       فوائد:

1- روى ابن أبي شيبة عن وَكِيع، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا فِي الحَيْضِ: انْقُضِي شَعَرَكِ وَاغْتَسِلِي»، وقد قيل للإمام أحمد أن وكيعاً اختصره من حديث عائشة في الحج، فأنكر عليه ذلك! وقال بأن هذا الحديث "باطل".

2- نسب بعض أهل العلم أن ابن أبي شيبة من اختصره! وهذا خطأ! لأن ابن أبي شيبة قد تُوبع في روايته عن وكيع، تابعه علي بن محمد الطنافسي.

3- نقل الخلال عن أحمد أنه قالَ: "وابن أبي شيبة في مصنفاته يختصر مثل هذا الاختصار المخلّ بالمعنى"! ولا ندري عمّن نقل الخلال هذا عن أحمد! وكان - رحمه الله- قد جمع كلّ ما وقع له من علوم أحمد بأسانيد نازلة وعالية، وعن ثقات وضعفاء! ولا يوجد ما يؤيد هذا القول إلا إذا كان القصد من الاختصار عموم الاختصار الذي يستخدمه للتدليل على الأبواب الفقهية التي يوردها في كتابه، وأما الاختصار المخلّ بالمعنى فهذا لا يُعرف عن ابن أبي شيبة.

4- أخطأ د. سليمان السعود في الاعتماد على ما نقله الخلال عن أحمد في ابن أبي شيبة بوضع ابن أبي شيبة في "أشهر الرواة الموصوفين بالخطأ عند الاختصار" في بحثه: «اختصار الحديث وأثره في الرواة والمرويات»!

5- ذكر د. السعود في بحثه أن من الأحاديث التي اختصرها ابن أبي شيبة وأخلّ فيها بالمعنى ما رواه عن ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ عَبْدِالعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ التَّزَعْفُرِ». ولم يُبيّن كيف اختصره ابن أبي شيبة وأخلّ فيه بالمعنى!

وقد ذكر في موضع آخر حديث شعبة عن ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ عَبْدِالعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ التَّزَعْفُرِ» ضمن الأمثلة على من يختصر ويخلّ بالمعنى!

ولم يربط بين الحديثين، فابن أبي شيبة تابع شعبة عليه.

6- أحال د. السعود على أرقام في مصنف ابن أبي شيبة لأحاديث اختصرها في كتابه! وهذه الإحالات لا معنى لها!

7- سلّم د. السعود لقول ابن علية في إنكاره على شعبة أنه حدث عنه عَنْ عَبْدِالعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ التَّزَعْفُرِ»! وإنما حدثه: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ»، فاختصر شعبة الحديث فأخلّ بمعناه!

والحقيقة أن شعبة توبع على هذا، تابعه ابن أبي شيبة، وابن جريج، وحافظ مثل شعبة لا يحتاج لأن يختصر لفظة من الحديث هكذا تخلّ بمعناه، أو أن يغلط في فهمه فيرويه هكذا!

والصحيح أن ابن علية حدّث به هكذا، وكأنه نسي ذلك فأنكره على شعبة! وقول ابن حجر في احتمالية أن ابن علية نفسه هو من اختصره هو الصواب.

8- نُسب لعبدالرزاق أنه اختصر حديث مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ» من حديث النبي سليمان عليه الصلاة والسلام: «لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً».

فممن ذهب إلى أن عبدالرزاق اختصره: يحيى بن معين، والبخاري، ومال إليه الترمذي وأبو عوانة.

ونقل أحمد عن عبدالرزاق نفسه أنه قال إن معمراً هو من اختصره، وذهب البزار إلى أن معمراً هو من اختصره. وهو حاصل كلام الطبراني.

والعجيب أن ابن معين قيل له إن عبدالرزاق قال بأن معمراً اختصره، فلم يلتفت لذلك، وقال بأنه هو من فعل ذلك!!!

والصحيح أنه لم يكن هناك اختصار لا من عبدالرزاق ولا من معمر، وإنما هو ثابت من قول طاوس، إلا أن معمراً وهم في إسناده، وسلك فيه الجادة، فقال فيه: "عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم".

9- نسب أبو حاتم الرازي إلى عبدالرزاق أنه اختصر حديثه عن مَعْمَر، عَنِ الزُّهْري، عَنْ أَنَسٍ: «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَشَارَ فِي الصَّلاة بإصْبَعِهِ» من حَدِيثِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ ضَعُفَ، فقدَّم أَبَا بَكْر يصلِّي بالناس، فجاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم، الحديث.

وأنه اختَصَرَ هَذِهِ الكلمةَ، وأدخلَهُ فِي بابِ مَنْ كَانَ يشيرُ بإصْبَعِه فِي التشهُّد، وأوهَمَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا أشارَ بيدِه فِي التشهُّد، وليس كذلك هو!

وهذا الذي قاله أبو حاتم لا يوجد في مصنف عبدالرزاق! وقد وهم فيه!

والذي عند عبدالرزاق عن مَعْمَر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُشِيرُ فِي الصَّلَاةِ».

فلم يذكر عبدالرزاق الإشارة بالإصبع! ولا يوجد عنده «باب مَنْ كَانَ يشيرُ بإصْبَعِه فِي التشهُّد»! وإنما عنده «باب الإشارة في الصلاة».

ورواه أحمد، وعبد بن حميد، وابن معين، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وابن شبوية، وابن رافع، وابن شبيب، والعجمي، وخُشيش كلهم عن عَبْدِالرَّزَّاقِ، به.

وقد وهم أبو حاتم الرازي في هذا! وأبعد من زعم أنه ربما كان في نسخة للمصنف هكذا وقف عليه أبو حاتم!

فيحتمل أنه أخذه من بعض شيوخه أو أصحابه من كتبهم وكان الخطأ في الأصل من نقلهم لا أن هناك نسخة لمصنف عبدالرزاق فيها هذا الخطأ!!

10- وهم أبو حاتم الرازي في قوله إن حديث عبدالرزاق مختصر من حديث تقديم النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي بكر للصلاة بالناس لما ضَعُف!

وإنما هو مختصر من حديث الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَقَطَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فَرَسٍ فَجُحِشَ شِقُّهُ الْأَيْمَنُ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَصَلَّى بِهِمْ قَاعِدًا، وَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنِ اقْعُدُوا...

وقد رواه عبدالرزاق عن معمر مرة مختصراً، ومرة تامّاً.

وقد تبعه على هذا الوهم د. السعود، والمعلقون على علل أبي حاتم بإشراف د. الحميد، ود. الجريسي. ووهموا أيضاً في الإحالات!

11- وهم أبو حاتم الرازي - لما سأله ابنه عن إشارة النبيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَبِي بَكْرٍ كَانَ فِي الصَّلاة، أَوْ قبلَ دُخُولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلاة- بقوله إن حديثِ شُعَيْبٍ عَنِ الزُّهْري، لا يَدُلُّ عَلَى شيءٍ مِنْ هَذَا!! وتبعه على ذلك د. السعود، والمعلقون على علل أبي حاتم بإشراف د. الحميد، ود. الجريسي!!

فرواية شعيب عن الزهري فيها أن الإشارة كانت خارج الصلاة، وكان صلى الله عليه وسلم على باب حجرته، ولم يخرج للصلاة، وأشار إليهم أن أتموا صلاتكم، وأرخى ستر حجرته ولم يخرج.

12- وهم الزيلعي في نسبة قول أبي حاتم في اختصار عبدالرزاق للحديث لابن حبان! وكأن ذلك بسبب أن كنية ابن حبان «أبو حاتم»، فظنّ أنه ابن حبان، وإنما هو «أبو حاتم الرازي».

 

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

وكتب: د. خالد الحايك

22 شعبان 1441هـ.

شاركنا تعليقك