الموقع الرسمي للشيخ الدكتور خالد الحايك

سلسلة فهم أقوال أهل النَّقد (24). قول يَحْيَى بْنِ عَبْدَكَ: «لا جَزى اللهُ الورّاقَ عَني خيراً، أَدخلَ لي أحاديثَ الْمُعَلَّى بْنِ أَسَدٍ في أحاديث مُسَدَّدٍ»!

سلسلة فهم أقوال أهل النَّقد (24).

قول يَحْيَى بْنِ عَبْدَكَ: «لا جَزى اللهُ الورّاقَ عَني خيراً، أَدخلَ لي أحاديثَ الْمُعَلَّى بْنِ أَسَدٍ في أحاديث مُسَدَّدٍ»!

 

قال البرْذعيُّ في «سؤالاته» (2/579): ذكرتُ لأبي زُرْعةَ: عن مُسَدَّدٍ، عن مُحَمَّدِ بْنِ حُمْرَانَ، عن سَلْمِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، عَنْ سَوَادَةَ بْنِ الرَّبِيعِ: «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا»؟ فقال لي: "راوي هذا كان ينبغي لك أن تُكبِّر عليه، ليس هذا من حديث مُسَدَّدٍ. كتبت عن مُسَدَّدٍ أكثر من سبعة آلاف، وأكثر من ثمانية آلاف، وأكثر من تسعة آلاف، ما سمعته قطٌّ ذَكرَ مُحَمَّد بْن حُمْرَانَ".

قلت له: روى هذا الحديث يحيى بن عَبْدك، عن مُسَدَّدٍ!

فقال: "يحيى صدوق، وليس هذا من حديث مُسَدَّدٍ".

فكتبت إلى يحيى، فكتب إليَّ: "لا جزى الله الورّاقَ عني خيراً، أدخل لي أحاديث المُعلَّى بن أسد في أحاديث مُسدّد، ولم أُميزها منذ عشرين سنة، حتى وردَ كتابك، وأنا أرجع عنه".

فقرأت كتابَهُ على أبي زرعة. فقال: "هذا كتاب أهلِ الصدق" انتهى.

·       ذكاء الشيخ ونباهة التلميذ:

قلت:

قد ينظر البعض إلى هذه الحكاية على أنها تدلّ على دقة أئمة النقد في كشف العلل، ولا أحد يُنازع في هذا، فمثل أبي زرعة من هؤلاء النقاد الذين حمى الله بهم الحديث، فهو - رحمه الله - لمّا سمع من تلميذه أن هذا الحديث من حديث مُسدد عن محمد بن حُمران استنكره مباشرة؛ وقال بأن راويه ينبغي أن يُكبّر عليه = يعني أنه هالكٌ كما هو الحال في الميت تكبّر عليه في صلاة الجنازة لهلاكه! وذلك لأن حديث مُسدد عند أبي زرعة، وكتب عنه أكثر من تسعة آلاف حديثاً، ولم يسمعه يُحدّث عن محمد بن حُمران قطّ!

فهذه حجة أبي زرعة في استنكاره لهذا الحديث أنه سمع الآلاف من أحاديث مُسدد ولم يسمعه يُحدّث عن ابن حمران!

·       قول النقاد: هذا ليس من حديث فلان!

ومع استنكار أبي زرعة لهذه الرواية عن مُسدد إلا أنه لم يُبيّن كيف حصل الخطأ فيها ممن رواها، فمن يروي مثل هذه الرواية عن مُسدد يكون في عِداد الهلكى عنده.

والحفّاظ أمثال أبي زرعة يحكمون على بعض الأسانيد إذا سمعوها وكان فيها خطأ فيقولون: "هذا ليس من حديث فلان"، أو يقولون: "هذا من حديث فلان"، لما عندهم من معرفة الأسانيد وحفظها، وخاصة أحاديث الرواة الكبار.

وأمثلة ذلك كثيرة عند الأئمة النقاد:

·       استنكار أبي زرعة لحديث بالضحك العظيم عند سماعه!

- قال البرذعي: شهدت أبا زُرْعَة - وذكر له صالح جَزَرَة، رجلاً سماه له أُنسيت اسمه -، فقال له صالح: روى - أي ذاك الرجل- عن شعبة، عن أبي جَمْرَة، عن ابن عباس: «أبردوها بماء زمزم»، فوقع على أبي زُرْعَة الضحك العظيم مما قال! وذاك أن هذا ليس من حديث شعبة، إنما رواه همام.

فهنا لما ذاكر صالح جزرة أبا زرعة في هذا الحديث الذي رواه ذاك الرجل عن شعبة استنكره أبو زرعة من حديث شعبة! لأنه يَعرف أن هذا الحديث لا يُعرف عن شعبة، وإنما يُعرف عن همام، فعبّر عن استنكاره بضحكه العظيم على ذلك، ولو كان من حديثه لما ضحك عليه، وهذا الضحك العظيم الذي وقع على أبي زرعة راجع إلى شدة استنكاره له من حديث شعبة!

·       استنكار أبي حاتم لكتاب عن شيخ وأنه ليس من حديثه!

وقال البرذعي: قلت لأبي حاتم: أصح ما صح عندك في محمد بن حميد الرازي أي شيء هو؟

فقال لي: "كان بلغني عن شيخ في الخلقانيين أو الجوالقيين أو نحو ما قَالَ أبو حاتم: أن عنده كتاباً عن أبي زهير، فأتيته أنا وفتى من أهل الري من أصحابنا، فأخرج إلينا ذلك الكتاب فنظرت فيه، فإذا الكتاب ليس من حديث أبي زهير، وهي من أحاديث علي بن مجاهد، فأبى أن يرجع فقمت عنه، وقلت لصاحبي: هذا كذّاب لا يُحسن يكذب، أو نحو ما قَالَ أبو حاتم.

قَالَ: ثم إني أتيت محمد بن حُميد بعد ذاك، فأخرج إليَّ ذلك الجزء الذي رأيته عند ذاك الشيخ بعينه، فقلت لمحمد بن حميد: ممن سمعت هذا؟ قَالَ: من علي بن مجاهد، وقع الكتاب إلى حاذق لا يجهل ما بين علي إلى أبي زهير، وكتبت منها أحاديث فقرأها عليّ محمد بن حميد، وَقَالَ فيها: حَدَّثَنَا علي بن مجاهد، فأسقط في يدي وتحيرت، فأتيت الشاب الذي كان معي يوم أتيت ذلك الشيخ، فأخذت بيده فصرنا جميعا إلى الشيخ، فسألناه عن الكتاب الذي كان أخرجه إلينا يومئذ، فقال: ليس الكتاب عندي اليوم، قد استعاره مني محمد بن حميد منذ أيام.

قَالَ أبو حاتم: فبهذا استدللت على أنه كان يومئ إلى أنه أمر مكشوف".

فهذا أبو حاتم لما نظر في كتاب ذلك الشيخ الذي يّدعي أن فيه أحاديث أبي زهير عبدالرحمن بن مغراء عرف أنها ليست أحاديثه، وإنما هي أحاديث علي بن مُجاهد بن مُسلِم بن رُفَيع، الكَابِلي الرَّازي، وهو ضعيف مُتّهم، لكن لما ذهب إلى ابن حميد ليسمع منه وأخرج ذلك الجزء بعينه وسأله ممن سمعه، فقال له من علي بن مجاهد، فرح بذلك وقال إن الكتاب وقع إلى حاذق وهو لا يجهل ما بين علي إلى أبي زهير، لكن لما سمع منه بعض الأحاديث وقال ابن حميد أنه سمعها من علي بن مجاهد، رجع لذلك الشيخ وسأله عن الكتاب فقال له: إن ابن حميد استعاره منه، فعرف أن ابن حميد لم يسمعه من علي بن مجاهد!

·       استنكار أحمد لحديث لا يعرف عن الشيخ الذي رُوي عنه!

- وقال عبدالله بن أحمد بن حنبل: حَدَّثَنَا محمد بن سلام الجمحي، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو عوانة، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن همام بن الحارث، قَالَ: «بال جرير بن عبدالله فتوضأ ومسح على خفيه».

قَالَ عبدالله بن أحمد: فحدثت به أبي، فقال: "هذا ليس من حديث مغيرة، هذا حديث الأعمش، أخطأ هذا الشيخ على أبي عوانة".

فهنا أيضاً أشار أحمد إلى أن رواية محمد بن سلام معلولة، وقد أخطأ على أبي عوانة؛ لأن هذا الحديث لا يُعرف عن مغيرة! وإنما يُعرف من حديث الأعمش عن إبراهيم.

·       معرفة النقاد لأحاديث الرواة المشهورين:

فأهل النقد يشيرون إلى بعض الطرق أنها ليس من حديث فلان اعتماداً على معرفتهم بأن هذا الحديث من هذا الطريق لا يُعرف، وإنما يُحفظ من طريق آخر.، أو اعتماداً على معرفة الناقد بحديث شيخ ما كما هو الحال فيما قاله أبو زرعة في حديث مسدد، ولهذا قال إنه ليس من حديث مسدد.

ولو أن أبا زُرعة لم يسأل عن هذا الحديث، ووقع عليه ناقد آخر لعرف أن هذا الحديث لا يُعرف عن مُسدد، وإنما يحفظ من طريق آخر عن ابن حمران، إذ لو كان مسدد سمعه من ابن حمران وحدّث به لعرفه أصحابه سيما وهو من أعمدة الرواية.

·       سؤالات البرذعي من أنفس السؤالات وأكثرها فائدة.

ومع أنه لا يُنكر سماع مُسدد من محمد بن حمران، فكلاهما بصري، وابن حمران في طبقة شيوخ مسدد إلا أن البرذعي توقف فيه، ولم يقنع أنه محفوظ عن مسدد؛ لأنه ليس بمشهور من حديث مسدد! فهو يشك فيه لكنه لا يعرف من أين الخطأ! وهذا يدل على نباهته وتقدمه في العلم وتشربه ذلك من شيوخه النقاد وخاصة أبي زرعة، فسؤالاته لأبي زرعة من أنفس السؤالات وأكثرها فائدة، وهنا تظهر أهمية كشف العلل من خلال الأسئلة الدقيقة من بعض التلاميذ النابهين لشيوخهم.

وهذا ما دفعه سؤال شيخه عنه.

وبعد أن أنكر أبو زرعة أن يكون هذا من حديث مسدد، قال له تلميذه: لكن هذا الحديث رواه يحيى بن عبدك عن مسدد = أي من رواه ثقة عنه، فكيف لا يكون من حديثه؟

وَكان البَرْدَعِيُّ ارْتَحَلَ إلى يَحْيَى بن عَبْدَكَ أَبي زَكَرِيَّا يَحْيَى بن عَبْدِ الأَعْظَمِ القَزْوِيْنِيّ، الإِمَام، الحَافِظ، الثِّقَة، مُحَدِّث قَزْوِيْنَ (ت 271هـ) [الإرشاد للخليلي (2/710)]، وسمع منه أحاديث، وهذا منها.

·       إصرار أبي زرعة على استنكار الحديث مع أن راويه من أهل الصدق!

فما كان من أبي زرعة إلا أنه أصرَّ على أن هذا الحديث ليس من حديث مُسدد مع ثنائه على يحيى بن عبدك.

ولم يُبيّن أبو زرعة هل أخطأ أو وهم يحيى بن عبدك في هذا الحديث؟! وأظنه لو عرف ذلك لأخبر به، ولهذا قام البرذعي بإرسال رسالة إلى يحيى بن عبدك وأخبره أن شيخه أبا زرعة قال بأن هذا الحديث ليس من حديث مُسدد!

·       تنبّه يحيى بن عَبدك لخطئه في الحديث بعد رسالة البرذعي له!

وحينها راجع يحيى بن عبدك نفسه، ثم عرف من أين أُوتي في هذا الخطأ! فلما راجع كتبه وجد أن ورّاقه أدخل أحاديث المعلّى بن أسد في حديث مسدد! لأن الحديث محفوظ من حديث المعلّى بن أسد عن ابن حُمران.

فتبيّن له هذا الخطأ بعد عشرين سنة، ولم يكن يميز بين حديث مسدد وحديث المعلى حتى جاءه كتاب البرذعي، فتراجع عن حديثه، ثم قرأ البرذعي كتابه على أبي زرعة فما كان منه إلا أنه أثنى عليه وأن كلامه كلام أهل الصدق إذ اعترف بخطئه، وتراجع عنه بعد مدة طويلة.

والسؤال هنا: كيف وقع الورّاق في هذا الخلط، وأدخل حديث المعلى في حديث مسدد؟

فهذا لم يُبينه البرذعي - رحمه الله -، وإنما اكتفى بما قاله له شيخه يحيى بن عبدك أن وراقه خلط بين حديث الراويين، فعرفت العلّة.

·       كيف حصل الخلط بين أحاديث ابن عبدك عن مُسدد، وأحاديثه عن المعلّى!

فيحيى بن عبدك سمع من مُعَلَّى بن أَسَدٍ أَبي الهَيْثَمِ العَمِّيّ البَصْرِيّ (ت 219هـ)، وسمع من مُسَدَّد بن مُسَرْهَدِ بنِ مُسَرْبَلٍ أَبي الحَسَنِ الأَسَدِيّ البَصْرِيُّ (ت 228هـ)، وهما من طبقة واحدة.

ووراق يحيى - والورّاق هو الذي يُورِّق ويكتب، وينسخ بيده، ويقتات من أجرته - كان يكتب له حديث شيوخه، فكأنه تصحّف عليه حديث «معلى بن أسد» إلى «مسدد»، فإذا نظرت إلى الاسمين وجدت تشابهاً كبيراً بينهما:

(مـــعــلـــ ـبـناسد) فهذه بدون نقط مع تشابك الحروف ومد «بن» تقرأ «مسدد»، ومن عانى المخطوطات ظهر ذلك جلياً له.

فالوراق لم يقصد إفساد حديث الشيخ كما قد يظنّ بعض الجهلة إذ علّق في ذهن كثير من طلبة العلم أن الوراقين أفسدوا كثيراً من حديث الشيوخ، وهذا فيه بعض الحقّ، لكن ليس كل وراق أفسد حديث شيخ كان متعمداً لذلك، وإنما كان بعضهم يقع في الخطأ والوهم كغيرهم، وهذا ما حدث لورّاق يحيى بن عبدك، تصحف عليه الاسم فأدخل حديث معلى بن أسد في حديث مسدد! فصارت أحاديث معلى لمسدد!

ولولا أن الشيخ تنبّه لهذا بعد رسالة البرذعي لما عرف البرذعي ولا غيره كيف حصل الخطأ في هذا الحديث!

·       الاعتذار ليحيى بن عبدك في دعائه على ورّاقه!

ولشدة الأمر على يحيى بن عبدك دعا على الوراق بقوله: "لا جزاه الله خيراً"! ويُعذر في هذا - رحمه الله - إذ الخطأ الذي ارتكبه ليس هيّناً، فيؤثر على حديثه، وعلى حاله كذلك، فكم من راو تكلّم فيهم النقاد بمثل هذه الأخطاء! ثم الأمر يتعلق بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وحفظه وصيانته من الخطأ!

·       الحديث حديث المعلّى:

فالحديث حديث المعلّى بن أسد، وإنما لم يعرف أبو زرعة ذلك؛ لأن جماعة رووه عن محمد بن حمران!

ولو كان الحديث عند مسدد لوجدناه عند أصحابه كالإمام البخاري، فالبخاري روى عن مسدد كثيراً، وروى عن معلى أيضاً، وهذا الحديث رواه البخاري عن معلى بن أسد في «التاريخ الكبير» (4/184) (2418) قال: "سوادة بن الربيع الجرمي، لَهُ صحبة، يُعد فِي الْبَصْرِيّين.

حَدَّثَنَا مُعَلَّى: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ حُمْرَانَ: حدثنا سَلْمٌ الجَرْمِيُّ، عَنْ سَوَادَةَ بْنِ الرَّبِيعِ قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ لِي بِذَوْدٍ، قَالَ لِي: مُرْ بَنِيكَ أَنْ يَقُصُّوا أَظْفَارَهُمْ عَنْ ضُرُوعِ إِبِلِهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ وَقُلْ لَهُمْ: فَلْيَحْتَلِبُوا عَلَيْهَا سِخَالَهَا لا تُدْرِكُهَا السَّنَةُ وَهِيَ عِجَافٌ، قَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ مَالٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ لِي مَالٌ وَخَيْلٌ وَرَقِيقٌ، قَالَ: عَلَيْكَ بِالْخَيْلِ فَارْتَبِطْهَا، الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ».

وَقَالَ أَبُو كَامِلٍ: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ حُمْرَانَ: حدثنا سَلْمٌ الْجَرْمِيُّ، عَنْ سَوَادَةَ: رَأَيْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمًا".

ورواه عن مُعلَّى جماعة، منهم: عَلِيُّ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ البغويّ [كما عند الطبراني في «المعجم الكبير» (7/97) (6480)]، وأَبُو قِلَابَةَ عبدالملك بن محمد الرَّقَاشِيُّ [كما عند أبي عوانة في «مستخرجه» (4/447) (7281)]، وأَبُو الْأَزْهَرِ أحمد بن الأزهر النيسابوريّ [كما عند البيهقي في «معرفة السنن والآثار» (11/312) (15635)]، والْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ [كما عند الدولابي في «الكنى والأسماء» (3/1158)].

ورواه عن مُحَمَّدُ بْنُ حُمْرَانٍ جماعة غير معلى، منهم: قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ الدَّارِمِيُّ [كما عند ابن قانع في «معجم الصحابة» (1/297)]، ويَحْيَى بْنُ رَاشِدٍ المستملي [كما عند ابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (5/59) (2095)]، وخَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ [كما عند أبي نُعيم الأصبهاني في «معرفة الصحابة» (3/1409) (3561)].

ورواية مُعلى بن أسد عن محمد بن حمران معروفة ومشهورة، وقد روى ابن عدي في «الكامل» (9/335) (15483) عن عَبدالله بن عَبدالحميد الواسطي، قال: حَدثنا مُحمد بن معاوية الزيادي، قال: حَدثنا معلى بن أسد، قال: حَدثنا مُحمد بن حمران بن عَبدالعزيز، قال: حَدثنا أَبو معدان، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن جَدِّه قال: «دخلت المسجد ورسول الله صَلى الله عَليه وسلم واضع يده على فخذه اليسرى، يشير بالسبابة، وهو يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك».

·       اختلاط الكتب والصحف على الرواة!

والكتب والصحف قد تختلط على بعض الرواة أو على الوراقين كما حدث لجرير بن عبدالحميد الضبيّ.

قال يعقوب بن سفيان الفسوي في «المعرفة والتاريخ» (2/678): بَلَغَنِي عَنْ جَرِيرٍ أَنَّهُ ذَكَرَ أَحَادِيثَ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ فَقَالَ: "اخْتَلَطَتْ عَلَيَّ فَلَمْ أَفْصِلْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَدِيثِ أَشْعَثَ، حَتَّى قَدِمَ عَلَيْنَا بَهْزٌ الْبَصْرِيُّ فَخَلَّصَهَا لِي فَحَدَّثْتُ بِهَا".

وقال عباس الدوري في «تاريخ ابن معين - روايته» (3/263) (1233): سَمِعت يحيى بن معِين يَقُول: "قَالَ جرير بن عبدالحميد - وَذكر أَحَادِيث عَاصِم الْأَحول -: اخْتلطت عليّ، فَلم أفصل بَينهَا وَبَين أَحَادِيث أَشْعَث حَتَّى قدم علينا بهز الْبَصْرِيّ، فخلصها فَحدثت بهَا".

قلت ليحيى: فَكيف تكْتب هَذِه عَن جرير وهى هَكَذَا؟ فَقَالَ: "أَلا ترَاهُ قد بَين أمرهَا وقصتها".

وعقّب على ذلك الباجي في «التعديل والتجريح» (1/460) فقال: "كَأَنَّهُ لَو لم يبين لَهُم أمرهَا لم يُحَدِّثهُمْ بهَا".

قلت: لا ندري كيف اختلطت على جرير هذه الصحف، لكنه كان يعرف اختلاطها عليه، ولما قدم عليهم بهز بن أسد عرضها عليه فميزها له، وكان بهز من أهل التثبت وكانت له عناية بالكتب وحفظها، ويتثبت في ذلك، ولهذا قال فيه الإمام أحمد: "إليه المنتهى في التثبت".

وظاهر الأمر أن جريراً لم يُحدث بهذه الأحاديث حتى ميزها له أسد، وكان ذلك ردّ ابن معين لما استغرب الدوري كتابة ابن معين لحديثه وكانت هذه الصحف اختلطت عليه!

·       هل حدّث جرير بأحاديث عاصم وأشعث قبل أن يميزها له بهز بن أسد؟

لكن حقيقة ما استغربه الدوري على ابن معين في محلّه، إذ أشار الدارقطني لحديث حدث به جرير عن اشعث وهو إنما من حديث عاصم!

قال الدارقطني في «العلل» (12/98) (2472) - وسئل عن حديث: عاصم الأحول، عن أنس، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أن يتمنى الموت»؟-: "يرويه قيس بن الربيع، واختلف عنه عن عاصم الأحول، قال: سمعت أنساً.

وخالفه أبو الأحوص، وإسرائيل، والحسن بن صالح، وعبدالواحد بن زياد، وعمرو بن أبي قيس، فرووه عن عاصم الأحول، عن أنس، وهو الصواب.

ورواه جرير بن عبدالحميد، عن أشعث بن سوار، عن النضر بن أنس، عن أنس، ووهم فيه جرير؛ لأن هذا ليس من حديث أشعث، إنما هو من حديث عاصم الأحول!! ويقال: إن جريراً اختلف عليه «صحيفة عاصم» من «صحيفة أشعث بن سوار»، وميّزها له بهز بن أسد".

فها هو جرير قد حدّث عن أشعث بن سوار عن النضر بن أنس، وإنما هو من حديث عاصم! وهذا يعني أنه حدّث بهذا قبل أن يميز له أسد حديث عاصم من حديث أشعث، أو أنه حدث به بعد ذلك من حفظه فوهم فيه، والله أعلم.

·       حكاية أخرى للبرذعي مع أبي زرعة من نظائر الحكاية المتقدمة:

ونظير حكاية يحيى بن عَبدك الحكاية التي أوردها البرذعي قبلها مباشرة في كتابه:

قال: قلت لأبي زرعة: إن جعفر بن أحمد الزَّنْجَانِيّ حدّثنا عن يحيى بن معين، عن رِفْدَة بْنِ قُضَاعَةَ بحديث الأوزاعي في الرفع؟

فقال: إن هذا يحتاج إلى أن يُحبس في السجن.

قلت: إنه يقول: حدثنا يحيى عن رِفْدَة!

فقال: لم يسمع يحيي من رِفْدَة شيئاً، ولم يسمع من هِشَام بْنِ عَمَّارٍ شيئاً.

فكتبت إلى جعفرٍ بذلك فقال لي: "إنما رأيت يحيى يُذاكرُ به، ويقول: رواه رِفْدَةُ ولا أدري ممن سمعه" انتهى.

قلت: يبدو هنا أن البرذعي شكّ في رواية يحيى بن معين لهذا الحديث عن رِفدة! فسأل شيخه عنه؟ فأجاب بأن من روى هذا عن يحيى يُحتاج أن يُحبس؛ وذلك لأن هذا الحديث لا يعرف أن يحيى حدّث به!

فقال له التلميذ: إن الزنجاني يقول فيه: حدثنا يحيى! = يعني جوّد إسناده، والظاهر أنه ثقة عند البرذعي وهو من شيوخه، ولو أنه كان مجهولاً لا يُعرف لتكلّم عليه أبو زرعة، ومع قول الزنجاني بتحديث يحيى به إلا أن أبا زرعة علله بأن يحيى لم يسمع من رِفدة شيئاً، وزاد أيضاً بقوله: ولم يسمع يحيى من هشام بن عمار شيئاً!

وسبب ذكر هشام بن عمار هنا هو أن هذا الحديث تفرد بروايته عن رِفدة هشام بن عمار، وهو يعرف به، لم يروه عن رفدة إلا هو.

رواه جماعة عن هِشَام بْن عَمَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا رِفْدَةُ بْنُ قُضَاعَةَ الْغَسَّانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عُمَيْرِ بْنِ حَبِيبٍ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ».

وفي لفظ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ».

فأبو زرعة رد رواية الزنجاني عن يحيى؛ لأن الحديث يرويه هشام بن عمار، ويحيى لم يسمع لا من هشام، ولا من رِفدة.

فكتب البرذعي إلى الزنجاني، وأخبره بقول أبي زرعة، فرد عليه بأنه رأى يحيى يُذاكر به، ويقول: رواه رِفدة، ولا يعرف ممن سمعه يحيى.

فتبيّن بذلك أن يحيى لم يقل إنه سمعه من أحد، وإنما كان يذكره في المذاكرة.

قَالَ المُفَضَّلُ بنُ غَسَّانَ الغَلاَبِيُّ: قلت ليحيى بن معين: إنّ الْأَوْزَاعِيّ حدَّث عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ، فأنكر يحيى هذا الحديث والإسناد. [تاريخ دمشق لابن عساكر (18/155)].

وقال يحيى: "رِفدة، وقد سمعت به، وهو شيخ ضعيف، لو كان جاء بهذا رجل معروف عن الأوزاعي مثل هِقْل كان عسى" [إكمال تهذيب الكمال (4/395)].

فالظاهر أن يحيى لم يروه، وإنما سئل عنه وعن حديثه فأنكره، وضعّف رِفدة، لأنه لا يحتمل عن الأوزاعي، ولو أتى بهذا الحديث الهِقْلُ بنُ زِيَادٍ عنه لقبله لأن الهِقل صَاحِب الأَوْزَاعِيِّ.

قال أبو نُعيم الأصبهاني في «الحلية» (3/358): "غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِاللهِ وَالْأَوْزَاعِيِّ، لَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَوَاهُ إِلَّا رِفْدَةُ بْنُ قُضَاعَةَ".

وقال الجورقاني في «الأباطيل والمناكير» (2/27): "هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، مَا رَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ قَطُّ، وَحَدِيثُ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ يُصَرِّحُ بِضِدِّهِ، أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَرَفَدَهُ بْنُ قُضَاعَةَ كَانَ مِمَّنْ يَتَفَرَّدُ بِالْمَنَاكِيرِ عَنِ الْمَشَاهِيرِ، لَا يُحْتَجُّ بِهِ، إِذَا وَافَقَ الثِّقَاتِ، فَكَيْفَ إِذَا انْفَرَدَ عَنِ الْأَثْبَاتِ بِالْأَشْيَاءِ الْمَنَاكِيرِ، وَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: رَفَدَةُ بْنُ قُضَاعَةَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ".

وقال العقيلي في «الضعفاء» (2/65): "رِفْدَةُ بْنُ قُضَاعَةَ الْغَسَّانِيُّ شَامِيٌّ، وَلَا يُتَابَعُ عَلَى حَدِيثِهِ"، وساق حديثه، ثم قال: "وَالرِّوَايَةُ فِي هَذَا الْبَابِ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ ثَابِتَةٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَمَّا هَذَا الْإِسْنَادُ فَلَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ رِفْدَةَ هَذَا".

·       لحديث رِفدة عن الأوزاعي أصل!

لكن قد رواه رِفدة عن الأوزاعي بإسناد آخر خولف فيه!

رواه البيهقي في «الخلافيات» (2/356) من طريق هِشَام بْن عَمَّارٍ، قال: حدثنا رِفْدَةُ بْنُ قُضَاعَةَ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ مَرْوَانَ اسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَكَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إِذَا رَكَعَ، وَإِذَا رَفَعَ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: «لَوْ قُطِعَ كَفِّي لَرَفَعْتُ ذِرَاعِي، وَلَوْ قُطِعَ ذِرَاعِي لَرَفَعْتُ عَضُدِي».

وسُئل الدارقطني في «العلل» (9/282) (1763) عن هذا الحديث، فَقَالَ: "هَذَا رَوَاهُ رَفْدَةُ بْنُ قُضَاعَةَ الْغَسَّانِيُّ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى، عن أَبِي سَلَمَةَ كَذَلِكَ.

وَخَالَفَهُ مُبَشِّرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَغَيْرُهُ، فَرَوَوْهُ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكَبِّرُ لَمْ يَذْكُرِ الرَّفْعَ، وَفِي آخِرِهِ: إِنَّهَا لَصَلَاةُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ".

فهذا يدلّ على أن للحديث أصل عن الأوزاعي، لكن رِفدة اضطرب في إسناده، فرواه على وجهين، تفرد بالأول، وخولف في الثاني، وأخطأ في متنه كذلك!

·       تنبيه على خطأ في كتاب البرذعي المطبوع!

جاء في مطبوع كتاب «البرذعي» (2/578) طبعة د. سعدي الهاشمي: "... قلت لأبي زرعة: إن أحمد بن جعفر الزنجاني... فكتبت إلى جعفر بذلك...".

وفي طبعة دار الفاروق بتحقيق محمد علي الأزهري (ص: 290) محمد علي الأزهري: "... قلت لأبي زرعة: إن أحمد بن جعفر الزنجاني... فكتبت إلى ابن جعفر بذلك...".

قلت: انقلب الاسم في كلا الطبعتين، ويبدو هو كذلك في المخطوط! "أحمد بن جعفر الزنجاني"، وهو خطأ؛ لأن الكلام بعده: "فكتبت إلى جعفر" فلو كان صحيحاً لكانت: "فكتبت إلى أحمد"، وكأن محقق طبعة الفاروق تنبه لهذا فزاد في العبارة "ابن"، فصارت "ابن جعفر"!

ومع ذلك فهو خطأ! والصواب: "جعفر بن أحمد الزنجاني" فحينها يستقيم الكلام، وهو كذلك في «تاريخ ابن عساكر» (18/155) من طريق أحمد بن طاهر بن النجم، قال: أخبرنا سعيد بن عمرو البرذعي، قال: "قلت لأبي زرعة، إن جعفر بن أحمد الزنجاني.... فكتبت إلى جعفر بذلك...".

وجعفر هذا لم أجد له ترجمة، لكن كما أشرت من قبل هو من شيوخ البرذعي، ويعرفه أبو زرعة، وقد ذكره ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (8/403) (1850) في تلاميذ "مَضاء بن الجارود الدَّيِنَوَريّ، أبو الجارود"، قال: روى عَنْهُ: جعفر بن أحمد الزنجانيّ القصير...".

 

وكتب: خالد الحايك

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

شاركنا تعليقك