الموقع الرسمي للشيخ الدكتور خالد الحايك

سلسلة فهم أقوال أهل النَّقد (21). قول مَالِكِ بنِ أَنَسٍ: «كَانَ ابنُ جُرَيْجٍ حَاطِبَ لَيْلٍ»! وقَول الشَّعْبِيّ: «قَتَادَةُ حَاطِبُ لَيْلٍ»!!

سلسلة فهم أقوال أهل النَّقد (21).

قول مَالِكِ بنِ أَنَسٍ: «كَانَ ابنُ جُرَيْجٍ حَاطِبَ لَيْلٍ»!

وقَول الشَّعْبِيّ: «قَتَادَةُ حَاطِبُ لَيْلٍ»!!

«حَاطِبُ لَيْلٍ»...

قال الخليل بن أحمد الفراهيدي: "يُقال للمُخلِّط في كلامه وأمره: «حاطبُ لَيْلٍ»، مَثَلاً له؛ لأنّه لا يَتَفَقّد كلامَه كحاطب اللَّيل، لا يُبصر ما يجمع في حَبْله من رديء وجيّد".

وهذا يوجد في كلّ معاجم اللغة.

ويُقال في «المَثل»: "أَخْبَطُ مِنْ حَاطِبِ لَيْلٍ"؛ لأن الذي يحتطب ليلاً يجمع كلَّ شيء مما يحتاج إليه وما لا يحتاج إليه، فلا يدري ما يجمع.

وقال الزمخشري: "الخبط الْإِصَابَة مرّة والإخطاء أخرى، وحاطب اللَّيْل كَذَلِك لَا يعرف مَا يحتطبه فَيجمع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ وَمَا لَا يحْتَاج إليه".

وقال سفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ: قَالَ لِي عَبْدُالكَرِيْمِ الجَزريُّ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، تَدْرِي مَا حَاطِبُ لَيْلٍ؟

قُلْتُ: لا.

قال: "هُوَ الرَّجُلُ يَخْرُجُ فِي اللَّيْلِ، فَيَحْتَطِبُ، فَيَضَعُ يَدَه عَلَى أَفْعَى، فَتَقْتُلُه. هذا مَثَلٌ ضَرَبتُه لَكَ لِطَالِبِ العِلْمِ، أَنَّهُ إِذَا حَمَلَ مِنَ العِلْمِ مَا لاَ يُطِيْقُه، قَتَلَه عِلْمُه، كَمَا قَتَلَتِ الأَفْعَى حَاطِبَ اللَّيْلِ".

وقال مُطَرِّفُ بنُ عَبْدِاللَّهِ: قَالَ رَجُلٌ لِمَالِكٍ: قَدْ سَمِعْتَ مِائَةَ أَلْفِ حَدِيثٍ.

فَقَالَ مَالِكٌ: مِائَةُ أَلْفِ حَدِيثٍ! أَنْتَ حَاطِبُ لَيْلٍ تَجْمَعُ القَشْعَةَ.

فَقَالَ: مَا الْقَشْعَةُ؟

قَالَ: الحَطَبُ يَجْمَعُهُ الإِنْسَانُ بِاللَّيْلِ، فَرُبَّمَا أَخَذَ مَعَهُ الأَفْعَى فَتَنْهَشَهُ.

والقَشْعة عند أهل اللغة: مَا يُقْشَع عَنْ وَجْهِ الأَرض مِنَ المدَر وَالْحَجَرِ، أَي يُقْلَعُ كبَدْرةٍ وبِدَرٍ، وَقِيلَ: القِشْعةُ النُّخامة الَّتِي يَقْتَلِعُها الإِنسان مِنْ صَدْرِهِ ويُخْرِجُها بِالتَّنَخُّمِ، وقيل: القَشْعةُ مَا تَقَلَّفَ مِنْ يابِس الطينِ إِذا نَشَّتِ الغُدْرانُ وَجَفَّتْ.

والمقصود أن هذا الإكثار هو جمع لكثير من الرديء! وهذا سيؤذيه كما تؤذي الأفعى الذي يجمع الحطب بالليل.

وقال الإمامُ الشَّافِعِيُّ: "مَثَلُ الَّذِي يَطْلُبُ العِلْمَ بِلَا إِسْنَادٍ - وقيل: بلا حجّة، وقيل: من يَحمل العلم جُزافاً - مَثَلُ حَاطِبِ لَيْلٍ لَعَلَّ فِيهَا أَفْعَى تَلْدَغُهُ، وهُوَ لَا يَدْرِي".

فـ «حاطبُ لَيْلٍ» تستخدم للذمّ، فأخذها أهل النقد كمصطلح نقدي يصفون به بعض الرواة الذين يخلطون الغَثَّ والسَّمِين، ولا يتقنون الرواية، ومن لا يعرف في الحديث شيئاً!

روى مالك، عن عَبدالله بن يزيد بن هرمز: أنه كان يرى بعض من يطلب الأحاديث فيقول: "هذا حاطب ليل".

فمن طلب الحديث وسمع كلّ شيء وحدّث به دون تمييز قيل عنه: «حاطبُ لَيْلٍ».

قال سُلَيْمان بن مُوسَى القرشي الأُمَوِي الدمشقي (ت 119هـ): "الَّذِي يَأْخُذُ كَلَّ مَا يسمع، ذاك حاطب ليل".

روى سَعِيدُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ التنوخي عَنْ سُلَيْمَانَ بنِ مُوسَى قَالَ: "يجلس إلى العالم ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ يَأْخُذُ كَلَّ مَا سَمِعَ، وَرَجُلٌ لَا يَكْتُبُ، وَيَسْمَعُ، فَذَاكَ يُقَالُ لَهُ: جَلِيسُ الْعَالِمِ، ورجل ينتقي، وهو خيرهم". [تاريخ أبي زرعة الدمشقي (ص: 318)].

وقال ابن أبي حاتم في «آداب الشافعي ومناقبه» (ص: 74): فِي كِتَابِي: عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ، وَذُكِرَ من يَحْمِلُ العِلْمَ جِزَافًا، فَقَالَ: «هَذَا مِثْلُ حَاطِبِ لَيْلٍ، يَقْطَعُ حُزْمَةَ الْحَطَبِ، فَيَحْمِلُهَا، وَلَعَلَّ فِيهَا أَفْعَى تَلْدَغُهُ، وَهُوَ لا يَدْرِي».

قَالَ الرَّبِيعُ: "يَعْنِي الَّذِينَ لا يَسْأَلُونَ عَنِ الحُجَّةِ، مِنْ أَيْنَ هِيَ؟".

قُلْتُ - ابن أبي حاتم-: "يَعْنِي مَنْ يَكْتُبُ العِلْمَ عَلَى غَيْرِ فَهْمٍ، وَيَكْتُبُ عَنِ الْكَذَّابِ، وَعَنِ الصَّدُوقِ، وَعَنِ المُبْتَدِعِ وَغَيْرِهِ، فَيَحْمِلُ عَنِ الْكَذَّابِ وَالْمُبْتَدِعِ الأَبَاطِيلَ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ نَقْصًا لإِيمَانِهِ، وَهُوَ لا يَدْرِي".

وقول الشافعي: "من يَحْمِلُ العِلْمَ جِزَافًا" = أي من يتساهل في أخذه من كلّ أحد دون تحقيق. وجزافا في أصل اللغة من الجَزْفُ وهو: الأَخذُ بِالكَثْرَةِ.

ورواه ابن عدي في «الكامل» (1/290) (681) عن يَحيى بن زكريا بن حيويه، قال: سَمعتُ الربيع يقول: سَمعتُ الشافعي يقول: "مَن لم يسأل: مِن أين؟ فهو كحاطب ليل يحمل على ظهره حزمة حطب، فلعل فيها أفعى تلدغه".

فالذي يسمع من كل أحد يُقال فيه: "كان حاطب ليلٍ".

قالوا في "عُثْمَان بن عَبْدِالرَّحْمَنِ بنِ مُسْلِمٍ الحَرَّانِيّ الطَّرَائِفِيّ المُؤَدِّب": "هُوَ فِي الجَزَرِيِّيْنَ كَبَقِيَّةَ فِي الشَّامِيِّيْنَ، حَاطِبُ لِيْلٍ".

ومعنى ذلك أنه يُحَدِّثُ عَنْ قَوْمٍ مَجْهُوْلِيْنَ بِالمَنَاكِيْرِ كما هو الحال في بقية، فإنه يروي عن المجهولين المناكير.

وقَال علي بن ميمون الرَّقِّيّ، عَن أَبِي خُليد عتبة بن حَمَّاد: سألني سَعِيد بن عَبْدالعَزِيزِ قال: ما الغالب على علم سَعِيد بن بشير؟ قلت لَهُ: التفسير. قال: "خذ عنه التفسير، ودع ما سوى ذَلِكَ، فإنه كَانَ حَاطِب ليل".

قلت: يعني أنه كان في التفسير لا بأس به، وكان له تفسيراً مصنّفاً يرويه عنه الوليد بن مسلم الدمشقي.

وأما في الحديث فهو ضعيف لا يُحتج به.

ومن كانت كتبه كثيرة، وهي مُجَرّد جمع بِلَا تَحْرِير يقال فيه: "كَانَ حَاطِب ليل".

ومن ينقل أشياء تحتاج لنقد ولم ينقدها، وينقل الغثّ والسمين يقال فيه: "حاطب ليل".

وقد سئل الحافظ ابن حجر عما قاله الحافظ ابن رجب في كتاب «البهجة» الذي جمعه أبو الحسن المُقرىء الشَّطنوفي المصري في أخبار الشَّيخ عبدالقادر الكيلاني ومناقبه - وكان قد ذمّه لكثرة ما فيه مِنَ الرواية عن المجهول، وفيه مِنَ الشُّطح والطامات والدعاوى والكلامِ الباطلِ ما لا يُحصى - فذكر ابن حجر أن كلام ابن رجب في الكتاب ليس على إطلاقه، وأن ما فيه يقسم إلى ثلاثة أقسام، فذكرها، ثم قال: "ولا شكَّ أنه مَنْ ليست له بصيرةٌ بنقد الرواية، ثمَّ قصد الإكثار، فإنَّه يصير حاطِبَ ليل يجمع الغثَّ والسَّمينَ وهو لا يدري، وهذا حال جامع «البهجة»". ["الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر للسخاوي: (2/941-942)].

ومن لا يعرف شيئاً في العلم الذي طلبه يقال فيه: "حاطب ليل".

قال ابن عساكر في شيخه «الحسين بن محمد بن خسرو البلخي» - وكان محدثاً مكثراً-: "سمع الكثير غير أنه ما كان يعرف شيئاً".

وقال عنه ابن ناصر: "كان فيه لين، وكان حاطب ليل".

وقال أبو سعد ابن السمعاني في شيخه «عثمان بن عتيق الله بن يعقوب بن علي الصوفي»: "كتبت عنه، وكان حاطب ليل، كثير الكلام".

فهل ما قاله مالك في ابن جُريج، والشعبي في قتادة يعني تضعيفهما؟!

هذا لا يقوله عاقل! فابن جريج، وقتادة من أعلام الحديث وحملته، وهما من أعمدة الرواية، ومن كبار الحفاظ، ولا يشك أحد في ثقتهما.

لكن المقصود بقول مالك والشعبي أنهما يرويان عن كلّ أحد، ويُحدّثان بكلّ ما سمعوا، وهما من كبار المدلّسين.

رَوَى إِسْمَاعِيْلُ بنُ دَاوُدَ المِخْرَاقِيُّ، عَنْ مَالِكِ بنِ أَنَسٍ، قَالَ: "كَانَ ابْنُ جُرَيْجٍ حَاطِبَ لَيْلٍ".

وهذا يُفسره ما قاله يَزِيْدُ بنُ زُرَيْعٍ: "كَانَ ابْنُ جُرَيْجٍ صَاحِبَ غُثَاءٍ".

والغثاء في الأصل ما يَحْمِله السَّيْل مِنَ الزَّبَد، والوَسَخ، والقماش، والقمام، وَغَيْرِهِ، ثم شُبّه به كل شيء رديء من الناس وغيرهم.

فابن جُريج كان عنده روايات كثيرة، وفيها المناكير أخذها من مجاهيل وضعفاء، ولهذا كان يُدلّس في روايته.

قال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (6/336): "قَالَ بَعْضُ الحُفَّاظِ: لابنِ جُرَيْجٍ نَحْوٌ مِنْ أَلْفِ حَدِيْثٍ - يَعْنِي: المَرْفُوْعَ- وَأَمَّا الآثَارُ، وَالمَقَاطِيْعُ، وَالتَّفْسِيْرُ، فَشَيْءٌ كَثِيْرٌ".

وقَال عبدالرزاق الصنعاني: قدم أبو جعفر، يعني: الخليفة - مكة، فقال: اعرضوا علي حديث ابن جُرَيْج، فعرضوا، فقال: "ما أحسنها لولا هذا الحشو الذي فيها - يعني: قوله: بلغني وحُدّثت".

وقَالَ جَعْفَرُ بنُ عَبْدِالوَاحِدِ: عَنْ يَحْيَى بنِ سَعِيْد القطّان، قَالَ: "كَانَ ابنُ جُرَيْجٍ صَدُوقاً، فَإِذَا قَالَ: حَدَّثَنِي، فَهُوَ سَمَاعٌ، وَإِذَا قَالَ: أَنْبَأَنَا، أَوْ أَخْبَرَنِي، فَهُوَ قِرَاءةٌ، وَإِذَا قَالَ: قَالَ، فَهُوَ شِبْهُ الرِّيحِ".

وقال الدارقطني: "تجنّب تدليس ابن جريج، فإنه قبيح التدليس، لا يُدلِّس إلا فيما سمعه من مجروح مثل إبراهيم بن أبي يحيى، وموسى بن عبيدة، وغيرهما".

وقال أَبُو بَكْر الأثرم: قَالَ لي أَبُو عبدالله - يعني: أحمد -: "إذا قال ابن جريج: «قال فلان»، و«قال فلان»، و«أُخبرت»، جاء بمناكير، فإذا قال: «أَخْبَرَنِي»، و«سمعت»، فحسبك به".

وقال أبو بكر ابن أبي خيثمة: "ورأيت في كتاب علي بن المديني: سألت يحيى بن سعيد عن حديث ابن جريج، عن عطاء الخراساني؟ فقال: ضعيف. قلت ليحيى: إنه يقول: «أخبرني»! قال: لا شيء، كله ضعيف، إنما هو كتاب دفعه إليه".

كذا نقله مغلطاي في «إكمال تهذيب الكمال»، ونقله ابن حجر عنه في «تهذيب التهذيب»، وفي مطبوع «تاريخ ابن أبي خيثمة» (1/259) (889): "وَزَعَمَ عليٌّ؛ أَنَّهُ سأل يَحْيَى بن سَعِيدٍ عن حديث...".

وعند الكعبي* في «قبول الأخبار ومعرفة الرجال» (1/389): "... إنما [هو كتاب] دفعه إليه إسماعيل. قال: قال مالك: ابن جريج حاطب ليل".

[*الكعبي معتزلي خبيث صنّف كتابه هذا لثلب أهل الحديث! ولي دراسة مخطوطة حوله].

فالنص فيه نقص واضح: "دفعه إليه (...)!" وهو مكتمل عند الكعبي، والذي دفع الكتاب إليه هو "إسماعيل". ولم أعرفه!

والظاهر في نقل الكعبي أن يحيى بن سعيد نقل عن مالك قوله في ابن جريج بعد أن بيّن أن رواية ابن جريج عن عطاء كتاب دُفع إليه، ولم يسمعه، فيُحتمل أن قول مالك هذا يعني أنه يروي عن بعضهم دون سماع من كتب لم يسمعها.

روى ابن سعد في «الطبقات الكبرى» (5/476) قالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ عُمَرَ الواقدي، قَالَ: سَمِعْتُ أبا بكر بن أبي سبرة يقول: قَالَ لي ابن جريج: اكتب لي أحاديث من أحاديثك جيادًا. قَالَ: "فكتبت له ألف حديث، ودفعتها إليه، ما قرأها عليّ، ولا قرأتها عليه".

قَالَ محمد بن عمر: "ثم رأيت ابن جريج قد أدخل في كتبه أحاديث كثيرة من حديثه. يقول: حدثني أبو بكر بن عبدالله - يعني ابن أبي سبرة- وكان كثير الحديث، وليس بحجة".

وقال في موضع آخر (6/38): قال محمد بْنُ عُمَرَ: "فَسَمِعْتُ ابْنَ جُرَيْجٍ بَعْدَ ذَلِكَ يُحَدِّثُ يَقُولُ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي سبرة في أحاديث كثيرة".

وقَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ قَالَ: شَهِدْتُ ابْنَ جُرَيْجٍ جَاءَ إِلَى هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ فَقَالَ: "يَا أَبَا الْمُنْذِرِ الصَّحِيفَةُ الَّتِي أَعْطَيْتَهَا فُلانًا هِيَ حَدِيثُكَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ".

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: "فَسَمِعْتُ ابْنَ جُرَيْجٍ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ مَا لا أُحْصِي".

وعن قريش بن أنس قال: سمعت ابن جريج قال: "ما سمعت من الزهري شيئاً، إنما أعطاني الزهري جزءًا فكتبته وأجازه لي".

قال عبدالله بن أحمد في «العلل» حَدَّثَنِي أَبِي، قال: حَدَّثَنَا وَكِيع، عن سُفْيَان، عن ابن جُرَيْجٍ، عن رجل، عن ابن عَبَّاس: "إذا نسي رمى إذا ذكر".

سمعت أَبِي يقول: "هذا الرجل، هو عَطَاء الخُرَاسَانِي".

وقال البزار: "لم يسمع عبدالملك ابن جريج من حبيب ابن أبي ثابت، إنما سمع من عمرو بن خالد - وهو متروك - عن حبيب".

قلت: فقول مالك في ابن جُريج «حاطب ليل» = معناه ما قاله للرجل الذي أخبره أنه جمع مِائَة أَلْفِ حَدِيثٍ: "أَنْتَ حَاطِبُ لَيْلٍ تَجْمَعُ القَشْعَةَ" يعني تجمع أشياء كثيرة لا فائدة منها، وستؤذيك كما تؤذي الأفعى من يجمع الحطب في الليل تخرج مع ما يجمع من الحطب فتنهشه!

وابن جريج كان يسمع من كلّ أحد، وكان يأخذ من الضعفاء والمجاهيل المناكير، فحينما يروي عنهم يُدّلسهم، وكان يُحدّث عن شيوخ من كتب وصُحف لم يسمعها منهم! فيجمع الغثّ والسمين، والجيد والرديء!

وأما قول الشعبي في قتادة:

فرواه يعقوب بن سفيان الفسوي في «المعرفة والتاريخ» (2/277) قال: حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بنُ أَبِي شَيْبَةَ، قال: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ - هو: ابن عبدالحميد الضبيّ الكوفي-، عَنْ مُغِيرَةَ - هو: ابن مِقسم الضبيّ الكوفي-، قَالَ: قِيلَ لِلشَّعْبِيِّ: رَأَيْتَ قَتَادَةَ؟ قَالَ: "نَعَمْ، رَأَيْتُهُ حَاطِبَ لَيْلٍ".

ورواه ابن عدي في «الكامل» (1/179) (225) قال: أخبرنا أَبو العلاء الكوفي محمد بن أحمد بن جعفر الوكيعيّ، قال: أخبرنا أَبو مَعْمَر - هو: إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم الهذلي-، قال: حَدثنا جرير، عن مُغيرة، قال: ذكروا قتادة عند الشعبي، فقال: "ذاك حاطب ليل".

ونُقل هذا عن الأصمعي أيضاً.

رواه ابنُ قُتَيْبَةَ الدِّيْنَوَرِيُّ في كتاب «المعارف» (ص:443) قال: حدّثني سهل بن محمد السجستاني أبو حاتم، عن الأصمعي، قال: "«الحسن» سيّد سمح، وإذا حدّثك الأصم- يعني «ابن سيرين» بشيء فاشدد يديك به، و«قتادة» حاطب ليل".

وقال في موضع آخر من الكتاب (ص:462): حدّثني أبو حاتم، عن الأصمعيّ، عن شعبة، قال: "كان «قتادة» إذا حدّث بالحديث الجيد، ثم ذهب يجيء بالثاني، عدوت وراءه لئلا ينسى الأوّل؛ لأنه كان يحفظ ولا يكتب".

قلت: كان قتادة يأخذ عن كلّ أحد، الغثّ والسمين، فإذا حدّث عن الضعفاء والمجاهيل دلّسهم.

قال أبو عَمْرو بن العَلاءِ: "كَانَ قَتَادَةُ وعَمْرو بنُ شُعَيْب لا يغِثّ عَلَيْهِمَا شَيْءٌ، يَأْخُذَانِ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ".

[فلانٌ لا يَغِثُ عليه شيءٌ، أَيْ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ شَيْءٍ، حَتَّى الغَثُّ عِنْدَهُ سَمِينٌ، ولا يقول في شيءٍ إنَّه رديءٌ فيترُكُهُ].

وفي رواية: "كان قتادة وعمرو بن شعيب لا يُعاب عليهما شيء، إلا أنهما كانا لا يسمعان شيئاً إلا حدّثا به".

وذكر الكعبي في كتابه «قبول الأخبار ومعرفة الرجال» (1/246) عن الكرابيسي، قال: "كان يُدلِّس عن قوم كثير". قال: "وقال حجاج بن محمد: سمعت شعبة بن الحجاج يُسأل عن تدليس قتادة، فقال: «قد وقفته على ذلك، فقال: ما سمعته من أنس فقد سمعته، وما لم أسمعه فقد حدثني عنه النضر بن أنس وغيره من ولد أنس»".

قال الكرابيسي: "أحاديث قتادة عن عطاء تدليسها كثير. قال: وكان شعبة يقول في غير حديث: «جانبت قتادة في هذا، خشيت إن وقفته عليه أن يفسد عليَّ الحديث»".

قلت: فقول الشعبي والأصمعي في قتادة «حاطب ليل» = معناه أنه كان يسمع من كلّ أحد فيجمع الغثّ والسمين، والجيد والرديء! وكان إذا حدّث عن الضعفاء والمجاهيل دلّسهم كما كان يفعل ابن جُريج.

فهذه الكلمة «حاطب ليل» لا تعني التجريح المطلق دائماً كما فهمها بعض المعاصرين! بل قد تكون جرحاً في حقّ بعضهم وأنه لا يُميز في الحديث، أو تكون جرحاً مُقيداً كأن يكون الراوي يتقن فنّاً ما، ولا يتقن فنّاً آخر فيكون حاطب ليل فيه، وقد تكون تنبيهاً على ما يرويه بعض الثقات عن كلّ أحد: الجيد والرديء، كالحال في ابن جُريج وقتادة، وهذا ليس جرحاً فيهما، وإن كان خلاف الأَولى.

·       أسباب الرواية عن الضعفاء والمجاهيل:

وسماع أمثال هؤلاء الثقات عن كل أحد - ومنهم الضعفاء والمجاهيل والرواية عنهم له أسبابه:

1- الشّره في الرواية:

فقد يكون من باب الشَّرَه في السماع والرواية، كما روى نُعيم بن حَمَّاد قَالَ: سَمِعت وكيعا يَقُول: قلت لشعبة، مَالك تَرَكْتَ فُلانًا وَفُلانًا ورَوَيْتَ عَنْ جَابِرٍ الجُعْفِيِّ؟ قالَ: "رَوَى أَشْيَاءَ لم نَصبر عَنْهَا".

وابن جُريج، وقتادة، وغيرهما كان عندهم هذا الشره في الرواية.

2- الترغيب في الرحلة وكتابة الحديث:

وقد يكون من باب الترغيب في كتابة الأخبار والرحلة، كما قال ابن حبان: "فَإِن الثَّوْرِي لَيْسَ من مذْهبه ترك الرِّوَايَة عَن الضُّعَفَاء، بَل كَانَ يُؤَدِّي الحَدِيث عَلَى مَا سمع لِأَن يرغب النَّاس فِي كِتَابَة الْأَخْبَار ويطلبوها فِي المدن والأمصار".

3- معرفة ما يرويه الضعيف لبيانه إذا احتيج لذلك:

وقد يكون من باب المعرفة حتى لا يعتقد الناس صحتها، وبيان ضعفها عند الحاجة، كما روى مُحَمَّدُ بنُ رافع قَالَ: رَأَيْتُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مَجْلِسِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَمَعَهُ كِتَابُ زُهَيْرٍ عَنْ جَابِرٍ الجُعفيّ وَهُوَ يَكْتُبُهُ، فقالَ: يَا أَبَا عَبْدِاللَّهِ، تَنْهَوْنَنَا عَنْ حَدِيثِ جَابر وتكتبونه! قَالَ: "لنعرفه".

4- سماع أحاديث المواعظ والزهد وروايتها:

وقد يكون من باب أحاديث المواعظ والزهد، كما روى ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن عَبدة - يعني: ابن سليمان- قال: قيل لابن المبارك - وروى عن رجل حديثاً، فقيل هذا رجل ضعيف؟ فقال: "يحتمل أن يُروى عنه هذا القدر أو مثل هذه الأشياء".

قال أبو حاتم: قلت لعبدة: مثل أي شيء كان؟ قال: "في أدب، في موعظة، في زهد، أو نحو هذا".

5- نشر العلم:

وقد يكون من باب نشر العلم، فيسمع المحدّث كلّ شيء ويرويه، كما كان يفعل الحسن البصري، فإنه كان يسمع من كلّ أحد، ويُحدّث بكل شيء، ويرسل ما يسمعه من هؤلاء اعتقاداً منه أن هذا يُحتاج إليه كعلم، ولا بدّ من نشره.

 

شاركنا تعليقك