الموقع الرسمي للشيخ الدكتور خالد الحايك

إِذا تكلَّم المرءُ في غيرِ فنِّه أَتى بالعَجائب..‏!!

إِذا تكلَّم المرءُ في غيرِ فنِّه أَتى بالعَجائب..‏!!

بقلم: د. خالد الحايك.

 

لا يستطيع اللسان التعبير عن بعض ما يتلجلج في الصدر من شدّة الفتن التي عصفت بهذه الأمة، فلا ترى إلا الكيد والمكر، ولا تسمع إلا الطعن والسبّ والشتم، بين الكبير والصغير، والعالِم والجاهل.

أإلى هذا الحدّ وصل حال هذه الأمة التي كانت خير أمة أخرجت للناس؟ كيف لهذه الأمة أن تكون رائدة الأمم! وقدوتها والمنتسبون إليها يفعلون ما يفعلون؟!

إنّ معالجة الأمراض التي سرت في أبناء هذه الأمة يحتاج مشواراً طويلاً وجهداً متكاثفاً من عقلائها لوضع كلّ امرئ في مكانه الصحيح، ولئلا يتسوّر المحراب من ليسوا بأهل له. فقد كثر المتطاولون على هذا الدِّين؛ فخاضوا فيه بجهل وبغير علم، والعلماء متخاصمون يقذفون بعضهم بعضا!ً والله المستعان.

قال الإمام الشافعيّ: "وقد تكلّم في العلم مَن لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساكُ أولى به، وأقربَ من السلامة له إن شاء الله".

إيه، والله لو سكت هؤلاء عن الذي تكلموا فيه لحفظوا ماء وجوههم، ورحم الله امرءاً عَرف قدر نفسه، إذاً لأراح واستراح.

ظهر في هذا الزمان مرض عصيّ عن العلاج، وهو مرض الكتابة.. كلّ من هب ودبّ يريد أن يكتب! لا يهم ما يكتب.. إنما المهم هو أن يكتب وحسب.

ألا يعلم هذا الكاتب أن همّ القلم كبير؟ ألا يعلم أن كلّ كلمة يكتبها محاسبٌ عليها؟! ألم يسمع إلى قول رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)).

فقدّم النبيّ صلى الله عليه وسلم الإيمان بالله وقرنه بالإيمان باليوم الآخر في النهي عن الكلام إلا إذا كان خيراً؛ لأن من آمن باليوم الآخر وعلم أن الله سيحاسبه على ما سيقول وما سيكتب؛ فإنه يحسب لكلّ ذلك حساباً يمنعه من أن يكتب في ما لا يتقنه وما لا يعرفه.

وهذه نصيحة من شيخنا أبي مالك محمد شقرة – حفظه الله - وهو يَعظ أحد الكتّاب: "وما ينبغي أَن تستخف بحمل القلم، فهو على صغر حجمه وخفة وزنه، غزير الإغداق، جمُّ الإعطاء، يخشى لهذا أَن يستبق عقل صاحبه، فيزيد في عدد الكلمات والحروف التي يلقي بها عليه، من حيث لا يدري، لذا؛ فكن ضنيناً بالكلمات والحروف التي تلقي بها عليه، وإلا فأَلق به جانباً، وأَنس أنه كان لك يوماً قلمٌ تألفه ويأْلفك".

إنها والله نصيحة عظيمة نابعة من أعماق القلب، كيف لا، وقائلها ممن دانت له لغة الضاد، فأمسك بها أو أمسكت به، فهو يطوّعها كيف يشاء، إنها منحة من الله.

فيا أخي، رويداً رويداً فيما تكتب، ولا تجعل الكتابة أكبر همك، ولا تكن من هؤلاء الذين ملئت الساحات بهم، في المنتديات والصحف والفضائيات، فمهما كان تخصصه - هذا إن أتقنه - فهو يخوض في كلّ الميادين، فما أن يجد شيئاً على الساحة إلا وأعمل قلمه فيها، دون وعي.

أصبحت ترى الصحفي الذي يكتب مقالات اجتماعية ركيكة مبتذلة - داؤها أكثر من دوائها - يخوض في الدِّين، فيصحح ويخطئ، ويفتي، ويأتي بالأدلة (من ذاكرته بحسب تعبير أحدهم)، ويقيس الأمور بحسب العادات الاجتماعية، بل إنه يحتج في الأمور الشرعية بما قاله فلان في أغنيته! وغير ذلك من الهذيان الذي يستحي منه الصبيان، نسأل الله حفظ اللسان.

وذاك آخر يحمل شهادة في التاريخ يُنظِّر ويُقعِّد، ويزبد ويرعد، ويطلب ويُطالب، فذكّرني بقول أحدهم واصفاً أحوال هؤلاء: "رياضي يُبتلى بالعشق فيبدأ بنظم الخواطر وقرظ الشعر وهو لا يُجيد حتى قرظ الشعير، وكُلّ يوم يُطل علينا بقصيدة لا تختلف عن العصيدة، سوى أنا نستفيد من الثانية بأكلها. وأديب يُصاب بهوس تقمص المُحلل الأوحد للعبة القذرة (السياسة) ويبدأ بتنظيرات لا تُجاوز كونها خربشات (طفل) لدى أهل التخصص. وشيخ قبيلة أو كبير عائلة تحترمهُ جماعتهُ، ويُقدرونه يُصبح المُفتي والسياسي والخبير الاستراتيجي و(كُل شيء)، وقولُهُ يقطعُ قول كُل خطيب، والقولُ ما قاله هو ولو خرم الشرع والعقل".

ولم يقتصر الأمر على هذا، بل تجد بعض النساء اللواتي يحملن الشهادات الأدبية يُفتين وينظرن في الدّين!

تقول إحداهن - وهي من اللواتي نصبن العداء لهذا الدين - تقول - وهي المتبرجة السافرة ذات الشعر المنفوش الذي ربما لم يمشط منذ زمن -: "النقاب بدعة غير حميدة، ولم يعرفها المسلمون الأوائل، فإن حجاب المرأة في البيت وفرض سواد الأقمشة حتى تحتفي، لم يحصل إلا بعد أن استشرت تجارة الرقيق في العصر العباسي.."، وتقول: "إن مسألة النقاب كلها تدور حول سوء الظن بالمرأة الحرة وقدرتها على خوض الحياة بلا حاجز أو حاجب"!

وهذه الجاهلة وأمثالها تمادين في الكتابة والطعن في الدّين بحجة الحرية الشخصية وحرية الفكر، وغير ذلك من "شعارات" الانفلات ومحاربة الإسلام.

حقاً إنا نعيش في زمان قد انقلبت فيه الأمور، وما ذلك إلا بتصدر الجهّال بدل العلماء، فاتخذ الناس رؤوساً جُهّالاً، فأفتوا فضلّوا وأَضلوا. إنه زمان اقتراب الساعة التي من أشراطها كما قال البشير النذير صلى الله عليه وسلم: ((أن يرفع العلم ويكثر الجهل)). ورفع العلم بقبض العلماء كما قال صلى الله عليه وسلم، فكلما مات عالِم صادق صادح بالحقّ ظهر مكانه عشرات الجهلة ممن يلقون الدعم المادي والمعنوي، والله المستعان.

فيا أخي، هذه نصيحتي إليك أن لا تخوض في ما لا تعلم، ولا تكتب فيما لا تحسن.

أنشد بعض العلماء ولم يذكر قائله:

الشّعراءُ فاعلمن أربعه

فشاعرٌ لا يُرتجى لمنفعه

وشاعرٌ ينشط وسط المجمعه

وشاعر آخر لا يجري معه

وشاعر يقال خمر في دعه

وقد قيل: "لا يزال المرء مستوراً، وفي مندوحة مالم يصنع شعراً أو يؤلف كتاباً؛ لأن شعره ترجمان علمه، وتأليفه عنوان عقله".

وقال الجاحظ: "من صنع شعراً أو وضع كتاباً فقد استهدف؛ فإن أحسن فقد استعطف، وإن أساء فقد استقذف".

قال حسان بن ثابت، وما أدراك ما هو؟:

وإن أشعر بيت أنت قائله // بيت يقال إذا أنشدته: صدقا

وإنما الشعر لب المرء يعرضه // على المجالس إن كيساً وإن حمقا

وما أحسن ما قاله بعض المعاصرين، وأجرى الأبيات السابقة على كتّاب هذا الزمان:

الكُتّاب فاعلمن أربعه

فكاتبٌ يجري ولا تجري معه

وكاتبٌ يخوضُ وسط المعمعه

وكاتبٌ لا تشتهي أن تسمعه

وكاتبٌ لا تستحي أن تصفعه

قالوا: عِش رجباً ترى عجباً!

نعم، قال مالك بن دينار: "ما أشدَّ فِطام الكبير"، لكن أصلح نيتك يا أخي، يصلح الله سريرتك، ويرفق بك.

قال الحسن بن هانيء:

خَلّ ِجنبيك لِرَامِي // واْمض عنه بسَلاَم

مُتْ بداء الصمت خيرٌ // لك من داء الكلام

ربَّ لفظ ساق آجا // ل فِئَام وفئام

إنما الساِلمُ من أَلْ // جَم فاهُ بِلِجَام

نشرت في جريدة السبيل: 23/7/2009م.

شاركنا تعليقك