الموقع الرسمي للشيخ الدكتور خالد الحايك

سلسلة فهم أقوال أهل النَّقد (13). قَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بنُ مَهْدِيٍّ حِينَ طَلَبُوا المُسْنَدَ: «مَا أَحْسَنَ هَذَا إِلَّا أَنِّي أَخَافُ أَنْ يَحْمِلَهُمْ هَذَا أَنْ يَكْتُبُوا عَنْ غَيْرِ ...

سلسلة فهم أقوال أهل النَّقد (13).

قَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بنُ مَهْدِيٍّ حِينَ طَلَبُوا المُسْنَدَ: «مَا أَحْسَنَ هَذَا إِلَّا أَنِّي أَخَافُ أَنْ يَحْمِلَهُمْ هَذَا أَنْ يَكْتُبُوا عَنْ غَيْرِ الثِّقَاتِ».

وقالَ أحمد: «.. كُنَّا نَتَذَاكَرُ الفِقْهَ والْأَبْوَابَ، لَمْ نَكُنْ تِلْكَ الْأَيَّامَ نَتَذَاكَرُ المُسْنَدَ...».

إن بعض المعاصرين ممن يشتغلون بالحديث وخاصة الذين يحملون الدكتوراه في الحديث تجدهم يستدلون بنصوص لأهل النقد فيفهمون خلاف المقصود منها!!

وذلك يعود لأسباب، منها:

أولاً: عدم التمرس بكلام أهل النقد.

ثانياً: بَتر هذه النصوص من سياقاتها.

ثالثاً: أن تكون في أذهانهم فكرة معينة، فيريدون التدليل عليها بإسقاط هذه النصوص عليها!!

ومن ذلك:

ما رواه يعقوب بن سفيان الفسوي في «المعرفة والتاريخ» (3/60) قال: سَمِعْتُ بَكْرَ بنَ خَلَفٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بنُ مَهْدِيٍّ حِينَ طَلَبُوا المُسْنَدَ: «مَا أَحْسَنَ هَذَا إِلَّا أَنِّي أَخَافُ أَنْ يَحْمِلَهُمْ هَذَا أَنْ يَكْتُبُوا عَنْ غَيْرِ الثِّقَاتِ».

فحمل د. حاتم العوني هذا النص وغيره على كتب «المسانيد» أثناء كلامه على التصنيف في الحديث!

قال في بحثه: «بَيَانُ الحَدّ الذي يَنْتهِي عِنْدَهُ أَهْلُ الاصطلاحِ والنَّقْد في علوم الحديث»: "لقد نظر المحدّثون إلى تلك المدوّنات والمجاميع والمصنفات، فوجدوا أنها شملت جميع أنواع المنقولات، من المرفوعات والموقوفات والمقطوعات.

ولا شك أن قسم الأخبار المرفوعة هو أهمّ الأقسام، وأولاها بالجمع، وأحراها بالخوف عليه من التفلُّت. فبادروا إلى أسلوب في التصنيف لا يضمّ إلا المرفوعات، وهو التصنيف على طريقة المسانيد. وهو أسلوب في التصنيف يدل على أن ابتكاره لم يكن إلا لغرض الجمع خشيةَ الضياع، لأن أسلوب ترتيبه ليس فيه تيسيرُ التصنيف على الأبواب، وإن كان فيه وَجْهٌ ضعيف من التيسير، وهو الترتيب على أسماء الرواة من الصحابة.

قال بكر بن خلف: «قال عبد الرحمن بن مهدي حين طلبوا المسند: ما أحسن هذا، إلا أني أخاف أن يحملهم هذا أن يكتبوا عن غير الثقات».

ألا ترى إلى قوله (طلبوا) التي تدلّ على استنفارٍ عامّ نحو هذا المنحى من التصنيف، والذي كان من قوّة الرغبة فيه إلى درجة أن خشي ابنُ مهدي أن يقود إلى شيءٍ من الشَّرَه في الرواية عن غير الثقات.

وقال الإمام أحمد في سياق انتقاده ليحيى بن عبدالحميد الحماني، الذي ادّعى أنه سمع من الإمام أحمد حديثاً مسنداً على باب ابن عُليّة: «أي وقت التقينا على باب ابن علية؟ إنما كنا نتذاكر الفقه والأبواب، لم نكن تلك الأيام نتذاكر المسند» وابن علية توفي سنة (193هـ)، فهذا يُبيّنُ أن العناية بالمسند إلى هذا العام أو قبله بقليل لم يكن ابتُدِئَ بالعناية به" انتهى.

وقد وجدت غيره من الدكاترة يأخذون كلامه ويستدلون به على أنه طالما تأخرت العناية بجمع المسانيد، فالاعتناء حينها كان بالمراسيل!! وأن المسانيد تأخر تصنيفها!!

وهذا كلام خطير جداً!! إذ مؤداه أنّ العناية كانت بالمراسيل فقط كما فهمه بعض الدكاترة!! والله المستعان!

فالأحاديث المسندة موجودة وهي الأكثر منذ بدأت الرواية، والمراسيل أقل من المسانيد.

فكتب المسانيد هي التي لم يُكْتب فيها المقاطيع ولا المَرَاسِيل، وتجد في كلام الأئمة مثلاً: "والمَوْقُوفُ أَصَحُّ مِنَ المُسْنَدِ" أي المرفوع.

وإسقاط العوني هذين النصّين على بدء أهل العلم بتصنيف المسانيد المعروفة ليس بصحيح!!

أما النص الأول عن ابن مهدي، فهو يدلّ على طلب أهل العلم للمسند من الحديث، أيّ جمع مسانيد بعض الرواة، كقولهم: "فلان صاحب رجال"، أو "صاحب مسانيد"، أي يذاكر على حديث الرجل، فيقول: ما عندكم من حديث فلان عن فلان، وحديث فلان عن فلان.

وبدء الرواة بهذه الطريقة بعد الطريقة الأولى التي كانوا عليها، وهي المذاكرة على طريقة الأبواب، فيقولون: فلان صاحب أبواب، أي يجمع الحديث في الباب الواحد.

وهذا له علاقة بالنص الثاني عن الإمام أحمد.

وها هو الإمام ابن معين يقول الكلام نفسه الذي قاله ابن مهدي، مع أن ابن معين توفي بعد ابن مهدي بأكثر من ثلاثين سنة، وقد كانت المسانيد المصنفة على الصحابة مشتهرة في زمانه.

قال ابن الجُنيد في «سؤالاته»: "سمعت يحيى بن معين يقول: «ما أهلك الحديث أحد ما أهلكه أصحاب الإسناد»، يعني: الذين يجمعون المسند، أي: يغمضون في الأخذ من الرجال".

فهؤلاء الذين يجمعون أحاديث الرواة ويتتبعونها أضروا بالحديث؛ لأنهم جمعوا الغثّ والسمين، فرووا عن أناس ليسوا بأهل للرواية!!

وهذا يُفسّـر قول ابن مهدي وخشيته لما بدأ الرواة بجمع مسانيد الرجال: «... إِلَّا أَنِّي أَخَافُ أَنْ يَحْمِلَهُمْ هَذَا أَنْ يَكْتُبُوا عَنْ غَيْرِ الثِّقَاتِ»!

وطلب مذاكرة المسند بدأ قديما لكن ليس بكثرة.

فقد روى الخطيب في «الجامع لأخلاق الراوي» (2/273) عَنْ مُسْلِمٍ البَطِينِ، قَالَ: «رَأَيْتُ أَبَا يَحْيَى الْأَعْرَجَ - وكَانَ عَالِمًا بِحَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ - اجْتَمَعَ هُوَ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي مَسْجِدِ الكُوفَةِ فَتَذَاكَرَا حَدِيثَ ابنِ عَبَّاسٍ».

وربما كان التلميذ يأتي للشيخ ويطلب منه الحديث المسند، وهو يُحدّث الناس برأيه.

روى العقيلي في «الضعفاء» (1/307) من طريق حَمَّاد بن سَلَمَةَ قال: "كُنْتُ أَسْأَلُ حَمَّادَ بْنَ أَبِي سُلَيْمَانَ (ت120هـ) عَنْ أَحَادِيثِ المُسْنَدِ وَالنَّاسُ يَسْأَلُونَهُ عَنْ رَأْيِهِ، فَكُنْتُ إِذَا جِئْتُ قَالَ: لا جَاءَ اللَّهُ بِكَ".

ومع بدء التصنيف في مسانيد الصحابة زمن ابن مهدي وبعده إلا أن الظن يستبعد أن يكون عرف أن فلاناً كان يصنف مسنداً أو ذاك!

وأقدم من صنّف في المسانيد على أسماء الصحابة هو: أبو داود الطيالسي.

قال بُنْدَار محمد بن بشّار: "لمْ نَلْقَ أَحْفَظَ بِسَـرْدِ الحَدِيثِ مِنْ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِـيِّ (204هـ)".

قال الخليلي: "أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ المُسْنَدَ عَلَى تَرْتِيبِ الصَّحَابَةِ بِالبَصْـرَةِ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ وَبِالْكُوفَةِ: عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى (213هـ)، ثُمَّ مَنْ صَنَّفَ كَانَ تَبِعًا لَهُمَا". [الإرشاد في معرفة علماء الحديث (2/512)].

وقال ابن عدي: "وليحيى الحماني مسند صالح، ويقال: إنه أول من صنّف المسند بالكوفة، وأول من صنف المسند بالبصـرة مُسَدَّد (228هـ)، وأول من صنف المسند بمصر أسد السنة، وأسد قبلهما وأقدم موتا". [الكامل في ضعفاء الرجال: (9/98)].

وهنا نأتي لقول أحمد المتقدم حول الحماني، فقد رُوي بألفاظ عدّة تفسر بعضها بعضا.

قال عبدالله في «العلل ومعرفة الرجال» (3/40): قلت لأبي: "ابن الحِمَّانِيِّ حَدَّثَ عَنْكَ عَنْ إِسْحَاقَ الْأَزْرَقِ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ بَيَانٍ، عَنْ قَيْسٍ، عَنِ المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ»؟ فقالَ: كَذَبَ! مَا حَدَّثْتُهُ بِهِ! فَقُلْتُ: إِنَّهُمْ حَكَوْا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُهُ مِنْهُ فِي المُذَاكَرَةِ عَلَى بَابِ إِسْمَاعِيلَ بنِ عُلَيَّةَ؟ فَقَالَ: كَذَبَ! إِنَّمَا سَمِعْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ إِسْحَاقَ الْأَزْرَقِ، وَأَنَا لَمْ أَعْلَمْ تِلْكَ الْأَيَّامَ أَنَّ هَذَا الحَدِيثَ غَرِيبٌ حَتَّى سَأَلُونِي عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ هَؤُلَاءِ الشَّبَابُ أَوْ قَالَ هَؤُلَاءِ الْأَحْدَاثُ".

قالَ أَبِي: "وَقت الْتَقَيْنَا على بَاب ابن عُلَيَّةَ إِنَّمَا كُنَّا نَتَذَاكَرُ الفِقْهَ وَالْأَبْوَابَ، لَمْ نَكُنْ تِلْكَ الْأَيَّامَ نَتَذَاكَرُ المُسْنَدَ، كُنَّا نَتَذَاكَرُ الصِّغَارَ وَأَحَادِيث الفِقْه والأبواب". وقَالَ أَبِي: "كَانَ وَقَعَ إِلَيْنَا كِتَابُ الْأَزْرَق عَنْ شَرِيكٍ فَانْتَخَبْتُ مِنْهُ فَوَقَعَ هَذَا الحَدِيثُ فِيهَا".

وقال المروذي: - وذكر الحِمَّاني - فقلت: إنه روى عنك حديث إسحاق الأزرق، حديث المغيرة بن شعبة: «أبردوا بالصلاة»، وزعم أنه سمعه على باب ابن عُلّية، فأنكر أن يكون سمعه، وقال: "ليس من ذا شيء".

قلت: إنه ادعى أن هذا على المذاكرة! فقال: "وأنا علمت في أيام إسماعيل أن هذا كان عندي! - يعني: إنما أخرجته بآخرة -".

وقال: "قولوا لهارون الحمَّال يضـرب على حديث الحِمَّاني". [العلل - رواية المروذي وغيره: (234)].

وقال البَرْذَعي: وقال لي أبو حاتم: كتب معي يحيى الحماني إلى أحمد بن حنبل، ووكد عليّ أن أنجز له جواب الكتاب، وكنت خرجت من الكوفة إلى بغداد في بعض حوائجي، فأوصلت الكتاب إلى أحمد، واجتهدت أن آخذ الجواب منه فأبى أن يجيبه، فلما قدمت الكوفة سألني عن الجواب، فاستحييت منه، فحسنت الأمر، فقلت أي شيء كان بينه، وبين أحمد؟ فقال: حدث يحيى الحماني عن أحمد، عن إسحاق الأزرق حديث المغيرة بن شعبة: «ابردوا بالظهر»، فقيل لأحمد، فقال: أين سمع هذا مني، فذكر ذلك للحماني. فقال: سمعت هذا الحديث من أحمد على باب ابن علية ذاكرني به. فقال أحمد: "ما سمعت من إسحاق الأزرق شيئاً إلا بعد ما مات ابن علية"، وذكر عن أحمد غير هذا، مما ينكر عليه. [أسئلة البرذعي لأبي زرعة: (2/736)].

قلت: فهذه القصة لا تدلّ على بداية التصنيف في المسانيد كما ادّعى العوني، وتصـريح أحمد أنهم لم يكونوا حينها يتذاكرون المسند لا يعني أنهم بعد ذلك التاريخ بدؤوا يُصنّفون المسانيد!! وإنما المقصود أنهم كانوا يتذاكرون الأحاديث المسندة وغير المسندة في الأبواب الفقهية كما كان منتشـراً حينها، ولم تكن المذاكرة على مسانيد الرجال = أي مذاكرة حديث فلان عن فلان، وفلان عن فلان، يجلس الأئمة يتذاكرون مثلاً: ما عندك في حديث نافع عن ابن عمر، وما عندك في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، وهكذا، وليس المقصود التصنيف في مسانيد الصحابة.

فبعد أن استمرت المذاكرة للأبواب الفقهية زمناً صار الأئمة يتذاكرون المسند.

قال يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ: «كَانَ شُعْبَةُ أَعْلَمَ بِالرِّجَالِ، فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ كَذَا وَكَذَا، وَكَانَ سُفْيَانُ صَاحِبَ أَبْوَابٍ».

أي: كان شعبة يحفظ حديث مسانيد الرجال: فلان عن فلان، وفلان عن فلان، وأما سفيان فكان يحفظ الأحاديث الواردة في الأبواب الفقهية، كباب الوتر، وباب السجود، وهكذا.

قال أبو داود في «سؤالاته»: سَمِعت أَحْمد قَالَ: "مُعْتَمر كَانَ حَافِظًا قل مَا كُنَّا نَسْأَلهُ عَن شَيْء إِلَّا كَانَ عِنْده فِيهِ - يَعْنِي من الْأَبْوَاب -".

وقال خَالِدُ بنُ دِينَارٍ: قُلْتُ لِأَبِي العَالِيَةِ: أَعْطِنِي كِتَابَكَ، قالَ: "مَا كَتَبْتُ إِلَّا بَابَ الصَّلَاةِ وَبَابَ الطَّلَاقِ".

وقال يَعْقُوبُ بنُ سُفْيَانَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا - يَعْنِي ابنَ الْمَدِينِيِّ - وقَوْمٌ يَخْتَلِفُونَ إِلَيْهِ فِي أَبْوَابٍ قَدْ كَانَ صَنَّفَ-: "فَرَأَيْتُهُ يَقْرَأُ عَلَيْهِمْ حِفْظًا أَبْوَابَ السَّجْدَةِ، فَكَانَ يَذْكُرُ طُرُقَ حَدِيثٍ فَيَمُرُّ عَلَى الصَّفْحِ وَالوَرَقَةِ، فَإِذَا تَعَايَا فِي شَيْءٍ لَقَّنُوهُ الحَرْفَ وَالشَّـيْءَ مِنْهُ، ثُمَّ يَمُرُّ عَلَى الْوَرَقَةِ وَالصَّفْحِ فَإِذَا تَعَايَا احْتَاجَ أَنْ يُلَقَّنَ الْحَرْفَ وَالشَّيْءَ يَقُولُ: اللَّهُ المُسْتَعَانُ هَذِهِ الْأَبْوَابُ كُنَّا أَيَّامَ نَطْلُبُ يَتَلَاقَى بِهَا المَشَايِخُ وَنُذَاكِرُهُمْ بِهَا وَنَسْتَفِيدُ مَا يَذْهَبُ عَلَيْنَا مِنْهُ وَكُنَّا نَحْفَظُهَا، وَقَدِ احْتَجْنَا اليَوْمَ إِلَى أَنْ نُلَقَّنَ فِي بَعْضِهَا".

ومما يدلّ على أن المقصود بكلام هؤلاء الأئمة ليس التصنيف في المسانيد بالطريقة المشهورة المعروفة على أسماء الصحابة ما قاله ابن أبي حاتم في «العلل» (2/50) وسأل أباه عن حديث، فأخبره بعلته، ثم قال أبو حاتم: "فلمَّا قَدِمتُ السَّفْرةَ الثانية، رأيتُ هشام بْن عمَّار يحدِّث بِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ شُعَيب، فظننتُ أنَّ بعض البَغْدَاديِّين أدخَلُوه عَلَيْهِ، فقلت لَهُ: يا أبا الوليد، لَيْسَ هَذَا من حديثِك!! فَقَالَ: أنت كَتَبْتَ حديثي كُلَّه؟! فقلتُ: أَمَّا حديثُ محمد بن شُعَيب، فإني قَدِمْتُ عليكَ سَنَةَ بِضْعَةَ عَشَـرَ، فسأَلْتَني أنْ أُخْرِجَ لك مُسْنَدَ محمد بن شُعَيب، فأخرَجْتَ إليَّ حَدِيث مُحَمَّد بْن شُعَيب، فكتبتُ لك مُسْنَدَهُ. فَقَالَ: نَعَمْ هِيَ عِنْدِي بخطِّك، قد أعلَمْتُ الناسَ أنَّ هَذَا بخطِّ أبي حاتِم. فسَكَتُّ".

فهنا بيّن المقصود بالمسند أي حديث فلان، لا حديث الصحابي كما هو التصنيف في المسانيد.

وقال يعقوب بن سفيان في «المعرفة والتاريخ» (2/136): حَدَّثَنِي أَبُو بِشْرِ بن خلف قال: "قدمت مكة وبها شَابٌّ حَافِظٌ وَاسِعُ الحِفْظِ، فَكَانَ يُذَاكِرُ فِي المسند وطرقها، فقلت له: مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا؟ قَالَ: أُخْبِرُكَ. قَالَ: طَلَبْتُ عَلَى أَيَّامِ سُفْيَانَ أَنْ يُحَدِّثَنِي بِالمُسْنَدِ. فقال: قد عرفت أنك إنما تُرِيدُ بِمَا تَطْلُبُ الْمُذَاكَرَةَ فَإِنْ ضَمِنْتَ لِي أَنَّكَ تُذَاكِرُ وَلَا تُسَمِّينِي فَعَلْتُ. قَالَ: فَضَمِنْتُ له واختلف إليه، فجعل يحدثني بهذا الّذي إذاكرك بِهِ حِفْظًا".

فطلب المسند من أحاديث الرواة كان مطلوباً مشهوراً، ثم بدأ التصنيف في المسانيد على أسماء الصحابة، ولا ندري هل كان بعض الأئمة - الذين كان عندهم خشية من طلب الناس للمسند بالرواية عن غير الثقات - على معرفة ببدء بعض المحدثين التصنيف على طريقة مسانيد الصحابة كأبي داود الطيالسـي (204هـ) وهو قريب الوفاة من ابن مهدي (198هـ)!

وكذا الإمام أحمد عندما تكلّم بالمذاكرة على طريقة المسند، هل كان قد بدأ تصنيفه للمسند على أسماء الصحابة أم لا!!

والذي يظهر أنّ طلبهم للمسند إنما هو طلبهم لأحاديث الرجال.

وقد صرّح الإمام أحمد أن نُعيم بن حماد كان يطلب المسند في آخر عُمر هُشيم بن بشير (183هـ).

قال عبدالله في «العلل» (3/437) (5860): سَمِعت أبي يَقُول: "أول من قدم علينا فِي آخر عمر هشيم يطْلب المسند: نعيم بن حَمَّاد، قدم علينا فِي آخر عمر هشيم".

وقال السلمي في «سؤالاته للدارقطني» (396): وسمعتُه يقولُ: "قال أحمدُ بنُ حنبلٍ رحمه الله: أولُ مَن رأينا يَتتبَّعُ المسنَدَ: نُعَيمُ بنُ حمَّادٍ".

وهذا يعني أن نعيم بن حماد كان يتتبع المسند من أحاديث الرجال: فلان عن فلان، وفلان عن فلان.

وقد رُوي هذا النص عن أحمد بلفظ آخر ارتكز عليه الخطيب في أن نُعيم بن حماد أول من صنّف على مسانيد الصحابة!! فقال في «الجامع» (2/290) تحت عنوان: «تَخْرِيجُ السُّنَنِ عَلَى المُسْنَد»: "قَدْ ذَكَرْنَا طَرِيقَةَ التَّخْرِيجِ عَلَى الْأَحْكَامِ، وَأَمَّا الطَّرِيقَةُ الْأُخْرَى فَهِيَ التَّخْرِيجُ عَلَى المُسْنَدِ، وَأَوَّلُ مَنْ سَلَكَهَا عَلَى مَا يُقَالُ: نُعَيْمُ بنُ حَمَّادِ".

ثم قال: أخبرنا أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ غَالِبٍ الفَقِيهُ، قال: أخبرنا أَبُو الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيُّ، قَالَ: «وَأَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ مُسْنِدًا وَتَتَبَّعَهُ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ».

قالَ الخطيب: "وَقَدْ صَنَّفَ أَسَدُ بْنُ مُوسَى المِصْـرِيُّ مُسْنِدًا وَكَانَ أَسَدٌ أَكْبَرُ مِنْ نُعَيْمٍ سِنًّا وَأَقْدَمُ سَمَاعًا، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نُعَيْمٌ سَبَقَهُ إِلَى تَخْرِيجِ الْمُسْنَدِ وَتَتَبُّعِ ذَلِكَ فِي حَدَاثَتِهِ، وَخَرَّجَ أَسَدٌ بَعْدَهُ عَلَى كِبَرِ سِنِّهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَيَنْبَغِي لِمَنْ أَرَادَ تَخْرِيجَ مَسَانِيدِ الصَّحَابَةِ أَنْ يُعْرَفَ الْمُتُونَ الْمَرْفُوعَةَ مِنَ الْمَوْقُوفَةِ فَإِنَّ فِيهَا مَا يُشْكَلُ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِصَنَاعَةِ الحَدِيثِ".

قلت: اعتماد الخطيب في قوله أنّ أول من صنف المسند هو نعيم بن حماد على ما رواه عن الدارقطني عن أحمد من رواية أحمد بن محمد بن غالب!

وما رواه الخطيب عن الدارقطني بهذا اللفظ لا يصح! والصواب ما قدمناه من رواية السلمي عنه أنه قال عن أحمد: "أولُ مَن رأينا يَتتبَّعُ المسنَدَ: نُعَيمُ بنُ حمَّادٍ"، لا "أول من صنّف المسند وتتبعه"!! ويؤيده النقل المتقدم عن أحمد من طريق ابنه، ولم يذكر فيه أن نعيم بن حماد أول من صنّف على طريقة مسانيد الصحابة، وإنما قال بأنه كان يتتبع المسند، أي مسانيد الرجال.

ويُضعّف هذا أيضاً ما نقلناه عن أحمد أن المذاكرة على المسانيد لم تكن زمن ابن علية (193هـ) - وهو ما اعتمد العوني في رأيه عن التصنيف في المسانيد – فالمذاكرة على المسانيد لم تكن موجودة، وهنا أن نعيم بن حماد بدأ تتبع المسند قبله بعشر سنوات آخر أيام هشيم (183هـ)!!!

ولو صح هذا لكان ناقضاً لكلام العوني أيضاً من قوله بأن التصنيف على مسانيد الصحابة بدأ بعد سنة (193هـ)!!

لكن لا أراه يصح، وإنما قصد أحمد بتتبع نُعيم للمسند، أي مسانيد الرجال، لا أنه صنّف على مسانيد الصحابة كما قال الخطيب البغدادي، والله أعلم وأحكم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

وكتب: خالد الحايك.

 

شاركنا تعليقك