الموقع الرسمي للشيخ الدكتور خالد الحايك

نصيحة الخطيب البغداديّ لأهل الحديث للتفقه في الدِّين، وتهذيب كتابه: «نصيحة أهل الحديث».

نصيحة الخطيب البغداديّ لأهل الحديث للتفقه في الدِّين، وتهذيب كتابه: «نصيحة أهل الحديث».

 

بقلم: أبي صهيب الحايك.

 

إنّ رسالة الخطيب هذه نصيحة إلى أهل الحديث للتفقه في الدّين؛ لأن غاية طلب الحديث هو العلم به والتفقه فيه.

ومع صغر حجمها إلا أن لها فائدة عظيمة، وقد رأيت لهذه الرسالة عدة تحقيقات، أطال بعضهم في تخريج أحاديها، وقصّر بعضهم، وقد اختلف من حقق هذه الرسالة في تصحيح وتضعيف ما فيها من أحاديث وآثار!

فرأيت من الفائدة تهذيب هذه الرسالة وحذف الأسانيد، والاقتصار على ما صحّ فيها عندي، إذ قد يختلف البعض معي في التصحيح والتضعيف، وأنا كذلك اختلف معهم؛ إذ لا نعامل الآثار وأقوال أهل العلم معاملة الحديث الذي يُروى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولكلّ وجهة هو موليها، والله الهادي للصواب.

وهذه الرسالة للخطيب لا تعني أن كلّ أهل الحديث لا يعرفون الفقه، بل أهل الحديث هم أهل الفقه، وإنما لما رأى الخطيب في زمانه عناية الطلبة بكَتْب الحديث وإعراضهم عن التفقه وجّه إليهم هذه النصيحة.

 

تهذيب كتاب: «نصيحة أهل الحديث» للحافظ الخطيب.

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الخطيب أبو بكر أحمد بن عليّ بن ثابت الحافظ -رحمه الله تعالى-:

رسمت في هذا الكتاب لصاحب الحديث خاصةً، ولغيره عامة، ما أقوله نصيحة مني له، وغَيرة عليه، وهو: أن يتميز عمّن رضي لنفسه بالجهل، ولم يكن فيه معنى يلحقه بأهل الفضل، وينظر فيما أذهبَ فيه معظم وقته، وقطع به أكثر عمره، من كتب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمعه، ويبحث عن علم ما أمر به من معرفة حلاله وحرامه، وخاصه وعامه، وفرضه وندبه، وإباحته وحظره، وناسخه ومنسوخه، وغير ذلك من أنواع علومه قبل فوت إدراك ذلك.

قال الشافعي: "تفقه قبل أن ترأس، فإذا ترأست فلا سبيل إلى التفقه".

وقال أبو أحمد المروزي: كان يُقال: "إنما تَقبل الطينة الخَتم ما دامت رطبة".

أيّ أن العلم ينبغي أن يُطلب في طراوة السّن.

وجاء عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب –رضي الله عنه-، أنه قال: ((تفقّهوا قبل أن تُسَوَّدوا)).

قال أبو عُبيد في حديث عمر: "تعلّموا العلم ما دمتم صغاراً قبل أن تصيروا سادة رؤساء منظوراً إليكم، فإن لم تعلموا قبل ذلك استحييتم أن تعلموا بعد الكِبَر، فبقيتم جُهّالاً تأخذون من الأصاغر، فيزري ذلك بكم، وهذا شبيهٌ بحديث عبدالله: ((لن يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم، فإذا أتاهم من أصاغرهم فقد هلكوا)). وفي الأصاغر تفسيرٌ آخر بلغني عن ابن المبارك: أنه كان يذهب بالأصاغر إلى أهل البدع، ولا يذهب إلى أهل السن".

وعن عبدالله بن مسعود قال: ((لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم، وعن أمنائهم وعلمائهم، فإذا أخذوا من صغارهم وشِرارهم هلكوا)).

قال عبدالله بن مسلم بن قُتيبة الدّينوري في هذا الحديث: "يُريد لا يزال الناس بخير ما كان علماؤهم المشايخ، ولم يكن علماؤهم الأحداث؛ لأن الشيخ قد زالت عنه متعة الشباب وحدّته وعَجلته وسفهه، واستصحب التجربة والخبرة، فلا يدخل عليه في علمه الشبهة، ولا يغلب عليه الهوى، ولا يميل به الطمع، ولا يستزله الشيطان إستزلال الحَدَث، ومع السن الوقار والجلالة والهيبة، والحدث قد تدخل عليه هذه الامور التي أمنت على الشيخ، فإذا دخلت عليه وأفتى، هَلك وأهلك".

قال الخطيب: ولا يقتنع بأن يكون راوياً حَسْب ومحدِّثاً فقط.

قال الرّبيع بن سليمان: سمعت الشافعي –وذُكر من يحمل العلم جُزافاً- قال: "هذا مثل حاطب ليل! يقطع حزمة حطب فيحملها، ولعل فيها أفعى فتلدغه، وهو لا يدري".

قال الرّبيع: "يعني الذين لا يسألون عن الحجّة من أين".

وقال أبو بكر محمّد بن الحسن بن دُريد: سُئِل بعضهم: متى يكون الأدب ضارّاً؟ فقال: "إذا نقصت القريحة وكثرت الرواية".

وقال أبو العبّاس بن عقدة يوماً، وقد سأله رجل عن حديث: "أقلوا من هذه الأحاديث، فإنها لا تصلح إلا لمن علم تأويلها".

قال الخطيب: ولعله يطول عمره فتنـزل به نازلة في دينه يحتاج أن يسأل عنها فقيه وقته، وعسى أن يكون الفقيه حديث السنّ، فيستحي أو يأنف من مسألته، ويضيع أمر الله في تركه تعرف حكم نازلته.

وعن عمر –رضي الله عنه- قال: ((قد علمت متى صلاح الناس ومتى فسادهم: إذا جاء الفقه من قبل الصغير استعصى عليه الكبير، وإذا جاء الفقه من قبل الكبير تابعه الصغير فاهتديا)).

قال الخطيب: فإن أدركه التوفيق من الله عزّ وجلّ وسأل الفقيه لم يأمن أن يكون بحضرته من يدري به ويلومه على عجزه في مقتبل عمره إذا فرّط في التعليم، فينقلب حينئذ واجماً، وعلى ما سلف من تفريطه نادماً.

قال محمد بن عبيد: جاء رجلٌ وافر اللحية إلى الأعمش، فسأله عن مسالة من مسائل الصبيان، يحفظها الصبيان! فالتفت إلينا الأعمش، فقال: "انظروا إلى لحيته تحتمل حفظ أربعة آلاف حديث، ومسألته مسألة الصبيان!".

قال الخطيب: ولْيعلم أن الإكثار من كَتْب الحديث وروايته لا يصير بها الرجل فقيهاً، إنما يُتفقه باستنباط معانيه، وإنعام التفكر فيه.

قال مالك بن أنس لابنيْ أخته أبي بكر وإسماعيل ابني أبي أويس: "أراكما تحبّان هذا الشأن وتطلبانه". قالا: نعم. قال: "إن أحببتما أن تنتفعا به، وينفع الله بكما، فأقلا منه، وتفقها".

وقال الأعمش: "لما سمعت الحديث، قلت: لو جلست إلى سارية أفتي الناس. فجلست إلى سارية، فكان أول ما سألوني عنه لم أدر ما هو!"

قال الخطيب: وإنما أسرعت ألسنة المخالفين إلى الطعن على المحدّثين لجهلهم أصول الفقه وأدلته في ضمن السنن، مع عدم معرفتهم بمواضعها، فإذا عُرف صاحب الحديث بالتفقه خرست عنه الألسن، وعظم محله في الصدور والأعين، وخشي من كان عليه يطعن.

قال وكيع: لقيني أبو حنيفة، فقال لي: لو تركت كتابة الحديث وتفقهت أليس كان خيراً؟ قلت: أفليس الحديث يجمع الفقه كلّه؟ قال: ما تقول في امرأة ادعت الحمل، وأنكر الزوج؟ فقلت له: حدثني عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ((أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لاعن بالحمل))، فتركني، فكان بعد ذلك إذا رآني في طريق أخذ في طريق آخر".

وقال عليّ بن خشرم: سمعت وكيعاً غير مرة يقول: "يا فتيان، تفهموا فقه الحديث، فإنكم إن تفهمتم فقه الحديث لم يقهركم أهل الرأي".

وقال علي بن خشرم المروزي: سمعت وكيعاً يقول لأصحاب الحديث: "لو أنكم تفقهتم الحديث وتعلمتموه، ما غلبكم أصحاب الرأي. ما قال أبو حنيفة في شيء يحتاج إليه إلا ونحن نروي فيه باباً".

قال الخطيب: ولا بدّ للمتفقه من أستاذ يدرس عليه، ويرجع في تفسير ما أشكل إليه، ويتعرف منه طرق الإجتهاد، وما يفرق به بين الصحة والفساد.

قال أبو نُعيم: كنت أمر على زُفر وهو محتب بثوب، فيقول: يا أحول، تعال حتى أغربل لك أحاديثك. فأريه ما قد سمعت. فيقول: "هذا يؤخذ به، وهذا لا يؤخذ به، وهذا هاهنا ناسخ، وهذا منسوخٌ".

وقال عبيدالله بن عمرو: جاء رجلٌ إلى الأعمش، فسأله عن مسألة، وأبو حنيفة جالس، فقال الأعمش: يا نعمان، قل فيها. فأجابه. فقال الأعمش: من أين قلت هذا؟ فقال: من حديثك الذي حدثتناه. قال: "نعم، نحن صيادلة، وأنتم أطباء". انتهى تهذيب الرسالة.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

شاركنا تعليقك