الموقع الرسمي للشيخ الدكتور خالد الحايك

«تحريمُ إتيان النّساء في أدبارهنّ»، وبيان كيف تصرف الإمام البخاريّ برواية نافع مولى ابن عمر في «صحيحه».

«تحريمُ إتيان النّساء في أدبارهنّ».

وبيان كيف تصرف الإمام البخاريّ برواية نافع مولى ابن عمر في «صحيحه».

 

اتفق أهل العلم على تحريم إتيان النساء في أدبارهن إلا ما جاء من اختلاف في هذه المسألة بسبب ما رواه نافع عن ابن عمر من جواز ذلك! وقد تكلّم بعضهم في زماننا بهذه المسألة وأجازوها استناداً إلى هذه الرواية، ونسبوا هذا إلى الإمامين البخاري والنسائي! وسوف نبيّن الاختلاف القديم فيها، وكيفية تصرف البخاري برواية نافع هذه.

وقد جهد بعضهم بنشر هذا المذهب جهلاً منهم! وأذكر أن بعض الإخوة اتصل بي يوماً وقال لي: إن شيخاً عندهم يفتي بهذا وله رسالة فيها، فذهبت إليهم وهو عندهم فناقشته في ذلك، وبينت له أن البخاري والنسائي لم يجيزا ذلك فأحس بالحرج، ثم قال للحضور: "من ينقل على لساني أني أفتي بهذه المسألة بالجواز فلا يلومن إلا نفسه"!! فالحمد لله.

وهذا أوان التفصيل في هذه المسألة:

روى البخاريّ في «صحيحه» في باب {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}:

1- قال: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قال: أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بنُ شُمَيْلٍ، قال: أَخْبَرَنَا ابنُ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، قال: كان ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «إِذَا قَرَأَ القُرْآنَ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ، فَأَخَذْتُ عَلَيْهِ يَوْمًا، فَقَرَأَ سُورَةَ البَقَرَةِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَكَانٍ، قَالَ: تَدْرِي فِيمَ أُنْزِلَتْ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: أُنْزِلَتْ فِي كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ مَضَى».

وعن عَبْدِالصَّمَدِ، قال: حَدَّثَنِي أَبِي، قال: حَدَّثَنِي أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عن ابنِ عُمَرَ {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}. قَالَ: «يَأْتِيهَا فِي».

رَوَاهُ مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُبَيْدِاللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عن ابنِ عُمَرَ.

2- قال: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قال: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابنِ المُنْكَدِرِ، قال: سَمِعْتُ جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «كَانَتِ اليَهُودُ تَقُولُ: إِذَا جَامَعَهَا مِنْ وَرَائِهَا جَاءَ الوَلَدُ أَحْوَلَ، فَنَزَلَتْ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}».

·       الكلام على أسانيد الرواية والمتن:

قلت: هكذا أخرج الإمام البخاري هذا الحديث عن نافع، رواه عنه: عبدالله بن عون البصري، وأيوب السختياني، وعبيدالله بن عمر. ولم يسق المتن كاملاً، وإنما أشار إليه إشارة فقط.

أما بالنسبة للإسناد: فرواية ابن عون متصلة، ثم علّق رواية أيوب، ثم أشار إلى رواية عبيدالله.

وأما المتن فلم يأت به كاملاً كما رواه نافع، وإنما اقتصر على الكناية فقط، والحديث سنده صحيح ومتنه منكر! فقد أخطأ فيه نافع – رحمه الله-، فابن عمر كان يحاول أن يُفهم نافعاً - وهو أعجمي - معنى الآية، وأن الإنسان يستطيع ان يأتي زوجته من خلفها في مكان الحرث كما في الآية، فأخطأ نافع الفهم، فروى الحديث على هذه الصيغة، وقد سئل سالم بن عبدالله بن عمر عن رواية نافع، فقال: "كذب العبد على أبي"، أي أخطأ.

ولهذا احتج البخاري بالسند ولم يذكر المتن كما رواه نافع، ولو كان البخاريّ يرى صحته لما اختصره ولأتى به كما رواه نافع، فهذه طريقة ذكية منه - رحمه الله - لبيان هذا الخطأ، وأيّد ذلك بالرواية الثانية التي ساقها من حديث جابر وهو سبب نزول هذه الآية، وأن المقصود كان في إتيان المرأة من دبرها في قُبلها، وليس في الدبر.

ومن هنا يظهر حُسن تبويب البخاري بهذه الآية وإيراد حديث نافع لبيان غلطه فيه، وأن الآية نزلت بسبب قول اليهود: "أن الرجل إِذا جَامَعَ زوجته مِنْ وَرَائِهَا جَاءَ الوَلَدُ أَحْوَلَ"!

·       رواية عبدالله بن عون:

أخرجها إسحاق بن راهويه في مسنده وفي تفسيره بالإسناد المذكور، وقال بدل قوله (حتى انتهى إلى مكان): «حتى انتهى إلى قوله: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أني شئتم}، فقال: أتدرون فيما أنزلت هذه الآية، قلت: لا، قال: نزلت في إتيان النساء في أدبارهن».

وهذا يدلّ على أن البخاري هو من اختصر متن الرواية، فقال: «في كذا وكذا»، حتى لا تُفهم هذه الرواية على ظاهرها.

ورواه ابن جرير في «تفسيره» (2/394) قال: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن عُلية، قال: حدثنا ابن عون، عن نافع قال: «كان ابن عمر إذا قرئ القرآن لم يتكلم، قال: فقرأت ذات يوم هذه الآية {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم}، فقال: أتدري فيمن نزلت هذه الآية؟ قلت: لا، قال: نزلت في إتيان النساء في أدبارهن».

قال ابن جرير: حدثني إبراهيم بن عبدالله بن مسلم أبو مسلم، قال: حدثنا أبو عمر الضرير، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم صاحب الكرابيسي، عن ابن عون، عن نافع قال: «كنت أمسك على ابن عمر المصحف إذ تلا هذه الآية {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم}، فقال: أن يأتيها في دبرها».

 [تنبيه: جاء في مطبوع تفسير الطبري عند تفسير الآية: "ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب قال: ثنا هشيم قال: أخبرنا ابن عون.."! أي أن الذي روى هذا الحديث عن ابن عون هو هُشيم، والذي نقله ابن كثير وابن حجر والعيني عن الطبري أن الذي رواه عن ابن عون هو ابن عُلية، وهو أشبه بالصواب].

ورواه أبو عُبيد القاسم بن سلام في «فضائل القرآن» (ص:190) قال: حَدَّثَنَا مُعَاذٌ - هو: ابن معاذ العنبري -، عن ابنِ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، قال: كان ابنُ عُمَرَ إِذَا قَرَأَ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى يَفْرُغَ مِمَّا يُرِيدُ أَنْ يَقْرَأَهُ قَالَ: فَدَخَلَ يَوْمًا فَقَالَ: أَمْسِكْ عَلَيَّ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَأَمْسَكَهَا عَلَيْهِ. فَلَمَّا أَتَى عَلَى مَكَانٍ مِنْهَا، قَالَ: «أَتَدْرِي فِيمَ أُنْزِلَتْ؟» قُلْتُ: لا. قال: «فِي كَذَا وَكَذَا»، ثُمَّ مَضَى فِي قِرَاءَتِهِ.

فأبهمه هنا أيضاً فقال: «في كذا وكذا»، وكأنه تصرف من أبي عبيد صاحب الكتاب، والله أعلم.

·       رواية أيوب السختيانيّ:

وقد ذهب المزي والحافظ ابن حجر إلى أن رواية عبدالصمد معطوفة على رواية النضر بن شُميل السابقة، أي أن الذي رواها عن عبدالصمد هو إسحاق بن راهوية.

فذكر المزي في «تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف» برقم (7560) "حديث عن ابن عمر: فأتُوا حَرثَكُم أنّى شِئْتُم، قال: يأتيها في. خ في التفسير عن إسحاق، عن عبدالصمد بن عبدالوارث، عن أبيه، عنه به".

وقال ابن حجر في «فتح الباري» (8/189): "قوله: (وعن عبدالصمد) هو معطوف على قوله: أخبرنا النضر بن شميل، وهو عند المصنف أيضاً عن إسحاق بن راهويه عن عبدالصمد - وهو ابن عبد الوارث بن سعيد -، وقد أخرج أبو نُعيم في المستخرج هذا الحديث من طريق إسحاق بن راهويه عن النضر بن شميل بسنده، وعن عبدالصمد بسنده".

قلت: فهذا يعني أن الحديث عند البخاري عن إسحاق بن راهوية عن عبدالصمد، ولكنه عطفه على الإسناد الأول الذي ذكر فيه شيخه إسحاق، وقد رواه أبو نُعيم في «مستخرجه» عن أبي أحمد عن عبدالله بن محمد عن إسحاق بن إبراهيم عن النضر، وعن إسحاق عن عبدالصمد، به.  

وروى ابن جرير في «تفسيره» (2/395) قال: حدثني أبو قلابة الرقاشيّ، قال: حدثنا عبدالصمد بن عبدالوارث، قال: حدثني أبي، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر {فأتوا حرثكم أنى شئتم} قال: «في الدبر».

·       رواية عُبيدالله بن عمر:

وأما رواية عبيدالله بن عمر التي علّقها البخاري فقد أخرجها الطبراني في «المعجم الأوسط» برقم (3827) قال: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بنُ سَعِيدٍ الرَّازِيُّ، قال: أخبرنا مُحَمَّدُ بنُ أَبِي عَتَّابٍ أَبُو بَكْرٍ الْأَعْيَنُ، قال: أخبرنا مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، قال: أخبرنا أَبِي، عَنْ عُبَيْدِاللَّهِ بنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عن ابنِ عُمَرَ قال: «إِنَّمَا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} رُخْصَةً فِي إِتْيَانِ الدُّبُرِ».

قال الطبراني: "لمْ يَرْوِ هذا الْحَدِيثَ عَنْ عُبَيْدِاللَّهِ بنِ عُمَرَ إِلا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ، تَفَرَّدَ بِهِ: مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى".

قال ابن حجر في «الفتح» متعقباً الطبراني: "كذا قال! ولم يتفرد به يحيى بن سعيد فقد رواه عبدالعزيز الدراوردي، عن عبيدالله بن عمر أيضاً".

وقال في «تغليق التعليق» (4/182): "ورواه الحسن بن سفيان في مسنده عن أبي بكر الأعين ولفظه: أن رجلاً وقع على امرأته فأنزل الله نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم، ومن طريقه رواه أبو نُعيم في المستخرج والحاكم في التاريخ، ورجاله ثقات".

وقال السيوطي في «الدر المنثور في التفسير بالمأثور» (1/636): "وَأخرج الحسن بن سُفْيَان فِي مُسْنده وَالطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط وَالْحَاكِم وَأَبُو نعيم فِي الْمُسْتَخْرج بِسَنَد حسن عَن ابن عمر قَالَ: إِنَّمَا نزلت على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {نِسَاؤُكُمْ حرث لكم} الْآيَة رخصَة فِي إتْيَان الدبر».

قلت: محمد بن يحيى بن سعيد القطان رجل صدوق، ولم يخرّج له البخاري إلا هذا الموضع تعليقاً، وهو من شيوخه، وقد علّقه عنه لغرابته، فلا يُعرف أن عبيدالله بن عمر روى هذا عن نافع إلا من طريقه! والبخاري يُعلق الحديث عن شيوخه إذا رأى أن حديث الشيخ غريب يتفرد به!

وللبخاري أغراضا أخرى لتعليقه الأحاديث، وقد يعلّق الحديث في موضع ويسنده في موضع آخر، ولكن باستقرائي لفعله - رحمه الله - فإنه لا يزهد في تعليق الحديث لشيخ من شيوخه في موضع واحد ولا يسنده إلا لأنه يرى غرابته ويريد الإشارة إلى ذلك، وتفصيل ذلك يطول، وهو عندنا - بفضل الله - في مؤلف خاص.

وأما دعوى ابن حجر أن الدراوردي تابعه فمردودة؛ لأن الدراوردي قد جمع الحديث عن ثلاثة عن نافع! ولا يُحتج بما انفرد به، وكيف يتفرد به عن ثلاثة من الرواة دون غيره!! ولهذا أورد الأئمة حديثه هذا في كتب الغرائب.

·       من رواه عن نافع غير هؤلاء المتقدم ذكرهم:

·       رواية عبدالعزيز الدراوردي عن مالك وعبيدالله بن عمر وابن أبي ذئب:

قال ابن حجر في «الفتح»: "وقد روى هذا الحديث عن نافع أيضاً جماعة غير من ذكرنا ورواياتهم بذلك ثابتة عند ابن مردويه في تفسيره، وفي فوائد الأصبهانيين لأبي الشيخ، وتاريخ نيسابور للحاكم، وغرائب مالك للدارقطني وغيرها، وقد عاب الإسماعيلي صنيع البخاري فقال: (جميع ما أخرج عن ابن عمر مبهم لا فائدة فيه، وقد رويناه عن عبدالعزيز - يعني الدراوردي- عن مالك وعبيدالله بن عمر وابن أبي ذئب ثلاثتهم عن نافع بالتفسير، وعن مالك من عدة أوجه) انتهى كلامه، ورواية الدراوردي المذكورة قد أخرجها الدارقطني في غرائب مالك من طريقه عن الثلاثة عن نافع نحو رواية ابن عون عنه ولفظه: (نزلت في رجل من الأنصار أصاب امرأته في دبرها فأعظم الناس ذلك فنزلت، قال: فقلت له، من دبرها في قبلها، فقال: لا، إلا في دبرها)".

قلت: الحديث أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ فِي «غرائب مالك» من طريق أبي بشر الدولابي، قال: نبأنا أَبُو الحارث أَحْمد بن سعيد، قال: نبأنا أَبُو ثَابت مُحَمَّد بن عبيدالله الْمدنِي، قال: حَدثنِي عبدالْعَزِيز مُحَمَّد الدَّرَاورْدِي، عن عُبيدالله بن عمر بن حَفْص وَابن أبي ذِئْب وَمَالك بن أنس فرقهم كلهم، عَن نَافِع قال: «قال لي ابن عمر: امسك على الْمُصحف يَا نَافِع فَقَرَأَ حَتَّى أَتَى على {نِسَاؤُكُمْ حرث لكم فَأتوا حَرْثكُمْ أَنى شِئْتُم} قَالَ لي: أَتَدْرِي يَا نَافِع فيمَ نزلت هَذِه الْآيَة قلت: لا، قَالَ: نزلت فِي رجل من الأنصار أصَاب امْرَأَته فِي دبرها فأعظم النَّاس ذَلِك فَأنْزل الله {نِسَاؤُكُمْ حرث لكم فَأتوا حَرْثكُمْ أَنى شِئْتُم} الْآيَة، قلت لَهُ: من دبرها فِي قبلهَا! قال: لا، إِلَّا فِي دبرها».

قلت: هذه الرواية منكرة جداً! والدراوردي كما أشرنا لا يُحتج بما انفرد به؛ لأنه كان يهم كثيراً، وقد وُصف بسوء الحفظ إذا حدّث من حفظه، فكيف يتفرد عن ثلاثة من المشهورين بهذه الرواية! فجمعه لهؤلاء الشيوخ مظنة الخطأ والوهم، ولا يُقبل الجمع إلا من الثقات الأثبات أمثال الإمام الزهري كما فعل في حديث قصة الإفك.

وإيراد الأئمة لهذا الحديث في كتب الغرائب يدلّ على تضعيفهم وإنكارهم له.

·       اعتراضات مُعترِض:

وقد أجاب أحد إخواننا - جزاه الله خيراً - على هذا الكلام لما أرسلنا له أصل البحث، فقال: "الإجابة عن هذا يكون من ثلاثة وجوه:

1-  الأول: التحقيق: أن الدراوردي صدوق متماسك محدِّث عالِم، ولم يُصِب مَن أهدر حديثه جملة! وهو ضعيف في عبيدالله العمري وحده، لكونه كان لا يقوم بحديثه، وكتابه أصح من حِفْظِه، و«حَدِيْثُهُ فِي دوَوَاينِ الإِسْلاَمِ السِّتَّةِ، لَكِنَّ البُخَارِيَّ رَوَى لَهُ: مَقْرُوْناً بِشَيْخٍ آخرَ، وَبِكُلِّ حَالٍ فَحَدِيْثُهُ وَحَدِيْثُ ابْن أَبِي حَازِمٍ لاَ يَنحطُّ عَنْ مرتبَةِ الحَسَنِ». كما يقول الذهبي في ختام ترجمته من «سير النبلاء».

فالحاصل: أن حديثه على السلامة ما لم يخالف من هو أثبت منه أو يأتِ بما ينكره عليه أئمة هذا الشان.

وروايته هنا: ما خالف فيها أحدًا، بل توبع عليها جميعًا عن مشايخه الثلاثة، اللهم إلا في قول نافع بآخره: «قلت لَهُ: من دبرها فِي قبلهَا! قال: لا، إِلَّا فِي دبرها». فهذا بذلك التصريح لم أجده لغيره، لكنه توبع على معناه بلا ريب.

على أن الراوي الضعيف (فكيف بالمُحَدِّث الصدوق مثل الدراوردي؟) إذا روى خبرًا فيه قصة، كان ذلك أدْعَى أن يكون قد حفظه ووعاه كما سمعه، لِمَا تحتاجه القصة من مزيد عناية وضبط، وقد نصَّ على هذا الإمام أحمد فيما نقله عنه الحافظ في «مقدمة الفتح».

2- والثاني: أن الدراوردي لم يتفرد بهذا الخبر أصلًا حتى يقال: (فجمعه لهؤلاء الشيوخ مظنة الخطأ والوهم، ولا يُقبل الجمع إلا من الثقات الأثبات)!

بل قد توبع عليه عن مشايخه الثلاثة جميعًا:

أ- فتابعه علي بن الجعد وغيره عن ابن أبي ذئب.

ب- وتابعه أبو مصعب الزهري وجماعة عن مالك.

ج- وتابعه يحيى القطان عن عبيد الله بن عمر.

ومتى تُوبِع الراوي المتكلم في حِفْظِه على روايته متابعة تامة؛ كان ذلك برهانًا على أنه حفظها وضَبَطَها ووعاها.

3- والثالث: أن دعوى كون: (إيراد الأئمة لهذا الحديث في كتب الغرائب يدلّ على تضعيفهم وإنكارهم له.)! غير ثابت لا جملة ولا تفصيلًا.

وقد رددنا على بعضهم أثناء تحقيقه لبعض الكتب: «والذي دعا هذا المعلِّق الفاضل المحقق الفذ - وتلك شهادة تناله- على «منتخب علل الخلال/ لابن قدامة» إلي نفْي السماع = هو أنه يعمل في تحقيق كتاب في «العلل» فكأنه ظن أن كل خبر موجود فيه لا بد أن يكون معللًا! وهذا هو الذي جعله يتطلَّب إعلال هذا الحديث مع سلامة إسناده!

وليس كما ظن أصلًا؛ بل هم قد يوردون الصحيح في كتب «العلل» ولا يتكلمون عليه بشيء؛ لكونهم ما قصدوا إعلاله بإيراده؛ ولا اشترط أكثرهم ذلك؛ بل قد يذكروه لمناسبة تتعلق بحديث قبله؛ أو بفائدة في إسناده؛ أو لنكتة في متنه.

بل قد يوردوه ليردوا ما أُعِلَّ به؛ أو لينبهوا الغافل على قبولهم له بسكوتهم عليه، والأمثلة على ذلك كثيرة جدًا، تجدها في «علل أحمد / رواية ولده عبدالله» بكثرة. وكذا في «الفوائد المعللة» لأبي زرعة الشامي...».

وكذلك يفعل الدارقطني في كتابه: «الغرائب والأفراد»: «ولذلك: تراه ذكر طائفة من أحاديث «الصحيحين» من تلك الطرق التي أخرج بها الشيخان هذه الأحاديث! بل قد ينص هو بنفسه على صحة ذلك الطريق الذي يستغربه أو يجزم بتفرد بعض الثقات به... بل لحذاق النقاد في إعلال بعض أحاديث الثقات بالتفرد: مسالك لا يهتدي إليها كل أحد! ولا يحسن التذرُّع بها في التنكب عما ينفرد به الأثبات مطلقًا إلا عند مَنْ لا يدري ما وراء الأكمة ....».

نعم: وجود تلك الأحاديث في أمثال تلك الكتب من الغرائب والفوائد والعلل، قد يكون مظنة على كونها معلَّلة، لكن هذا ليس مطردًا؛ وإن كان أمرًا أغلبِيًّا، والقرائن والملابسات هي التي تؤيد الإعلال أو تَدْرَأه" انتهى كلام الأخ الكريم.

أقول:

أولاً: فيما يتعلق بالوجه الأول من ناحية التحقيق، فهو كلام غير محقق!!

أما الدراوردي فهو صدوق عالم، ولم نُهدر حديثه جملة، وقد ضعفه بعض أهل العلم مطلقاً، ومشّاه بعضهم، ولم يقولوا إنه ضعيف فقط في عبيدالله، وإنما هذا جاء في قول الإمام أحمد بعد أن نصّ على أنه يخطئ، قال: "كان معروفا بالطلب وإذا حدث من كتابه فهو صحيح، وإذا حدث من كتب الناس وهم وكان يقرأ من كتبهم فيخطئ، وربما قلب حديث عبدالله بن عمر يرويها عن عبيدالله بن عمرو".

قلت: وقصد الإمام أحمد أنه عندما كان يقرأ من كتب الناس يقلب حديث عبدالله بن عمر فيقرأه: عبيدالله بن عمرو!

فينبغي فهم الكلام من خلال النص وعدم اقتطاعه.

وأما وجود حديثه في دواوين السنة فغيره مثله أيضاً حديثه في دواوين السنة، ويكفيه ضعفاً أن البخاري لم يخرج له وحده، وإنما قرنه بغيره، أي يحتاج لمتابعة، وهذا يدل على أنه لا يحتج بحديثه إلا إذا تابعه غيره من الرواة.

والمُعارض حصر المسألة في حديثه إذا اختلف مع غيره! وليس كذلك، فمشكلته أيضاً في التفرد، فلا يقبل تفرده كما هو ظاهر تصرف البخاري في تخريج حديثه في صحيحه.

وأما قول الإمام الذهبي في بعض الرواة الذين اختلف أهل العلم في توثيقهم وتجريحهم كالدراوردي: «لا ينحط عن مرتبَة الحسَن» فلا يعني الحكم على كل حديث له بأنه حسن! فقد يُحسّن حديثه بضوابط.

بل قال الذهبي في «الميزان»: "عبدالعزيز بن محمد الدراوردي: صدوق من علماء المدينة، غيره أقوى منه".

وقد نصّ بعض أهل النقد على أنه ليس بقوي.

قال أحمد بن حنبل: "إذا حدث من حفظه يَهم ليس هو بشيء، وإذ حدث من كتابه فنعم". وقال أحمد أيضاً: "إذا حدث من حفظه جاء ببواطيل".

وقال أبو حاتم: "لا يُحتج به".

وقال أبو زرعة: "سيء الحفظ".

وقال الساجي: "كان من أهل الصدق والأمانة إلا أنه كثير الوهم".

قلت: فما أدرانا بالأحاديث التي حدث بها من كتابه أو حدث بها من حفظه، ولا سبيل لمعرفة ذلك إلا بنص أهل العلم، أو رد ما يتفرد به وخاصة إذا كان فيما يرويه نكارة! وقد نصّ المعترض على أنه قد خالف غيره في آخر الحديث، وهو ما قصدناه بالنكارة في حديثه؛ إذ هو تفرد بهذا، وهو منكر!

وأما ذكر القصة في الرواية فنعم هذا يدل على زيادة حفظ وتثبت لم شهدها وحضر وقائعها، وكان الراوي عنه ثقة، أما الدراوردي فلا علاقة له بها ويرويها عن ثلاثة من شيوخه، ولو سحبنا هذا على كل راو ضعيف بروايته لحديث فيه قصة وقلنا إن وجود القصة فيه مزيد ضبط وحفظ فعلى ذلك صححنا أحاديث كثيرة للضعفاء! وهذا لا يقول به أحد، ووجود القصة في الرواية كما يدل على صحتها فكذلك وجود القصة أحياناً يدل على كذبها! وخاصة إذا كانت مخالفة لغيرها من الأحاديث الصحيحة.

ثانياً: أما فيما يتعلق بمن تابع الدراوردي عليه فسياتي الكلام على متابعة علي بن الجعد عن ابن أبي ذئب، وكذلك من رواه عن مالك.

وعلى فرض صحة هذه الروايات فهي ليست متابعات تامة كما قال الأخ! بل هو نفسه قال بأن الدراوردي تفرد بقول نافع الأخير في الرواية وهو منكر! ومسألة التفرد عن ثلاثة شيوخ والجمع بينهم مظنة الشك في رواية الضعيف.

ثالثاً: وأما اعتراضه على أن وجود الحديث في كتاب الغرائب وإيراده فيها يدل على تضعيفه وإنكاره فغير ثابت جملة ولا تفصيلاً ففيه نظر!

فكتب الغرائب المتأخرة التي تعنى بغرائب مالك أو شعبة وغيرهما من الأئمة من عرف هذه الكتب ولم صنفت أدرك أن مصنّف هذه الكتب يورد فيها الأحاديث التي أُغربت على هؤلاء الأئمة وحصل فيها خطأ من رواتها ولا تثبت عنهم.

وأما ما احتج به فيما أورده من فعل الدارقطني في كتابه الغرائب والإفراد وإيراد بعض أحاديث الصحيحين فيها، وما عند الإمام أحمد في علله فهذا يختلف عن كتب الغرائب ولا نُنكر ما ذكره أنهم "قد يوردون الصحيح في كتب «العلل» ولا يتكلمون عليه بشيء؛ لكونهم ما قصدوا إعلاله بإيراده؛ ولا اشترط أكثرهم ذلك؛ بل قد يذكروه لمناسبة تتعلق بحديث قبله؛ أو بفائدة في إسناده؛ أو لنكتة في متنه. بل قد يوردوه ليردوا ما أُعِلَّ به؛ أو لينبهوا الغافل على قبولهم له بسكوتهم عليه...".

وليس منهجنا أننا نضعّف الحديث الفرد أو الغريب مطلقاً، فقد يكون الغريب أو الفرد صحيحا، وقد يكون ضعيفاً منكراً، وهذا يرجع للقرائن، فالمسألة ليست على إطلاقها.

·       رواية أخرى عن ابن أبي ذئب:

وقد رُوي الحديث عن ابن أبي ذئب عن نافع من طريق آخر:

قال أبو عليٍّ حامدُ بنُ محمدِ بنِ عبدِاللهِ بنِ معاذٍ الهرويُّ الرَّفَّاءُ في «فوائده - تَخْرِيج الدَّارَقُطْنِيّ»: نبأنا أَبُو أَحْمد بن عَبدُوس، قال: نبأنا عَليّ بن الْجَعْد، قال: نبأنا ابن أبي ذِئْب، عَن نافع، عن ابن عمر، قال: «وَقع رجل على امْرَأَته فِي دبرهَا فَأنْزل الله {نِسَاؤُكُمْ حرث لكم فَأتوا حَرْثكُمْ أَنى شِئْتُم}».

قال: فقلت لِابنِ أبي ذِئْب، مَا تَقول أَنْت فِي هذا؟ قال: "مَا أَقُول فِيهِ بعد هذا"!

وأخرجه الطبراني في «الأوسط» برقم (6298) قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَلِيٍّ الصَّائِغُ، قال: حدثنا يَعْقُوبُ بنُ حُمَيْدٍ، قال: حدثَنَا أَبُو صَفْوَانَ عَبْدُاللَّهِ بنُ سَعِيدِ بنِ عَبْدِالْمَلِكِ، عَنِ ابنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَجُلًا، أَصَابَ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ النَّاسُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: 223]».

قال الطبراني: "لمْ يَرْوِ هذَا الْحَدِيثَ عَنِ ابنِ أَبِي ذِئْبٍ، إِلَّا أَبُو صَفْوَانَ".

قلت: قد رواه عنه علي بن الجعد أيضاً.

وهذا اللفظ أيضاً منكر عن نافع! ومحمد بن عبدالرحمن ابن أبي ذئب ثقة فقيه (80-159هـ)، لا يُعرف بكثرة الرواية عن نافع، وحديثه عنه قليل جداً، ليس له في الكتب الستة عن نافع عن ابن عمر إلا أربعة أحاديث:

الأول: حديث النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن رجلاً سأله: ما يلبس المحرم؟...الحديث.

أخرجه البخاري وقرنه برواية الزهري، عن سالم. عن ابن عمر.

الثاني: حديث من أعتق شركًا له في عبد... الحديث.

أخرجه البخاري في العتق تعليقًا عقيب حديث موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر. قال: ورواه ابن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر عن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مختصر.

وأخرجه مسلم في المتابعات.

الثالث: حديث: إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم... الحديث.

أخرجه مسلم في المتابعات في كتاب العتق عن محمد بن رافع، عن ابن أبي فديك، عنه، به.

الرابع: حديث الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما.

أخرجه ابن ماجه في السنَّة (المقدَّمة) عن محمد بن موسى الواسطي، عن المعلى بن عبد الرحمن، عنه، به.

وهذا حديث منكر عن ابن أبي ذئب! تفرد به معلى بن عبدالرحمن الواسطي، وهو متروك الحديث، كذّبه الدارقطني.

ولم أجد أحداً من أهل العلم تكلّم في رواية ابن أبي ذئب عن نافع، وكيف سمع منه، وما هو مقدار ما روى عنه! والذي يظهر أنه روى عنه أحاديث قليلة جداً، وهناك أحاديث لم يسمعها من نافع، وإنما رواها عنه بواسطة، وكان ابن أَبي ذئب كان لا يبالي عمن يُحدِّث.

فالذي أراه أن ابن أبي ذئب لم يسمع هذا الحديث من نافع؛ لأنه مخالف لما رُوي عن نافع من أصحابه الثقات، وهو حديث غريب؛ ومثله لا نجده إلا في كتب الفوائد التي تحوي الغرائب المنكرة، ولهذا انتخبه الدارقطني من فوائد الرّفاء لأنه فائدة.

وأما سؤال علي بن الجعد لابن أبي ذئب حول هذه الرواية وجوابه المتضمن قبولها فهذا لا يعني صحة الرواية عن نافع بهذا اللفظ، وكأن هذا الرأي كان منتشراً عن نافع في ذلك الوقت، وهو كذلك إلا أنه أخطأ في فهم الحديث، والرواية بهذا اللفظ منكرة كما أشرت.

·       اعتراض مُعترِض:

وقد أجاب الأخ الذي ذكرناه آنفاً على هذا الكلام لما أرسلنا له أصل البحث، فقال: "أمَّا النكارة فلَمْ أدْر وجهها؟! ورواية ابن أبي ذئب هي بمعنى رواية ابن عون: (نزلت في إتيان النساء في أدبارهن)، فهذا إجمال فسِّرَتْه رواية ابن أبي ذئب. ثم إن الشيخ أبا صهيب يرى أن مراد ابن عمر هو الإتيان من الدبر في القبل، فغلط عليه نافع وظن أنه يريد الإتيان من الدبر في الدبر! فإذا كان هذا هو معتقد الشيخ في مذهب ابن عمر فما الداعي لإنكار رواية ابن أبي ذئب هنا! فلا على الشيخ إنْ حمل لفظ ابن أبي ذئب: (عن ابنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَجُلًا، أَصَابَ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم... ) يعني: أتاها في دبرها من قُبُلها، وتسلم الرواية من النكارة رأسًا؟!

وإذ ذاك كذلك: فلا داعي أيضًا لإعلال الرواية بكون ابن أبي ذئب قليل الرواية عن نافع! ولا لدعوى أنه لم يسمعه من نافع رأسًا! لكونه مخالفًا لِما رُوي عن نافع من أصحابه الثقات!

فكل هذا مدفوع بالتأويل المذكور الذي سيرجحه الشيخ – سدده الله- في آخر هذا البحث.

على أن التحقيق عندي: أن رواية ابن أبي ذئب صحيحة محفوظة لا علة لها ناهضة، وروايته عن نافع مقبولة مطلقًا، إلا في أمور خاصة ليس هذا الخبر منها قط.

أما قول أبي صهيب: (ومثله لا نجده إلا في كتب الفوائد التي تحوي الغرائب المنكرة، ولهذا انتخبه الدارقطني من فوائد الرّفاء لأنه فائدة).

فقد مضى الإجابة عليه من قبل، وأن الغرابة عند جماهير المحدثين لا تستلزم النكارة، ووجود الحديث في كتب الغرائب والأفراد لا يعني ضَعْفَها أيضًا. وإنما مدار الأمر على القرائن والملابسات.

ورواية ابن أبي ذئب هنا: قد توبع على معناها، فلا موجب للتعلق بإعلالها.

على أن سؤال علي بن الجعد لابن أبي ذئب في آخر الرواية وجوابه عليه= يدل على مزيد عناية وضَبْط ابن أبي ذئب لها" انتهى كلامه.

قلت: أما وجه النكارة فهو أنه نزلت في ذلك الرجل الذي أتى زوجته من دبرها، والمعروف الثابت أنها نزلت في قول اليهود في أن من أتى زوجته من خلفها في قُبلها جاء الولد أحول من رواية جابر، وأما تأويل رواية نافع فإنا أوّلنا الرواية التي أخرجها البخاري؛ لأنها مجملة وليس فيها أنها نزلت بسبب ذاك الرجل الذي أتى زوجته من دبرها، وإنما قال: "نزلت في إتيان النساء في أدبارهن"، وهذا يمكن تأويله بخلاف الرواية المنكرة هذه عن نافع.

ويُصار إلى تفسير المجمل إذا كانت الرواية صحيحة، وأما هذه الرواية فليست صحيحة، والرواية التي أخرجها البخاري أصح وهي مجملة، ولا يحسن حمل رواية ابن أبي ذئب عليها لعدم صحتها وعدم ثبوتها عن نافع ومخالفتها لسبب نزول الآية الصحيح.

وأما قبول رواية ابن أبي ذئب عن نافع مطلقاً فهذا فيه نظر! وما أجاب به في آخر الرواية لا علاقة له بأنه يدلّ على مزيد ضبط وعناية! فيمكن لراو أن يروي رواية عن راوٍ لم يسمع حديثه هذا لشهرته وانتشاره بينهم، ثم يسأل عنه فيجيب.

وأما ما يتعلق بكتب الغرائب فقد فصّلناه فيما سبق.

·       الرواية عن مالك عن نافع:

أخرج الدَّارَقُطْنِيّ ودعلج كِلَاهُمَا فِي «غرائب مالك» من طَرِيق أبي مُصعب وإسحاق بن مُحَمَّد الْقَرَوِي كِلَاهُمَا عن مالك، عَن نَافِع، عَن ابن عمر أَنه قال: «يا نَافِع أمسك على الْمُصحف فَقَرَأَ حَتَّى بلغ {نِسَاؤُكُمْ حرث لكم} الْآيَة، فَقَالَ: يَا نَافِع أَتَدْرِي فيمَ أنزلت هَذِه الْآيَة قلت: لا. قال: نزلت فِي رجل من الْأَنْصَار أصَاب امْرَأَته فِي دبرها فَوجدَ فِي نَفسه من ذَلِك فَسَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأنْزل الله الْآيَة».

وَأخرجَهُ الْحَاكِمُ في «تاريخه» من طَرِيقِ عِيسَى بن مَثْرُودٍ الغافقيّ المصريّ، عن عبدالرحمن بن الْقَاسِمِ المصريّ، ومِن طَرِيقِ سَهْلِ بن عَمَّارٍ، عن عبداللَّهِ بن نَافِعٍ.

ورَواهُ الْخَطِيبُ في «الرُّوَاةِ عن مَالِكٍ» من طَرِيقِ أَحْمَدَ بن الْحَكَمِ الْعَبْدِيِّ.

وَرَوَاهُ أبو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ في «تفسيره» من طَرِيقِ إِسْحَاقَ بن مُحَمَّدِ الْفَرْوِيِّ.

وَرَوَاهُ أبو نُعَيْمٍ في «تاريخ أصبهان» من طَرِيقِ مُحَمَّدِ بن صَدَقَةَ الْفَدَكِيِّ، كلهم عن مَالِكٍ، به. [تلخيص الحبير لابن حجر: 3/184].

وأخرجه أبو نُعيم في «تاريخ أصبهان» (2/304) قال: حدثنا الحسن بن إسحاق بن إبراهيم، قال: حدثنا محمد بن إبراهيم بن عامر، قال: حدثنا أبي وعمي محمد بن عامر، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أبو غالب النضر بن عبدالله الأزدي: حدثنا مالك بن أنس، عن نَافِع، عن ابن عمر فِي قَوْله: {نِسَاؤُكُمْ حرث لكم فَأتوا حَرْثكُمْ أَنى شِئْتُم} قال: «إِن شَاءَ فِي قبلهَا وَإِن شَاءَ فِي دبرها».

قال الدَّارَقُطْنِيُّ: "هذا ثَابِتٌ عن مَالِكٍ". [الدر المنثور في التفسير بالمأثور: 1/636-637].

قلت: الرواية عن مالك ليست ثابتة، ولهذا لا نجدها إلا في كتب الغرائب التي تحوي الأفراد المنكرة!

قال ابن كثير في «تفسيره» (1/263) لما تعرض لتفسير الآية وساق الأحاديث: "ورُوي من حديث مالك عن نافع عن ابن عمر، ولا يصح".

قلت: والروايات التي رُويت عن مالك رواها: أبو مصعب الزهريّ، وإسحاق بن محمد الفروي، وعبدالرحمن بن القاسم الفقيه المصري، وعبدالله بن نافع الصائغ المديني، وأحمد بن الحكم العبدي، ومحمد بن صدقة الفدكي، والنضر بن عبدالله الأزدي.

أما أبو مصعب الزهري فقد لازم مالك بن أنس وسمع منه الموطأ وأتقنه، وموطأه من آخر الموطآت التي رُويت عن الإمام مالك، وفيه وفي موطأ أحمد بن إسماعيل السهمي نحو من مئة حديث زائدة، ولكن هذا الحديث لم أجده في مطبوع موطأ أبي مصعب! فالله أعلم.

وأما إسحاق بن محمد الفروي، فقال العقيلي: "جاء عن مالك بأحاديث كثيرة لا يتابع عليها، وسمعت أبا جعفر الصائغ يقول: كان إسحاق الفروي كفّ وكان يلقن منها". وقال النسائي: "ليس بثقة"، وقال أبو داود: "واه"، وقال أبو حاتم وغيره: "صدوق"، وقال الدارقطني: "ضعيف تكلموا فيه"، وأخرج له البخاري حديثين في صحيحه عن نافع.

وأما عبدالرحمن بن القاسم المصري الفقيه فروى عن مالك الحديث والمسائل، وكان من ثقات أصحابه، وكان ورعاً صالحاً، ولم يكن صاحب حديث، وهو أول من حمل الموطأ إلى مصر.

وأما عبدالله بن نافع الصائغ، فقال أحمد: "لم يكن صاحب حديث كان صاحب رأي مالك، وكان يفتي أهل المدينة برأي مالك ولم يكن في الحديث بذاك"، وقال أبو حاتم الرازي: "ليس بالحافظ، هو لين، تعرف حفظه وتنكر، وكتابه أصح". وقال ابن عدي: "روى عن مالك غرائب".

وأما أحمد بن الحكم العبدي فروى عن مالك وشريك، وقد ضعفه الدارقطني، وقال مرة: "متروك".

وأما محمد بن صدقة الفدكي فقال ابن حبان: "يُعتبر حديثه إذا بين السماع في روايته، فإنه كان يسمع من قوم ضعفاء عن مالك، ثم يدلس عنهم"، وقال الذهبي: "حديثه حديث منكر".

وأما أبو غالب النضر بن عبدالله الأزدي فمجهول، وقد ذكره أبو الشيخ في «طبقات المحدثين بأصبهان» (2/81) وقال: "كوفي قدم أصبهان لم يحدث عنه إلا عامر بن إبراهيم، وعنده أحاديث غرائب"، ثم ذكر له حديثاً غريباً منها رواه عن عامر بن إبراهيم بن عامر عنه، ثم قال: "وعنده أحاديث يتفرد بها، وقد خرجتها في فوائد الأصبهانيين، وهو حدثني بحديث أبي غالب النضر بأحاديث حدث بها إسماعيل بن عمرو سواء لا يغادر منه شيئا، وذكر أنهما كانا جارين بأصبهان، والله أعلم بحالهما".

وقال أبو نُعيم في «تاريخ أصبهان» (2/304): "النضر بن عبدالله الأزدي أبو غالب، كوفي قدم أصبهان، لم يحدث عنه إلا عامر بن إبراهيم، روى عن مالك وأبي حنيفة وحفص بن سليمان وسليم مولى الشعبي وزائدة وسفيان بن عيينة"، وذكر هذا الحديث في غرائبه!

والخلاصة أن هذه الرواية لم تثبت عن الإمام مالك - رحمه الله -، والله أعلم.

·       اعتراض مُعترِض:

وقد أجاب الأخ الذي ذكرناه آنفاً على هذا الكلام لما أرسلنا له أصل البحث، فقال: "ثم قال أبو صهيب وفقه الله: (الرواية عن مالك ليست ثابتة، ولهذا لا نجدها إلا في كتب الغرائب التي تحوي الأفراد المنكرة). الذي أوردها في «الغرائب» هو الدارقطني فِي كتابه: «غرائب مالك»، ثم قال عقبها: (هذا ثَابِتٌ عن مَالِكٍ).

فينبغي التسليم لهذا الإمام في مثل تلك المضايق، سيما فيما يورده بنفسه في كتابه: «غرائب مالك»! وهو أعلم الناس بما ثبت عن مالك من الغرائب وبما لَمْ يثبت.

وقد رواه عن مالك سبعة نفر:  تكلم أبو صهيب في خمسة منهم بما يقتضي حقيقتهم، إلا أنه لم يقل شيئًا في رواية أبي مصعب الزهري وعبدالرحمن بن القاسم عن مالك؟! وهما ثقتان مشهوران من خواص أصحاب مالك، فالحجة قائمة برواية أحدهما ولا بد، فكيف بهما معًا؟! ولم يخالفهما من هو أوثق منهما في مالك؛ حتى نُقَدِّم  روايته عليهما؟! وكون هذا الخبر ليس في «الموطأ» من رواية أبي مصعب أو رواية ابن القاسم؛ لا يعني غرابته فضلًا عدم ثبوته أصلًا، وكم من الأحاديث الصحيحة من جِياد ما يرويه مالك مما هو خارج الموطأ؟! وقد ألَّف غير واحد من الأئمة في هذا الباب بما هو معلوم" انتهى كلامه.

قلت: أما قول الدارقطني في أن هذا ثابت عن مالك، فالظاهر أنه يعني رأيه في هذه المسألة، ولا يقصد الرواية؛ لأنه أورده في غرائبه كما ذكرنا مراراً بخلاف لو أورده في الغرائب والأفراد التي أشار الأخ إلى أنه يورد فيها أحاديث قد تكون صحيحة.

ولو صح أن الدارقطني يرى أن هذه الرواية ثابتة عن مالك فلم أوردها في غرائبه؟! فليس من عادة من يصنِّف في غرائب إمام من الأئمة أن يورد ما صحّ عنه، والله أعلم.

وأما كلامي على من روى هذا عن الإمام مالك فقد تكلمت عن الرواة السبعة لا خمسة فقط كما أشار الأخ الحبيب، وبينت أن أبا مصعب سمع الموطأ من مالك وكان من أواخر من رووا عنه الموطأ ولكن هذا الحديث ليس في موطأه، فهذه إشارة إلى استنكاره! وأما ابن القاسم فأشرت إلى أنه لم يكن صاحب حديث، ولو كان هذا الحديث عند مالك لوجدناه عند أصحابه الكبار الذين حملوا عنه الموطأ.

وأما قول الأخ أن هناك أحاديث جياد للإمام مالك خارج الموطأ فالظاهر أنه يقصد بالجياد أي جيدة مقبولة! وهذا فيه نظر! فكلّ حديث يُروى عن مالك خارج الموطآات يُنظر في إسناده، وكثير مما ادعي أنها أحاديث جيدة عن مالك خارج الموطأ لا نجدها إلا عند من صنّف في غرائبه كالدارقطني وغيره، فأنّى لها أن تكون جيدة!!

·       روايات أخرى عن نافع:

قال الحافظ في كتاب «العُجاب»: "ورواه عن نافع غير من تقدم ذكره جماعة، منهم: ابنه عبدالله، وعمر بن محمد بن زيد بن عبدالله بن عمر، وهشام بن سعد، وأبان بن صالح، وإسحاق بن عبدالله بن أبي فروة".

أما حديث عبدالله بن نافع:

فأخرجه أحمد بن أسامة بن أحمد التجيبي في «فوائده» من طريق أشهب: حدثني عبدالله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر قال: «أصاب رجل امرأته في دبرها، فأنكر الناس ذلك، فأنزل الله عز وجل {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} الآية». وبه إلى نافع عن ابن عمر: "أنه كان إذا قرأ السورة لا يتكلم حتى يختمها فقرأ سورة البقرة فمر بهذه الآية، فقال: أتدري فيم نزلت؟ فذكر ما تقدم".

وبه إلى أشهب: قال لي عبدالله بن نافع: "لا بأس به إلا أن يتركه أحد تقذراً".

قلت: عبدالله بن نافع ضعيف.

وأما حديث عمر بن محمد بن زيد:

فأخرجه عبدالرزاق في «تفسيره» عن سفيان الثوري، عن عمر بن محمد بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر في قوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} أي: مثله من النساء.

قال سلمة بن شبيب الراوي عن عبدالرزاق: "وبه يحتج أهل المدينة".

وأخرجه أحمد بن أسامة التجيبي في «فوائده» بسنده إلى سلمة بن شبيب، ونقل عن أصبغ بن الفرج أنه احتج بها لذلك.

وذكر أبو بكر ابن العربي في «أحكام القرآن» عن محمد بن كعب القرظي أنه احتج على الجواز بهذه الآية. وزاد: "ولو لم يبح ذلك من الأزواج ما قبح".

وكذا نقل عن زيد بن أسلم وابن الماجشون.

وأخرج أبو الشيخ ابن حيان الأصبهاني في «فوائده» من طريق عصام بن زيد، عن الثوري، عن عمر بن محمد، عن نافع، عن ابن عمر: «أنه كان يتأول هذه الآية {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} أي: حيث شئتم».

قلت: عمر بن محمد بن زيد صدوق ليّنه ابن معين، وقال ابن حبان: "وكان يهم في الأحايين"، وقد أخرج له البخاريّ، وهو ممن يُكتب حديثه ويُعتبر به. وما رواه عن نافع في تأويل الآية في قوم لوط منكر جداً! ولا يصح عن ابن عمر.

·       اعتراض مُعترِض:

وقد أجاب الأخ الذي ذكرناه آنفاً على هذا الكلام لما أرسلنا له أصل البحث، فقال: "ثم قال أبو صهيب: (عمر بن محمد بن زيد صدوق ليّنه ابن معين، وقال ابن حبان: "وكان يهم في الأحايين"، وقد أخرج له البخاريّ، وهو ممن يُكتب حديثه ويُعتبر به. وما رواه عن نافع في تأويل الآية في قوم لوط منكر جداً! ولا يصح عن ابن عمر)!

قلت: قد وثقه ابن معين في رواية أخرى، وقال في رواية ثالثة: «كان صالِح الحديث». ووثقه باقي أئمة الحديث، ولم يتكلم فيه أحد بشيء نعلمه سوى قول ابن حبان السالف: «وكان يهم في الأحايين»، ومع ذلك فقد ذكره في جملة (مشاهير علماء الأمصار وأعلام فقهاء الأقطار دون الضعفاء والمتروكين وأضداد العدول من المجروحين) كما نص هو على ذلك في ديباجة كتابه: (مشاهير علماء الأمصار).

فالرجل عنده عدْلٌ رَضِي، وقد احتج به الجماعة كلهم سوى الترمذي. وحديثه عن نافع خاصة: قد احتج به الشيخان في صحيحيهما، فلا معنى لإعلال روايته هنا.

أما دعوى النكارة: فهي مدفوعة بكون مذهب ابن عمر في تلك المسألة معروف محفوظ من رواية جماعة عن نافع، ومن رواية غير نافع من الثقات عن ابن عمر، فهذا الخبر هنا يوافق أصل مذهب ابن عمر في إتيان النساء من الأدبار" انتهى كلامه.

قلت: نعم، عمر بن زيد قد وثقه ابن معين في رواية، وقال في أخرى: "صالح الحديث" ومعنى "صالح" أنه يُكتب حديثه للاعتبار، ولما ذكره ابن عدي في الضعفاء وذكر بعض حديثه قال: "وهو في جملة من يُكتب حديثه"، وهذا يعني أنه لا يُقبل تفرده! فكيف إذا كان ما يرويه فيه نكارة! وأما توثيق ابن معين له في رواية فهناك كثير من الرواة وثقهم ابن معين في رواية وضعفهم في أخرى، ولحلّ ذلك يكون تضعيفه له هو القول الأخير؛ لأنه لا يمكن أن يضعّف رجلاً ثم يوثقه، أما العكس فهو الصحيح.

وأما أن ابن حبان ذكره في أعلام فقهاء الأقطار دون الضعفاء والمتروكين في المشاهير فصحيح، وهذه الكلمة قالها ابن حبان في هذا الكتاب: "وكان يهم في الأحايين"، وهذا يعني أنه صدوق ولكن له أوهام، فلا يحتج بما انفرد به.

وأما تخريج الشيخين له فقليل، ومعروف انتقائهما للأحاديث التي يخرجونها، فلم يخرجوا له ما انفرد به، أو ما فيه نكارة.

وأما دفع دعوى النكارة بكون هذا مذهب ابن عمر! فهذا فيه افتراء على ابن عمر - رضي الله عنهما -، ولم يثبت أن هذا مذهبه!

وأما رواية هشام بن سعد:

فأخرجه االطبراني وابن مردويه من طريق هارون بن موسى، عن أبيه.

وأخرجها أحمد بن أسامة التجيبي في «فوائده» من طريق معن بن عيسى، كلاهما عن هشام بن سعد عن نافع: قال قرأ ابن عمر هذه السورة فمر بهذه الآية {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُم} الآية فقال: تدري فيم أنزلت هذه الآية؟ قلت: لا. قال: في رجال كانوا يأتون النساء في أدبارهنّ.

قلت: هشام بن سعد ضعيف جداً وله مناكير، ويُكتب حديثه للاعتبار، وقد أخرج له مسلم في الشواهد، وعلّق له البخاري، وقد توبع هشام على هذه الرواية عن نافع.

وأما رواية أبان بن صالح:

فأخرجها الحاكم في «تاريخه» من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن نافع قال: كنت أمسك المصحف على ابن عمر، فذكر الحديث بطوله نحو ما تقدم. وهو في القطعة التي انقطعت روايتها من «صحيح ابن خزيمة» أخرجه الحاكم عن أبي علي الحافظ النيسابوري عن ابن خزيمة وقال أبو علي: "لم أكتبه إلا عن ابن خزيمة".

قلت: أبان بن صالح صدوق، علّق له البخاري بعض الأحاديث.

وأما رواية إسحاق بن أبي فروة:

فأخرجها أحمد بن أسامة التجيبي في «فوائده» من طريق أبي علقمة القروي عنه عن نافع قال: لي ابن عمر: أمسك علي المصحف فذكر الحديث بطوله نحو رواية الدراوردي عن شيوخه الثلاثة.

قلت: قد تقدم الكلام على هذه الرواية ورواية الدراوردي أيضاً.

·       كلام ابن حجر وغيره حول فعل البخاري، وتعقب العيني لابن حجر، والرد عليه!

قال ابن حجر في «فتح الباري» (8/189): "قوله (يأتيها في) هكذا وقع في جميع النسخ لم يذكر ما بعد الظرف وهو المجرور، ووقع في الجمع بين الصحيحين للحميدي (يأتيها في الفرج)، وهو من عنده بحسب ما فهمه، ثم وقفت على سلفه فيه وهو البرقاني، فرأيت في نسخة الصغاني، زاد البرقاني: يعني الفرج، وليس مطابقاً لما في نفس الرواية عن ابن عمر لما سأذكره، وقد قال أبو بكر ابن العربي في سراج المريدين: أورد البخاري هذا الحديث في التفسير فقال (يأتيها في) وترك بياضاً، والمسألة مشهورة صنّف فيها محمد بن سحنون جزءاً، وصنّف فيها محمد بن شعبان كتاباً، وبيّن أن حديث ابن عمر في إتيان المرأة في دبرها. وأما رواية عبدالصمد فأخرجها ابن جرير في التفسير عن أبي قلابة الرقاشي عن عبدالصمد بن عبدالوارث: حدثني أبي، فذكره بلفظ: (يأتيها في الدبر)، وهو يؤيد قول ابن العربي، ويرد قول الحميدي، وهذا الذي استعمله البخاري نوع من أنواع البديع يسمى الاكتفاء، ولا بد له من نكتة يحسن بسببها استعماله".

قلت: الحميدي ومن قبله البرقاني إنما فهموا هذا من طريقة تخريج البخاري للحديث، نعم رواية نافع لا تؤيده، لكن هذا هو الراجح، وهذا ما أراده البخاري من عدم ذكره اللفظ كما بينته سابقاً.

والذي قاله الحميدي تفسيراً كأنه بسبب أنه أشار إلى رواية أيوب: "يأتيها فيه" والصواب: "يأتيها في" دون ذكر الضمير.

قال في «الجمع بين الصحيحين»: "وفي عقبه من حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: {فأتوا حرثكم أنى شئتم}،: يأتيها فيه. يعني في الفرج. وإلى ذلك أشار البخاري؛ لأنه أورد بعده في تفسير هذه الآية حديث جابر بن عبدالله الأنصاري، قال: كانت اليهود تقول:

إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت: {نساؤكم حرث لكم}".

وقد تعقّب العيني ابن حجر، فقال في «عمدة القاري» (18/117): "وقال بعضهم: (هو من عنده بحسب فهمه وليس مطابقاً لما في نفس الأمر) وأيد كلامه بقوله: (وقد قال أبو بكر بن العربي: أورد البخاري هذا الحديث في التفسير فقال: يأتيها في وترك بياضا) انتهى. قلت: لا نُسلِّم عدم المطابقة لما في نفس الأمر؛ لأن ما في نفس الأمر عند من لا يرى إباحة إتيان النساء في أدبارهن أن يقدر بعد كلمة (في) إما لفظ (في الفرج) أو (في القبل) أو (في موضع الحرث)، والظاهر من حال البخاري أنه لا يرى إباحة ذلك، ولكن لما ورد في حديث أبي سعيد الخدري ما يفهم منه إباحة ذلك، ووردت أحاديث كثيرة في منع ذلك تأمل في ذلك ولم يترجح عنده في ذلك الوقت أحد الأمرين فترك بياضاً بعد (في) ليكتب فيه ما يترجح عنده من ذلك، والظاهر أنه لم يدركه فبقي البياض بعده مستمراً فجاء الحميدي وقدر ذلك حيث قال: (يأتيها في الفرج)، نظراً إلى حال البخاري أنه لا يرى خلافه، ولو كان الحميدي علم من حال البخاري أنه يبيح الإتيان في إدبار النساء لم يقدر هذا بل كان يقدر (يأتيها في أي موضع شاء) كما صرح في رواية ابن جرير في نفس حديث عبدالصمد (يأتيها في دبرها)، ثم قال هذا القائل: (هذا الذي استعمله البخاري نوع من أنواع البديع يسمى الاكتفاء، ولا بد له من نكتة يحسن سببها استعماله) قلت: ليت شعري من قال من أهل صناعة البديع أن حذف المجرور وذكر الجار وحده من أنواع البديع والاكتفاء إنما يكون في شيئين متضادين يذكر أحدها ويكتفي به عن الآخر كما في قوله تعالى {سرابيل تقيكم الحر} [النحل:81]، والتقدير والبرد أيضاً، ولم يبين أيضاً ما هو المحسن لذلك على أن جمهور النحاة لا يجوزون حذف المجرور إلا أن بعضهم قد جوز ذلك في ضرورة الشعر" انتهى.

قلت: اعتراض العيني منقوض، فالبخاري لم يتأمل، ولم يترك ذلك بياضاً حتى يترجح له شيئا في ذلك، وإنما هو قصد ذلك؛ لأن الرواية عند شيخه إسحاق في مسنده وتفسيره: (في النساء في أدبارهن)، فأين عدم الترجح الذي زعمته يا عينيّ! والتقدير من البرقاني والحميدي إنما هو فهم منهما كما ذكر ابن حجر لبيان رأي البخاري في المسألة.

وأما المسألة البلاغية فيما يتعلق بالاكتفاء فما ذكره العيني عن أهل صناعة البديع صحيح، لكن الحافظ ابن حجر لم يرد هذا الذي اعترض به العيني، وإنما أراد بالاكتفاء الإشارة للمقصود وخاصة مع إيراده حديث جابر بعد حديث نافع عن ابن عمر والذي يبيّن مفهوم حديث ابن عمر، والله أعلم.

·       المتابعات التي ذكرها ابن حجر لنافع في «الفتح»:

قال ابن حجر: "وتابع نافعاً على ذلك زيد بن أسلم عن ابن عمر، وروايته عند النسائي بإسناد صحيح، وتكلّم الأزدي في بعض رواته، وردّ عليه ابن عبدالبر فأصاب، قال: (ورواية ابن عمر لهذا المعنى صحيحة مشهورة من رواية نافع عنه بغير نكير أن يرويها عنه زيد بن أسلم)، قلت: وقد رواه عن عبدالله بن عمر أيضاً: ابنه عبيدالله، أخرجه النسائي أيضاً، وسعيد بن يسار وسالم بن عبدالله بن عمر عن أبيه مثل ما قال نافع، وروايتهما عنه عند النسائي وابن جرير ولفظه عن عبدالرحمن بن القاسم، قلت لمالك: إن ناساً يروون عن سالم: كذب العبد على أبي، فقال مالك: أشهد على يزيد بن رومان أنه أخبرني عن سالم بن عبدالله بن عمر عن أبيه مثل ما قال نافع، فقلت له: أن الحارث بن يعقوب يروي عن سعيد بن يسار عن ابن عمر أنه قال: أفّ، أو يفعل ذلك مسلم! فقال مالك: أشهد على ربيعة لأخبرني عن سعيد بن يسار عن ابن عمر مثل ما قال نافع، وأخرجه الدارقطني من طريق عبدالرحمن بن القاسم عن مالك، وقال: هذا محفوظ عن مالك صحيح"، انتهى.

قلت: ذكر ابن حجر أن نافعاً تابعه: زيد بن أسلم، وعُبيدالله بن عبدالله بن عمر، وسعيد بن يسار، وسالم بن عبدالله بن عمر.

أما متابعة زيد بن أسلم:

فقد أخرجها النسائي في «سننه» (5/316)، وابن جرير في «تفسيره» (2/395)، والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» برقم (6117) عن مُحَمَّد بن عَبْدِاللهِ بنِ عَبْدِالْحَكَمِ، قال: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بنُ أَبِي أُوَيْسٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بنُ بِلَالٍ، عَنْ زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَجُلًا أَتَى امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِها فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ مِنْ ذَلِكَ وَجْدًا شَدِيدًا، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}».

قال النسائي: "خالفَهُ هِشَامُ بنُ سَعْدٍ فَرَوَاهُ عَنْ زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ عن عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ".

وحديث هشام أخرجه ابن جرير في «تفسيره» (2/395) عن يونس بن عبدالأعلى. وأبو يعلى في «مسنده» (2/354) عن الحارث بن سُريج. والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» برقم (6118) من طريق يعقوب بن حُميد بن كاسب، كلهم عن عبدالله بن نافع الصائغ، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد، قال: «أثفر رجل امرأته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أثفر فلان امرأته، فأنزل الله {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم}».

قلت: وهذا حديث منكر سنداً ومتناً. وقد أعلّه أبو حاتم الرازي وحكم بنكارته.

قال ابن ابي حاتم: سألتُ أَبِي عَنْ حديثٍ رَوَاهُ لَنَا محمد بن عبدالله بن عبد الحَكَم، عن أَبِي بَكْرِ بنِ أَبِي أُوَيْس، عن سُلَيمان بنِ بِلالٍ، عَنْ زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ، عن ابن عمر، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {نِسَاؤُكُمْ...}؟

قال أبي: "رواه عبدالله بنُ نَافِعٍ الصَّائغ، عَنْ دَاوُدَ بنِ قَيْسٍ، عَنْ زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاء بْنِ يَسَار، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ذلك".

قال أَبي: "هذا أشبهُ، وهذا أَيْضًا مُنكَرٌ، وهُوَ أشبهُ مِنْ حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ؛ لأنَّ الناسَ أَقْبَلُوا قِبَلَ نافعٍ فِيمَا حَكَى عَنِ ابنِ عُمَرَ في قوله: {نِسَاؤُكُمْ...} فِي الرُّخْصَة، فَلَوْ كان عندَ زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ عَنِ ابنِ عُمَرَ، لَكَانُوا لا يُولَعُونَ بِنَافِعٍ، وأَوَّلَ مَا رأيتُ حديثَ ابنِ عبدالحكم استغرَبْنَاهُ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لِي عِلَّتُهُ".

قلت: قد استغرب أبو حاتم حديث ابن عبدالحكم لتفرده به بهذا الإسناد الذي ينبغي أن يكون مشهوراً في المدينة، ثم تبيّن له أنه معلول برواية عبدالله بن نافع الصائغ، ووقع عنده: عن "داود بن قيس"! وهو خطأ، والصواب أنه عن "هشام بن سعد" كما مر في تخريجه، وهذا لا يؤثر في الحكم، فسواء أكان عن داود أم هشام فالحديث تفرد به عبدالله بن نافع الصائغ وهو صدوق سيء الحفظ لا يُحتج بما انفرد به، ورجّح أبو حاتم هذا الإسناد واستنكره كذلك؛ لأنه لو كان صحيحاً عن زيد بن أسلم عن ابن عمر لأقبل عليه الناس يسمعونه منه وما ذهبوا لنافع في حديث الرخصة، فالمعروف أن الذي تفرد بتلك الرخصة عن ابن عمر هو نافع، وفي هذا إشارة من أبي حاتم إلى أن كلّ حديث رُوي عن ابن عمر في هذا فهو منكر إلا حديث نافع.

وبهذا يتبيّن لنا أن الحافظ ابن حجر قد حكم على ظاهر الإسناد فصححه ولم يتنبّه لعلته! وأما الذي تكلّم عليه الأزدي من رواته فيمن أشار إليه ابن حجر فهو أبو بكر بن أبي أويس الأعشى، وهو ثقة، ولكنه ظنه آخر فضعفّه.

قال ابن حجر في «التقريب» (ص333): "عبدالحميد بن عبدالله بن عبدالله بن أويس الأصبحي، أبو بكر بن أبي أويس، مشهور بكنيته كأبيه ثقة، ووقع عند الأزدي: أبو بكر الأعشى في إسناد حديث فنسبه إلى الوضع، فلم يصب".

وقال في «مقدمة فتح الباري» (ص416): "وقال الأزدي في ضعفائه: أبو بكر الأعشى يضع الحديث، فكأنه ظن أنه آخر غير هذا، وقد بالغ أبو عمر ابن عبدالبر في الرد على الأزدي، فقال: هذا رجم بالظن الفاسد وكذب محض إلى آخر كلامه".

وقد مرت رواية أخرى عن هشام بن سعد عن نافع عن ابن عمر، فيُحتمل أنها أصل رواية الصائغ فأخطأ فرواها بهذا الإسناد سالكاً فيها الجادة، وقد تقدّم الكلام عليها.

وقد مال ابن حجر إلى صحة الرواية التي جاءت عن زيد بن أسلم! فقال في «الفتح»: "وروى الخطيب في الرواة عن مالك من طريق إسرائيل بن روح قال: سألت مالكاً عن ذلك، فقال: ما أنتم قوم عرب هل يكون الحرث إلا موضع الزرع، وعلى هذه القصة اعتمد المتأخرون من المالكية، فلعل مالكاً رجع عن قوله الأول، أو كان يرى أن العمل على خلاف حديث ابن عمر فلم يعمل به، وإن كانت الرواية فيه صحيحة على قاعدته، ولم ينفرد ابن عمر بسبب هذا النزول، فقد أخرج أبو يعلى وابن مردويه وابن جرير والطحاوي من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري: أن رجلاً أصاب امرأته في دبرها فأنكر الناس ذلك عليه، وقالوا: نعيرها، فأنزل الله عز وجل هذه الآية، وعلقه النسائي عن هشام بن سعد عن زيد، وهذا السبب في نزول هذه الآية مشهور، وكأن حديث أبي سعيد لم يبلغ ابن عباس وبلغه حديث ابن عمر فوهمه فيه، فروى أبو داود من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: إن ابن عمر وهم والله يغفر له، إنما كان هذا الحي من الأنصار وهم أهل وثن مع هذا الحي من يهود وهم أهل كتاب، فكانوا يأخذون بكثير من فعلهم، وكان أهل الكتاب لا يأتون النساء إلا على حرف وذلك أستر ما تكون المرأة، فأخذ ذلك الأنصار عنهم، وكان هذا الحي من قريش يتلذذون بنسائهم مقبلات ومدبرات ومستلقيات فتزوج رجل من المهاجرين امرأة من الأنصار فذهب يفعل فيها ذلك فامتنعت، فسرى أمرهما حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} مقبلات ومدبرات ومستلقيات في الفرج، أخرجه أحمد والترمذي من وجه آخر صحيح عن ابن عباس قال: جاء عمر، فقال: يا رسول الله، هلكت حولت رحلي البارحة فأنزلت هذه الآية {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة، وهذا الذي حمل عليه الآية موافق لحديث جابر المذكور في الباب في سبب نزول الآية".

قلت: لم تصح الرواية عن زيد بن أسلم في هذا، وقد أصاب ابن عباس في كلامه إن صحت الرواية عنه، فإنها من رواية ابن إسحاق، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله.

وأما متابعة عبيدالله بن عبدالله بن عمر:

فأخرجها النسائي في «سننه» (5/315) برقم (8980) قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِاللهِ بنِ عَمَّارٍ الْمُوصِلِيُّ، قال: حَدَّثَنَا مَعْنٌ - هو: ابن عيسى القزاز المدني -، قال: حَدَّثَنِي خَارِجَةُ بنُ عَبْدِاللهِ بنِ سُلَيْمَانَ بنِ زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ، عَنْ يَزِيدَ بنِ رُومَانَ، عَنْ عُبَيْدِاللهِ بنِ عَبْدِاللهِ بنِ عُمَرَ: «أَنَّ ابنَ عُمَرَ كَانَ لا يَرَى بَأْسًا أَنْ يَأْتِي الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِها».

قالَ مَعْنٌ: وَسَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: «مَا عَلِمْتُ حَرَامًا».

قلت: تفرد به خارجة، وهو صدوق له أوهام ومناكير.

قال أبو طالب عن أحمد: "ضعيف الحديث"، وقال أبو حاتم: "شيخ حديثه صالح"، وقال أبو داود: "شيخ"، وقال الأزدي: "اختلفوا فيه ولا بأس به، وحديثه مقبول كثير المنكر، وهو إلى الصدق أقرب"، وضعفه الدارقطني.

وقال ابن معين: "ليس به بأس"، وقال ابن عدي: "وهو عندي لا بأس به وبرواياته وإن كان ينفرد عن يزيد بن رومان بما ذكره البخاري"! وذكره ابن حبان في الثقات، وقال في المشاهير: "يهم في الشي بعد الشيء".

قلت: حاصل أمره أنه لا يُحتج بما انفرد به، وهذا منها، وهو منكر!

وأما متابعة سعيد بن يَسار:

فأخرجها النسائي في «سننه» (5/315) قال: أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بنُ سُلَيْمَانَ، قال: حَدَّثَنَا أَصْبُغُ بنُ الْفَرَجِ، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُالرَّحْمَنِ بنُ الْقَاسِمِ، قالَ: قُلْتُ لِمَالِكٍ: إِنَّ عِنْدَنَا بِمِصْرَ اللَّيْثَ بنَ سَعْدٍ يُحَدِّثُ عَنِ الْحَارِثِ بنِ يَعْقُوبَ، عَنْ سَعِيدِ بنِ يَسَارٍ، قَالَ: قُلْتُ لِابنِ عُمَرَ: إِنَّا نَشْتَرِي الْجَوَارِيَ فَنُحَمِّضُ لَهُنَّ قَالَ: «وَمَا التَّحْمِيضُ؟» قَالَ: نَأْتِيهُنَّ فِي أَدْبَارِهِنَّ قالَ: «أَف، أَوَ يَعْمَلُ هذا مُسْلِمٌ؟»، فقالَ لِي مَالِكٌ: «فَأَشْهَدُ عَلَى رَبِيعَةَ لَحَدَّثَنِي عَنْ سَعِيدِ بنِ يَسَارٍ أَنَّهُ سَأَلَ ابنَ عُمَرَ عَنْهُ» فقالَ: «لا بَأْسَ بِهِ».

قلت: أما حديث النهي فرواه الطحاوي في «شرح مشكل الآثار» عن الربيع المرادي، عن عبدالله بن وهب، عن الليث بن سعد، به.

ورواه الدارمي في «سننه» (1/737) عن عَبْداللَّهِ بن صَالِحٍ، عن اللَّيْث، به.

قال محققه حسين سليم أسد: "إسناده ضعيف، عبدالله بن صالح كاتب الليث سيئ الحفظ جداً".

قلت: عبدالله بن صالح فيه كلام، ولكن هذا من صحيح حديثه، وقد توبع عليه، تابعه ابن وهب وقتيبة بن سعيد.

قال الحافظ ابن كثير بعد أن ساق رواية الدارمي في «تفسيره» (1/265): "وكذا رواه ابن وهب وقتيبة عن الليث به، وهذا إسناد صحيح ونص صريح منه بتحريم ذلك، فكل ما ورد عنه مما يحتمل ويحتمل فهو مردود إلى هذا المحكم".

وأما حديث ربيعة فأخرجه الطحاوي في «شرح مشكل الآثار» قال: حدثنا أبو قرة محمد بن حميد الرعيني، قال: حدثنا أصبغ بن الفرج وأبو زيد بن أبي الغمر، قالا: قال ابن القاسم: وحدثني مالك، قال: حدثني ربيعة بن أبي عبدالرحمن، عن أبي الحباب سعيد بن يسار أنه سأل ابن عمر عنه - يعني: وطء النساء في أدبارهن، فقال: «لا بأس به».

قال الطحاوي بعد أن نقل كلا الأثرين: "فهذا ابن عمر قد روي عنه ضد ما ذكرت، وإذا كان ذلك كذلك، كان كأنه لم يرو عنه فيه، ولقد قال ميمون بن مهران في ذلك ما قد حدثنا فهد بن سليمان، وإسحاق بن محمد بن معمر قالا: حدثنا علي بن معبد، قال: حدثنا عبيدالله بن عمرو، عن ميمون بن مهران، وذكر له عن نافع ما حكى عنه من إباحة وطء النساء في أدبارهن، فقال: إنما قال ذلك نافع بعدما كبر، وذهب عقله. وقد روي عن سالم نفي ذلك، عن ابن عمر".

قلت: التحميض في لغة العرب: هو «فِعْلُ قوْمِ لوطٍ بالنساءِ والرجال» كما يقول ابن سيده في «المُحْكَم».

وقال ابن الأثير في «النهاية» بعد أن ساق هذا الخبر: (أحْمَضْتُ الرجُل عن الأمر: أي حَوّلتُه عنه، وهو من أحْمَضَت الإبلُ إذا مَلَّت رَعْيَ الخُلّة - وهو الحُلْو من النبات - اشْتَهت الحَمْض فتَحوّلت إليه).

وفي «تاج العروس»: «إِذَا أَتَى الرَّجُلُ المَرْأَةَ في دُبُرِهَا فقد حَمَّضَ تَحْمِيضاً، وهو مَجَاز، كأَنَّه تَحَوَّلَ من خَيْرِ المَكَانَيْنِ إِلى شَرِّهمَا شَهْوَةً مَعْكُوسَةً..».

وهنا قد رُوي عن ابن عمر أمراً متناقضاً! ويستحيل أن يكون التناقض منه - رضي الله عنه - وعليه فلا يُستدل بهذه الروايات عنه.

وأما متابعة سالم بن عبدالله بن عمر:

فأخرجها الطبري في «تفسيره» (2/394) قال: حدثني عبدالرحمن بن عبدالله بن عبدالحكم، قال: حدثنا أبو زيد عبدالرحمن بن أحمد بن أبي الغمر، قال: حدثني عبدالرحمن بن القاسم، عن مالك بن أنس أنه قيل له: يا أبا عبدالله، إن الناس يروون عن سالم: كذب العبد أو العلج على أبي؟ فقال مالك: «أشهد على يزيد بن رومان أنه أخبرني عن سالم بن عبدالله عن ابن عمر مثل ما قال نافع».

قلت: تفرد به ابن أبي الغمر المصري، وهو مستور الحال، وقد رُوي عن سالم أنه وهّم نافع في ذلك.

أخرجه الطحاوي في «شرح مشكل الآثار» من طريق عطّاف بن خالد، عن موسى بن عبدالله بن الحسن: أن أباه سأل سالم بن عبدالله أن يحدثه بحديث نافع، عن ابن عمر: «أنه كان لا يرى بأساً في إتيان النساء في أدبارهن»، فقال سالم: "كذب العبد، - أو قال: أخطأ، إنما قال: لا بأس أن يؤتين في فروجهن من أدبارهن".

وأخرجه أبو طاهر المخلّص في «المخلصيات» من طريق سلمة بن بِشر بن صيفيّ الدمشقي، قال: أخبرنا موسى بنُ عبدِاللهِ بنِ حسنِ بنِ حسنِ بنِ عليٍّ بن أبي طالب، قالَ: حدثنا أبي أنَّ رجلاً مِن ولدِ عثمانَ بنِ عفانَ أخبَره أنَّ نافعاً رَوى عن ابنِ عمرَ أنَّه قال: «لا بأسَ أَن تُؤتَى المرأةُ في دُبرِها». قال: فأَتيتُ سالمَ بنَ عبدِاللهِ فأخبرتُه بما رَوى نافعٌ عن ابنِ عمرَ، فقالَ: "كذبَ العبدُ - أو أخطأَ العبدُ -، إنَّما كانَ ابنُ عمرَ يقولُ: يأْتيها مُقبلةً ومُدبرةً في الفرجِ".

قلت: تفرد به موسى بن عبدالله بن حسن.

وقد ذكره العقيلي في «الضعفاء» (4/159) ثم ساق عن البخاري أنه قال: "موسى بن عبدالله بن الحسن عن أبيه: فقلت لسالم في أدبار النساء، فقال: كذب العبد أو أخطأ". قال البخاري: "فيه نظر".

ثم ساق العقيلي الحديث من طريق مروان بن محمد الطاطري، قال: حدثنا موسى بن عبدالله بن الحسن، قال حدثني أبي، قال: سألت سالم بن عبدالله عن قول نافع عن ابن عمر رضي الله عنه في إتيان المرأة في دبرها؟ فقال: "كذب وأثم"، قال: ثم سألت عبدالله بن عبدالله بن عمر، فقال: "بئس ما قال"، ولم يقل "كذب"، قال: ثم سألت عبدالله بن عبدالحميد بن زيد بن الخطاب، فقال: "بئس ما قال".

قلت: نعم الظاهر أن البخاري ينكر على موسى قضية تكذيب سالم لنافع في تلك المسألة! لكن موسى هذا لا بأس به، وإنما أورده العقيلي لقول البخاري فيه! وما رواه عن أبيه من سؤال مما يُقبل لبُعد الوهم فيه كما يحدث في الأحاديث المرفوعة.

قال الخطيب: "روى عن أبيه أشياء كثيرة".

وقال عبدالله بن أحمد في «العلل ومعرفة الرجال» (2/506): سمعت أبي يقول: "رأيت موسى بن عبدالله بن حسن، وكان رجلاً صالحاً، وهو من ولد الحسن بن علي بن أبي طالب".

ورآه يحيى بن معين ووثقه، واختفى بعد قتل أخويه محمد وإبراهيم مدة، ثم ظفر به المنصور فضربه، ثم عفا عنه.

وروى الطبري في «تفسيره» (2/394) قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: أخبرنا عمرو بن طارق، قال: أخبرنا يحيى بن أيوب، عن موسى بن أيوب الغافقي، قال: قلت لأبي ماجد الزيادي: إن نافعاً يُحدِّث عن ابن عمر في دبر المرأة! فقال: "كذب نافع، صحبت ابن عمر ونافع مملوك فسمعته يقول: ما نظرت إلى فرج امرأتي منذ كذا وكذا".

·       كيف وقع الوهم لنافع في هذا النقل عن ابن عمر!

والأقرب أن نافعاً أخطأ في الفهم عن ابن عمر، وإنما قصد بإتيان المرأة في دبرها أي من خلفها في موضع الحرث = القُبل.

وكانت في نافع عُجمة وكان يلحن.

قال مُطرِّف بن عبدالله عن مالك قال: "كان في نافع حدة"، ثم حكى مالك: "أنه كان يلاطفه ويداريه، ويقال: كان في نافع لكنة وعجمة".

وقال إسماعيل بن أمية: "كنا نرد على نافع اللحن فيأبى".

وروى ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (61/437) من طريق أبي بكر البرقاني قال: قرئ على عبدالله بن إبراهيم بن أيوب - وأنا أسمع -: حدثكم أحمد بن عبدالرحمن بن مرزوق: حدثنا عمر بن محمد: حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أمية قال: «كنا نريد نافعاً على أن لا يلحن، فيأبى إلا الذي سمع».

ثم رواه من طريق عمرو الناقد قال: سمعت سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أمية، قال: «كنا نرد نافعاً على اللحن فيأبى علينا».

ثم رواه من طريق إسحاق ابن أبي إسرائيل، قال: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أمية، قال: «كنا نرد نافعاً عن اللحن فيأبى فيقول: لا إلا الذي سمعته».

ثم ساق ابن عساكر من طريق عتّاب، عن خصيف قال: سألت سعيد بن جبير عن الذي روى نافع عن ابن عمر في قوله {فائتوا حرثكم أنى شئتم}؟ فقال سعيد: كذب نافع - أو قال: أخطأ نافع -، ثم قال لي خصيف: "إن ابن عمر لم يكن يرى العزل، فأي عزل أشد مما قال أمرت أن تعتزل في المحيض".

ثم ساق رواية أبي طاهر المخلص عن ابن منيع، عن دواد بن رشيد، عن سلمة بن بشر، عن موسى بن عبدالله بن حسن بن حسين بن علي، عن أبيه أن رجلاً من ولد عثمان بن عفان.. القصة.

ثم ساقه من طريق أبي أمية الطرسوسي: أخبرنا المعلى بن منصور: أخبرنا موسى بن عبدالله بن حسن، عن أبيه قال: أتى محمد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان فذكر أن نافعاً ذكر أنه حلال أن يؤتين النساء في أدبارهن، وأن عبدالله ذكر ذلك فأعظمت ذلك، فلقيت عبدالله بن عبدالله بن عمر وعبدالله بن عبدالرحمن بن زيد بن الخطاب فأخبرتهما بما ذكر نافع، فقالا: "ليس ذلك كذلك، كان عبدالله بن عمر يحدثنا أن النساء كن يؤتين في أقبالهن وهن موليات، فقالت اليهود: من جاء امرأته وهي مولية جاء ابنه أحول! فأنزل الله جل ثناؤه {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم}، قال: ثم لقيت سالم بن عبدالله فأخبرته بما قال نافع، فقال: "أخطأ العبد أو كذب"، وحدث عن أبيه بمثل ما حدث الرجلان.

ثم ساق من طريق علي بن سعيد قال: تذاركوا عند عبيدالله بن عمرو حديث نافع في إتيان الدبر، فحدثنا عبيدالله عن ميمون بن مهران قال: "إنما قال هذا نافع بعدما كبر وذهب عقله".

قلت: فظاهر تصرف ابن عساكر - رحمه الله - أنه يرى أن نافعاً أخطأ في فهم ما رواه عن ابن عمر؛ لأنه لما تكلّم عن اللحن عند نافع أتى بهذه الرواية، وهي قرينة قوية على ذلك؛ لأنه أراد أن يدلل على لحنه بهذه الرواية، وأشار إلى أنه ربما أخطأ في هذا الفهم بعدما كبر وذهب عقله.

قال الذهبي في ترجمة نافع من «سير أعلام النبلاء» (5/100): "وبلغنا أنهم تذاكروا حديث إتيان الدبر الذي تفرد به نافع عن مولاه، فقال ميمون بن مهران: إنما قال هذا نافع بعد ما كبر وذهب عقله، وروي أن سالماً قالوا له: هذا عن نافع! فقال: كذب العبد أو أخطأ العبد، إنما كان ابن عمر يقول: يأتيها مقبلة ومدبرة في الفرج".

قال: "قلت: وقد جاءت رواية أخرى عنه بتحريم أدبار النساء، وما جاء عنه بالرخصة فلو صح لما كان صريحاً، بل يحتمل أنه أراد بدبرها من ورائها في القبل، وقد أوضحنا المسألة في مصنف مفيد لا يطالعه عالم إلا ويقطع بتحريم ذلك".

قلت: واللحن هو صرف الكلام عن جهته الصحيحة وترك الصواب، فاللحن هو الخطأ كما في معاجم اللغة.

وقد يأتي اللحن بمعنى الفطنة. قال معاوية للناس: كيفَ ابنُ زيادٍ فيكم؟ قالوا: ظريف على أنه يَلْحَنُ، قال: فذاك أظرف له.

فقد ذهب معاوية إلى اللحن الذي هو فِطنة، وذهبوا هم إلى اللحن الذي هو خطأ.

ولعل سفيان بن عيينة قصد في كلامه عن نافع هذا الأول، فإنه لما روى عن إسماعيل قوله: "كنا نرد نافعاً عن اللحن فيأبى"، قال سفيان: "أي حديث أوثق من حديث نافع".

قلت: لكن الظاهر أنه الخطأ فكانوا يردونه إلى الصواب وهو يأبى إلا ما سمعه بحسب فهمه.

واللحن، بتسكين الحاء: الخطأ، واللَحَن، بفتح الحاء: الفِطنة، وربما سكّنوا الحاء في الفطنة، قال الله عز وجل: {ولَتَعْرِفَنَّهُم في لَحْنِ القولِ}، معناه: في معنى القول، وفي مذهب القول.

وهذا مما يجب أن يتنبه له طالب العلم، فعندما تقرأ في كتب أهل العلم ويمر بك بعض الألفاظ فلا تحملها على المعنى المشتهر أو المعنى الاصطلاحي الذي اصطلح عليه أهل العلم فيما بعد، وإنما ضع اللفظ في سياقه وما يحتمله من معاني اللغة وما يحوطه من قرائن.

كما هنا في لفظ "اللحن" إذا سمعته تقول هو فساد الإعراب، وهذا ما اصطلح عليه أهل العلم، لكن من معانيه: الفطنة، والخطأ.. والخطأ قد يكون في ما يلحن به اللسان من القول فيفسد الإعراب، وقد يكون بالميل عن الصواب في الفهم، فيقلب المعنى.

وهذا الذي حدث لنافع عندما سمع ابن عمر في سبب نزول الآية.

والخلاصة أنه لم يثبت عن ابن عمر أنه أباح إتيان النساء في الدّبر، وإنما أخطأ عليه نافع.

·       اعتراض مُعترِض:

وقد أجاب الأخ الذي ذكرناه آنفاً على هذا الكلام لما أرسلنا له أصل البحث، فقال: "قال أبو صهيب وفقه الله: (الأقرب أن نافعاً أخطأ في الفهم عن ابن عمر، وإنما قصد بإتيان المرأة في دبرها أي من خلفها في موضع الحرث = القُبل. وكانت في نافع عُجمة وكان يلحن......).

قلت: تخطئة نافع هنا تحتاج دليلًا أقوى مما ذكره الشيخ وفقه الله، وكونه كان يلحن أو يخطئ لا يعني التعلل بهذا في ردِّ ما رواه بأصرح عبارة عن ابن عمر! وإنما هذا يحتاج عدة قرائن أخرى، والقرائن الأخرى إنما تشهد بصحة وثبوت وصراحة ما رواه، ولا بأس أن نذكر بعضها هنا فنقول:

1- الأول: أن رواية الدراوردي عن مشايخه الثلاثة عن نافع يبعد معها –بل يستحيل- أن تكون من قبيل اللحن في المعنى الذي وُصِفَ به نافع!

وفيها قول نافع لابن عمر: «فقلت له، من دبرها في قبلها، فقال: لا، إلا في دبرها».

فهذه المراجعة من نافع لابن عمر أصرح ما تكون في الدنيا، ولا ينفع معها تأويل ولا لَحْن ولا شيء غير التسليم لها وحسب!

2- أن نافعًا روى عن ابن عمر الإباحة المطلقة في رواية أخرى غير متعلقة بتفسير الآية المشهورة وسبب نزولها!

أعني: ما رواه سلمة بن شبيب عن عبد الرزاق «في تفسير»: عن سفيان الثوري، عن عمر بن محمد بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر في قوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} «أي: مثله من النساء».

قال سلمة بن شبيب: «وبه يحتج أهل المدينة».

قلت: هذا النص لا ينفع معه تأويل البتة! ولا مخرج منه سوى الإقرار بكون ما فيه هو رأي ابن عمر ومذهبه لا محالة، فإن كان قد أخطأ أو أوهم - كما يقول ابن عباس- أو أخطأ نافع عليه – كما يقول جماعة- في الرواية المشهورة في سبب نزول قوله تعالى: (نساؤكم حرث لكم)، فقوله هنا لا يحتمل سوى أنه كان يرى إتيان النساء في الأدبار مباحًا؛ استدلالًا بتلك الآية الأخرى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ}.

وقول سلمة بن شبيب في آخره: «وبه يحتج أهل المدينة». إشارة أخرى إلى أن كثيرًا من أهل المدينة كانوا يحتجون بهذه الآية نفسها على إباحة ذلك، وقد ورد هذا صريحًا عن محمد بن كعب القرظي عند الطحاوي في «بيان المشكل» غير أن الإسناد إليه مغموز.

3- أن نافعًا لم ينفرد بنقل الإباحة عن ابن عمر البتة، بل تابعه عليها سعيد بن يسار كما مضى من رواية ربيعة الرأي عنه بسند لا مغمز فيه.

4- أن ابن عباس قد جزم بكون ابن عمر قد أوهم في روايته، وهما كانا صاحبيْن متصافِيَيْن بينهما محبة ومودة، فلولا أن ابن عباس بلغه هذا عن عمر من وجه لا يشك في مثله؛ ما كان يجزم بوهمه فيه.

ولا يلزم من هذا أن يكون ابن عباس إنما بلغه ذلك عن ابن عمر من رواية نافع عنه! فهذا تحكُّمٌ ومصادرة وإلزامُ ما لا يلزم.

بل لو قيل: إن ابن عباس سمع هذا من ابن عمر نفسه لَمَا كان ذلك بعيدًا.

ولفظ رواية ابن عباس عند أبي داود: منْ طريق أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «إِنَّ ابنَ عُمَرَ - واللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ - أَوْهَمَ....».

ووقع في رواية الطبراني في آخره: «فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فِي دُبُرِهَا، فَأَوْهَمَ ابْنُ عُمَرَ وَاللهُ يَغْفِرُ لَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ الْحَدِيثُ عَلَى هَذَا». فهذا داخل في جملة رواية الصحابي عن مثله". انتهى كلامه.

قلت: قد بنى الأخ هذا الرأي على صحة الروايات التي ذكرها (رواية الدراوردي، وعمر بن محمد بن زيد، ورواية ربيعة الرأي)! وقد بينت أن رواية الدراوردي منكرة، وكذلك رواية عمر بن محمد بن زيد! وقد أقر الأخ بأن ما في رواية الدراوردي من مراجعة نافع لابن عمر قد تفرد بها الدراوردي! فكيف نقبل تفرده؟! وأما رواية ربيعة عن سعيد بن يسار فإنه قد رُوي ما يناقضها، فسقط الاستدلال بكلتيهما!

وأما نقل سلمة بن شبيب عن أهل المدينة فلا يعني أن هذا هو مذهب ابن عمر، وإنما هو رأي مبني على ما رواه نافع عن ابن عمر، وقد بيّنت أنه قد أخطأ عليه.

وأما قول ابن عباس فقد تكلمت عليه في النقطة الآتية وسيرد عليها الأخ المعترض!

والرواية عن ابن عبّاس فيها ضعف! فكيف يجزم الأخ بنسبتها لابن عباس! وأما أنهما كانا صاحبين فلا يُنكر أبداً، ولا كذلك رواية أحدهما عن الآخر، ولكن يجب إثبات الرواية أولاً ثم الكلام عليها!

ولو صحّ أن ابن عباس قد سمع هذا من ابن عمر فكيف لا يناقشه في ذلك؟! ويبيّن له أنه أخطأ في فهم الآية! فهذا المأمول من الصحابة رضي الله عنهم، وعدم نقل أي مناقشة بينهما يدلّ على أن ابن عباس قد وصله هذا الرأي عن ابن عمر إن صحت الرواية، والله أعلم.

·       ما نُقل عن ابن عباس في ردّه على ابن عمر:

روى أبو داود في «سننه» (2/249) قال: حدثنا عبدالعَزِيزِ بن يحيى أبو الْأَصْبَغِ، قال: حدثني مُحَمَّدٌ - يَعْنِي ابن سَلَمَةَ - عن مُحَمَّدِ بن إسحاق، عن أَبَانَ بن صَالِحٍ، عن مُجَاهِدٍ، عن ابن عَبَّاسٍ، قال: "إِنَّ ابن عُمَرَ - وَاللَّهُ يَغْفِرُ له - أَوْهَمَ إنما كان هذا الْحَيُّ من الْأَنْصَارِ وَهُمْ أَهْلُ وَثَنٍ مع هذا الْحَيِّ من يَهُودَ وَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَكَانُوا يَرَوْنَ لهم فَضْلًا عليهم في الْعِلْمِ فَكَانُوا يَقْتَدُونَ بِكَثِيرٍ من فِعْلِهِمْ، وكان من أَمْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَأْتُوا النِّسَاءَ إلا على حَرْفٍ وَذَلِكَ أَسْتَرُ ما تَكُونُ الْمَرْأَةُ فَكَانَ هذا الْحَيُّ من الْأَنْصَارِ قد أَخَذُوا بِذَلِكَ من فِعْلِهِمْ، وكان هذا الْحَيُّ من قُرَيْشٍ يَشْرَحُونَ النِّسَاءَ شَرْحًا مُنْكَرًا وَيَتَلَذَّذُونَ مِنْهُنَّ مُقْبِلَاتٍ وَمُدْبِرَاتٍ وَمُسْتَلْقِيَاتٍ، فلما قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ تَزَوَّجَ رَجُلٌ منهم امْرَأَةً من الْأَنْصَارِ فَذَهَبَ يَصْنَعُ بها ذلك فَأَنْكَرَتْهُ عليه وَقَالَتْ إنما كنا نُؤْتَى على حَرْفٍ فَاصْنَعْ ذلك وَإِلَّا فَاجْتَنِبْنِي حتى شَرِيَ أَمْرُهُمَا فَبَلَغَ ذلك رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَنْزَلَ الله عز وجل {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}، أَيْ مُقْبِلَاتٍ وَمُدْبِرَاتٍ وَمُسْتَلْقِيَاتٍ - يَعْنِي بِذَلِكَ مَوْضِعَ الْوَلَدِ".

ورواه الحاكم في «المستدرك» (2/212) من طريق عثمان بن سعيد الدارمي، عن عبدالعزيز، به.

قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه بهذه السياقة، إنما اتفقا على حديث محمد بن المنكدر عن جابر في هذا الباب".

ورواه الطبراني في «المعجم الكبير» (11/77) من طريق عبدالرحمن بن مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيّ، عن مُحَمَّدِ بن إِسْحَاقَ، عن أَبَانَ بن صَالِحٍ، عن مُجَاهِدٍ قال: «عَرَضْتُ الْمُصْحَفَ على ابن عَبَّاسٍ من فاتحتِهِ إلى خَاتِمَتِهِ أُوقِفُهُ عليه عِنْدَ كل آيَةٍ منه وَأَسْأَلُهُ عنها حتى انْتَهَيْتُ إلى هذه الآيَةِ {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} فقال ابن عَبَّاسٍ: إِنَّ هذا الْحَيَّ من قُرَيْشٍ يَشْرَحُونَ النِّسَاءَ بِمَكَّةَ وَيَتَلَذَّذُونَ بِهِنَّ مُقْبِلاتٍ وَمُدْبِرَاتٍ، فلما قَدِمُوا الْمَدِينَةَ وَتَزَوَّجُوا في الأَنْصَارِ وَذَهَبُوا لِيَفْعَلُوا بِهِنَّ فأَنْكَرْنَ ذلك! وَقُلْنَ هذا شَيْءٌ لم يكن يُؤْتَى عليه فانْتَشَرَ الْحَدِيثُ حتى انْتَهَى إلى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل في ذلك {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} فمُقْبِلَةً وَإِنْ شِئْتَ فباركةً وَإِنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ مَوْضِعَ الْوَلَدِ لِلْحَرْثِ يقول ائْتِ الْحَرْثَ من حَيْثُ شِئْتَ. فقال ابن عَبَّاسٍ: قال ابن عُمَرَ: في دُبُرِهَا! فَأَوْهَمَ ابن عُمَرَ وَاللَّهُ يَغْفِرُ له، وَإِنَّمَا كان الْحَدِيثُ على هذا».

ورواه الطبري في «تفسيره» عن أبي كُريب عن المحاربي، وعن أبي كريب، عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق بإسناده، ولم يذكرا فيه قول ابن عمر!

قلت: محمد بن إسحاق ضعيف، وكان واسع الرواية، وأبان بن صالح صدوق ليس من رجال الصحيحين، وقد علّق له البخاري، فإن صحّ هذا عن ابن عباس فيكون الخطأ ممن نقل عن ابن عمر وهو نافع، وإنما ردّ ابن عباس على هذا النقل؛ لأن نافعاً ثقة فيما يرويه عن سيّده.

·       اعتراض مُعترِض:

وقد أجاب الأخ الذي ذكرناه آنفاً على هذا الكلام لما أرسلنا له أصل البحث، فقال: "قلت: أما ابن إسحاق فالتحقيق بشأنه أنه صدوق متماسك صالح الرواية، وهو حجة في المغازي والسير.

وأما دعوى أن يكون ابن عباس إنما بلغه ذلك عن ابن عمر من تلميذه نافع؛ فمصادرة مضى الإجابة عليها.

والأصل في قول الصحابي عن مثله: «قال فلان: كذا وكذا ... » هو الاتصال والسماع؛ إلا إذا تعذَّر ذلك بالقرائن المعروفة، وكون الرواية عن ابن عمر مشهورة من طريق مولاه نافع، لا يمنع من أن يكون ابن عباس قد سمعها من ابن عمر نفسه في مجلس من تلك المجالس الكثيرة التي كانت بينهما في رحاب بيت الله الحرام". انتهى كلامه.

قلت: ابن إسحاق صدوق في نفسه، لكنه ضعيف في الرواية، وهو ليس بذاك المتماسك!! وحديثه يُكتب للاعتبار. نعم هو حجة في المغازي والسيّر، وهذه الرواية ليست من ذلك، بل فيها نسبة حكم شرعي لابن عمر – رضي الله عنه-!

ودعوى أن هذه وصلت ابن عباس من طريق نافع مولى ابن عمر فهي ليست مصادرة كما زعم الأخ، بل هو يثبت دعواه بأنه سمعها منه في مجلس من تلك المجالس الكثيرة التي كانت بينهما في رحاب بيت الله الحرام!! وأين مناقشته له إن صح ذلك!

والأقرب أن هذا لم يصح عن ابن عباس؛ لأن الإسناد إليه لا يُحتج به. وعليه فلا يجوز نسبة هذا الرأي لابن عمر بهذه الرواية.

ثمّ إن سبب نزول الآية كما جاء في هذه القصة عن ابن عباس يختلف عن سبب نزولها كما رواه جابر، ورواية جابر قد اتفق عليها ولا يوجد فيها أي مَغمز كما في الرواية التي نُسبت لابن عباس.

·       بيان مَن ألَّف في هذه المسألة:

الكتب التي ألفَتْ في هذه المسألة قديمًا وحديثًا مشهورة موفورة، وأكثرها في تحريم هذا الفعل.

فممن صنّف فيها من القدماء: أسامة بن أحمد أبو سلمة التجيبي المصري، وابن الجوزي والذهبي وأبو العباس القرطبي وجماعة.

ومن المتأخرين: جماعة كثيرون أيضًا، وهناك جملة من البحوث موجودة على الشبكة العنكبوتية متوفرة لمن يريدها. ومنها:

أ- بحث بعنوان: وطء المرأة في الموضع الممنوع منه شرعًا. دراسة حديثية فقهية طبية. للشيخ الدكتور طارق الطواري.

ب- وبحث بعنوان: حكم إتيان المرأة في دبرها. لعبد الجليل مبرور.

·       حول «تحفة المستريض في حكم التحميض»!

وقد صنَّف الحافظ في هذه المسألة: «تحفة المستريض في حكم التحميض».

قال أبو الفيض أحمد بن الصديق الغماري في جؤنة العطار [1/ 59/ الطريفة رقم96]: «ألف الحافظ ابن حجر - رحمه الله - جزءا في وطء المرأة من الدبر سماه: «تحفة المستريض في حكم التحميض» ضعّف فيه جميع الأحاديث الواردة في النهي عن ذلك. وأتى بغرائب عن الأئمة! بل وعن الصحابة والتابعين في ذلك ما يدهش الواقف عليه، وتنحلَّ معه حبوته؛ عجبًا من الاطلاع على تلك النقول الغريبة، وعلى الكتب التي ينقل منها، فرحمه الله ما أحفظه! وما أوسع اطلاعه!...».

قلت: هكذا وصف الغماري هذا الكتاب، وهذا يدلّ على أنه وقف عليه. وقد ذكره الحافظ السخاوي أثناء تعداده لمصنفات شيخه أبي الفضل الحافظ في كتابه: «الجواهر والدرر» [2/ 692 / طبعة دار ابن حزم] إلا أنه قال في وصْفِه: "وهو في طرق أحاديث النهي عن إتيان النساء في أدبارهن، وعللها، والتنبيه على الصحيح منها والسقيم، وذكر ما عارضها، وبيان علله أيضًا، وسياق ما وقف عليه من كلام الصحابة والتابعين، والأئمة المخالفين [كذا في الأصل!] - رضي الله عنهم - في حكم ذلك إباحة ومنعًا، ووفاقًا وخلافًا...".

قلتُ: وقوله: «والتنبيه على الصحيح منها....» يجب أن يُحمل على مَن صححها من الأئمة؛ لأن الغماري ذكر أن الحافظ قد ضعَّف كل الأحاديث الواردة في هذا الباب، وهذا ظاهر صنيعه أيضاً في غير كتاب من تصانيفه، كالتلخيص الحبير وغيره، ولكنه قال في «الفتح»: "قلت: لكن طرقها كثيرة فمجموعها صالح للاحتجاج به...". ثم قال: "فمن الأحاديث الصالحة الإسناد...."، وساق طرفًا من تلك الأحاديث الصالحة الإسناد عنده.

والظاهر أن الحافظ كان متأرجحاً في كلامه في هذه المسألة - وهذا يحدث لمن يؤلف عدة كتب ويتكلم على مسألة معينة، فإنه يذهب فيها مذهباً ثم تراه يحرر المسألة في كتاب آخر فيتغير رأيه، وهكذا.

فكأنه كان يضعّف الأحاديث كما في «التلخيص الحبير» وإقراره الحفاظَ على تضعيفها في بعض مؤلفاته الأخرى... كما قال في «مختصر زوائد مسند البزار» [1/ 583] عن بعض أحاديث الباب: «والحديث منكر لا يصح من وجه، كما صرح بذلك البخاريّ، والبزار، والنسائيّ وغير واحد».

وكأنه بعد ذلك صنّف كتاباً خاصاً في هذه المسألة: «تحفة المستريض في حكم التحميض» وتكلّم على الأحاديث.

ومال في «الفتح» إلى تقوية بعض الروايات في هذه المسألة مما يجعلنا لا ندري حقيقة رأي ابن حجر في هذه المسألة! إلا إذا ثبت ما قاله الغماري من أنه في ذلك الجزء قد ضعّف كلّ الروايات فيكون هذا هو رأيه، والله أعلم.

أما الذين ألَّفوا في الإباحة: فيعدّون على الأصابع قديمًا وحديثًا، منهم: مُحَمَّدُ بنُ سَحْنُونٍ، وَمُحَمَّدُ بنُ شَعْبَانَ وغيرهما.

وللشيخ عبدالله بن يوسف الجديع مصنف كبير في هذه القضية، خلَصَ فيه إلى الإباحة مع الكراهة، فقال فيما نقله عنه بعضهم: «أما كتابي حول إتيان المحل المكروه - كما أطلق عليه بعض أهل العلم - فلم يطبع، وقد استوعبت فيه تحقيق النصوص المروية ودلائلها، ومذاهب أهل العلم، وخلصْتُ فيه: إلى المنع كراهة؛ لعُسْرِ توقِّي النجاسة، ولَمَا قد يترتب من الضرر...».

وذهب تلميذه وخِرِّيجُه عمرو عبدالمنعم سليم المصريّ إلى القول بالإباحة المطلقة دون الكراهة، كما نقله عنه بعضهم!

·       آراء السلف في هذه المسألة، وهل هناك إجماع فيها؟!

ذهب الجمهور إلى تحريم إتيان النساء في أدبارهن، فمن الصحابة: علي بن أبي طالب، وابن عباس، وابن مسعود، وجابر بن عبدالله، وعبدالله بن عمرو بن العاص، وأبو الدرداء، وخزيمة بن ثابت، وأبو هريرة، وعلي بن طلق، وأم سلمة.

ومن التابعين: سعيد بن المسيب، ومجاهد، وإبراهيم النخعي، وأبو سلمة بن عبدالرحمن، وعطاء بن أبي رباح.

ومن الأئمة: سفيان الثوري، وأبو حنيفة، والشافعي في الصحيح عنه، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن الشيباني، وأحمد، وإسحاق بن راهويه، وآخرون كثيرون.

ومن ادّعى أن الأسانيد إلى بعض هؤلاء الأئمة غير ثابتة فعليه أن يأتينا بالدليل، وقد أورد ابن أبي شيبة في «المصنف» (3/529) بعض ذلك عن السلف بالأسانيد الثابتة تحت باب (ما جاء في إتيان النساء في أدبارهن وما جاء فيه من الكراهة).

فهذا اتفاق من السلف على حرمة ذلك، والاختلاف جاء عن ابن عمر، فروى نافع عنه أنه حلال بحسب فهمه، ورُوي عنه المنع، وكذلك اختلف على مالك، فروي عنه الحل والمنع، وكذلك عن الشافعي!

وكأن الإمام مالكا أخذ هذا من نافع، وأخذ الشافعي عنه في القديم، والروايات عنهما فيها اختلاف، ووجود المنع عنهما يدل على أنهما مع الجمهور.

قال أبو بكر بن زياد النيسابوري: حدثني إسماعيل بن حصن: حدثني إسرائيل بن روح، سألت مالك بن أنس: ما تقول في إتيان النساء في أدبارهن؟ قال: ما أنتم إلا قوم عرب، هل يكون الحرث إلا موضع الزرع، لا تعدوا الفرج. قلت: يا أبا عبدالله، إنهم يقولون إنك تقول ذلك! قال: يكذبون عليّ، يكذبون عليّ.

قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» (1/266) بعد أن ساق هذه الرواية: "فهذا هو الثابت عنه، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهم قاطبة، وهو قول سعيد بن المسيب، وأبي سلمة، وعكرمة، وطاوس، وعطاء، وسعيد بن جبير، وعروة بن الزبير، ومجاهد بن جبر، والحسن، وغيرهم من السلف أنهم أنكروا ذلك أشد الانكار، ومنهم من يطلق على فعله الكفر، وهو مذهب جمهور العلماء، وقد حُكي في هذا شيء عن بعض فقهاء المدينة حتى حكوه عن الإمام مالك، وفي صحته نظر!

قال الطحاوي: روى أصبغ بن الفرج عن عبدالرحمن بن القاسم قال: ما أدركت أحداً أقتدي به في ديني يشك أنه حلال - يعني وطء المرأة في دبرها، ثم قرأ {نساؤكم حرث لكم}، ثم قال: فأي شيء أبين من هذا. هذه حكاية الطحاوي، وقد روى الحاكم والدارقطني والخطيب البغدادي عن الإمام مالك من طرق ما يقتضي إباحة ذلك، ولكن في الأسانيد ضعف شديد، وقد استقصاها شيخنا الحافظ أبو عبدالله الذهبي في جزء جمعه في ذلك، والله أعلم.

وقال الطحاوي: حكى لنا محمد بن عبدالله بن عبدالحكم أنه سمع الشافعي يقول: ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحليله ولا تحريمه شيء، والقياس أنه حلال! وقد روى ذلك أبو بكر الخطيب عن أبي سعيد الصيرفي عن أبي العباس الأصم: سمعت محمد بن عبدالله بن عبدالحكم: سمعت الشافعي يقول: فذكره، قال أبو نصر الصباغ: كان الربيع يحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد كذب - يعني ابن عبدالحكم على الشافعي في ذلك؛ لأن الشافعي نص على تحريمه في ستة كتب من كتبه، والله أعلم" انتهى كلام ابن كثير.

وروى الربيع في «الأم» عن الشافعي قال: احتملت الآية معنيين: أحدهما أن تؤتى المرأة حيث شاء زوجها؛ لأن «أنّى» بمعنى أين شئتم، واحتملت أن يراد بالحرث موضع النبات والموضع الذي يراد به الولد هو الفرج دون ما سواه.

قال: فاختلف أصحابنا في ذلك، وأحسب أن كلاً من الفريقين تأول ما وصفت من احتمال الآية، قال: فطلبنا الدلالة فوجدنا حديثين: أحدهما ثابت وهو حديث خزيمة بن ثابت في التحريم فقوي عنده التحريم، وروى الحاكم في مناقب الشافعي من طريق ابن عبدالحكم أنه حكى عن الشافعي مناظرة جرت بينه وبين محمد الحسن في ذلك، وأن ابن الحسن احتج عليه بأن الحرث إنما يكون في الفرج، فقال له: فيكون ما سوى الفرج محرماً فالتزمه، فقال: أرأيت لو وطئها بين ساقيها أو في أعكانها أفي ذلك حرث؟ قال: لا، قال: أفيحرم؟ قال: لا، قال: فكيف تحتج بما لا تقول به! قال الحاكم: لعل الشافعي كان يقول ذلك في القديم، وأما في الجديد فصرح بالتحريم. انتهى.

ويحتمل أن يكون ألزم محمداً بطريق المناظرة، وإن كان لا يقول بذلك، وإنما انتصر لأصحابه المدنيين، والحجة عنده في التحريم غير المسلك الذي سلكه محمد كما يشير إليه كلامه في الأم.

قال ابن حجر: "وقال المازري: اختلف الناس في هذه المسألة وتعلق من قال بالحل بهذه الآية وانفصل عنها من قال يحرم بأنها نزلت بالسبب الوارد في حديث جابر في الرد على اليهود يعني كما في حديث الباب الآتي، قال: والعموم إذا خرج على سبب قصر عليه عند بعض الأصوليين، وعند الأكثر العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهذا يقتضى أن تكون الآية حجة في الجواز، لكن وردت أحاديث كثيرة بالمنع فتكون مخصصة لعموم الآية، وفي تخصيص عموم القرآن ببعض خبر الآحاد خلاف، انتهى.

وذهب جماعة من أئمة الحديث كالبخاري والذهلي والبزار والنسائي وأبي علي النيسابوري إلى أنه لا يثبت فيه شيء. قلت: لكن طرقها كثيرة فمجموعها صالح للاحتجاج به، ويؤيد القول بالتحريم أنّا لو قدمنا أحاديث الإباحة للزم أنه أبيح بعد أن حرم، والأصل عدمه فمن الأحاديث الصالحة الإسناد حديث خزيمة بن ثابت، أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجة وصححه ابن حبان، وحديث أبي هريرة أخرجه أحمد والترمذي، وصححه ابن حبان أيضاً، وحديث بن عباس وقد تقدمت الإشارة إليه، وأخرجه الترمذي من وجه آخر بلفظ: لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلاً أو امرأة في الدبر، وصححه ابن حبان أيضاً، وإذا كان ذلك صلح أن يخصص عموم الآية ويحمل على الإتيان في غير هذا المحل بناء على أن معنى أنى حيث، وهو المتبادر إلى السياق ويغني ذلك عن حملها على معنى آخر غير المتبادر، والله أعلم" انتهى.

قلت: وقد نقل الإجماع والاتفاق على حرمة إتيان النساء في أدبارهنّ: الماوردي وابن حزم - ثم حكى في مُحَلَّاه الخلاف - وابن القيم والعيني وغيرهم!

قال الماوردي في «الحاوي»: «وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدِاللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ، وَابنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، أَمَّا عَلِيٌّ سُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الْأَعْرَافِ: 80]. وأَمَّا ابنُ عَبَّاسٍ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْهُ فَقَالَ: هَذَا يَسْأَلُنِي عَنِ الْكُفْرِ! وَأَمَّا ابنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ فَغَلَّظَا فِيهِ وَحَرَّمَاهُ، وَلَيْسَ لِمَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَصَارَ إِجْمَاعًا».

وقال ابن حزم في «المحلى»: «وَمَا رَوَيْت إبَاحَةَ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ إلَّا عَنْ ابنِ عُمَرَ وَحْدَهُ بِاخْتِلَافٍ عَنْهُ، وَعَنْ نَافِعٍ بِاخْتِلَافٍ عَنْهُ، وَعَنْ مَالِكٍ بِاخْتِلَافٍ عَنْهُ فَقَطْ»!

وقال ابن القيم في «الزاد»: «ومن ها هنا نشأ الغلط على من نقل عنه الإباحة من السلف والأئمة، فإنهم أباحوا أن يكون الدبر طريقا إلى الوطء في الفرج، فيطأ من الدبر لا في الدبر، فاشتبه على السامع من بـ في، ولم يظن بينهما فرقا، فهذا الذي أباحه السلف والأئمة، فغلط عليهم الغالط أقبح الغلط وأفحشه...».

وقال في مكان آخر: «وَطْءُ الْحَلِيلَةِ فِي الدُّبُرِ لَمْ يُبَحْ عَلَى لِسَانِ نَبِيٍّ مِنَ الأْنْبِيَاءِ».

·       مَن نُقل عنه أنه جوّز ذلك!

قال الْقَاضِي عِيَاضٌ: كان الْقَاضِي أبو مُحَمَّدٍ عبداللَّهِ بن إبْرَاهِيمَ الْأَصِيلِيُّ يُجِيزُهُ وَيَذْهَبُ فيه إلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُحَرَّمٍ. وَصَنَّفَ في إبَاحَتِهِ محمد بن سَحْنُونٍ وَمُحَمَّدُ بن شَعْبَانَ.

وحَكَى ابن بَزِيزَةَ في تَفْسِيرِهِ عن عِيسَى بن دِينَارٍ أَنَّهُ كان يقول: "هو أَحَلُّ من الْمَاءِ الْبَارِدِ"!

وقال العيني: "وأما اختلاف العلماء في هذا الباب: فذهب محمد بن كعب القرظي، وسعيد بن يسار المدني، ومالك، إلى إباحة ذلك، واحتجوا في ذلك بما رواه أبو سعيد: أن رجلاً أصاب امرأته في دبرها، فأنكر الناس ذلك عليه، وقالوا أثفرها، فأنزل الله عز وجل: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} [البقرة: 223]، وقالوا: معنى الآية: حيث شئتم من القبل والدبر، وقال عياض: تعلق من قال بالتحليل بظاهر الآية، وقال ابن العربي في كتابه «أحكام القرآن»: جوزته طائفة كثيرة، وقد جمع ذلك ابن شعبان في كتابه «جماع النسوان» وأسند جوازه إلى زمرة كبيرة من الصحابة والتابعين وإلى مالك من روايات كثيرة، وقال أبو بكر الجصاص في كتابه «أحكام القرآن» المشهور عن مالك إباحة ذلك، وأصحابه ينفون عنه هذه المقالة لقبحها وشناعتها، وهي عنه أشهر من أن تدفع بنفيهم عنه، وقد روى محمد بن سعدان عن أبي سليمان الجوزجاني قال: كنت عند مالك بن أنس فسئل عن النكاح في الدبر، فضرب بيده على رأسه وقال: الساعة اغتسلت منه. ورواه عنه ابن القاسم: ما أدركت أحداً أقتدي به في ديني يشك فيه أنه حلال - يعني وطء المرأة في دبرها، ثم قرأ: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} قال: فأي شيء أبين من هذا، وما أشك فيه".

قلت: القصة التي رواها ابن سعدان عن الجوزجاني منكرة! وكأن الجواز كان منتشراً عند أهل المدينة اعتماداً على رواية نافع عن ابن عمر، وقد بينا أنها لا تصح. وأما الاختلاف عن الإمام مالك فالأصح أنه لا يصح عنه.

·       اعتراض مُعترِض:

وقد أجاب الأخ الذي ذكرناه آنفاً على هذا الكلام لما أرسلنا له أصل البحث، فقال: قال أبو صهيب وفقه الله: (كأن الجواز كان منتشراً عند أهل المدينة اعتماداً على رواية نافع عن ابن عمر، وقد بينا أنها لا تصح).

قلت: هذا دفْعٌ بالصدر! ورواية نافع عن عمر ورادة في ثلاث قضايا مختلفة، وكلها صحيح صريح ثابت.

وقد تكلم أبو صهيب على روايتين فقط، وأغفل الكلام على الرواية الثالثة من طريق محمد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان المعروف بالديباج عن نافع عن ابن عمر. بل لَمْ يذكرها الشيخ أصلًا.

ثم إن الصواب في الرواية الأولى المتعلقة بتفسير سبب النزول: الوهم فيها من ابن عمر نفسه، كما جزم به صاحبه عبدالله بن عباس.

ولو سلَّمْنا بوهم نافع عليه فيها خاصة: فلا يلزم من هذا أن يكون قد وهم في الروايتين الآخرتين من نَقْلِه عنه الجواز والإباحة المطلقة.

 ثم قال أبو صهيب وفقه الله: (وأما الاختلاف عن الإمام مالك فالأصح أنه لا يصح عنه.).

بل هذا صحيح ثابت عنه من وجوه. ولم يثبت عنه المنع ولا الرجوع ولا غيرهما. ومَن يُصِرُّ على الجزم بصحة المنع عنه فإنه يلزمه الإتيان بالسند الصحيح إلى مالك بذلك. وأين هو في عالَم الإمكان؟" انتهى كلامه.

قلت: هذا ليس دفعاً بالصّدر! وما قاله الأخ بناه على أنه يصحح هذه الروايات! وقد نسفناها في اليمّ نسفاً.

وأما ما رواه نافع فلا يصح عن ابن عمر، ومن الإجحاف نسبة الوهم في ذلك لابن عمر، وجزم ابن عباس صاحبه بذلك لا يصح عنه كما حققته من قبل.

والرواية التي قال الأخ بأني لم أذكرها من طريق محمد بن عبدالله بن عمرو المعروف بالديباج غفلة منه! فإني ذكرتها لما تكلمت على إشارة ابن عساكر أن هذا الحديث مما وهم فيه نافع بسبب اللحن، فذكرت أنه ساقه من طريق أبي أمية الطرسوسي: أخبرنا المعلى بن منصور: أخبرنا موسى بن عبدالله بن حسن، عن أبيه قال: أتى محمد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان فذكر أن نافعاً ذكر أنه حلال أن يؤتين النساء في أدبارهن، وأن عبدالله ذكر ذلك فأعظمت ذلك، فلقيت عبدالله بن عبدالله بن عمر وعبدالله بن عبدالرحمن بن زيد بن الخطاب فأخبرتهما بما ذكر نافع، فقالا: "ليس ذلك كذلك، كان عبدالله بن عمر يحدثنا أن النساء كن يؤتين في أقبالهن وهن موليات، فقالت اليهود: من جاء امرأته وهي مولية جاء ابنه أحول! فأنزل الله جل ثناؤه {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم}، قال: ثم لقيت سالم بن عبدالله فأخبرته بما قال نافع، فقال: "أخطأ العبد أو كذب"، وحدث عن أبيه بمثل ما حدث الرجلان.

وهذه الرواية حجة عليه، فها هو الديباج ينقل عن نافع الرواية نفسها المعروفة عن نافع، ثم يخبر عبدالله بن عبدالله بن عمر وعبدالله بن عبدالرحمن بن زيد ما حدث به نافع عن ابن عمر، فينكران ذلك عن نافع، ويبيّنان الرواية الصحيحة عن ابن عمر في سبب نزول الآية وهي موافقة لرواية جابر، فانهدم بناء الأخ من قواعده.

وأما ما يتعلق بما رُوي عن الإمام مالك فقد ذكر أهل العلم إنه قد روي عنه الإباحة والمنع.

فقد جاء في كتاب «اختلاف الفقهاء» لابن جرير (ص: 304): "واختلفوا في إتيان النساء في أدبارهن بعد إجماعهم أن للرجل أن يتلذذ من بدن المرأة بكل موضع منه سوى الدبر: فقال مالك: لا بأس بأن يأتي الرجل إمرأته في دُبرها كما يأتيها في قُبلها، حدثنا بذلك يونس عن ابن وهب عنه".

قلت: هذا الكلام ألحقوه في آخر الكتاب المطبوع نقلاً عن السيد مرتضى صاحب «تاج العروس» في كتابه «إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين» للإمام الغزالي في شرح الباب الأول من كتاب النكاح عند الكلام في آفات النكاح وفوائده.

فلا ندري مدى صحة هذا النقل عن ابن جرير! لكن قد روى ابن جرير عن يونس بن عبدالأعلى عن عبدالله بن وهب عن مالك بعض المسائل التي لا توجد إلا عند ابن وهب، وكان قد سمع من مالك أشياء كثيرة، وكان من خواصّه!

وكأن هذا كان منتشراً عن مالك في مصر، فقد ذكر القاضي عياض في «ترتيب المدارك» (3/290): «أبا الحسن علي بن زياد الإسكندراني» وقال: "من رواة مالك المشهورين، من أهل الخير والزهد. يعرف بالمحتسب. ولم يشتهر في الفقهاء من أصحابه، ولكن له رواية عن مالك في الحديث والمسائل. وهو روى عن مالك إنكار مسألة وطء النساء في أدبارهن. قال بعض رواة مالك: حضرت علي بن زياد يسأل مالكاً، فقال عندنا يا أبا عبدالله قوم بمصر يُحدِّثون عنك أنك تجيز وطء النساء في أدبارهن! فقال مالك: كذبوا عليّ عافاك الله".

وهذا يناقض ما رواه ابن وهب عن مالك إن صحّ النقل عنه!

وذكر ابن كثير في «تفسيره» (1/266) عن معن بن عيسى عن مالك أن ذلك حرام.

وقال أبو بكر بن زياد النيسابوري: حدثني إسماعيل بن حصن: حدثني إسرائيل بن روح: سألت مالك بن أنس، ما تقول في إتيان النساء في أدبارهن؟ قال: ما أنتم إلا قوم عرب، هل يكون الحرث إلا موضع الزرع، لا تعدوا الفرج. قلت: يا أبا عبدالله، إنهم يقولون إنك تقول ذلك؟ قال: يكذبون عليّ، يكذبون عليّ.

قال ابن كثير: "فهذا هو الثابت عنه - أي مالك - وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل وأصحابهم قاطبة وهو قول سعيد بن المسيب، وأبي سلمة، وعكرمة، وطاوس، وعطاء، وسعيد بن جبير، وعروة بن الزبير، ومجاهد بن جبر، والحسن، وغيرهم من السلف أنهم أنكروا ذلك أشد الانكار، ومنهم من يطلق على فعله الكفر، وهو مذهب جمهور العلماء".

فالذين يروون المنع عن مالك أكثر، ولهذا قال أهل العلم إن هذا هو الثابت عنه.

ولو صحّ هذا عن مالك فلعله مما أخذه من نافع بحسب الحديث الذي رواه عن ابن عمر - إن صحت رواية مالك عن نافع لهذا الحديث -، ثم رجع مالك عنه، والله أعلم.

وأما ما نسبه ابن شعبان إلى زمرة كبيرة من الصحابة والتابعين بتجويزه فربما اعتمد على روايات ضعيفة ومنكرة في ذلك؛ لأنه لا يعلم أي خلاف بين الصحابة في حرمته إلا ما نُقل عن ابن عمر، وكذلك لا يعرف اختلاف بين التابعين والأئمة على حرمته إلا من تبع نافعاً في ذلك ظناً أنه أحكم الرواية عن ابن عمر.

·       اعتراض مُعترِض:

وقد أجاب الأخ الذي ذكرناه آنفاً على هذا الكلام لما أرسلنا له أصل البحث، فقال: "ثم قال أبو صهيب وفقه الله: (وأما ما نسبه ابن شعبان إلى زمرة كبيرة من الصحابة والتابعين بتجويزه فربما اعتمد على روايات ضعيفة ومنكرة في ذلك؛ لأنه لا يعلم أي خلاف بين الصحابة في حرمته إلا ما نُقل عن ابن عمر،).

قلت: عدم العلم لا يعني العدم، ثم مضى أن الصحابة الذين صح عنهم المنع لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة!

 ثم قال أبو صهيب وفقه الله: (وكذلك لا يعرف اختلاف بين التابعين والأئمة على حرمته إلا من تبع نافعاً في ذلك ظناً أنه أحكم الرواية عن ابن عمر.).

قلت: مضى ما صح عن جماعة من السلف ومَن بعدهم في إباحة هذا العمل، وكلهم أئمة مجتهدون ما فيهم مقلِّد جامد أصلًا، وأكثرهم ذكر دليله على الإباحة دون خبر نافع المشهور عن ابن عمر في سبب النزول.

فسواء أحْكْمَ نافعٌ الرواية عن ابن عمر أوْ لَمْ يُحْكِمْها: فالقول بالإباحة عمن ذكرناهم سالِمٌ من الخدْش، ولَمْ يذكر واحدٌ من هؤلاء أن دليله على الإباحة هو ما نقله نافع عن ابن عمر"! انتهى كلامه.

قت: نعم عدم العلم لا يعني العدم، ويكفي رأي من نقل عنهم من الصحابة بالمنع، ولو كان هناك رأي آخر عند الصحابة لنقل إلينا، ولعدم نقله جزمنا بعدم وجوده.

وأما قول الأخ بأن الصحابة الذين صح عنهم المنع لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة فهذا كلام مرسل لا دليل عليه! وحتى لو صح هذا عن هذا العدد القليل، فهذا يكفي في نقل المنع عنهم جميعاً لعدم نقل الجواز عنهم، فمن هذا الباب كان إجماعاً.

وأما من صح عنهم القول بالجواز من السلف فهم قليل جداً، وإنما تبعوا نافعاً فيما نقله عن ابن عمر لا كما قال الأخ بأن عندهم أدلة أخرى غير ما نقلوه عن نافع! وإشارته إلى أنهم من أهل الاجتهاد وليس فيهم مقلد فهذا لا شأن له بهذه المسألة، فهم قد اعتمدوا الدليل الذي نقله نافع، فاجتهادهم مبني على هذا الدليل، ولا علاقة بالاجتهاد هنا، فهو أقرب إلى التقليد؛ لأن من جوّز ذلك من أهل المدينة، وأتباع المذهب المالكي، ودليلهم الوحيد هو ما رواه نافع فقط.

وعلى فرض صحة هذا المذهب عن ابن عمر فإنه يخالف رواية الصحابة الآخرين، فيكون هذا القول شاذّاً لا يُعمل به، كما في قول عائشة في رضاع الكبير أو ما نُسب إلى ابن عباس في حلّ نكاح المتعة! فالقاعدة أنه إذا كان هناك رأي لصحابي وقد خالفه الصحابة في ذلك فإن قوله هذا لا يُعمل به.

وأما الرواية التي أشار إليها الجصاص عن أبي سليمان الجوزجاني الفقيه فهي منكرة! ولم نقف على إسنادها، والجوزجاني من أصحاب محمد بن الحسن الشيباني، ولا نعرف أنه لقي مالكاً! فالله أعلم.

·       دعوى من قال بأن الإباحة ثابتة عن جماعة من السلف! ومناقشته في ذلك.

قد نقلنا مذهب بعض أهل المدينة وإباحتها اعتماداً على رواية نافع عن ابن عمر. وهذا لا يخرق إجماع الصحابة كما يدّعي بعضهم.

وهذه اعتراضات من بعض الإخوة والجواب عنها:

1- قال الأخ المعترض: "القول بالتحريم لا يثبت إلا عن نفر من الصحابة لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة! فأين إجماعهم في ذلك عند من أنصف من نفسه؟! وكذا الرواية عن السلف في التحريم معدودة محصورة أيضًا! ولأجل هذه الدعاوي والمجازفات وأضرابها نذكر هنا ما حضرنا من القول فيمن ثبت عنهم الإباحة بالأسانيد الثابتة دون المعلولة والمغموزة مما رُوِّيناه عن جماعة من السلف الصالح وأماثل هذه الأمة. فمنهم:

1- ابن عمر:

وهو ثابت عنه من طرق لا محيد عنها في ثبوت الإسناد ودلالة الخبر.

وأقوى ما استدل به مَنْ ينفي عنه هذا الخطب: أمران:

1- الأول: هو صَرْفُه عن ظاهره بدعوى أن مراده هو الإتيان من الدبر في القُبُل! وهذا مع استكراهه يدفعه أمران بل ثلاثة:

أ- رواية الدراوردي عن عبيد الله بن عمر العمري وابن أبي ذئب ومالك بن أنس كلهم عن نافع أنه قال لابن عمر: «من دبرها في قبلها؟ قال: لا إلا في دبرها».

وهذا أصرح ما يكون في الدنيا، وفي سياق الدراوردي قصة تدل على أنه حفظ هذا الخبر عن مشايخه الثلاثة، لا سيما وقد توبع على أصله عن مشايخه جميعًا.

ب- وما رواه عبد الرزاق (في تفسيره): عن سفيان الثوري، عن عمر بن محمد بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر في قوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} «أي: مثله من النساء».

وهذا صريح جدًا في الدلالة على المطلوب، وهي قصة أخرى تدل على أن ابن عمر كان يرى ذلك مباحًا في النساء مطلقًا، ويستدل على ذلك بهذه الآية أيضًا.

ج- ما أخرجه ذلك ابن عساكر في «تاريخه» من طريق أبي أمية الطرسوسي عن المعلى بن منصور عن موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن عن أبيه قال: «أتى محمد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان فذكر أن نافعًا ذكر أنه حلال أن يؤتين النساء في أدبارهن، وأن عبدالله (يعني: ابن عمر) ذكر ذلك ....».

وسنده حسن مستقيم. وفيها الإباحة المطلقة من غير تقييد ذلك بسبب نزول آية الإتيان أو غيرها.

2- والأمر الثاني: حديث الليْث بن سَعْدٍ عَنِ الْحَارِثِ بنِ يَعْقُوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: قُلْتُ لِابنِ عُمَرَ: إِنَّا نَشْتَرِي الْجَوَارِيَ فَنُحَمِّضُ لَهُنَّ قَالَ: «وَمَا التَّحْمِيضُ؟» قَالَ: نَأْتِيهُنَّ فِي أَدْبَارِهِنَّ قَالَ: «أَوَّ أَوَ يَعْمَلُ هَذَا مُسْلِمٌ؟».

وهذا الرواية ظاهرها الثبوت إلا أنها معلولة بأمرين:

1- الأول: أن الحارث بن يعقوب قد خولف فيها كلها عن ابن يسار! خالفه رَبِيْعَةُ الرَّأْيُ ابنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَرُّوْخٍ التَّيْمِيُّ مُفْتِي المَدِيْنَةِ، وَعَالِمُ زمانه الثقة الثبت الفقيه المأمون!

فقال أصبغ بن الفرج: أخبرنا عبد الرحمن بن القاسم قال: قلت لمالك إن عندنا بمصر الليث بن سعد يحدث عن الحارث بن يعقوب عن سعيد بن يسار قال: «قلت لابن عمر إنا نشتري الجواري فنحمض لهن، قال: وما التحميض؟ قال: نأتيهن في أدبارهن، قال: أو يعمل هذا مسلم!

فقال لي مالك: فأشهد على ربيعة لحدثني عن سعيد بن يسار أنه سأل ابن عمر عنه فقال: لا بأس به»..

وهذا هو الصحيح المحفوظ عن ابن يسار، والحارث بن يعقوب من ثقات المصريين، لكنه دون ربيعة الرأي في كل شيء! أيَلْحَق ربيعةَ في ثقته وتثبته؟! أم في رياسته وإمامته؟! أم في عِلْمِه وفقهه ومعرفته؟!

ثم إن ربيعة مدني كابن يسار، فهو أعلم به وبحديثه من غيره من الغرباء أمثال: الحارث بن يعقوب وأضرابه.

2- أنا لو سلمنا بثبوته إلى ابن يسار: لكانت رواية نافع عن ابن عمر في الإباحة مقدمة على روايته، ولا يختلف أحدٌ من النقاد والأئمة أنّ نافعًا- مع سالم بن عبد الله- أجلُّ وأثبت وأتقن وأرفع أصحاب ابن عمر مطلقًا، وإنما جرى الخلاف في أيهما يُقدَّم عند التعارض: سالم أم نافع فقط! ولا ثالث لهما البتة في عالَم الإمكان!

فإن قيل: وما يمنع أن يكون ابن عمر كان يقول بالإباحة، ثم رجع عنها في رواية ابن يسار؟!

قلنا: يمنع من هذا أن رواية المنع هي المشهورة المستفيضة بين الناس في زمنه وهو حي، بحيث أنكر ذلك عليه ابن عباس في الخبر المشهور.

فلو كان ابن عمر رجع عن ذلك؛ لاستفاض القول بذلك عنه من وجوه كما استفاض القول بالمنع، ولعرفه مولاه وصاحبه وصديقه وردِيفه نافع أبو عبد الله ورواه عنه من طريق يثبت مثله.

فالحاصل: أن المحفوظ عن ابن عمر هو الإباحة المطلقة، كما رواه عنه غير واحد من الأثبات، على رأسهم مولاه نافع، وهو أعلم من غيره بأحواله ومقالاته وفتياه. ولم يثبت عنه النهي من وجه يصح مثله.

[تنبيه مهم]:

التحقيق: أن ابن عمر قد أوهم – كما قال ابن عباس- في تفسير سبب نزول آية الإتيان، فظن أنها صريحة في الإتيان من الدبر في الدبر! والصواب: أنها نزلت في الإتيان من الدبر في القبل، كما وقع ذلك صريحًا في بعض روايات حديث جابر بن عبد الله عند مسلم والإسماعيلي وجماعة.

لكن هذا لا يُعكِّر على أصل مذهبه في الجواز المطلق، فقد رواه عنه نافع مرتين آخرتين في قضيتين مختلفتين غير متعلقتين بسبب نزول آية الإتيان.

وكذا رواه عنه سعيد بن يسار في قضية ثالثة كما مضى" انتهى.

قلت:

1- أما إجماع الصحابة فليس من شروط الإجماع أن يُنقل لنا رأي كلّ واحد منهم مع تفرقهم في الأمصار، فقد حرّمه أعيان الصحابة الفقهاء أصحاب المدارس الفقهية المشهورة، وعدم وجود المخالف لهم جعله إجماعاً، ولا يخرقه ما رُوي عن ابن عمر؛ لأن هذا أخطأ فيه نافع عليه كما جاء ذلك صريحاً في رواية محمد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان التي احتج بها المخالف! ولكنه أخفى الجزء الثاني منها وأظهر الجزء الأول فقط لأنه يدعم رأيه! - وهذا نوع من التدليس، فتنبه!

2- وأما ما ذكره الأخ من أدلة في إثبات هذا الرأي لابن عمر فلا يزال يردد رواية الدراوردي وما جاء فيها من سؤال نافع لابن عمر! مع أنه هو نفسه قال بأن هذه زيادة على أصل الرواية، وقد تفرد بها الدراوردي، والدراوردي لا يُحتج بما انفرد به! فكيف نحتج بروايته في نسبة مذهب لصحابي مثل ابن عمر؟!

وأما رواية عمر بن محمد بن زيد فهي منكرة كما بيّنا ذلك مراراً.

وأما رواية محمد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان فيما نقله عن نافع صحيح، ولكنه استنكره! وسأل عنه، قال: "فأعظمت ذلك، فلقيت عبدالله بن عبدالله بن عمر وعبدالله بن عبدالرحمن بن زيد بن الخطاب فأخبرتهما بما ذكر نافع، فقالا: "ليس ذلك كذلك، كان عبدالله بن عمر يحدثنا أن النساء كن يؤتين في أقبالهن وهن موليات، فقالت اليهود: من جاء امرأته وهي مولية جاء ابنه أحول! فأنزل الله جل ثناؤه {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم}، قال: ثم لقيت سالم بن عبدالله فأخبرته بما قال نافع، فقال: "أخطأ العبد أو كذب"، وحدث عن أبيه بمثل ما حدث الرجلان".

قلت: فهذا جزء من الرواية التي احتج بها الأخ ولكنه أخفاها فدلّس تدليساً غير محمود لتأييد رأيه!

فكيف تصحح الرواية أيها الأخ الكريم، وتترك الجزء الثاني منها ولا تشير إليه، وهو يناقض ما جاء في الجزء الأول منه ويبيّن خطأ نافع فيه على ابن عمر!!

3- تعليل الأخ رواية الحارث بن يعقوب مما لا ينقضي منه العجب! فإنه أعلها بما رواه ربيعة الرأي، وقال بأن الحارث لا يقارن بربيعة! وهذا ليس بصحيح ألبتة، فكلاهما ثقة ثبت، ولم يتكلم أحد في الحارث، بل قال ابن حبان فيه في «مشاهير علماء الأمصار» (ص122): "الحارث بن يعقوب الأنصاري من الأثبات في الروايات"، والأخ يحتج بمن يوردهم ابن حبان في مشاهيره كما سبق عنه، فكيف مع هذا الثناء عليه من ابن حبان.

وأما أن ربيعة مدني وهو أعلم بابن يسار من الغرباء أمثال الحارث! فهذه دعوى تحتاج لدليل، فالرجل ثقة ثبت لا مَغمز فيه.

وحديثه هذا أخرجه الدارمي في «مسنده» قال: حدثنا عبدالله بن صالح: حدثنا الليث، عن الحارث بن يعقوب، عن سعيد بن يسار أبي الحباب قال: قلت لابن عمر، ما تقول في الجواري، أيحمض لهن؟ قال: وما التحميض، فذكر الدبر؟ فقال: "وهل يفعل ذلك أحد من المسلمين".

قال ابن كثير: "وكذا رواه ابن وهب وقتيبة عن الليث به، وهذا إسناد صحيح ونص صريح منه بتحريم ذلك، فكل ما ورد عنه مما يحتمل ويحتمل فهو مردود إلى هذا المحكم".

وأما تقديم رواية نافع على رواية ابن يسار بالتسليم بصحة رواية ابن يسار فهذا هو محل النزاع!! وهو أننا نقول بأن نافعاً أخطأ في فهم قول ابن عمر، وما قاله ابن يسار صريح في مذهبه في التحريم، وقد أيده غيره ممن نقل عن ابن عمر، فقد سؤال محمد بن عبدالله المعروف بالديباج - لما استنكر ما نقله نافع عن ابن عمر - لعبدالله بن عبدالله بن عمر وعبدالله بن عبدالرحمن بن زيد بن الخطاب، فأخبراه بعكس ما رواه نافع، فهؤلاء ثلاثة اتفقوا على النقل عن ابن عمر خلاف ما رواه نافع، فهل نوهّم الثلاثة في مقابل ما رواه نافع فهماً منه عن سيّده!!

وأما الافتراض الذي فرضه عن ابن عمر أنه كان يقول بالإباحة ثم رجع عنها، وردّه على ذلك فهو افتراض ضعيف والرد عليه هزيل لا يقوى مع الأدلة القوية بمذهب ابن عمر في التحريم.

فدعوى أن رواية المنع هي المشهورة المستفيضة بين الناس في زمانه وهو حيّ دعوى خيالية لا تكون إلا في الأحلام! فلو كان ذلك فيه شمّة من الصحة لنُقل إلينا، وإنما المرجع في رأيه في الإباحة هو ما رواه نافع. واحتجاجه بتلك الاستفاضة بإنكار ابن عباس عليه فهذا يحتاج أولاً أن يثبت الرواية: اثبت العرش ثم انقش! وقد أثبتنا أن تلك الرواية ضعيفة، ولكن الأخ لا يزال يتمسك بها كالذي يريد أن يتمسك ببيت العنكبوت، وإن أوهى البيوت لبيت العنكبوت.

وعليه فإن افتراضه بأنه لو كان ابن عمر رجع عن ذلك لاستفاض عنه ولعرفه مولاه نافع فهذا افتراض لا يخطر ببال! لأنه لم يثبت أن ابن عمر كان يقول بالإباحة حتى نفترض أنه رجع عنه! ونقول للأخ: لو كان ابن عمر يرى الإباحة لاستفاض عنه ولعرفه أهل بيته، وها هم أهل بيته ينكرون على نافع ما نقله عن سيّدهم.

وأما قول الأخ: "فالحاصل: أن المحفوظ عن ابن عمر هو الإباحة المطلقة، كما رواه عنه غير واحد من الأثبات، على رأسهم مولاه نافع، وهو أعلم من غيره بأحواله ومقالاته وفتياه. ولم يثبت عنه النهي من وجه يصح مثله"! فهو قول باطل لا دليل عليه. وقد تفرد برواية الإباحة عنه مولاه نافع، ولم يثبت عن غيره من أصحابه، وقد ثبت النهي عنه بخلاف ما يدّعيه الأخ.

وأما أن ابن عمر أوهم في تفسير سبب نزول الآية والاستشهاد على ذلك بما روي عن ابن عباس فهذا أيضاً من الدعاوى المردودة لعدم ثبوت ذلك عن ابن عمر ولا عن ابن عباس أنه قال ذلك.

2- قال الأخ المعترض - وهو يعدد من ذهب إلى الإباحة -: "2-  نافع مولى ابن عمر.

أخرجه ذلك عنه ابن عساكر في «تاريخه» من طريق أبي أمية الطرسوسي عن المعلى بن منصور عن موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن عن أبيه قال: «أتى محمد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان فذكر أن نافعًا ذكر أنه حلال أن يؤتين النساء في أدبارهن، وأن عبد الله (يعني: ابن عمر) ذكر ذلك .... ».

وسنده حسن صالح، وهو طريق آخر عن نافع عن ابن عمر في الإباحة غير متعلق بأسباب نزول الآية المشهورة". انتهى كلامه.

قلت: نحن لا نُنكر أن هذا مذهب نافع فيما فهمه عن ابن عمر، والحديث الذي ساقه الأخ فيما نقله محمد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان عن نافع أنه نقل عن ابن عمر ذلك صحيح، لكن الأخ دلس - كما بينا فيما سبق - ولم يذكر بقية الحديث، وهو أن محمد بن عبدالله استنكر هذا النقل عن ابن عمر من نافع وراجع بعض آل بيته فقالوا بأن نافعاً أخطأ في ذلك، وذكروا أن مذهب ابن عمر التحريم.

3- قال الأخ المعترض - وهو يعدد من ذهب إلى الإباحة -: "3- ابن أبي مليكة:

أخرجه عنه الطبري في تفسيره [4/ 407 / 4332 / طبعة الرسالة]: حدثني أبو مسلم - هو الكجي الإمام الحافظ - قال: حدثنا أبو عمر الضرير- هو حفص بن عمر أبا عمر الضرير الأكبر البصري - قال: حدثنا يزيد بن زريع قال: حدثنا روح بن القاسم، عن قتادة قال: سئل أبو الدرداء عن إتيان النساء في أدبارهن، فقال: هل يفعل ذلك إلا كافر! قال روح: فشهدت ابن أبي مليكة يُسأل عن ذلك فقال: قد أردتُّه من جارية لي البارحةَ فاعتاصَ عليَّ، فاستعنْتُ بدُهْنٍ أو بشَحْم. قال: فقلت له: سبحان الله! أخبرنا قتادة أنّ أبا الدرداء قال: هل يفعل ذلك إلا كافر! فقال: لعنك الله ولعن قتادة! فقلت: لا أحدث عنك شيئًا أبدًا! ثم ندمت بعد ذلك».

قلتُ: الإسناد إلى أبي الدرداء: منقطع ما صح، أما الإسناد إلى ابن أبي مليكة: فحسن صالح مستقيم.

وابن أبي مليكة: هو عبدالله بن عبيدالله القرشي المكي، ذلك الإمام الفقيه الحجة الثقة الثبت المأمون، شيخ الحرم المكي الشريف، وعنه يقول ابن حبان في ترجمته من مشاهير علماء الأمصار [ص 82 / الطبعة العلمية]: «رأى ثمانين من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كان من الصالحين، والفقهاء في التابعين، والحفاظ والمتقنين».

قلتُ: وهذا الأثر الماضي عنه في الإباحة: صريح غاية، ليس يحول بين وضوحه: عُجْمة أو غَيَاية". انتهى كلامه.

قلت: نعم، إسناد حديث أبي الدرداء منقطع، فقتادة لم يسمع منه، وقد رواه معمر، عن قتادة، عن أبي الدرداء أنه سئل عن ذلك، فقال: «وهل يفعل ذلك إلا كافر».

ورواه أحمد في «المسند» (2/210) عن هُدْبَة، عن هَمَّام، قال: قال قَتَادَةُ: وحدثني عُقْبَةُ بن وَسَّاجٍ، عن أبي الدَّرْدَاءِ قال: «وهلْ يَفْعَلُ ذلك الا كَافِرٌ».

ورواه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/199) من طريق عبدالوهاب بن عطاء قال: سألت سعيداً عن الرجل يأتي المرأة في دبرها، فأخبرنا عن قتادة، عن عقبة بن وساج، عن أبي الدرداء، قال: «وهل يفعل ذلك إلا كافر».

قلت: لكن هذا أيضاً مرسل.

قال في «جامع التحصيل» (ص239): "عقبة بن وساج عن أبي الدرداء وغيره: مرسل، قاله في التهذيب".

قلت: ومع إرساله إلا أن الموقوفات يحتملها أهل العلم.

وأما القصة التي نقلها روح بن القاسم عن ابن أبي مليكة ففيها نكارة! فكيف يصادف السؤال عن المسألة أنه أراد فعل ذلك البارحة! وكيف له كعالم كبير أن يصفّ هذا الفعل وأنه احتاج لدهن وشحم!! وكذلك يلعن روحاً وقتادة! والمسلم ليس باللعان، فكيف بحافظ كابن أبي مُليكة!

وروح بن القاسم البصري (ت 141 وقيل: 150هـ) قد تعاصر مع عبدالله بن أبي مليكة فقيه مكة (ت117هـ) لكن لا يُعرف أن له رواية عنه أو لقيه أو سمع منه! وبحسب هذه القصة أنه لقيه فكيف لراو مثل روح لا يستغل لقيه لابن أبي مليكة ولا يسمع منه الحديث؟!!

والذي يظهر لي أن القصة التي ألصقت بأصل الحديث عن ابن أبي مليكة قصة منكرة لا تُقبل في حافظ كبير مثله.

وقد تفرد بذكر هذه القصة حفص بن عمر أبو عمر الضرير الأكبر البصري، وهو صدوق، أخرج له أبو داود فقط، وغمزه ابن معين، ومشّاه غيره.

4- قال الأخ المعترض - وهو يعدد من ذهب إلى الإباحة -: "4- مالك بن أنس:

وقد ثبت عنه هذا من وجوه شتى بألفاظ صريحة، ولم يثبت عنه في النهي شيء البتة فيما وقفنا عليه، وأصحابه يروون عنه التحريم من طرق ليس فيها خير!

فيذكرون عن ابن وهب أنه روى عنه تكذيب ذلك! أو رجوعه عنه! ولا يثبت عنه لا هذا ولا ذاك، والمحفوظ عن ابن وهب أنه نقل عنه الجواز المحض، كما أسنده عنه الطبري والطحاوي وغيرهما.

نعم: لا يصح عنه فِعْلُ ذلك، وإنما ورد هذا من طريقين لا يصحان أنه فعله مع بعض أهله!

ودونك هذا النقل عن مالك مما هو أصرح ما يكون في الدنيا!

قال عبدالرحمن بن القاسم: «سألت مالكًا عن الوطء في الدبر مخليًا. فقال: مالك: حلال لا بأس به أحل من الماء البارد. حدثني ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن أبي الحباب سعيد بن يسار أنه سأل ابن عمر عنه فقال: لا بأس به... ». ثم تلا مالك هذه الآية: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 165] {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الشعراء: 166]. وقال لابن القاسم: «أو في ذلك شك؟ أو ما تقرأ قول الله عز وجل: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] . قال: أي شيء أبين من هذا؟، وما أدركت أحدًا ممن أقتدي به يشك فيه... ».

قلت: هذا النص الصحيح الصريح نقله العلامة الفقيه محمد بن أحمد بن عبد العزيز العتبي في كتابه: «الديوان المستخرج من الأسمعة» المشهور بــ: «العتبية». من مسموعات شيخ الأندلس عِيْسَى بن دِيْنَارٍ الغَافِقِيّ القُرْطُبِيّ عن شيخه ابن القاسم التي جمعها في «كتاب الهدية».  

وكتاب العتبية هذا: يقول عنه الفقيه أبو الوليد ابن رشد في «البيان والتحصيل» [1/28-29]: «على أنه كتاب قد عوَّل عليه الشيوخ المتقدمون من القرويين والأندلسيين، واعتقدوا أن مَن لَمْ يحفظه، ولا تفقه فيه كحفظه للمدونة وتفقهه فيها؛ بعد معرفة الأصول، وحفْظه لسنن الرسول صلى الله عليه وسلم فليس من الراسخين في العِلْم، ولا من المعدودين فيمن يشار إليه من أهل الفقه».

وثمة جماعة من المالكية يتكلم فيها لِمَا حوتْه من الشواذ والغرائب عندهم، ولا ريب في ثبوت ما فيها عن مالك وإن تكلموا في دلالة ذلك بما يناسب المذهب وأصوله.

والذي تحصَّل لي في رأي مالك: هو الكراهة وحسب إنْ صحَّتْ أيضًا، وهي لا تُجامِع التحريم على التحقيق.

وأصل الكراهة عنده: هو ما رواه أَحْمَدُ بْن أُسَامَةَ التُّجِيبِيُّ: نَا أَبِي، سَمِعْت الرَّبِيعَ بْنَ سُلَيْمَانَ الْجِيزِيَّ يَقُولُ: أَنَا أَصْبَغُ؛ قَالَ: «سُئِلَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ فِي الْجَامِعِ، فَقَالَ: لَوْ جُعِلَ لِي مِلْءُ هَذَا الْمَسْجِدِ ذَهَبًا مَا فَعَلْته، قَالَ: ونَا أَبِي سَمِعْت الْحَارِثَ بْنَ مِسْكِينٍ يَقُولُ: سَأَلْت ابْنَ الْقَاسِمِ عَنْهُ فَكَرِهَهُ لِي. قَالَ: وَسَأَلَهُ غَيْرِي فَقَالَ: كَرِهَهُ مَالِكٌ».

والقول بالكراهة دون التحريم: هو اختيار عبدالرحمن بن القاسم صاحب مالك، كما مضى، وهو اختيار أبي محمد عبدالله بن إبراهيم بن محمد بن عبدالله بن جعفر الأصيلي الفقيه المالكي المشهور أيضًا.

فقال القاضي عياض في ترجمة الأصيلي من «المدارك»: «كان يرى القول بإتيان النساء في أعجازهن كراهة من غير تحريم».

وجمهور المالكية لا يزالون ينكرون صحة هذا الأمر عن مالك، لا سيما العراقيين منهم؛ لِمَا وجدوه من تشنييع الحنفية وغيرهم عليهم في هذا الباب!

والأمر كما قال أَبُو بَكْر الجصاص: في «أحكام القرآن»: «الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ إبَاحَةُ ذَلِكَ وَأَصْحَابُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ لِقُبْحِهَا وَشَنَاعَتِهَا، وَهِيَ عَنْهُ أَشْهُرُ مِنْ أَنْ يَنْدَفِعَ بِنَفْيِهِمْ عَنْهُ». انتهى كلامه.

قلت: أما ثبوت ذلك عن الإمام مالك فقد رُوي عنه كما أوضحناه من قبل، وهو غريبٌ عنه!

قال ابن حجر في «التلخيص الحبير» (3/186): "وذكرَ الْخَلِيلِيُّ في الْإِرْشَادِ عن ابن وَهْبٍ: أَنَّ مَالِكًا رَجَعَ عنه، وفي مُخْتَصَرِ ابن الْحَاجِبِ عن ابن وَهْبٍ عن مَالِكٍ إنْكَارُ ذلك وَتَكْذِيبُ من نَقَلَهُ عنه، لكِنَّ الذي رَوَى ذلك عن ابن وَهْبٍ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ، والصَّوَابُ ما حَكَاهُ الْخَلِيلِيُّ، فَقَدْ ذَكَرَ الطَّبَرِيُّ عن يُونُسَ بن عبدالْأَعْلَى عن ابن وَهْبٍ عن مَالِكٍ أَنَّهُ أباحه. رَوَى الثَّعْلَبِيُّ في تَفْسِيرِهِ من طَرِيقِ الْمُزَنِيِّ قال: كُنْت عِنْدَ ابن وَهْبٍ وهو يَقْرَأُ عَلَيْنَا رِوَايَةَ مَالِكٍ فَجَاءَتْ هذه الْمَسْأَلَةُ، فَقَامَ رَجُلٌ فقال: يا أَبَا مُحَمَّدٍ، ارْوِ لنا ما رَوَيْت، فَامْتَنَعَ أَنْ يَرْوِيَ لهم ذلك، وقال: أحدكم يَصْحَبُ الْعَالِمَ فإذا تَعَلَّمَ منه لم يُوجِبْ له من حَقِّهِ ما يَمْنَعُهُ من أَقْبَحِ ما يُرْوَى عنه، وَأَبَى أَنْ يَرْوِيَ ذلك.

ورُوِيَ عن مَالِكٍ كَرَاهَتُهُ وَتَكْذِيبُ من نَقَلَهُ عنه من وَجْهٍ آخَرَ، أَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ في الرُّوَاةِ عن مَالِكٍ من طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بن حِصْنٍ، عن إسْرَائِيلَ بن رَوْحٍ، قال: سَأَلْت مَالِكًا عنه، فقال: ما أَنْتُمْ قَوْمُ عَرَبٍ، هل يَكُونُ الْحَرْثُ إلَّا مَوْضِعَ الزَّرْعِ، قُلْت: يا أَبَا عبداللَّهِ إنَّهُمْ يَقُولُونَ ذلك، قال: يَكْذِبُونَ عَلَيَّ.

والْعُهْدَةُ في هذه الْحِكَايَةِ على إسْمَاعِيلَ؛ فإنه وَاهِي الحديث.

وقد رَوَيْنَا في عُلُومِ الحديث لِلْحَاكِمِ قال: حدثنَا أبو الْعَبَّاسِ محمد بن يَعْقُوبَ: حدثنَا الْعَبَّاسُ بن الْوَلِيدِ الْبَيْرُوتِيُّ: حدثنَا أبو عبداللَّهِ بِشْرُ بن بَكْرٍ: سَمِعْت الْأَوْزَاعِيَّ يقول: يُجْتَنَبُ أو يُتْرَكُ من قوْلِ أَهْلِ الْحِجَازِ خَمْسٌ، وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ خَمْسٌ. من أَقْوَالِ أَهْلِ الْحِجَازِ: اسْتِمَاعُ الْمَلَاهِي، وَالْمُتْعَةُ، وَإِتْيَانُ النِّسَاءِ في أَدْبَارِهِنَّ، وَالصَّرْفُ، وَالْجَمْعُ بين الصَّلَاتَيْنِ بِغَيْرِ عُذْرٍ. ومِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِرَاقِ: شُرْبُ النَّبِيذِ، وَتَأْخِيرُ الْعَصْرِ حتى يَكُونَ ظِلُّ الشَّيْءِ أَرْبَعَةَ أَمْثَالِهِ ولا جُمُعَةَ إلَّا في سَبْعَةِ أَمْصَارٍ، وَالْفِرَارُ من الزَّحْفِ، وَالْأَكْلُ بَعْدَ الْفَجْرِ في رَمَضَانَ.

ورَوَى عبدالرَّزَّاقِ عن مَعْمَرٍ قال: لو أَنَّ رَجُلًا أَخَذَ بِقَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ في اسْتِمَاعِ الْغِنَاءِ، وَإِتْيَانِ النِّسَاءِ في أَدْبَارِهِنَّ، وبقول أَهْلِ مَكَّةَ في الْمُتْعَةِ وَالصَّرْفِ، وَبِقَوْلِ أَهْلِ الْكُوفَةِ في الْمُسْكِرِ كان شَرَّ عِبَادِ اللَّهِ.

وقال أَحْمَدُ بن أُسَامَةَ التُّجِيبِيُّ: أخبرنَا أبي: سَمِعْت الرَّبِيعَ بن سُلَيْمَانَ الْجِيزِيَّ يقول: أخبرنا أَصْبَغُ، قال: سُئِلَ ابن الْقَاسِمِ عن هذه الْمَسْأَلَةِ - وهو في الْجَامِعِ – فقال: لو جُعِلَ لي مِلْءُ هذا الْمَسْجِدِ ذَهبًا ما فَعَلْته. قال: وحدثنَا أبي: سَمِعْت الْحَارِثَ بن مِسْكِينٍ يقول: سَأَلْت ابن الْقَاسِمِ عنه فَكَرِهَهُ لي. قال: وسَأَلَهُ غَيْرِي فقال: كَرِهَهُ مَالِكٌ".

قلت: وما ذكره الأخ من كتاب العتبية من قول مالك فمنكر! والعجب أن الأخ احتج به ونصّ على صحته مع قوله إن جماعة من المالكية يتكلم فيها لِمَا حوتْه من الشواذ والغرائب عندهم! ولا أدري كيف يستقيم هذا مع قوله بعد ذلك: "ولا ريب في ثبوت ما فيها عن مالك وإن تكلموا في دلالة ذلك بما يناسب المذهب وأصوله"!!

والخلاصة أن بعض أهل العلم نفى ثبوت تحليل مالك لذلك، وبعضهم نقل عنه الحلّ، وبعضهم نقل عنه الكراهة، فإن ثبت تراجعه فيكون ذلك بعد حلّه، وقد يكون أخذ بقول شيخه نافع، ثم كرهه بعد ذلك، والله أعلم.

5- قال الأخ المعترض - وهو يعدد من ذهب إلى الإباحة -: "5- وابن أبي ذئب:

أخرجه عنه حامد بن محمد بن عبد الله بن معاذ الرفاء في «فوائده/ تخريج الدارقطني» كما في «العجاب»، حدثنا أبو أحمد بن عبدوس نا علي بن الجعد نا ابن أبي ذئب عن نافع عن ابن عمر قال: وقع رجل على امرأته في دبرها فأنزل الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}.

قال: فقلت لابن أبي ذئب: ما تقول أنت في هذا؟ قال: ما أقول فيه بعد هذا»؟!

وابن أبي ذئب هذا: هو شيخ الإسلام وعالِم المدينة، وكان الإمام أحمد يُفضِّله على مالك في العِلْم والعمل جميعًا"انتهى كلامه.

قلت: قد تقدّم الكلام على هذه الرواية وأن ابن أبي ذئب لم يسمعها من نافع، وأما ما جاء من قول ابن أبي ذئب لعليّ بن الجعد فهذا بناه على هذه الرواية.

6- قال الأخ المعترض - وهو يعدد من ذهب إلى الإباحة -: "6- وعبدالله بن نافع القرشي العدوي المدني.

أخرج ذلك عنه أحمد بن أسامة بن أحمد التجيبي في «فوائده» كما في «العجاب» من طريق أشهب بن عبد العزيز الفقيه قال: قال لي عبدالله بن نافع: «لا بأس به إلا أن يتركه أحد تقذرًا».

قلت: كان عبدالله على مذهب أبيه في ذلك" انتهى كلامه.

قلت: عبدالله بن نافع هذا متروك الحديث، فلا يُعتد بقوله.

7- قال الأخ المعترض - وهو يعدد من ذهب إلى الإباحة -: "7- وعبدالرحمن بن القاسم المصري صاحب مالك:

أخرج ذلك عنه الطحاوي من طريق أصبغ بن الفرج عن عبدالرحمن بن القاسم قال: «ما أدركت أحدًا أقتدي به في ديني يشك في أنه حلال، يعني وطء المرأة في دبرها، ثم قرأ (نساؤكم حرث لكم) ثم قال: فأي شيء أبين من هذا».

قلت: وابن القاسم هذا يروي عن جماعات من المصريين والمدنيين وغيرهم" انتهى كلامه.

قلت: هذا يناقض ما رواه أَحْمَدُ بن أُسَامَةَ التُّجِيبِيُّ، قال: أخبرنَا أبي: سَمِعْت الرَّبِيعَ بن سُلَيْمَانَ الْجِيزِيَّ يقول: أخبرنا أَصْبَغُ، قال: سُئِلَ ابن الْقَاسِمِ عن هذه الْمَسْأَلَةِ - وهو في الجَامِعِ - فقال: لو جُعِلَ لي مِلْءُ هذا الْمَسْجِدِ ذَهبًا ما فَعَلْته.

قال: وحدثنَا أبي: سَمِعْت الْحَارِثَ بن مِسْكِينٍ يقول: سَأَلْت ابن الْقَاسِمِ عنه فَكَرِهَهُ لي. قال: وسَأَلَهُ غَيْرِي فقال: كَرِهَهُ مَالِكٌ".

فالله أعلم.

8- قال الأخ المعترض - وهو يعدد من ذهب إلى الإباحة -: "8- وأصبغ بن الفرج الفقيه المصري:

أخرجه عنه أحمد بن أسامة بن أحمد التجيبي في «فوائده» كما في «العجاب» أنه احتج بقوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} على إباحة الإتيان في الدبر.

قلت: أحمد بن أسامة يروي عن أصبغ في كتبه بواسطة أبيه عن الرَّبِيعَ بن سُلَيْمَانَ الْجِيزِيّ عنه. فالإسناد ثابت.

واستنباط أصبغ هنا: سبقه إليه ابن عمر فيما صح عنه أنه قال بعد أن ذكر هذه الآية: «أي: مثله من النساء». أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره»" انتهى كلامه.

قلت: هذا أيضاً منكر عن أصبغ وقد تقدم نقل أصبغ عن ابن القاسم أنه كرهه، ونقله عن مالك أيضاً.

9- قال الأخ المعترض - وهو يعدد من ذهب إلى الإباحة -: "9- بَرْبَر المُغَنِّي. أحد الرواة عن مالك.

أخرجه عنه الخطيب في «تاريخه» من طريق علي بن الحسين بن حبان، قال: وجدت في كتاب أبي بخط يده: قال أبو زكريا (يعني: ابن معين): «كنا عند شيخ من ذاك الجانب، يقال له: بربر المغني يحدث عن مالك بن أنس بكتبه.

فذهبت أنا وأحمد إليه، كنا نختلف إليه حتى كتبنا عنه كتب مالك، فبينا نحن عنده يوما إذ نظر إلى وصيفة له نظيفة فارهة، فقال: هذه جاريتي، وأنا آتيها في دبرها، فاستحت الجارية وخجلت، قال أبو زكريا: فما طابت نفسي بعد ذلك أن أشرب من بيته ماء، ولا أذوق له طعاما، قلت له: لِمَ؟ قال: خفْتُ أن تكون تلك الجارية تمسه بيدها فقذرتها، فكنت أكاد أموت من العطش في منزله فلا أذوق الماء.

ثم إني رميت بكتبه بعد، لم يكن يسوى قليلا ولا كثيرًا، جئت بكتبه إلى معن لأسمعها منه فإذا هي لا تصلح، فرميت بها في دار معن، فقال معن: خذها تنتفع بها، قلت: ليس آخذها فرميت بها».

قلت: كأن بربر أخذ هذا المذهب عن مالك لمَّا جالسه بالمدينة، ومع تقذُّر ابن معين الشديد لهذا العمل والمعمول فيه؛ إلا أنه لم يغادر منزل هذا الشيخ للسماع إلا بعد أن استبان له أنه ليس بشيء في الرواية.

وبربر هذا: أورده الخطيب في كتابه: «الرواة عن مالك»، كما ذكره الرشيد العطار في «مجرد أسماء الرواة عن مالك» انتهى كلامه.

قلت: وهل هذا المجروح يُعتد به! وإثبات أنه أخذ هذا المذهب عن مالك يحتاج دليل! وهو ليس معروفاً في أصحاب مالك، بل طعن معن فيها.

10- قال الأخ المعترض - وهو يعدد من ذهب إلى الإباحة -: "10 - ومُحَمَّدُ بْنُ سَحْنُونٍ الإمام المشهور.

قال القاضي عياض: «وصَنَّفَ فِي إبَاحَتِهِ: مُحَمَّدُ بْنُ سَحْنُونٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ شَعْبَانَ وَنَقَلَا ذَلِكَ عَنْ جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنْ التَّابِعِينَ...» نقله عنه الحافظ في «التلخيص»".

11- قال الأخ المعترض: "11- ومُحَمَّدُ بْنُ شَعْبَانَ الإمام المشهور.

قال القاضي عياض: «وَصَنَّفَ فِي إبَاحَتِهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَحْنُونٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ شَعْبَانَ وَنَقَلَا ذَلِكَ عَنْ جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنْ التَّابِعِينَ ......» نقله عنه الحافظ في «التلخيص».

هؤلاء كلهم ثبت عنهم القول بالجواز" انتهى كلامه.

قلت: أما أن ابن سحنون وابن شعبان كان مذهبهما الجواز فلا يُنكر، وأما أنهما نقلا ذلك عن جمع كثير من التابعين فهذا يحتاج لإثبات! فكثير من التابعين على خلاف هذا، وقد أشرت فيما سبق أنهما ربما نقلا عن بعض التابعين بأسانيد ضعيفة أو منكرة!

وأما قول الأخ بأن هؤلاء الأحد عشر قد ثبت عنهم القول بالجواز ففيه مجازفة! فلم يثبت عن ابن عمر وهو الذي يهمنا في هذه المسألة، ومن قال بجواز ذلك إنما اعتمد رواية نافع عن ابن عمر، وقد أثبتنا أنها لا تصح عنه.

وعلى فرض ثبوت القول بالجواز عن هؤلاء فإن هذا لا يخرق الإجماع، وهو إجماع الصحابة، وحتى لو ثبت عن ابن عمر فإن إجماع الصحابة على تحريم ذلك هو الواقع.

ونلاحظ أن من نُسب إليه القول بالجواز أنهم من المالكية فتبعوا فيه ما نُسب للإمام مالك تبعاً لرواية نافع عن ابن عمر، ونسبة القول إلى أن هذا مذهب أهل المدينة فيه مجازفة، فليس كلّ أهل المدينة ذهبوا هذا المذهب، وإنما انتشر هذا تبعاً لرواية نافع عن ابن عمر.

وهذا المذهب شاذ لا يُعتد به كما لا يُعتد بمن يقول بالمتعة أو بجواز الجمع في الصلاة من غير عذر وغيرها من المسائل الشاذة.

وقد نُسب هذا المذهب لمُحَمَّد بن كَعْبٍ الْقُرَظِيّ، فأخرج الطحاوي في «شرح معاني الآثار» من طريق ابن لَهِيعَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَاجِرِ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ: «أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا بِإِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ، وَيَحْتَجُّ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} أَيْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ مِثْلَ ذَلِك إِنْ كُنْتُمْ تَشْتَهُونَ».

وفي سنده ابن لهيعة، ولا يُحتج به.

ونُسب أيضاً لمحمد بن عجلان الفقيه المدني. قال أبو سعيد ابن يونس في «تاريخ مصر»: "قدم مصر وصار إلى الإسكندرية فتزوج بها امرأة من أهلها فأتاها في دبرها، فشكَتْه إلى أهلها فشاع ذلك، فصاح به أهل الإسكندرية، فخرج منها".

وقال الحافظ في «التلخيص»: "وحكى ابنُ بَزِيزَةَ فِي «تَفْسِيرِهِ» عَنْ عِيسَى بنِ دِينَارٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: هُوَ أَحَلُّ مِنْ الْمَاءِ الْبَارِدِ".

قال: "وفِي كلَامِ ابنِ الْعَرَبِيِّ والمازري ما يومىء إلى جَوَازِ ذَلِكَ أَيْضًا".

قلت: لم يثبت هذا عن عيسى بن دينار، ولم أجد ما يدلّ على أن ابن العربي والمازري يميلان إليه، والله أعلم.

·       كلام المفسرين وأهل العلم في هذه المسألة:

وقد اتفق المفسرون أثناء تفسيرهم للآية على الحرمة كذلك وأن الآية تدلّ على ذلك.

قال شيخ المفسرين الطبري في «تفسيره» (2/398): "والذي يدل على فساد قول من تأول قول الله تعالى ذكره {فأتوا حرثكم أنى شئتم} كيف شئتم، أو تأوله بمعنى: حيث شئتم، أو بمعنى: متى شئتم، أو بمعنى: أين شئتم، أن قائلاً لو قال لآخر: أنى تأتي أهلك؟ لكان الجواب أن يقول: من قُبلها أو من دبرها كما أخبر الله تعالى ذكره عن مريم إذ سئلت {أنى لك هذا} أنها قالت: {هو من عند الله}، وإذ كان ذلك هو الجواب فمعلوم أن معنى قول الله تعالى ذكره {فأتوا حرثكم أنى شئتم} إنما هو فأتوا حرثكم من حيث شئتم من وجوه المأتي، وأن ما عدا ذلك من التأويلات فليس للآية بتأويل. وإذ كان ذلك هو الصحيح فبين خطأ قول من زعم أن قوله {فأتوا حرثكم أنى شئتم} دليل على إباحة إتيان النساء في الأدبار؛ لأن الدبر لا يحترث فيه، وإنما قال تعالى ذكره {حرث لكم} الحرث من أي وجوهه شئتم، وأي محترث في الدبر!! فيقال: ائته من وجهه. وتبين بما بينا صحة معنى ما روي عن جابر وابن عباس من أن هذه الآية نزلت فيما كانت اليهود تقوله للمسلمين إذا أتى الرجل المرأة من دبرها في قبلها جاء الولد أحول".

وقال ابن العربي في «أحكام القرآن» (3/93): "قوله تعالى: {أنى شئتم} معناه عند الجمهور من الصحابة والتابعين وأئمة الفتوى: من أي وجه شئتم مقبلة ومدبرة. و{أنى} تجيء سؤالاً وإخباراً عن أمر له جهات، فهو أعم في اللغة من (كيف) ومن (أين) ومن (متى)، هذا هو الاستعمال العربي في {أنى}. وقد فسر الناس {أنى} في هذه الآية بهذه الألفاظ. وفسرها سيبوبه بـ (كيف) ومن (أين) باجتماعهما. وذهبت فرقة ممن فسرها بـ (أين) إلى أن الوطء في الدبر مباح، وممن نُسب إليه هذا القول: سعيد بن المسيب ونافع وابن عمر ومحمد بن كعب القرظي وعبدالملك بن الماجشون، وحُكي ذلك عن مالك في كتاب له يسمى (كتاب السر). وحذاق أصحاب مالك ومشايخهم ينكرون ذلك الكتاب، ومالك أجل من أن يكون له كتاب سر. ووقع هذا القول في العتبية... وقال الكيا الطبري: وروي عن محمد بن كعب القرظي أنه كان لا يرى بذلك بأساً، ويتأول فيه قول الله عز وجل: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الشعراء:166]، وقال: فتقديره تتركون مثل ذلك من أزواجكم، ولو لم يبح مثل ذلك من الأزواج لما صح ذلك، وليس المباح من الموضع الآخر مثلا له، حتى يقال : تفعلون ذلك وتتركون مثله من المباح. قال الكيا : وهذا فيه نظر، إذ معناه : وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم مما فيه تسكين شهوتك، ولذة الوقاع حاصلة بهما جميعاً، فيجوز التوبيخ على هذا المعنى. وفي قوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} مع قوله: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} ما يدل على أن في المأتي اختصاصاً، وأنه مقصور على موضع الولد.

قلت: هذا هو الحق في المسألة. وقد ذكر أبو عمر ابن عبدالبر أن العلماء لم اختلفوا في الرتقاء التي لا يوصل إلى وطئها أنه عيب ترد به، إلا شيئا جاء عن عمر بن عبدالعزيز من وجه ليس بالقوي أنه لا ترد الرتقاء ولا غيرها، والفقهاء كلهم على خلاف ذلك؛ لأن المسيس هو المبتغى بالنكاح، وفي إجماعهم على هذا دليل على أن الدبر ليس بموضع وطء، ولو كان موضعاً للوطء ما ردت من لا يوصل إلى وطئها في الفرج. وفي إجماعهم أيضاً على أن العقيم التي لا تلد لا ترد. والصحيح في هذه المسألة ما بيناه. وما نسب إلى مالك وأصحابه من هذا باطل وهم مبرؤون من ذلك؛ لأن إباحة الإتيان مختصة بموضع الحرث، لقوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ}، ولأن الحكمة في خلق الأزواج بث النسل، فغير موضع النسل لا يناله ملك النكاح، وهذا هو الحق" انتهى.

وقال الطحاوي في «شرح مشكل الآثار»: "ثم رجعنا إلى تأويل قول الله عز وجل: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} فوجدنا الحرث إنما يطلب منه النسل، وكان النسل موجوداً في الوطء في الفرج، ومعدوماً في الوطء في غيره، فدل أن المراد فيها هو ما أبيح منها، مما يكون عنه النسل، لا ما لا يكون عنه نسل، وهكذا كان الفقهاء الكوفيون جميعاً يذهبون إليه في هذا الباب" انتهى.

وقال ابنُ عبدالهادي في «التنقيح» (3/192): "لا يحلُّ للرجل إتيان المرأة في الدُّبر، ويُحكى عن مالكٍ جواز ذلك، وأكثر أصحابه يُنكرون هذا مذهباً له".

وقال ابنُ حزمٍ في «المُحلَّى» (10/69): "مسألة: ولا يحلُّ الوطء في الدبر أصلاً، ما عدا النساء، فإجماعٌ متيقنٌ. وأما في النساء ففيه اختلافٌ، اُختلف فيه عن ابن عمر وعن نافع... وقد جاء تحريمُ ذلك عن أبي هريرة وعليّ بن أبي طالب وأبي الدرداء وابن عباس وسعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبدالرحمن بن عوف وطاوس ومجاهد، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وسفيان الثوري وغيرهم، وما رُويت إباحة ذلك عن أحدٍ إلا عن ابن عمر وحده باختلاف عنه، وعن نافع باختلاف عنه، وعن مالك باختلاف عنه فقط، وبالله تعالى التوفيق".

وقال الإمام النّووي في «شرح صحيح مسلم» (10/6): "واتفقَ العلماءُ الذين يُعتدُّ بهم على تحريم وطء المرأة في دبرها حائضاً كانت أو طاهراً لأحاديث كثيرة مشهورة كحديث: ملعون من أتى امرأة في دبرها، قال أصحابنا: لا يحلُّ الوطء في الدبر في شيء من الآدميين ولا غيرهم من الحيوان في حالٍ من الأحوال، والله أعلم".

·       فتوى ابن تيمية في المسالة:

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى»: "فصلٌ: وأما إتيان النساء في أدبارهن، فهذا محرم عند جمهور السلف والخلف كما ثبت ذلك في الكتاب والسنة، وهو المشهور في مذهب مالك. وأما القول الآخر بالرخصة فيه: فمن الناس من يحكيه رواية عن مالك، ومنهم من ينكر ذلك، ونافع نقل عن ابن عمر أنه لما قرأ عليه: {نساؤكم حرث لكم} قال له ابن عمر: إنها نزلت في إتيان النساء في أدبارهن. فمن الناس من يقول غلط نافع على ابن عمر أو لم يفهم مراده؛ وكان مراده: أنها نزلت في إتيان النساء من جهة الدبر في القبل؛ فإن الآية نزلت في ذلك باتفاق العلماء وكانت اليهود تنهى عن ذلك وتقول: إذا أتى الرجل المرأة في قبلها من دبرها جاء الولد أحول. فأنزل الله هذه الآية. والحرث موضع الولد؛ وهو القبل. فرخص الله للرجل أن يطأ المرأة في قبلها من أي الجهات شاء. وكان سالم بن عبدالله بن عمر يقول: كذب العبد على أبي. وهذا مما يقوي غلط نافع على ابن عمر؛ فإن الكذب كانوا يطلقونه بإزاء الخطأ؛ كقول عبادة: كذب أبو محمد. لما قال: الوتر واجب. وكقول ابن عباس: كذب نوف: لما قال لما صاحب الخضر ليس موسى بني إسرائيل. ومن الناس من يقول: ابن عمر هو الذي غلط في فهم الآية. والله أعلم أي ذلك كان؛ لكن نقل عن ابن عمر أنه قال: أو يفعل هذا مسلم! لكن بكل حال معنى الآية هو ما فسرها به الصحابة والتابعون وسبب النزول يدل على ذلك. والله أعلم".

وسئل - رحمه الله -: عن رجل ينكح زوجته في دبرها. أحلال هو أم حرام؟

فأجاب: "وطء المرأة في دبرها حرام بالكتاب والسنة وهو قول جماهير السلف والخلف؛ بل هو اللوطية الصغرى، وقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن} وقد قال تعالى: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم}، والحرث هو موضع الولد؛ فإن الحرث هو محل الغرس والزرع. وكانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل امرأته من دبرها جاء الولد أحول فأنزل الله هذه الآية؛ وأباح للرجل أن يأتي امرأته من جميع جهاتها؛ لكن في الفرج خاصة. ومتى وطئها في الدبر وطاوعته عزرا جمعياً؛ فإن لم ينتهيا وإلا فرق بينهما؛ كما يفرق بين الرجل الفاجر ومن يفجر به، والله أعلم".

وسئل - رحمه الله تعالى -: عما يجب على من وطئ زوجته في دبرها؟ وهل أباحه أحد من العلماء؟

فأجاب: "الحمد لله رب العالمين، الوطء في الدبر حرام في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى ذلك عامة أئمة المسلمين: من الصحابة والتابعين وغيرهم؛ فإن الله قال في كتابه: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} وقد ثبت في الصحيح: أن اليهود كانوا يقولون إذا أتى الرجل امرأته في قبلها من دبرها جاء الولد أحول فسأل المسلمون عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} والحرث موضع الزرع. والولد إنما يزرع في الفرج لا في الدبر {فأتوا حرثكم} وهو موضع الولد. {أنى شئتم} أي من أين شئتم: من قبلها ومن دبرها وعن يمينها وعن شمالها. فالله تعالى سمى النساء حرثا؛ وإنما رخص في إتيان الحروث، والحرث إنما يكون في الفرج. وقد جاء في غير أثر: أن الوطء في الدبر هو اللوطية الصغرى، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في حشوشهن} والحش هو الدبر، وهو موضع القذر، والله سبحانه حرم إتيان الحائض مع أن النجاسة عارضة في فرجها فكيف بالموضع الذي تكون فيه النجاسة المغلظة: وأيضاً فهذا من جنس اللواط، ومذهب أبي حنيفة وأصحاب الشافعي وأحمد وأصحابه أن ذلك حرام لا نزاع بينهم وهذا هو الظاهر من مذهب مالك وأصحابه؛ لكن حكى بعض الناس عنهم رواية أخرى بخلاف ذلك. ومنهم من أنكر هذه الرواية وطعن فيها. وأصل ذلك ما نقل عن نافع أنه نقله عن ابن عمر وقد كان سالم بن عبدالله يكذب نافعاً في ذلك. فإما أن يكون نافع غلط أو غلط من هو فوقه. فإذا غلط بعض الناس غلطة لم يكن هذا مما يسوغ خلاف الكتاب والسنة كما أن طائفة غلطوا في إباحة الدرهم بالدرهمين واتفق الأئمة على تحريم ذلك لما جاء في ذلك من الأحاديث الصحيحة وكذلك طائفة غلطوا في أنواع من الأشربة. ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {كل مسكر خمر؛ وكل خمر حرام} وأنه سئل عن أنواع من الأنبذة فقال: {كل مسكر حرام} {ما أسكر كثيره فقليله حرام} وجب اتباع هذه السنن الثابتة. ولهذا نظائر في الشريعة. ومن وطئ امرأته في دبرها وجب أن يعاقبا على ذلك عقوبة تزجرهما فإن علم أنهما لا ينزجران فإنه يجب التفريق بينهما. والله أعلم" انتهى كلامه.

·       أدلة الحرمة:

قلت: أما أحاديث الحرمة فقد نقل أهل العلم عن البخاري وغيره أنه لم يصح منها شيء، وهناك من أهل العلم من تساهل في تصحيحها، والثابت في ذلك ما نُقل عن الصحابة من أقوالهم في حرمته، وبعد البحث في كل الأحاديث التي جاءت في ذلك تبيّن لي أن حديث خزيمة بن ثابت حديث صحيح يُقبل في هذه المسألة، وسيأتي تخريجه والكلام عليه إن شاء الله تعالى.

وكذلك الآية واضحة في تحريم الإتيان في الدبر؛ لأن مكان الحرث هو القُبل، وهذا باتفاق أهل التفسير والعلماء قاطبة.

·       ما نُسب للبخاري والنسائي في هذه المسألة!

وقد توهّم بعضهم فنَسب الإباحة إلى الإمام البخاري والنسائي وغيرهما! ولا يصح! فالبخاري أشار إلى ضعف رواية نافع من خلال تخريجه للحديث كما بيناه، وأنه أخطأ في الفهم عن ابن عمر، وأما النسائي فقد نفى ورود حديثٍ صحيحٍ مرفوعٍ في النهي عن إتيان المرأة في دبرها، ففرق بين الأمرين.

قال الذهبي في «تذكرة الحفاظ» (2/699) في ترجمة الإمام النسائي: "وقال آخر: ليت شعري، ما مذهبه في إتيان النساء في أدبارهنّ؟ قال: فسُئِلَ، فقال: النبيذُ حرام، ولا يصح في الدبر شيء، لكن حدّث محمد بن كعب القرظي عن ابن عباس قال: اسق حرثك من حيث شئت، فلا ينبغي أن يتجاوز قوله".

ورُوي عن النسائي أنه قال: "لم يصح في تحريمه ولا تحليله شيء".

قال الذهبي: ثبت نهي المصطفى صلى الله عليه وسلم عن أدبار النساء، ولي فيه مصنف".

وقال في «سير أعلام النبلاء» (14/128): "قلت: قد تيقنا بطرقٍ لا مَحيدَ عنها نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أدبار النساء وجزمنا بتحريمه، ولي في ذلك مصنفٌ كبيرٌ".

قلت: فالنسائي يرى أنه لم يصح في النهي حديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه في الوقت نفسه يرى أنه لا يتجاوز كلام ابن عباس في تحريم ذلك.

·       رواية عن نافع أنه روى عن ابن عمر ما يوافق جابر وابن عباس واحتجاج ابن القيّم بها!

روى النسائي في «السنن الكبرى» (5/315) برقم (8978) قال: أخبرنا علي بن عثمان بن محمد بن سعيد بن عبدالله بن نفيل، قال: أخبرنا سعيد بن عيسى، قال: حدثنا المفضل بن فضالة، قال: حدثني عبدالله بن سليمان الطويل، عن كعب بن علقمة، عن أبي النضر: أنه أخبره أنه قال لنافع مولى عبدالله بن عمر: «قد أكثر عليك القول أنك تقول عن ابن عمر إنه أفتى بأن يؤتى النساء في أدبارها؟ قال نافع: لقد كذبوا عليّ، ولكني سأخبرك كيف كان الأمر: إن ابن عمر عرض المصحف يوماً وأنا عنده حتى بلغ {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم}، قال: يا نافع، هل تعلم ما أمر هذه الآية؟ إِنَّا كُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نُجَبِّي النِّسَاءَ، فَلَمَّا دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ، وَنَكَحْنَا نِسَاءَ الْأَنْصَارِ، أَرَدْنَا مِنْهُنَّ مِثْلَ الَّذِي نُرِيدُ، فَإِذَا هُنَّ قد كَرِهْنَ ذلك، وَأَعْظَمْنَه، وَكَانَتْ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ قَدْ أَخَذْنَ بِحَالِ الْيَهُودِ، إِنَّمَا يُؤْتَيْنَ عَلَى جُنُوبِهِنَّ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}».

ورواه الطبراني عن الحسين بن إسحاق. ورواه الطحاوي في «شرح مشكل الآثار» عن يزيد بن سنان، كلاهما عن زكريا بن يحيى كاتب العمري، عن مفضل، به.

قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» (1/263): "وهذا إسناد صحيح. وقد رواه ابن مردويه عن الطبراني عن الحسين بن إسحاق عن زكريا بن يحيى كاتب العمري عن مفضل بن فضالة عن عبدالله بن عياش عن كعب بن علقمة فذكره".

قلت: كذا فيه: "عن عبدالله بن عياش"! والصواب أنه: "عبدالله بن سليمان الطويل المصري".

وهذه القصة تفرد بها المفضل عن عبدالله بن سليمان! وعبدالله هذا من أهل مصر، لم يذكروا فيه جرحاً ولا تعديلاً، وذكره ابن حبان في ثقاته على قاعدته المشهورة فيمن لا يوحد فيه أي جرح أو تعديل، فهو مستور الحال.

ولكن روايته هذه تخالف ما رواه الثقات عن نافع، ولو صحت لكان فصلاً في هذه المسألة، ولكنها منكرة لمخالفتها المعروف عن نافع.

وقد احتج ابن القيّم بهذه الرواية على أن الخطأ والوهم ليس من نافع وإنما ممن روى عنه، وكذلك احتج بها في بيان أن ابن عمر لم يهم كما قال ابن عباس فيما ذكرناه عنه آنفاً.

قال ابن القيم في «حاشيته على سنن أبي داود» بعد أن ذكر تفسير ابن عباس للآية: "وهذا الذي فسر به ابن عباس فسر به ابن عمر، وإنما وهموا عليه لم يهم هو، فروى النسائي عن أبي النصر أنه قال لنافع: قد أكثر عليك القول أنك تقول عن بن عمر إنه أفتى بأن يؤتى النساء في أدبارهن..." فذكرها ثم قال: "فهذا هو الثابت عن ابن عمر ولم يفهم عنه من نقل عنه غير ذلك".

ثم قال بعد أن ساق أثر تحميض الجواري: "فقد صح عن ابن عمر أنه فسر الآية بالإتيان في الفرج من ناحية الدبر وهو الذي رواه عنه نافع، وأخطأ من أخطأ على نافع، فتوهم أن الدبر محل للوطء لا طريق إلى وطء الفرج فكذبهم نافع، وكذلك مسألة الجواري إن كان قد حفظ عن ابن عمر أنه رخص في الإحماض لهن فإنما مراده إتيانهن من طريق الدبر، فإنه قد صرح في الرواية الأخرى بالإنكار على من وطئهن في الدبر وقال: أو يفعل هذا مسلم فهذا يبين تصادق الروايات وتوافقها عنه".

قلت: الثابت أن نافعاً روى ذلك عن ابن عمر وهو الذي وهم وأخطأ في ذلك، وقد مال إلى ذلك ابن تيمية شيخ ابن القيم كما نقلته عنه، والذي نميل إليه أن ابن عمر أراد إتيان المرأة في قُبلها من دُبرها.

·       حديث خُزيمة بن ثابت - رضي الله عنه - عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله لا يستحي من الحقّ: لا تأتوا النساء في أعجازهنّ».

روى هذا الحديث عن خزيمة: «هَرَمي بن عبدالله الخَطْميّ».

قال ابن حجر في «التقريب» (ص664): "هرمي بن عبدالله، ويقال: ابن عتبة، أو ابن عمرو، ومنهم من قلبه، فقال: عبدالله بن هرمي، فوهم، وهو مستورٌ، من الثانية، وقد قيل إنه وُلد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأرسل عنه. س. ق".

وقال في «التلخيص الحبير» (3/180): "هرمي لا يُعرف حالُهُ".

قلت: وهذا يعني أن مجهول الحال هو المستور عند ابن حجر، ولذلك لم يفرّق بينهما في المقدمة.

روى هرمي حديثاً واحداً. وفي إسناد هذا الحديث اختلاف كثير مما جعل بعضهم يقول بأنه مضطرب! والحديث رواه عن هرمي: يزيد بن عبدالله بن الهاد، وعبدالملك بن عمرو بن قيس الخطمي، وعمرو بن شعيب، وعبدالله بن عليّ بن السائب.

·       حديث يزيد بن عبدالله بن الهاد:

اختلف على يزيد في هذا الحديث:

رواية الليث بن سعد ابن الهاد:

فرواه الليث بن سعد، عن ابن الهاد، عن هرمي بن عبدالله، عن خزيمة بن ثابت: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله لا يستحي من الحقّ - يقولها ثلاثاً- لا تأتوا النساء في أعجازهنّ».

قلت: كذا هو عند النسائي في «السنن الكبرى» (5/316)، وكذلك في «تحفة الأشراف» (3/126).

ورواه الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/44) من طريق سعيد ابن عفير، عن الليث بن سعد، عن عبيدالله بن عبدالله بن الحصين الأنصاري ثم الوائلي، عن هرمي بن عبدالله الوائلي، عن خزيمة.

قلت: كأنه سقط من الإسناد الأول: «عبيدالله بن عبدالله بن الحصين» بين ابن الهاد وبين هرمي! وسقط من الإسناد الثاني: «ابن الهاد» بين الليث وبين عبيدالله، والله أعلم.

رواية عبدالسلام بن حفص وابن أبي حازم والدراوردي عن ابن الهاد:

ورواه إبراهيم بن سعد، وأبو مصعب عبدالسلام بن حفص، وابن أبي حازم، وعبدالعزيز الدراوردي، كلّهم عن يزيد بن الهاد، عن عبيدالله بن عبدالله بن الحصين الوائلي، عن هرمي بن عبدالله الواقفي، عن خزيمة.

رواية ابن عيينة عن ابن الهاد:

ورواه سفيان بن عيينة، عن يزيد بن الهاد، عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن أبيه خزيمة.

قلت: وهم سفيان في هذا الحديث وسلك فيه الجادة.

قال الإمام الشافعي: "غَلط سفيان في حديث ابن الهاد" [السنن الكبرى للبيهقي: 7/197].

وقال البخاري في «التاريخ الكبير» (8/256): "وقال ابن عيينة عن ابن الهاد عن عمارة بن خزيمة عن أبيه، وهو وهم".

وقال البيهقي: "مدار هذا الحديث على هرمي بن عبدالله، وليس لعمارة بن خزيمة فيه أصل إلا من حديث ابن عيينة، وأهل العلم بالحديث يرونه خطأ".

·       حديث عبدالملك بن عمرو بن قيس الخَطمي:

لم يُختلف فيه على عبدالملك فيه:

فرواه الوليد بن كثير، ومحمد بن إسحاق، كلاهما عن عبيدالله بن الحصين، عن عبدالملك ابن عمرو بن قيس الخطمي، عن هرمي بن عبدالله، عن خزيمة.

وفي حديث ابن إسحاق عن عبيدالله بن عبدالله بن حصين، قال: حدثني رجلٌ من قومي يُقال له: عبدالملك بن عمرو بن قيس، قال: حدثني هرمي بن عبدالله، قال: كنت جالساً في نادي بني خطمة، وخزيمة جالسٌ في المسجد. فقال: فذكروا النساء، وما يؤتى منهنّ. فقال خزيمة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أيها الناس، إن الله لا يستحي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهنّ».

·       حديث عمرو بن شعيب:

لم يختلف على عمرو فيه. فرواه عليّ بن الحكم، وحجاج بن أرطأة، كلاهما عن عمرو بن شعيب، عن هرمي بن عبدالله، عن خزيمة بن ثابت.

إلا أن حجاجاً قلب اسمه، فقال: «عبدالله بن هرمي»! وهذا خطأ.

·       حديث عبدالله بن عليّ بن السائب:

اختلف فيه على عبدالله بن عليّ:

فرواه عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن عبدالله بن علي بن السائب -أحد بني المطلب -، عن حصين بن محصن الخطمي، عن هرمي بن عمرو الخطمي، عن خزيمة بن ثابت.

ورواه حسّان مولى محمد بن سهل بن عبدالعزيز، وخالد بن يزيد، كلاهما عن سعيد بن أبي هلال، عن عبدالله بن علي، عن هرمي بن عمرو الخطمي، عن خزيمة بن ثابت.

قلت: قوله: "هرمي بن عمرو" خطأ.

ورواه الليث بن سعد، ومحمد بن شعيب بن شابور، كلاهما عن عمر مولى غفرة، عن عبدالله بن علي بن السائب، عن عبدالله بن حصين بن محصن، عن عبدالله بن هرمي، عن خزيمة.

وفي رواية الليث: «عبيد بن حصين»!

قلت: عمر مولى غفرة ضعيف، ليس بالقوي، يقلب الأخبار، يُكتب حديثه ولا يحتج به!

ورواه الحسن بن محمد بن أعين، وإبراهيم بن محمد الشافعي، ويونس بن محمد، والإمام محمد بن إدريس الشافعي، كلّهم عن محمد بن علي بن الشافع بن السائب الشافعي - جدّ إبراهيم بن محمد من قِبل أمّه، وعمّ الإمام الشافعي -، عن عبدالله ابن علي بن السائب، عن عمرو بن أحَيْحَة بن الجُلاح الأنصاري، عن خزيمة.

وقد بيّن الإمام البخاري الاختلاف في أسانيد هذا الحديث في ترجمة «هرمي» من «التاريخ الكبير» (8/256). فقال: "هرمي بن عبدالله. قال عياش بن الوليد: حدثنا عبدالأعلى، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: حدثني عبيدالله ابن عبدالله بن الحصين الأنصاريّ، قال: حدثني عبدالملك بن عمرو بن قيس - رجلٌ من قومي- قال: حدثني هرمي بن عبدالله، قال: تذاكرنا شأن السناء في مجلس بني واقف. فقال خزيمة بن ثابت: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ الله لا يستحي من الحقّ. لا تأتوا النساء في أعجازهنّ». وقال لي إسحاق: قلت لأبي أسامة: أحدّثكم الوليد بن كثير قال: حدثنا عبيدالله بن عبدالله بن الحصين، عن عبدالملك بن قيس، عن هرمي بن عبدالله قال: سمعت خزيمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. فأقرَّ به مثله. وقال لي إسحاق، عن أبي عامر العقدي، قال: حدثنا أبو مصعب، عن ابن الهاد، عن عبيدالله ابن عبدالله بن الحصين، ولا يصح. وقال ابن عيينة: عن ابن الهاد عن عمارة بن خزيمة، عن أبيه. وهو وهم. وقال لي محمد بن المثنى: حدثني مغيرة بن سلمة، قال: حدثنا وهيب: سمع حميداً الأعرج: سمع هرمياً، عن خزيمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعن ابن أبي عدي، عن حبيب بن الشهيد، عن حميد مثله. وقال إبراهيم بن حبيب، عن أبيه مثله. وقال لي سعيد بن أبي هلال، عن عبدالله بن علي، عن هرمي بن عمرو الأنصاري، عن خزيمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. وقال لنا عبدالله بن صالح، عن الليث، عن عمر مولى غفرة، عن عبدالله بن علي بن السائب، عن عبيدالله بن حصين، عن عبدالله بن هرمي الخطمي، عن خزيمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولا يصح عبدالله".

قلت: ظاهر تصرف الإمام البخاريّ أنه يرجح طريق ابن إسحاق والوليد بن كثير عن عبيدالله بن عبدالله بن الحصين عن عبدالملك بن عمرو بن قيس عن هرمي بن عبدالله عن خزيمة بن ثابت. وقد علل حديث ابن الهاد الذي لا يوجد في إسناده عبدالملك بن عمرو. وعلل حديث ابن عيينة، ثمّ ذكر بعض المتابعات لعبدالملك عن هرمي. وقال بأن من قال «هرمي بن عمرو» فقد وهم! ومن قال: «عبدالله بن هرمي» فقد وهم أيضاً. ولم يتعرض لحديث ابن أحيحة هنا.

ومما يدل على أن البخاري يُرجّح طريق عبدالملك بن عمرو: أنه ترجم في كتابه «التاريخ الكبير» (5/425): "عبدالملك بن عمرو بن قيس الأنصاري: سمع هرمي بن عبدالله. روى عنه عبيدالله بن عبدالله المدني". وترجم أيضاً (5/388): "عبيدالله بن عبدالله بن الحصين الأنصاري الخطمي: سمع عبدالملك بن عمرو: سمع هرمياً: سمع خزيمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تأتوا النساء في أعجازهن». روى عنه محمد بن إسحاق والوليد بن كثير وابن الهاد وعبدالله بن علي بن السائب. وقال بعضهم: عبيدالله بن حصين. وقال بعضهم: عبدالله بن عبدالله بن حصين، ولا يصح. وقال أبو نعيم: حدثنا عبدالرحمن بن النعمان: حدثنا عبيدالله بن عبدالله الخطمي: سمع جابراً، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الوضوء من المذي".

قلت: أثبت الإمام البخاري سماع عبدالملك بن عمرو من هرمي، وسماع هرمي من خزيمة، وهذا يدل على صحة الحديث عنده، وأن هرمياً هذا صدوق. وقد نبّه على أخطاء حصلت في الرواية في اسم عبيدالله بن عبدالله، وأثبت أن الصواب في اسمه: عبيدالله بن عبدالله بن الحصين الخطمي، ودعم ذلك بالحديث الأخير الذي ذكره له عن جابر.

وقال ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (9/120): "هرمي بن عبدالله: روى عن خزيمة بن ثابت. روى عنه عبدالملك بن عمرو بن قيس، وعمرو بن شعيب. سمعت أبي يقول ذلك".

وقال أيضاً (5/359): "عبدالملك بن عمرو بن قيس الخطمي: سمع هرمي بن عبدالله. سمعت أبي يقول ذلك". قال أبو محمد: "روى عنه عبيدالله بن حصين الوايلي الأنصاري".

وقال (5/321): "عبيدالله بن عبدالله بن الحصين الخطمي الأنصاري: سمع جابر بن عبدالله، وعبدالملك بن عمرو. روى عنه ابن الهاد وعبدالله بن علي السائب والوليد بن كثير ومحمد بن إسحاق وعبدالرحمن ابن النعمان الأنصاري. سمعت أبي يقول ذلك". قال عبدالرحمن: سئل أبو زرعة عن عبيدالله بن عبدالله الخطمي؟ فقال: "مديني أنصاريّ ثقة".

وقال ابن حبان في «الثقات» (5/516): "هرمي بن عبدالله الواقفي: يروي عن خزيمة بن ثابت: إن الله لا يستحي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن. روى عنه حميد الأعرج، وهو الذي روى عنه عبدالملك ابن عمرو بن قيس الخطمي".

وقال أيضاً (7/100): "عبدالملك بن عمرو بن قيس الخطمي الأنصاري: يروي عن هرمي بن عبدالله. روى عنه عبيدالله بن عبدالله الخطمي".

وقال (5/70): "عبيدالله بن عبدالله بن الحصين الخطمي الأنصاري: يروي عن جابر بن عبدالله، وعبدالملك بن عمرو. عِداده في أهل المدينة. روى عنه محمد بن إسحاق وعبدالرحمن بن النعمان وابن الهاد، وهو الذي يروي عن هرمي بن عبدالله عن خزيمة".

وقال (7/148): "عبيدالله بن حصين الوايلي: يروي عن هرمي بن عبدالله".

قلت: وقد سبق قبل قليل قول أبي محمد ابن أبي حاتم في الرواة عن عبدالملك: "روى عنه عبيدالله ابن حصين الوالبي الأنصاري".

قلت: وهذا خطأ نبّه إليه الإمام البخاري فيما سبق. والصواب: عبيدالله بن عبدالله بن حصين.

وقد رجّح بعض أهل العلم إسناد حديث ابن إسحاق والوليد على إسناد ابن الهاد. فقال البيهقي: "قصّر به ابن الهاد فلم يذكر فيه عبدالملك بن عمرو".

وتعقبه ابن التركماني، فقال: "قلت: أخرجه ابن حبان في صحيحه عن أبي يعلى، قال: حدثنا أبو خيثمة، قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: سمعت أبي، عن ابن الهاد، أنّ عبيدالله حدّثه: أنّ هرمي بن عبدالله حدّثه. وأخرجه أحمد في «مسنده» عن يعقوب عن أبيه كذلك. فصرح عبيدالله في هذين الطريقين الصحيحين أن هرمياً حدثه، فيحمل على أنه سمعه من هرمي مرة بلا واسطة، ومرة بواسطة عبدالملك، وقد أخرجه الطحاوي من حديث الليث بن سعد عن عبيدالله، عن هرمي، فتابع الليث يزيد بن الهاد على إسقاط عبدالملك". [الجوهر النقي المطبوع بهامش سنن البيهقي:7/197].

قلت: ضعّف البخاري إسناد ابن الهاد كما سبق. وأما بالنسبة لرواية الليث فقد وقع فيها سقط؛ لأن النسائي رواها عن الليث عن ابن الهاد عن هرمي، ولم يذكر عبيدالله، والطحاوي عنده عبيدالله وليس في روايته ابن الهاد، والحديث حديث ابن الهاد! وصيغة التحديث التي احتج بها ابن التركماني إنما هي من الرواة، وقد قصّر به ابن الهاد.

وبناءً على اختلاف هذه الأسانيد جاءت ترجمة المزي لهرمي في «تهذيب الكمال» (30/165) قال: "(س) هرمي بن عبدالله، وقيل: هرمي بن عتبة، وقيل: هرمي بن عمرو (س)، وقيل: عبدالله بن هرمي الأنصاري الواقفي (ق)، ويقال: الخطمي المدني. مختلف في صحبته! له حديثٌ واحدٌ عن خزيمة بن ثابت (س ق) في النهي عن إتيان النساء في أدبارهنّ. وفي إسناده اضطرابٌ كبيرٌ. روى عنه ثمامة بن قيس بن رفاعة الواقفي من بني عبيدالله، وحصين بن محصن الخطمي (س)، وحميد بن قيس الأعرج، وعبدالله بن علي بن السائب ابن شافع (س)، وعبدالملك ابن عمرو بن قيس الخطمي (س)، وعبيدالله بن عبدالله بن الحصين الخطمي (س)، وعمرو ابن شعيب (س ق)، ويزيد بن عبدالله بن الهاد (س) على خلافٍ في ذلك".

قلت: الصواب في إسناد الحديث: عبيدالله بن عبدالله بن الحصين عن هرمي بن عبدالله عن خزيمة. وما عدا ذلك من اختلاف على عبيدالله فهو وهم. والصواب من هؤلاء الذين ذكرهم المزي من الرواة عن هرمي: ثمامة بن قيس، وحميد بن قيس الأعرج، وعبدالملك بن عمرو بن قيس، وعمرو بن شعيب. فهؤلاء خمسة رووا عنه، فهو مستور الحال؛ لأنه روى عنه جماعة ولم يأت فيه تعديل ولا تجريح. وعندي أن محله الصدق، وحديثه جيد، وليس بمضطرب.

وأما ما ذكره المزي من الرواة عنه: حصين بن محصن، وعبيدالله بن عبدالله بن الحصين، ويزيد بن عبدالله بن الهاد، فهذه أوهام وقعت في الرواية! والصواب أن عبيدالله بن عبدالله روى الحديث عن عبدالملك بن عمرو عن هرمي. ويزيد بن عبدالله بن الهاد لم يرو عن هرمي، وإنما قصّر بالإسناد، والصواب أنه عن عبدالملك بن عمرو عن هرمي. ورواية عبدالله بن علي بن السائب ستأتي إن شاء الله تعالى.

والحاصل أن هرمي بن عبدالله الواقفي هو تابعي كبير، وهو مخضرم؛ لأنه ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو غير هرمي بن عبدالله بن رفاعة الأنصاري الواقفي الصحابي، وقد وهم من خلط بينهما كما قال ابن حجر في «التقريب» (ص571).

وأما حديث عبدالله بن علي بن السائب، فاختلف عليه، فرواه عنه سعيد بن أبي هلال، واختلف على سعيد! فرواه عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن عبدالله بن علي بن السائب، عن حصين بن محصن الخطمي، عن هرمي بن عمرو الخطمي، عن خزيمة بن ثابت.

ورواه حسّان مولى محمد بن سهل بن عبدالعزيز، وخالد بن يزيد، كلاهما عن سعيد بن أبي هلال، عن عبدالله بن علي، عن هرمي بن عمرو الخطمي، عن خزيمة بن ثابت.

قلت: وما أظن الاضطراب إلا من سعيد بن أبي هلال! وكأنه كان يدخل له إسناد في إسناد! وأنا أميل إلى أن عبدالله بن علي لم يروه عن هرمي، والصواب في روايته ما رواه الحسن بن محمد بن أعين، وإبراهيم بن محمد الشافعي، ويونس بن محمد، والإمام محمد بن إدريس الشافعي، كلّهم عن محمد بن علي بن الشافع بن السائب الشافعي، عن عبدالله بن علي بن السائب، عن عمرو بن أحَيْحَة ابن الجُلاح الأنصاري، عن خزيمة.

ويؤيده ما رواه ابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (4/116)، وأبو محمد أحمد بن محمد الشافعي ابن بنت محمد بن إدريس الشافعي [كما عند الطبراني في المعجم الكبير:4/90]، كلاهما عن إبراهيم بن محمد بن العباس الشافعي، قال: حدثني جدّي محمد بن علي، قال: كنت مع محمد بن كعب القرظي، فسأله رجلٌ، فقال: يا أبا حمزة، ما ترى في إتيان النساء في أدبارهنّ؟ فأعرض - أو سكت-. فقال: هذا شيخ قريش فسله - يعني عبدالله بن علي بن السائب. فقال عبدالله: اللهم قذراً، ولو كان حلالاً. قال: ولم يكن سمع في ذلك شيئاً. قال: ثم أخبرني عبدالله بن علي أنه لقي عمرو بن أحيحه بن الجلاح، فسأله عن ذلك؟ فقال: أشهد لسمعت خزيمة بن ثابت الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين يقول: أتى رجلٌ النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، آتي امرأتي من دبرها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، قالها مرتين أو ثلاثاً. قال: ثم فطن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «في أي الخُرْبَتين أو في أي الخَرَزتين؟ أما من دبرها في قبلها فنعم، وأما في دبرها، فإن الله تعالى نهاكم أن تأتوا النساء في أدبارهن».

قال الإمام الشافعي في «مسنده» (1/275): "عمّي - محمد بن علي بن شافع -: ثقة. وعبدالله بن عليّ ثقة. وقد أخبرني محمد - وهو عمّه - عن الأنصاري المحدث بها أنه أثنى عليه خيراً، وخزيمة ممن لا يشك عالم في ثقته، فلست أرخص فيه، بل أنهى عنه".

قلت: والأنصاري الذي أشار إليه هو: عمرو بن أحيحة.

وقال الطبراني في «المعجم الأوسط» (6/261): "لم يرو هذا الحديث عن عمرو بن أحيحة إلا عبدالله بن علي بن السائب. تفرد به إبراهيم الشافعي".

قلت: لم يتفرد به، وإنما تابعه عليه: الحسن بن محمد بن أعين، ويونس بن محمد، والإمام الشافعي. وإبراهيم الشافعي ثقة. وكأن الطبراني أراد أن يقول: "تفرد به محمد بن علي"، والله أعلم.

وقال الحافظ ابن حجر في «الإصابة» (4/598): "وحديث عمرو هذا عن خزيمة في سنن النسائي، وهو مضطرب".

وقال في «التلخيص الحبير» (3/179): "وفي هذا الإسناد عمرو بن أحيحة، وهو مجهول الحال. واختلف في إسناده اختلافاً كثيراً. وقد أطنب النسائي في تخريج طرقه وذكر الاختلاف فيه. وهو من رواية عبدالله بن علي بن السائب، يرويه عنه محمد بن علي بن شافع، ورواه عن محمد بن علي الشافعي الإمام وابن عمه إبراهيم بن محمد بن العباس. وقد روى الدارقطني في «فوائد أبي الطاهر الذهلي» من طريق إبراهيم بن محمد هذا عن محمد بن علي قال: جاء رجلٌ إلى محمد بن كعب فسأله عن هذه المسألة؟ فقال: هذا شيخ قريش فاسأله - يعني عبدالله بن علي بن السائب. فسأله؟ فقال: عبدالله: اللهم قذراً! ولو كان حلالاً. انتهى. وقد اختلف فيه على عبدالله بن علي بن السائب، فرواه النسائي من طريق ابن وهب عن سعيد ابن أبي هلال عن عبدالله بن علي بن السائب عن حصين بن محصن عن هرمي بن عبدالله عن خزيمة ابن ثابت. ومن طريق هرمي أخرجه أحمد والنسائي وابن حبان، وهرمي: لا يعرف حاله أيضاً. وقال البزار: لا أعلم في الباب حديثاً صحيحاً لا في الحظر ولا في الإطلاق، وكلّ ما روي فيه عن خزيمة بن ثابت من طريق فيه فغير صحيح. انتهى. وكذا روى الحاكم عن الحافظ أبي علي النيسابوري، ومثله عن النسائي، وقاله قبلهما البخاري".

قلت: الاختلاف على عبدالله بن علي بن السائب إنما هو من الرواة، وقد بينت الصواب فيه. وعمرو بن أحيحة وهرمي ليسا بمجهولي الحال! بل هما معروفان صدوقان. وما نقله ابن حجر عن النسائي والبخاري من موافقتهما لقول البزار هو ما نقل عنهما أنه لم يصح أي حديث في الحرمة! لكن هذا لم يثبت عن البخاري، بل هو يرى قبول الحديث كما بينته سابقاً، والله أعلم.

وكأن هذا أخذه ابن حجر من البوصيري، فإنه قال في هذا الحديث في «مصباح الزجاجة» (2/110): "منكر"، ثُمّ قال: "لا يصح كما صرّح بذلك البخاري والبزار والنسائي، وغير واحد".

ثُمّ إن ابن حجر خالف رأيه في عمرو بن أحيحة هنا عما قاله في «التقريب» (ص487) حيث قال: "عمرو ابن أحيحة - بمهملتين مصغر - بن الجلاح - بضم الجيم وتخفيف اللام - الأنصاري المدني. مقبولٌ من الثالثة. ووهم من زعم أن له صحبة، فكأن الصحابي جدّ جدّه وافق هو اسمه واسم أبيه (س)".

فحديث خزيمة ثابتٌ وصحيحٌ.

·       اعتراض مُعترِض:

وقد أجاب الأخ الذي ذكرناه آنفاً على هذا الكلام لما أرسلنا له أصل البحث، فقال: "أما قول أبي صهيب وفقه الله: (أثبت الإمام البخاري سماع عبدالملك بن عمرو من هرمي، وسماع هرمي من خزيمة، وهذا يدل على صحة الحديث عنده، وأن هرمياً هذا صدوق)!

قلت: هذا غريب جدًا! ومتى كان إثبات البخاري - أو غيره من أئمة هذا الشأن- لسماع راوٍ من آخر في خبر بعينه دليلًا على ثبوت هذا الخبر عنده؟!

ومثل هذا يقال في ترجيحهم بعض الطرق على غيره في خبر بعينه.

على أن جماعة من أماثل المعاصرين قد أبدوا وجهًا معتبرًا، من كون تلك السماعات التي يذكرها البخاري في «تاريخه» في تراجم الرواة ليست من إنشائه هو؛ وإنما هي حكاية عما وقع له في الطرق والأسانيد وحسب.

ثم إن رأي البخاري في أحاديث الباب معروف مشهور، حكاه عنه ابن حجر وغيره من كونه لا يثبت في التحليل أو التحريم حديث قط!" انتهى كلامه.

قلت: ما قلته عن البخاري إنما قلته بالاستقراء من خلال حرصه على ذكر السماعات في تراجم كتابه، وخاصة إذا لم يكن للراوي الذي يُترجم له إلا حديثاً واحداً، فله - رحمه الله - طرقاً في التعامل مع ذلك يمكن معرفة رأيه من خلال الاستقراء.

فما يتعلق بالبخاري من إثباته للسماعات لا نُعدِّيه لغيره كما فعل الأخ بقوله: "أو غيره من أئمة هذا الشأن..."! فالكلام هنا على طريقة البخاري من خلال إيراده للتراجم في كتابه، فلا يجوز للأخ - غفر الله له - أن يُعمم هذا.

وأما الرأي الذي نقله عن جماعة من المعاصرين واستحلاه فهذا رأي باطل! فهو رحمه الله يذكر السماعات من خلال معرفته وخبرته، ولهذا يُفرِّق في الترجمة الواحدة بين: "سمع من فلان" و"وعن فلان".

نعم، قد يعتمد البخاري على سماعات لبعض الرواة كما جاءت في بعض الأسانيد، وهو يوردها بحسب ما جاءت، وهو بهذا يعتمدها كما كان يفعل في أسانيد الشاميين، ومن هنا كان يقع له الخطأ في ذكر سماعات بعض الشاميين لاعتماده على السماعات التي في أسانيدهم، وأما أن يُعمم الأمر كما نقل الأخ عن جماعة من المعاصرين فهذا رأي شاذ.

وأما شهرة رأي البخاري فيما نقله ابن حجر أنه لم يثبت عنده التحليل أو التحريم فهذا ليس بصحيح كما حررته سابقاً.

·       اعتراض آخر:

وقد أجاب الأخ أيضاً عما قلناه سابقاً، قال: "أما قول أبي صهيب وفقه الله: (وعمرو بن أحيحة وهرمي ليسا بمجهولي الحال! بل هما معروفان صدوقان).

قلت: بل التحقيق أنهما شيخان مجهولان غير معروفان بالرواية ولا بحملة العِلْم والآثار، وحسبك بجهالتهما أن أمثال: البخاري والذهلي والبزار والنسائي وأبا علي النيسابوري لَمْ يعرفاهم، وكلهم جزموا بكونه لا يثبت في هذا الباب شيء، وهذا يدل على أن هرمي وصاحبه ليسا عندهم بالذي يُنْظَر إليهما فضلًا عن الاحتجاج بروايتهما!

بل نص البزار منهم خاصة على ضعف حديث خزيمة بطرقه كلها، فقال: «كل ما رُوِيَ فِيهِ عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ مِنْ طَرِيقٍ فِيهِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ»..

وقد رأيتُ مَنْ يُسْرِف في تقوية أحاديث التحريم حتى أدرجها بعضهم في (قسم المتواتِر)! ولا يقول هذا إلا كل مَنْ لا يدري ما وراء الأكمة؟! وكم ادُّعِيَ التواتر في أحاديث: غايةُ أمرها: هو انجبار ضعْفِها بِطُرُقٍ تُسْرَد!" انتهى كلامه.

قلت: عمرو بن أحيحة وهرمي كلاهما من التابعين، والجهالة في التابعين لا نعاملها معاملة الجهالة كما في الطبقات التي بعدها، فالراوي عنهما من الثقات، وهرمي يروي قصة حدثت معه، والأخ فيما سبق قال بأن وجود القصة في الرواية قرينة على صحة الرواية، والرواية التي عن عمرو بن أحيحة فيها قصة كذلك ورواتها أئمة ثقات، فمتابعة هرمي لعمرو متابعة صحيحة.

وأما الدندنة حول رأي البخاري أنه لم يثبت في التحليل والتحريم شيء فهذا ليس بصحيح كما أشرت إليه مراراً.

وما نقله الأخ عن البزار قد قاله ابن حجر وقد نقلته عنه فيما سبق من التلخيص الحبير، وكذلك ما نقله عن أبي علي النيسابوري، وفي إطلاق هذا الكلام من ابن حجر نظر!

وأما إدراج بعضهم أحاديث التحريم في قسم المتواتر فهذا ليس بحجة يُحتج بها علينا في تصحيح حديث خزيمة، فحديث خزيمة ثابت صحيح، والأحاديث الأخرى ضعيفة، ومن أوردها في قسم المتواتر فقد أخطأ.

خلاصة البحث:

1- أن البخاري احتج بالسند ولم يذكر المتن كما رواه نافع، وإنما كنّى عنه، ولو كان البخاريّ يرى صحته لما اختصره ولأتى به كما رواه نافع، فهذه طريقة ذكية منه - رحمه الله - لبيان خطأ نافع في فهم المراد، وأيّد ذلك بالرواية الثانية التي ساقها من حديث جابر وهو سبب نزول هذه الآية، وأن المقصود كان في إتيان المرأة من دبرها في قُبلها، وليس في الدبر.

2- متابعة الدراوردي التي احتج بها ابن حجر منكرة! وهي مردودة.

3- الرواية عن مالك عن نافع ليست ثابتة، ولهذا لا نجدها إلا في كتب الغرائب التي تحوي الأفراد المنكرة.

4- لم تصح أي متابعة لنافع في هذه الرواية عن ابن عمر.

5- أخطأ نافع في فهم الرواية بسبب لحنه وعجمته، ولما تكلم ابن عساكر على عجمته في ترجمته من تاريخه أتى بهذه الرواية ليدلل على أنه أخطأ فيها.

6- أجمع السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على حرمة إتيان النساء في أدبارهن، إلا ما رواه نافع عن ابن عمر، وقد روي عن ابن عمر التحريم أيضاً.

7- رُوي تجويز ذلك عن بعض أهل المدينة، وكأنهم ذهبوا إلى رواية نافع عن ابن عمر، وهي خطأ.

8- ذهب النسائي إلى أنه لم يصح في تحريم إتيان الدبر شيء ولا في تحليله، وهذا لا يعني أنه يرى الجواز! بل ظاهر مذهبه أنه يرى عدم الجواز. وكذلك الإمام البخاري ظاهر تصرفه يرى الحرمة، والله أعلم.

9- حديث خُزيمة بن ثابت - رضي الله عنه - عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله لا يستحي من الحقّ: لا تأتوا النساء في أعجازهنّ» حديث صحيح.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

وكتب خالد الحايك.

 

شاركنا تعليقك