الموقع الرسمي للشيخ الدكتور خالد الحايك

رداً على مقالة «نزاع حدودي»!

رداً عل مقالة: "نزاع حدودي"!

بقلم: د. خالد الحايك.

 

كم يتفاجأ المرء في هذه الأيام مما يراه في الصًحف والمجلات والفضائيات من إعجاب المرء بنفسه فيما يكتبه أو يتكلم به! فإذا ظهر على فضائية فتراه يحاول تنميق الكلام وتزويقه ليُعجب به المشاهد! وإذا كتب في صحيفة أو مجلة تراه يستعين بالنصوص التي يجدها في بعض الكتب لنصرة فكرته - بحسب ما فهمه - وحقاً إنه لمن المؤسف أن يخوض الإنسان في غير فنّه، وكما قال أهل العلم: "من خاض في غير فنّه أتى بالعجائب"!

نشرت صحيفة السبيل الأردنية في عددها رقم (862) يوم الجمعة (1) أيار (2009م) في صفحة (5) (المال والاقتصاد) مقالاً لأحد الكتّاب (محمد الشرافي) تحت موضوع: (دين ودينار) بعنوان: (نزاع حدودي بين أبي بكر وربيعة!!).

وحقاً فإن العنوان ملفتٌ للنظر؛ لأنه قرن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بنِزاع مع ربيعة. ولم يقف الأمر عند هذا حتى صوّر الكاتب النـزاع على المال تحت زايو (دين ودينار) وهذا طعن مبطن خفي من الكاتب في أبي بكر رضي الله عنه.

وكذلك وضع الكاتب أو من طبع المقال علامتي تعجب بعد العنوان، ولا أدري هل يتعجب صاحب العنوان من فِعل أبي بكر مع ربيعة - حسبما ثبت له - أو استنكاراً! الظاهر أنه يستعجب لهذا الفعل كما جاء في داخل المقال.

وبعد أن سرد الكاتب الرواية أخذ يُعرِّض بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بطرحه لبعض الأسئلة الصحفية؟ أيعقل كذا؟ أيعقل كذا؟ ثُم فجّر المفاجأة العظيمة وهو أن ما فعله أبو بكر إنما هو من "طبائع التجار"! ثُم أخذ يُرقِع لهذه الفرية التي افتراها على حبيبنا أبي بكر رضي الله عنه. ثُم سأل المغفرة لأبي بكر وكأنه يعترض على فعله مع ربيعة كما تزعم القصة! سبحانك ربنا هذا بهتانٌ عظيم.

جاء الكاتب برواية استخرجها من كتاب الإمام الحاكم (المستدرك على الصحيحين) ثم ختمها بحكم الحاكم على هذه الرواية حيث قال: "حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ليؤكد صحة الرواية وأنه لم يصححها بل صححها أحد أئمة الحديث.

وهذا التصرف قد يغتفر للكاتب ولكن كان ينبغي له الرجوع إلى أهل الاختصاص في هذا، هل ثبتت هذه الرواية أم لا؟ وأهل الاختصاص لا يعوّلون على تصحيحات الحاكم في كثير مما يورده في كتاب لأسبابٍ ليس هذا محلّ تفصيلها.

نعم هذه الرواية قد أخرجها الإمام الحاكم في كتابه، بل وأخرجها الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود الطيالسي في مسنده، وغيرهم من أهل العلم. ولكن تخريج هؤلاء الأئمة لمثل هذه الروايات لا يعني صحتها، وإنما هم يخرجون الأحاديث التي تقع لهم في مسانيد ذلك الصحابي ولا يلتزمون الصحة.

هذه القصة التي أعجب بها الكاتب قصةٌ منكرةٌ باطلةٌ! وحاشا أبا بكر أن يفعل ما أعجب الكاتب!

القصة رواها المبارك بن فضالة البصري – وكان من أصحاب الحسن البصري – رواها عن أبي عمران الجوني عن ربيعة بن كعب الأسلمي، قال: كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر حديثاً طويلاً في صفحتين، ومنه ما اجتزأه الكاتب.

والمبارك هذا كان ناسكاً متعبداً قد أثنى عليه بعض أهل العلم، وثناؤهم هذا كان في دينه، وأما في روايته فهم يكاد يُجمعون على ضعف حديثه، وخاصة إذا تفرد، ولم يتابعه عليه أحد من الرواة. وهذه طائفة من أقوال أهل الاختصاص فيه تجدها في كتاب (الكامل في ضعفاء الرجال) لابن عدي (6/319):

- قال أحمد بن حفص السعدي: قال رجلٌ لأحمد بن حنبل - يعني وهو حاضر -: روى مبارك عن الحسن - يعني حديث: زادك الله حرصاً؟ قال: دع مبارك ولم يعبأ بمبارك.

- وقال محمد بن عبدالله بن عمار: كان يحيى بن سعيد لا يرضى مبارك.

- وقال يحيى بن معين: ضعيف الحديث وهو مثل الربيع بن صبيح في الضعف.

- وقال السعدي: مبارك بن فضالة والربيع بن صبيح يضعف حديثهما، ليسا من أهل التثبت.

- وكان يحيى القطان وعبدالرحمن بن مهدي لا يحدثان عن مبارك بن فضالة.

- وقال النسائي: مبارك بن فضالة ضعيف.

وقد ترجم له الخطيب البغدادي في ((تاريخ بغداد)) (13/215) ومما ذكر في ترجمته:

قال أبو الحسن الدارقطني: مبارك بن فضالة ليّن كثير الخطأ.

وقال عليّ بن المديني: عند مبارك أحاديث مناكير عن عبيد الله وغيره. قيل له - أي لعلي -: أيما أحب إليك الربيع أو مبارك؟ فقال: سئل يحيى عن هذا فذهب إلى أن الربيع أحب إليه.

وذكره العقيلي في ((الضعفاء)) (4/224) وروى عن عبدالله بن أحمد قال: سئل أبي عن مبارك والربيع بن صبيح، فقال: ما أقربهما، كان المبارك يرسل. وسئل أبي عن مبارك وأشعث، فقال: ما أقربهما، كان المبارك يدلس.

وقال أبو زرعة الرازي: "يدلس كثيراً"، وقال أبو داود: "شديد التدليس".

والحاصل أن مبارك بن فضالة يحتاج إلى من يتابعه على روايته، وإلا ردت ولم تقبل. وهذه القصة المنكرة لم يتابعه عليها أحد من الأئمة الثقات ولا حتى الضعفاء مثله. وإنما خالفه الحارث بن عبيد الإيادي البصري فقال: حدثنا أبو عمران الجوني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع أبا بكر وربيعة الأسلمي أرضاً فيها نخلة مائلة أصلها في أرض ربيعة وفرعها في أرض أبي بكر، فذكر القصة (الطبقات الكبرى لابن سعد: 4/313).

والحارث بن عبيد فيه كلام أيضاً، وهو أرفع من مبارك، وقد أرسل الحديث، فأخطأ مبارك فرفع الحديث، وكان يصل المراسيل كما قال أهل العلم. وأبو عمران لم يسمعه من ربيعة؛ ولم ينص أحد من أهل العلم على أنه سمع منه.

وطبقة شيوخ أبي عمران ليست طبقة ربيعة، وربيعة مات يوم الحرة سنة (63هـ). وأقصى ما قال أهل العلم أن أبا عمران الجوني رأى عمران بن حصين (مات سنة 52هـ)، فمثله لا يدرك ربيعة المدني. وتلاميذ ربيعة الثقات كأبي سلمة بن عبدالرحمن (ت94هـ) وغيره لا يوجد عندهم هذا الحديث.

فإذا حكمنا لرواية الحارث فتكون هذه القصة مرسلة يتناقلها الناس دون إسناد، وهذا مما يشتهييه الناس، ولا تصح مسندة عن الثقات، فهي ضعيفة لا يحتج بها.

وإلا قلنا: إن مباركاً ضعيف ولم يتابعه أحد على رفع الرواية، ورواية الحارث لا تشد روايته لأنها ليست مسندة، وعلى كلّ الأحوال فالقصة منكرة لا تصح.

وهناك مسألة أخرى اختلف فيها أهل العلم وهي: هل ربيعة هذ الذي يروي عنه أبو عمران هو أبو فراس ربيعة بن كعب الصحابي أم هو آخر؟ وهذا ليس مكان تفصيل ذلك.

وأخيراً أقول: فليتق الله هؤلاء الكتاب في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولسألوا أهل العلم قبل أن يكتبون، والله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

نشرت في جريدة السبيل مختصرة بتاريخ: 7/5/2009م.

شاركنا تعليقك