الموقع الرسمي للشيخ الدكتور خالد الحايك

سلسلة فهم أقوال أهل النَّقد (17). قالَ صالح جَزَرة: كَانَ أَحْمَد الدورقي يلقب بـ «يا حداد أوثق»؛ لخفته... وقال عن أَبي مُوْسَى مُحَمَّد بن المُثَنَّى الزَّمِن: «صَدُوْقُ اللَّهْجَةِ، فِي عَقلِهِ شَيْ

سلسلة فهم أقوال أهل النَّقد (17).

قالَ صالح جَزَرة: كَانَ أَحْمَد الدورقي يلقب بـ «يا حداد أوثق»؛ لخفته...

وقال عن أَبي مُوْسَى مُحَمَّد بن المُثَنَّى الزَّمِن: «صَدُوْقُ اللَّهْجَةِ، فِي عَقلِهِ شَيْءٌ»!

 

قال الخطيب في «تاريخه» (5/9): "قرأت فِي كتاب أَبِي الْحَسَن بْن الفرات بخطه: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن الْعَبَّاس الضبي الْهَرَوِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوب بْن إِسْحَاق بْن محمود الْفَقِيه، قَالَ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ صالح بْن مُحَمَّد: كَانَ أَحْمَد الدورقي يلقب بـ «يا حداد أوثق»؛ لخفته، فذهب يوماً فِي حاجة فاعترض لَهُ قوم من أصحاب الحديث فِي طريقه فاختفوا، فلما مر بهم صاحوا: «يا حداد أوثق» وتواروا، فالتفت ووقف فلم ير أحداً فمضى، فصاحوا: «يا حداد أوثق»، فوقف فنظر فلم ير أحدا. قَالَ: فجعلوا يتعجبون من خفته تلك!".

والدورقي، هو: أَحْمَد بن إِبْرَاهِيم بن كثير بن زَيْد بْن أفلح بْن مَنْصُور بْن مزاحم أَبُو عَبْداللَّه العبدي المَعْرُوف بالدورقي أخو يَعْقُوب.

قَال يَعْقُوب بن إسحاق بن محمود الهروي: سألت صَالِح بْن مُحَمَّد عَنْ يَعْقُوب، وأَحْمَد الدورقي، فَقَالَ: "كَانَ أَحْمَد أكثرهما حديثاً، وأعلمهما بالحديث، وكان يَعْقُوب أسندهما، وكانا جميعا ثقتين".

·       تعليق محقق تاريخ الخطيب عليها! ومعنى الحكاية!

وقد علّق د. بشار معروف على الحكاية التي ذكرها صالح جزرة فقال: "لم أفهم سبب تعجبهم، ولم أقف على وجه خفته في هذه الحكاية؟".

قلت: وجه الخفة واضح في الحكاية، وقد ساق صالح جزرة هذه الحكاية ليدلل على الخفة التي كانت في أحمد الدورقي.

والخفّة في العقل تكون في سوء التَّصَرُّفِ والطّيش، أو السّذاجة والحمق والسفه أو تصرفات المجانين! ويبدو أن عقله كان فيه بعض هذا الأخير، وكونهم يلقبونه بهذا اللقب «يا حداد أوثق» فلأجل هذه الخفة التي فيه، فأراد بعض أصحاب الحديث - لا العوام - التأكد من هذا اللقب الذي يُطلق عليه فامتحنوه في ذلك واختبروه، فنادوا عليه واختفوا، فوقف والتفت يبحث عمّن ينادي عليه، وكرروا ذلك مرة أخرى ففعل مثل ما فعل المرة الأولى، ومن هنا تعجبوا لخفة عقله! فلو لم يكن هذا اللقب ينطبق عليه لما توقف لما نادوا؛ لأنه حينها لن يلتفت إليهم، فصاحب العقل لا يلتفت لهذا النعت، فتوقفه والتفاته مرتين هو ما جعلهم يتعجبون من خفة ذلك التصرف الذي تصرفه!

وهذا مثل أن تطلق على إنسان لقب «أهبل» أو «أبلة» ونحو ذلك! فإذا ناديت عليه والتفت إليك فهو يظنّ أنك تقصده! لكن صاحب العقل لا يلتفت إلى ذلك؛ لأنه ليس بأهبل ولا أبلة! وهذا نحو ما يطلقه العوام على إنسان بقولهم: «امّهوّي» = بمعنى مجنون! فإذا نادى شخص شخصاً بهذا اللقب فرد فهو فعلاً أبلة، وفيه سذاجة وحُمق!

والخطيب ساق هذه الحكاية بعد أن روى عن ابن الغلابي، قَالَ: وقيل ليحيى بن معين: إنَّ ابن الدورقي يزعم أنك كتبت عَنْهُ حديثاً! قَالَ: "ما كتبت عَنْهُ حديثاً قط"، وَكَانَ يَقُولُ: "هو فِي حدّ المجانين".

فأراد الخطيب أن يُدلل على ما قاله ابن معين فيه وأنه في حد المجانين = يعني هذه الخفة التي كانت في عقله.

ولما ذكر ابن أبي خيثمة في «تاريخه الأوسط» قول أحمد الدورقي: «لا أشهد لأحد بالجنة». قال: "هذا كلام المجانين". [إكمال تهذيب الكمال: (1/14)].

وهذا يُفسّر أيضاً ما في عقله من خفة = وهي السذاجة والحُمق، وعدم المبالاة، والتصرفات التي لا تخرج من عاقل، وهذا ما كان بعض أهل العلم يُعبّرون عنه بقولهم أيضاً: «فلان فيه سلامة»، والله أعلم.

قال أَبو داود: "عبدالرحمن بن ثابت بن ثوبان: كَانَ فِيْهِ سَلاَمَةٌ، وكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، وليس به بأسٌ".

وقال في مسلم بن إبراهيم الأزدي الفراهيدي: "كتب عن قريب من ألف شيخ، وكَانَتْ فِيْهِ سَلاَمَةٌ".

وقال أيضاً: "كَتَبْتُ عَنْ بُنْدَارٍ نَحْواً مِنْ خَمْسِيْنَ أَلْفَ حَدِيْثٍ، وَكَتَبْتُ عَنْ أَبِي مُوْسَى شَيْئاً، وهُوَ أَثْبَتُ مِنْ بُنْدَارٍ، ولَوْلاَ سَلاَمَةٌ فِي بُنْدَارٍ، تُرِكَ حَدِيْثُهُ".

قال الحافظ ابن حجر في «مقدمة الفتح» في توضيح كلام أبي داود: "يَعْنِي أَنه كَانَت فِيهِ سَلامَة فَكَانَ إِذا سَهَا أَو غلط يحمل ذَلِك على أَنه لم يتَعَمَّد. وَقد احْتج بِهِ الْجَمَاعَة وَلم يكثر البُخَارِيّ من تَخْرِيج حَدِيثه لِأَنَّهُ من صغَار شُيُوخه وَكَانَ بنْدَار يفتخر بِأخذ البُخَارِيّ عَنهُ".

وقالَ أَبُو عُمَرَ ابن عبدالبر في الرَّبِيْع بن سليمان المرادي صاحب الشافعي: "وكَانَتِ الرِّحلَةُ إِلَيْهِ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيِّ، وَكَانَتْ فِيْهِ سَلاَمَةٌ وَغفلَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ قَائِماً بِالفِقْهِ".

·       هل هذه الخفة أو السلامة تؤثر على مكانة الراوي وما يرويه؟!

وهذه الخفة أو السلامة في الراوي لا تؤثر على مروياته في الغالب، لأنها تتعلق بجانب شخصي وطبيعة خِلقته، وهي غالباً ما تكون في التصرفات مما يدلّ على السذاجة والحمق في الشخص.

فأحمد الدورقي (ت246هـ) كان ثقة في الحديث، ولم يخرّج له البخاري في «صحيحه»، وخرّج له مسلم في مواضع قليلة جداً.

·       قول صالح جزرة في أبي موسى الزّمن: « فِي عَقلِهِ شَيْءٌ»!

وكذا محمد بن المثنى البصري (ت252هـ) كانت فيه سلامة، وهو ثقة ممن جَمَعَ، وَصَنَّفَ، وَكَتَبَ الكَثِيْرَ. رَوَى عَنْهُ: الجَمَاعَةُ سِتَّتُهُم، وَأَبُو زُرْعَةَ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَخَلْقٌ كَثِيْرٌ.

قال عبدالمؤمن بن خلف النسفي: سألت أبا علي صالح بن محمد عن أبي موسى الزمن، فقال: "صَدُوْقُ اللَّهْجَةِ، فِي عَقلِهِ شَيْءٌ، وكُنْتُ أُقَدِّمُهُ عَلَى بُنْدَارٍ".

ومات الزّمن سنة اثنتين وخمسين ومائتين بعد بُنْدار بثلَاثة أشهر، واتّفقا فِي المولد والوفاة، وطلبا العلم ولهما خمس عشرة سنة أو نحوها. وكانا نظيرين فِي الحِفْظ والإتقان واتفّق الأئمّة السّتّة عَلَى الرّواية عَنْهُمَا.

وقول صالح جزرة بأن في عقله شيء = يعني فيه خفة، وقد أخذ ذلك من قصة ظهر فيها سذاجته - رحمه الله -.

روى الخطيب في «تاريخه» (4/458) بإسناده إلى أَبي نَصْرٍ أَحْمَد بن سَهْلٍ الفَقِيه، قال: سمعت أَبَا عَلِيٍّ صَالِحُ بنُ مُحَمَّدٍ، يَقُولُ: كَانَ شَيْخٌ بِالبَصْرَةِ، يُقَالُ لَهُ: أَبُو مُوسَى الزَّمِنُ فِي عَقْلِهِ شَيْءٌ، فَكَانَ يَقُولُ: حَدَّثَنَا عَبْدُالوَهَّابِ - أَعْنِي ابنَ عَبْدِالمَجِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ - يَعْنِي السَّخْتِيَانِيُّ.

فَدَخَلَ يَوْمًا أَبُو زُرْعَةَ فَسَأَلَهُ عَنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُنْزِلَ القُرْآنُ عَلَى ثَلاثَةِ أَحْرُفٍ» فقال: حَدَّثَنَا حجّاج، فقلت: يعني ابن المنهال، فقال أبو زرعة: أيش تُعذِّب المسكين؟ فقلت له: ترى الآن عجباً!

فقال: حَدَّثَنَا حجاج، فقلت: يعني ابن المنهال، فقال: نعم.

عن حماد، فقلت: يعني ابن سلمة، فقال: نعم.

عن قتادة، فقلت: يعني ابن دعامة، فقال: نعم.

عن الحسن، فقلت: يعني ابن يسار، فقال: نعم.

عن سمرة، فقلت: يعني ابن جندب؟، فقال: نعم".

قلت: قصد صالح جزرة أنه لو لم تكن فيه سذاجة وفي عقله شيء لما قال بعد تحديثه عن عبدالوهاب: "أعني ابن عبدالمجيد"، وبعد تحديث عبدالوهاب عن أيوب: "يعني السختياني"! لأنها معروفة ولا تحتاج لبيان.

وقد بيّن صالح جزرة ذلك أمام أبي زرعة الرازي عندما دخل أبو زرعة على أبي موسى وسأله عن حديث سمرة، فقال أبو موسى: حَدَّثَنَا حجّاج، فقال له صالح: يعني ابن المنهال = يريد بذلك صالح أن يبين طريقته في التحديث، وأنه إذا قال: "حدثنا فلان" قال بعدها: "أعني ابن فلان"! وهذه سذاجة! وكان الأصل أن يقول: حدثنا فلان بن فلان، أو فلان فقط ويمضي، ولا يحتاج أن يقول: "أعني ابن فلان"!

وقد عرف أبو زرعة ذلك في أبي موسى، فقال لصالح جزرة بعد أن قال لأبي موسى: "يعني ابن المنهال": "أيش تُعذِّب المسكين"! = يعني تُغلِّبه!

ثم مضى صالح في بيان ذلك وقال لأبي زرعة: "ترى الآن عجباً"، فكلما قال أبو موسى: "عن فلان"، قال له صالح: "يعني ابن فلان"، فيقول: نعم!

وقد أورد الذهبي هذه الحكاية في ترجمة «صالح جزرة» من «السير» (14/30) ضمن ما يُذكر عنه من المزاح! ولا أظن أن صالحاً قصد المزاح في ذلك، وإنما أراد أن يُبين أن في عقل أبي موسى شيء!

وقوله صالح لأبي زرعة: "ترى الآن عجبا" ينفي أنه قصد المزاح، وإنما أراد بيان ما قاله عنه ابتداء، ولذا وصفه بالعجب!!

·       تعليق بشار معروف على هذه القصة!

قال د. بشار معروف أثناء كلامه على قول صالح في أبي موسى "صدوق اللهجة وكان في عقله شيء" في تحقيقه لكتاب «تهذيب الكمال» (26/363) (2): "ذكر الخطيب حكاية لصالح جزرة عن الزمن تبين أنه كان شديد التدقيق في الأسانيد حتى المعروفة منها، وكان صالح جزرة يمازحه في ذلك، وصالح معروف بالمزاح، قال الخطيب معقباً على هذه الحكاية: كان صالح معروفا بالمجون (الماجن: الإنسان الذي لا يبالي ما يصنع)، وأما أبو موسى فكان صدوقا ورعا عاقلا فاضلا. (تاريخ الخطيب: 3/285) . أما التعليق الذي علقه محقق هذا الجزء من سير أعلام النبلاء (12/124) فبعيد".

قلت: يقصد المحقق "صالح السّر" الذي حقق ذلك الجزء بإشراف شعيب الأرنؤوط، وكان قال تعليقا على قول صالح هذا في هامش (2): "ربما نسبه إلى ذلك لما سيذكره المؤلف من أنه مزح مرة، فقال: نحن قوم لنا شرف، صلى إلينا النبي صلى الله عليه وسلم".

قلت: من يمزح فلا يُقال فيه "في عقله شيء"!! فصالح نفسه كان مزّاحاً ولم يقل أحد فيه ذلك، فالقصة لا مزاح فيها كما قال بشار وغيره! وليس المقصود من القصة أنه كان شديد التدقيق في الأسانيد حتى المعروفة كما قال بشار! وإنما تدلّ على سلامة وسذاجة كانت في أبي موسى - رحمه الله-، فهي معروفة ولا تحتاج لتدقيق ولا لتبيين.

قال الفلّاس: "وكان أبو موسى فيه سلامةٌ، وكان يقولُ: نَحْنُ قَوْمٌ لَنَا شَرَفٌ. قيل له: أيُّ شرفٍ؟ فقال: نحن من عَنَزَةَ؛ والنبيُّ صلى الله عليه وسلم صلَّى إلينا - يعني به قولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنه صلَّى إلى عَنَزَة".

وقد أورد ابن الجوزي هذا في «أخبار الحمقى والمغفلين» في «ذكر المغفلين من رواة الحديث والمصحفين».

وقال في «تاريخ الإسلام» (6/193): "يريد أنّه صلّى إلى عَنَزَة، فما أدري هَلْ فِهم معكوسًا أو أَنَّهُ قال ذلك مزاحًا".

قلت: الظاهر أنه لم يقل ذلك مازحاً! وكلام الفلاس واضح في استدلاله على السلامة التي فيه بما كان يقوله عن قومه! ولهذا أوردها ابن الجوزي في أخبار الحمقى والمغفلين!

قال محقق الجزء الثاني عشر من «السير» بإشراف شعيب الأرنؤوط (12/125) هامش (3) تعليقا على هذا: "جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري 1/475 في سترة المصلي: باب الصلاة إلى العنزة، ومسلم (503) في الصلاة: باب سترة المصلي عن أبي جحيفة... وفيه: فصلى بنا الظهر والعصر وبين يديه عنزة. والعنزة: مثل نصف الرمح أو أكبر، فيها سنان مثل سنان الرمح. ومحمد بن موسى [كذا! وهو خطأ! إنما هو: المثنى] عنزي، فأوهم في مزحه أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى إليهم".

قلت: لم يُرد محمد بن المثنى المزاح، والظاهر أنه كان يعتقد ذلك، ولذا استدل بها الفلاس على السلامة التي فيها، والظاهر أنه فهم ذلك معكوساً! والله أعلم.

·       قول الخطيب عن صالح جزرة: «كان معروفاً بالمجون»!

وأما قول بشار معروف المتقدم: "قال الخطيب معقباً على هذه الحكاية: كان صالح معروفا بالمجون (الماجن: الإنسان الذي لا يبالي ما يصنع)، وأما أبو موسى فكان صدوقا ورعا عاقلا فاضلا". ففيه نظر!

فالخطيب لم يقصد بالمجون هذا الذي فسّر به بشار المعنى، وهو المعنى المعروف في معاجم اللغة! إذ مصطلح "المجون" إذا أطلق ذهب الذهن إلى الخلاعة ونحوها!

وصالح من كبار الحفاظ الأثبات ولا يصلح أن يُقال فيه إنه لا يُبالي بما يصنع! وإنما قصد الخطيب أنه كان مزّاحاً وعنده دعابة وفُكاهة كما عُرف عنه، وقد قال في ترجمته في كتابه: "وكَانَ صَدُوْقاً ثَبْتاً، ذَا مُزَاحٍ وَدُعَابَةٍ، مَشْهُوراً بِذَلِكَ".

وقال الذهبي: "كَانَ صَالِحٌ صَاحِبَ دُعَابَةٍ".

وبسبب دُعابته ومُمَازَحَته كان يُقال عنه: "الماجن".

قَالَ ابنُ عَدِيٍّ: سَمِعْتُ عِصْمَةَ بنَ بجمَاك، سَمِعْتُ صَالِحَ بنَ مُحَمَّدٍ جَزَرَةَ يَقُوْلُ: حَضَرْتُ مَجْلِسَ أَحْمَدَ بنِ صَالِحٍ، فَقَالَ: حَرَجٌ عَلَى كُلِّ مُبْتَدِعٍ وَمَاجِنٍ أَنْ يَحْضُرَ مَجْلِسِي. فَقُلْتُ: أما المبتدع فلست، أَمَّا المَاجنُ فَأَنَا هُوَ - وذاك أنه قيل له: إنّ صالح الماجن قَدْ حضَرَ مَجْلِسَكَ".

على أنه قد فرّق أهل اللغة بين المجون والمزاح، فقالوا: المجون هُو صلابة الوَجْه وقلة الحيَاء، والمزاح: الإِيهَام للشَّيْء فِي الظَّاهِر وهُوَ على خِلَافه فِي البَاطِن من غير اغترار للإيقاع فِي مَكْرُوه.

وقد رُوي عن صالح بعض الحكايات في ظاهرها المزاح لكنها حقّ، وروي عنه بعض الحكايات التي قد يعدّها بعض أهل العلم أنها من المجون، منها:

- قَالَ أَبُو النَّضْرِ الفَقِيْهُ: كُنَّا نَسْمَعُ مِنْ صَالِحِ بنِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ عَلِيْلٌ، فَبَدَتْ عَورَتُهُ، فَأَشَار إِلَيْهِ بعض أهل المجلس بأن يجمع عليه ثيابه. فقال: رَأَيْتَهُ؟ لاَ تَرْمَدُ عينيك أَبَداً".

- ورَوَى الحَاكِم، قال: أَخْبَرَنَا بَكْرُ بنُ مُحَمَّدٍ الصَّيْرَفِيّ، سَمِعْتُ صَالِحَ بنَ مُحَمَّدٍ، قَالَ: كُنْتُ أُسَايرُ الجَمَلَ الشَّاعِرَ بِمِصْرَ، فَاسْتقبلَنَا جَملٌ عَلَيْهِ جَزَر، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا أَبَا عَلِيّ؟ قُلْتُ: أَنَا عَلَيْكَ.

- ورَوَى البَرْقَانِيُّ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ بنِ أَبِي الفَضْلِ الهَرَوِيِّ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ صَالِحاً سَمِعَ بَعْضَ الشُّيُوْخِ يَقُوْلُ: إِنَّ السِّينَ وَالصَّادَ يَتَعَاقَبَان، فسَأَلَ بَعْضَ تَلاَمِذَتِهِ عَنْ كُنْيَتِهِ فَقَالَ لَهُ: أَبُو صَالِحٍ.

قَالَ: فَقُلْتُ لِلشَّيْخِ: يَا أَبَا سَالِح، أَسْلَحَكَ اللهُ، هَلْ يَجُوْزُ أَنْ تَقْرَأَ: {نَحْنُ نَقُسُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَسَس}؟

فَقَالَ لِي بَعْضُ تلاَمِذَتِه: تُواجِهُ الشَّيْخ بِهَذَا؟

فَقُلْتُ: فَلاَ يَكْذِب، إِنَّمَا تَتَعَاقَبُ السِّيْن وَالصَّاد فِي مَوَاضِعَ.

- وَرُوِيَ عَنْ صَالِحِ بنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: "الأَحْوَلُ فِي البَيْتِ مُبَارَكٌ، يَرَى الشَّيْءَ شَيْئَيْنِ".

والله يغفر له ويرحمه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وكتب: خالد الحايك.

12 ربيع الأول 1441هـ.

 

شاركنا تعليقك